المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النور قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ - منهج ابن عقيل الحنبلي وأقواله في التفسير جمعا ودراسة

[راشد بن حمود الثنيان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف البحث:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهجي وعملي في البحث:

- ‌التمهيد ترجمة موجزة لابن عقيل

- ‌أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:

- ‌ثانياً: مولده:

- ‌ثالثاً: أسرته:

- ‌رابعاً: شيوخه:

- ‌خامساً: تلاميذه:

- ‌سادساً: مكانته العلمية:

- ‌سابعاً: مصنفاته:

- ‌ثامناً: ابن عقيل والمعتزلة:

- ‌تاسعاً: وفاته

- ‌القسم الأول مصادر ابن عقيل ومنهجه في التفسير

- ‌الفصل الأول مصادر ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول مصادر القرآن وعلومه:

- ‌المبحث الثاني مصادر الحديث:

- ‌المبحث الثالث مصادر الفقه:

- ‌المبحث الرابع مصادر العقيدة:

- ‌الفصل الثاني منهج ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني تقييد المطلق:

- ‌المطلب الثالث بيان المجمل:

- ‌المطلب الرابع جمع النظائر:

- ‌المبحث الثاني تفسير القرآن بالسنة

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني بيان المجمل:

- ‌المطلب الثالث الترجيح بالسنة:

- ‌المبحث الثالث تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني دفع موهم التناقض:

- ‌المبحث الرابع تفسير القرآن باللغة:

- ‌المطلب الأول اهتمامه بمعاني المفردات والحروف، ومرجع الضمائر:

- ‌المطلب الثاني عنايته بالشعر وأقوال العرب:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالأوجه البلاغية ولطائف التفسير:

- ‌المبحث الخامس تفسيره لآيات الأحكام

- ‌المطلب الأول مذهبه الفقهي:

- ‌المطلب الثاني نقله للإجماع:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالقياس:

- ‌المطلب الرابع منهجه في الاستنباط:

- ‌الفصل الثالث علوم القرآن عند ابن عقيل

- ‌المبحث الأول الناسخ والمنسوخ:

- ‌المبحث الثاني أسباب النزول:

- ‌المبحث الثالث المحكم والمتشابه:

- ‌المبحث الرابع العام والخاص:

- ‌القسم الثاني أقوال ابن عقيل في التفسير - من أول القرآن إلى آخره - مع دراستها

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة الأنبياء

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة القدر

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العصر

- ‌الخاتمة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

- ‌ملخص الرسالة

الفصل: ‌ ‌سورة النور قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ

‌سورة النور

قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور:2].

105/ 1 - قال ابن عقيل: (فهذه الآية عامة في كل زان وزانية، قضينا عليها بالآية الخاصة في الإماء وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} [النساء:25] اهـ)

(1)

.

الدراسة:

في هذا الموضع فسر ابن عقيل العام في القرآن بالخاص فيه، فعموم الحكم بجلد الزاني والزانية الحُرَّين غير المحصنين مائة جلدة مخصوص بالآية الأخرى وهي أن الإماء على النصف من العذاب، وهو قول الطبري

(2)

، والجصاص

(3)

، والواحدي

(4)

، وكافة العلماء إلا ما ندر.

قال الآمدي: (اتفق العلماء على تخصيص الكتاب بالكتاب، خلافاً لبعض الطوائف)

(5)

.

والمخالف في مسألة تخصيص الكتاب بالكتاب بعض الظاهرية

(6)

، وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ، فلا يكون إلا بالسنة؛ لقوله سبحانه وتعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].

وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان العام هو المتقدم كان الخاص المتأخر ناسخاً لبعضه، وإن كان العام هو المتأخر كان ناسخاً لجميع الخاص

(7)

.

واحتجوا: بأن بيان العموم لا يجوز تأخيره عن حال وروده، فإذا ورد متأخراً عنه، لم يجز أن يقع موقع البيان، فلم يبق إلا أن يكون ناسخاً له.

وأقول: إن تخصيص الكتاب بالكتاب عموماً هو ما عليه جمهور العلماء، بل نُقل الإجماع في هذه الآية على هذا التخصيص.

(1)

الواضح 3/ 437، 2/ 96.

(2)

جامع البيان 6/ 613.

(3)

أحكام القرآن 2/ 213.

(4)

الوجيز 1/ 260.

(5)

الإحكام 2/ 318.

(6)

الإبهاج 2/ 169، شرح الكوكب المنير 3/ 360.

(7)

ينظر: أصول السرخسي 1/ 133.

ص: 372

قال ابن عقيل: (وإجماع الأُمَّةِ على تخصيص الأولى بالثانية، إجماع على حمل العام على الخاص، فهو حجة لنا، ولا عذر لهم)

(1)

، يعني: تخصيص آية النور بآية النساء.

ويجاب عن استدلال الظاهرية بأن البيان إنما يكون من النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يبينه القرآن، وأيضاً: فبيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن إنما هو من القرآن

(2)

.

وأما استدلال الحنفية، فيقال: إن العموم، يشمل كل ما يدل عليه بظاهر لفظه، فيحتمل دخول الخاص وعدمه، وأما الخاص فيتناول ما نص عليه بصريح اللفظ دون احتمال، فوجب إعمال الصريح والقضاء على المحتمل والظاهر، وأما تأخير البيان للعموم فيجوز إذا كان للمصلحة

(3)

، وفيه هنا فائدة كبيرة، منها: اعتقاد المكلف ذلك، والعزم على فعله، فيقع له الثواب، إلى أن يأتي دليل الخصوص

(4)

، ويجوز تأخير البيان حتى يأتي وقت الحاجة عند جمهور العلماء

(5)

.

ولهذا فالقول الراجح هو ما عليه جمهور العلماء: وهو جواز تخصيص الكتاب بالكتاب؛ وذلك لأمور منها:

1 -

أن القول بالتخصيص جمع بين الدليلين وعمل بهما، ومن قال بالنسخ عطل أحدهما، وإعمالهما جميعاً أولى من ترك أحدهما.

(1)

الواضح 3/ 437.

(2)

يراجع ما سبق في تفسير سورة النحل آية: 89. ينظر: ص 335.

(3)

لا بد من هذا القيد، وإلا فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يُجَوزه إلا من يُجَوِّز التكليف بالمحال ينظر: المحصول 3/ 187، ومن أمثلته: أن يقول: صلوا غداً، ثم لا يبين لهم في غد كيف يصلون؟، ومثال تأخيره لمصلحة: كتأخيره الأعرابي المسيء صلاته إلى ثالث مرة كما في الصحيحين.

(4)

ينظر: العدة 2/ 624، الواضح 3/ 438.

(5)

ينظر: العدة 3/ 725، كشف الأسرار 3/ 108، نهاية السول ص 231، الإحكام للآمدي 3/ 32، شرح الكوكب المنير 3/ 453.

ص: 373

2 -

أن القرآن مبني بعضه على بعض فيُجعل مفَرَّقُه كالمتصل فإذا قال: اجلدوا الزناة مائة جلدة والأمة على النصف من ذلك وجب إعمال الخصوص، فكذلك إذا كان النصان متفرقين

(1)

.

3 -

أن وقوع التخصيص في الشرع أغلب من النسخ، فكان الحمل على التخصيص أولى؛ لأنه حمل له على الأغلب

(2)

.

وإذا قيل: فما الحكمة من تخصيص الأمة بالنصف من العذاب؟.

فقد قال القرطبي: (والفائدة في نقصان حدهن: أنهن أضعف من الحرائر، ويقال: إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر، وقيل: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد، وكذلك الإماء لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل)

(3)

. والله أعلم.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور:4 - 5].

106/ 2 - قال ابن عقيل: (إن الاستثناء يعود إلى جميعها، فكأنه يقول بمقتضى الظاهر: فلا تجلدوهم، واقبلوا شهادتهم، ولا تفسقوهم، إلا أن الحد استوفي بدليل انفرد به اهـ)

(4)

.

الدراسة:

أشار ابن عقيل في كلامه إلى مسألتين:

المسألة الأولى:

(1)

ينظر: الواضح 3/ 437.

(2)

ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 318.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 5/ 145.

(4)

الواضح 3/ 490، وينظر: الفنون 2/ 573.

ص: 374

الاستثناء إذا تعقب جملاً هل يعود إليها جميعاً، أم إلى الجملة الأخيرة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن الاستثناء إذا تعقب جملاً قد عطف بعضها على بعض وصلح عوده إلى كل منها فإنه يعود إلى جميعها إلا أن يرد دليل بخلافه، وهو قول الشافعية

(1)

، والمالكية

(2)

، والحنابلة

(3)

.

واستدلوا بأدلة منها:

1 -

أن الشرط يعود إلى جميع ما تقدم ذكره؛ لأنه لو قال: نساؤه طوالق وعبيده أحرار وماله صدقة إن شاء زيد لم يقع شيء من ذلك قبل مشيئته، وكان الشرط بنفسه راجعاً إلى الجميع، فكذلك الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يستقل بنفسه، بل هو متعلق بما قبله من الكلام، ويجب أن يكون متصلاً به، وإذا انفصل سقط حكمه، والشرط بمثابته في ذلك، فكانا سواء

(4)

، والاستثناء والشرط متحدان من حيث المعنى لأن قوله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4 - 5] جار مجرى: (وأولئك هم الفاسقون إن لم يتوبوا)

(5)

. قال أبو حيان: (اختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط)

(6)

.

2 -

وقالوا: إن حمل الاستثناء على كل الجمل لا طريق له إلا بذكر الاستثناء عقيب الجملة الأخيرة، وإلا صار في الكلام عيّاً

(7)

، فيصير رجوع الاستثناء إلى الجمل جميعاً هو الأصل ما لم يوجد مانع

(8)

.

(1)

ينظر: المنخول ص 235، الإحكام للآمدي 2/ 279.

(2)

ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 3/ 348.

(3)

ينظر: العدة 2/ 678، الصعقة الغضية في الرد على منكري العربية للطوفي ص 599.

(4)

ينظر: العدة 2/ 680، المحصول 3/ 46.

(5)

ينظر: المسودة 1/ 356.

(6)

البحر المحيط 6/ 433، شرح التسهيل 2/ 175.

(7)

ذكره الموفق باتفاقهم، ينظر: روضة الناظر 2/ 187، الإحكام للآمدي 2/ 302، شرح الكوكب المنير 3/ 322.

(8)

ينظر: المحصول 3/ 47.

ص: 375

القول الثاني: أنه يعود إلى أقرب مذكور، وهو قول لأبي حنيفة

(1)

، واختاره أبو حيان

(2)

.

واحتجوا بما يلي:

1 -

أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل لو رجع إلى جميعها لم يخل: إما أن يضمر مع كل جملة استثناء يعقبها، أو لا يضمر، فيرجع الاستثناء المصرح به في آخر الجمل إلى جميعها، والأول باطل؛ لأن الاضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة هنا. والثاني: أيضاً باطل؛ لأن العامل في نصب ما بعد حرف الاستثناء هو ما قبله من فعل أو تقدير فعل؛ فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء إلى كل الجمل كان العامل في نصب المستثنى أكثر من واحد، وهذا لا يجوز.

2 -

أن الاستثناء من الاستثناء مختص بما يليه، فكذا في سائر الصور دفعاً للاشتراك في الوضع.

والذي ترجح لدي بعد النظر في الأدلة ما قاله الجمهور: وهو أن الاستثناء يرجع إلى جميع ما تقدمه من الجمل ما لم يمنع منه مانع، فإن منع منه مانع فيقدر بقدره.

وسبب الترجيح أمور منها:

1 -

أن الاستثناء عقيب الجمل إذا صلح رجوعه لجميعها فلا تخصص جملة دون أخرى إلا بدليل هو قول أكثر العلماء.

(1)

ينظر: تيسير التحرير 1/ 302، البرهان للجويني 1/ 262 وما بعدها، المعتمد 1/ 245.

(2)

ينظر: البحر المحيط 6/ 433، ارتشاف الضرَب 3/ 1522.

ص: 376

2 -

أن غالب الاستثناءات بعد الجمل ترجع للجميع والعمل بالغالب أولى من غيره، قال ابن النجار:(واحتج الشيخ تقي الدين فقال: من تأمل غالب الاستثناءات في الكتاب والسنة واللغة وجدها للجميع، والأصل إلحاق المفرد بالغالب)

(1)

. ومن ذلك قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} [آل عمران: 86 - 89]، وقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3]، وقول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم لما حرم شوك مكة وشجرها: إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إلا الإذخر "

(2)

،

(1)

شرح الكوكب المنير 3/ 323، وينظر: المسودة 1/ 355.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم (112)، ومسلم في كتاب الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنه ..

ص: 377

وقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه "

(1)

، فالاستثناء فيها يعود إلى جميع ما سبقه. ولو قال القائل: له علي خمسة وخمسة إلا سبعة، كان مقراً بثلاثة اتفاقاً، فعاد الاستثناء إلى الجملتين، ولو عاد إلى الأخيرة منهما لزمه عشرة، ولغا الاستثناء، إذ هو مستغرق

(2)

.

3 -

أن الواو العاطفة بين الجمل تجعل بينها نوعاً من الاتحاد في الحكم وتدل على أن المتكلم لم يستوف غرضه من الجملة المتقدمة، فيكون الاستثناء راجعاً إلى جمل مترابطة في الحكم والمعنى فيشملها جميعاً

(3)

.

4 -

أن رد الاستثناء إلى الجملة الأخيرة تحديد بلا دليل، وإلغاء الاستثناء من باقي الجمل مع وقوعه عليها باطل، فيتعين رده إلى جميع الجمل احتياطاً وبقاء على الأصل.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب من أحق بالإمامة (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري، والتكرمة: الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش أو سرير مما يعد لإكرامه، ينظر: النهاية في غريب الأثر 4/ 168.

(2)

ينظر: الصعقة الغضية ص 601.

(3)

ينظر: روضة الناظر 2/ 187.

ص: 378

5 -

إمكان الإجابة على أدلة القول الثاني، أما دليلهم الأول: وهو أنه لا يجوز أن يجتمع على المعمول الواحد عاملان، فهذا ليس إجماعاً

(1)

، بل على قول من قال: إن العامل في الاستثناء عقب الجمل أكثر من واحد

(2)

، وعلى القول به فإنما يوافقون عليه إذا تضاد العاملان، أو اختلف عملهما، أما إذا اتحدا فليس هناك ما يمنع، وهو محل خلافنا، والمعروف في اللغة أن الجمل المتعاطفة التي يعقبها استثناء يجعلها في حكم الواحدة

(3)

، لا سيما والاستثناء يصلح عوده على الجميع. وأما دليهم الثاني: فلا يُسلم لهم أيضاً قياس الاستثناء من الجمل على الاستثناء من الاستثناء للفارق بينهما، وذلك أن الاستثناء من الاستثناء لو عاد إليه وإلى المستثنى معاً للزم منه التناقض، ولأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فلا يمكن اجتماع النفي والإثبات معاً، وذلك غير حاصل في الاستثناء من الجمل

(4)

، ويجاب أيضاً: بأن قول القائل: خمسة وخمسة إلا ستة. يقع على الجميع إجماعاً، فدل على أن المراد بالجمل ما يقبل الاستثناء

(5)

(6)

.

المسألة الثانية:

بيان كلام العلماء في آية القذف التي معنا، أقول:

(1)

ينظر: الصعقة الغضية ص 595 وما بعدها.

(2)

فمذهب الكوفيون أن العامل في الاستثناء هو [إلا]، ورجحه ابن مالك في شرح التسهيل 2/ 171.

(3)

ينظر: شرح التسهيل 2/ 175، الاستغناء في الاستثناء للقرافي ص 568، الصعقة الغضية ص 601.

(4)

ينظر: المحصول 3/ 42، 55، روضة الناظر 2/ 185.

(5)

ينظر: المعتمد 1/ 246، الإحكام للآمدي 2/ 303، شرح الكوكب المنير 3/ 323.

(6)

ويراجع في هذه المسألة كتاب: الاستثناء عند الأصوليين لأكرم أوزويقان ص 265.

ص: 379

أولاً: لا خلاف بين العلماء أن الجلد لا يسقط عن القاذف إلا بعفو المقذوف، كالقصاص لا يسقط إلا بالعفو

(1)

.

قال الطبري: (

ولا خلاف بين الجميع أن توبته من ذلك لا تضع عنه الواجب لها من القصاص منه، فكذلك توبته من القذف لا تضع عنه الواجب لها من الحد؛ لأن ذلك حق لها، إن شاءت عفته، وإن شاءت طالبت به)

(2)

.

وقال ابن العربي: (إن إقامة الحد سقط بالإجماع)

(3)

- يعني من الاستثناء -.

ثانياً: لا خلاف بين العلماء أن التوبة ترفع الفسق عن القاذف، لأن أقرب جملة للاستثناء يرتفع حكمها باتفاق العلماء.

قال ابن تيمية: (التوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف، وترفع الفسق بلا تردد، وهل ترفع المنع من قبول الشهادة؟ فأكثر العلماء قالوا ترفعه)

(4)

.

ثالثاً: هل تقبل شهادة من تاب من القذف؟ هذا محل خلاف بين العلماء، وهو مبني على الخلاف السابق:

(1)

ينظر: معاني القرآن للنحاس 4/ 503، معالم التنزيل 3/ 274، تفسير ابن كثير 6/ 2465.

(2)

جامع البيان 17/ 174.

(3)

أحكام القرآن 3/ 348.

(4)

مجموع الفتاوى 15/ 305.

ص: 380

فالقول الأول: أن شهادة التائب من القذف مقبولة بعد توبته، وهذا على قول من قال: إن الاستثناء إذا تعقب جملاً متعاطفة وصلح أن يعود إلى كل واحد منها لو انفرد؛ فإنه يعود إلى جميعها، وهو قول جمهور العلماء

(1)

، وهو مروي عن عمر بن الخطاب

(2)

، وعطاء ومجاهد، وطاووس

(3)

.

القول الثاني: أن شهادة القاذف لا تقبل أبداً، وهذا على قول من قال: أن الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور، وهذا مروي عن الحسن، والنخعي

(4)

، وهو قول لأصحاب أبي حنيفة

(5)

.

واستدلوا بأن عدم قبول الشهادة قد أُبِّد في الآية.

والقول الراجح هو القول الأول بناء على ترجيح أن الاستثناء يعود على كل ما قبله إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك، ولا يُشكل على هذا: الاتفاق على أن الاستثناء لا يرفع الحد لأنه ثبت بدليل منفرد

(6)

، وإذا جاء دليل اقتضى عود الاستثناء إلى أحد الجمل أو رفعه عن بعضها، فلا خلاف في عودها إلى ما قام له الدليل

(7)

.

والقول بقبول شهادة القاذف إذا تاب هو الصحيح لما يلي:

(1)

ينظر: العدة 2/ 678، الواضح 3/ 490، معالم التنزيل 3/ 274، أحكام القرآن لابن العربي 3/ 348، شرح مختصر روضة الناظر 2/ 612، تفسير ابن كثير 6/ 2465، شرح الكوكب المنير 3/ 312.

(2)

ينظر: جامع البيان 17/ 163.

(3)

ينظر: معاني القرآن للنحاس 4/ 502، وينبغي الانتباه لمن سماه نسخاً، لأن السلف يريدون به المعنى العام فيدخل فيه التخصيص، وليس المراد بالنسخ معناه المتأخر؛ لأن الاستثناء تخصيص وليس نسخاً، ينظر: زاد المسير 5/ 366.

(4)

ينظر: جامع البيان 17/ 171، معاني القرآن للنحاس 4/ 501.

(5)

ينظر: تيسير التحرير 1/ 302، شرح فتح القدير 7/ 400.

(6)

ينظر: بداية المجتهد ص 770، أحكام القرآن لابن العربي 3/ 348.

(7)

ينظر: شرح الكوكب المنير 3/ 315.

ص: 381

1 -

أن الصحيح أن الاستثناء عقيب الجمل يعود إلى جميعها، قال ابن العربي:(والصحيح رجوعه إلى الجميع لغة وشريعة)

(1)

.

2 -

الإجماع على أن من قذف وهو كافر ثم أسلم وتاب، وكان بعد إسلامه عدلاً قبلت شهادته، وإن كان قاذفاً، والقياس قبول شهادة القاذف إذا تاب، فليس القاذف بأشد جرماً من الكافر

(2)

. قال الطبري: (والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الاستثناء من المعنيين جميعاً؛ أعني من قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} النور:4]، ومن قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور:4]، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن ذلك كذلك إذا لم يحد في القذف حتى تاب

إلى أن قال: بل توبته بعد إقامة الحد عليه من ذنبه أحرى أن تكون شهادته معها أجوز منها قبل إقامته عليه)

(3)

.

3 -

أنها تقبل توبة من هو أكبر منه ذنباً، وتقبل شهادتهم كالقاتل، والمرتد، والزاني، وشارب الخمر فهلا تقبل توبة القاذف وشهادته

(4)

. قال ابن الجوزي: (وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام، وهذا أصح؛ لأن المتكلم بالفاحشة لا يكون أعظم جرماً من راكبها، فإذا قبلت شهادة المقذوف بعد ثبوته فالرامي أيسر جرماً، وليس القاذف بأشد جرماً من الكافر، فإنه إذا أسلم قبلت شهادته)

(5)

. وقال السعدي: (فإذا تاب القاذف وأصلح عمله وبدل إساءته إحساناً زال عنه الفسق وكذلك تقبل شهادته على الصحيح)

(6)

.

(1)

أحكام القرآن 3/ 349.

(2)

ينظر: معاني القرآن وإعرابه 4/ 31، تفسير السمعاني 3/ 503.

(3)

جامع البيان 17/ 172.

(4)

ينظر: الأم 7/ 54.

(5)

زاد المسير 5/ 366.

(6)

تفسير السعدي 5/ 391.

ص: 382

4 -

أنه لا يوجد مانع في هذه الآية من رجوع الاستثناء إلى كل ما تقدمه إلا جملة الحد، فإن الدليل منع رجوع الاستثناء إليه، وهو أن حد القذف يسقط بالبينة لا بالتوبة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم للذي قذف امرأته:" البينة وإلا حَدٌّ في ظهرك "

(1)

، ولو كان يسقط بالتوبة لأمره بها لأنها أسهل من البينة.

5 -

أن قول الحنفية في الآية: يلزم رفع الفسق عن القاذف بالتوبة وعدم قبول شهادته غير صحيح؛ لأن التائب عادل، وشهادة العادل مقبولة؛ ولأن رد الشهادة مترتب على الفسق، فبزواله تعود الشهادة لمكانتها

(2)

.

فإن قيل: فما فائدة وجود التأبيد في الآية؟.

فقد ذكر الزجاج الفائدة من ذلك حيث قال: (فإن قال قائل: فما الفائدة في قوله: {أَبَدًا} [النور:4]، قيل: الفائدة أن الأبد لكل إنسان مقدار مدته في حياته، ومقدار مدته فيما يتصل بقصته، فتقول: الكافر لا يُقبل منه شيء أبداً فمعناه، ما دام كافراً فلا يقبل منه شيء، وكذلك إذا قلت: القاذف لا تقبل منه شهادة أبداً، فمعناه ما دام قاذفاً، فإذا زال عنه الكفر فقد زال أبده، وكذلك القاذف إذا زال عنه القذف فقد زال عنه أبده، ولا فرق بين هذا وذلك)

(3)

. والله أعلم.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة (2672) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(2)

الإحكام لابن حزم 4/ 22، الأم 7/ 54.

(3)

معاني القرآن وإعرابه 4/ 331، وينظر: معاني القرآن للنحاس 4/ 503، معالم التنزيل 3/ 274.

ص: 383