الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفرقان
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان:59].
107/ 1 - قال ابن عقيل: ({فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} بمعنى: فاسأل عنه خبيراً اهـ)
(1)
.
الدراسة:
اختلف العلماء في معنى [الباء] في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن [الباء] بمعنى [عن]، كما قال ابن عقيل وهو قول أكثر المفسرين
(2)
، وغيرهم، وهو جائز ومستعمل عند العرب
(3)
، بل قيل: إن هذا المعنى لـ[الباء] يختص بالسؤال
(4)
، والمعنى: فاسأل عن الله عالماً به، أي: بأسمائه وصفاته
(5)
.
قال ابن قتيبة: ({فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان:59] أي: عنه، قال علقمة بن عَبَدة: فَإِن تَسْأَلُونِي بالنِّسَاءِ فإِنَّنِي
…
بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
(6)
. أي: عن النساء)
(7)
.
قال النحاس: (قال أبو إسحاق
(8)
أي: اسأل عنه، وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن [الباء] بمعنى [عن] كما قال جل وعز:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)} [المعارج:1] وقال الشاعر: هَلا سَأَلْتِ الخَيْلَ يَا ابْنَة مَالِكٍ
…
إنْ كنتِ جَاهِلةً بما لم تَعْلَمي
(9)
)
(10)
.
(1)
الواضح 1/ 120.
(2)
ينظر: تفسير السمرقندي 2/ 543، تفسير السمعاني 4/ 27، زاد المسير 6/ 22.
(3)
ينظر: رصف المباني ص 222، الجنى الداني ص 41، البرهان 4/ 275، لسان العرب 4/ 227.
(4)
ينظر: مغني اللبيب ص 113.
(5)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 13/ 63.
(6)
هذا البيت لعلقمة بن عَبَدة في ديوانه ص 35، والأدواء: جمع داء.
(7)
تأويل مشكل القرآن ص 298.
(8)
يعني: الزجاج، ينظر: معاني القرآن وإعرابه 4/ 73.
(9)
البيت من معلقة عنترة، ينظر: ديوانه مع شرحه ص 123، ومعناه: هلا سألت أصحاب الخيل عما لم تعلمي إن كنت جاهلة يا ابنة مالك.
(10)
معاني القرآن 5/ 42.
القول الثاني: أن [الباء] على معناها الأصلي وهو الإلصاق
(1)
، والمعنى: واسأل بسؤالك خبيراً وهو الله سبحانه.
قال النحاس: (قال علي بن سليمان
(2)
: أهل النظر ينكرون أن تكون [الباء] بمعنى [عن]؛ لأن في هذا فساد المعاني، قال: ولكن هذا مثل قول العرب: لو لقيت فلاناً للقيك به الأسد، أي: للقيك بلقائك إياه الأسد، والمعنى: فاسأل بسؤالك)
(3)
.
والمراد: اسأل خبيراً بذلك الذي سبق في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان:59]؛ لأهميته وعظمته.
قال الطبري: ({فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان:59] يقول: فاسأل يا محمد بالرحمن خبيراً بخلقه)
(4)
.
ومثله قال البغوي
(5)
.
وقال ابن جزي: (والمعنى الثاني: أن المراد: اسأل بسؤاله خبيراً، أي: إن سألته تعالى تجده خبيراً بكل شيء فانتصب خبيراً على الحال، وهو كقولك: لو رأيت فلاناً رأيت به أسداً، أي: رأيت برؤيته أسداً)
(6)
.
القول الثالث: أن [الباء] صلة، والمعنى: فسله خبيراً
(7)
. وهو لا يبعد عن المعنى الذي قبله؛ فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهو إفادة الاهتمام بالمسؤول عنه لمّا كان عظيماً.
والقول المقدم والأولى هو البقاء على المعنى الأصلي لـ[الباء]، لا سيما والمعنى صحيح، مع عدم الحاجة إلى تقدير، فالخطاب من الله: بأن لا تطلب العلم بهذا إلا من خبير فيه.
(1)
ينظر: مغني اللبيب ص 110.
(2)
هو أبو الحسن علي بن سليمان المعروف بالأخفش الصغير.
(3)
معاني القرآن 5/ 42، وينظر: الجامع لأحكام القرآن 13/ 63.
(4)
جامع البيان 17/ 481.
(5)
معالم التنزيل 3/ 318.
(6)
التسهيل 2/ 111.
(7)
ينظر: التفسير الكبير 24/ 91.
قال الآلوسي: (والجار والمجرور: صلة اسأل، والسؤال كما يعدى بـ[عن] لتضمنه معنى التفتيش يعدى بـ[الباء] لتضمنه معنى الاعتناء) إلى أن قال: (والمعنى: فاسأل معتنياً به خبيراً عظيم الشأن محيطاً بظواهر الأمور وبواطنها، وهو الله عز وجل يُطلِعك على جَلِيَّة الأمر)
(1)
، وعليه يحمل ما جاء عن العرب في الشواهد.
ولكن لا نرد المعاني الأخرى، لجواز استعمالها في اللغة، ولكون المعنى في سياق الآية صحيحاً على جميع التقديرات
(2)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69].
108/ 2 - قال ابن عقيل: (فظاهر هذه الآية مقابلة ما ذكره من العقاب في مقابلة ما عدَّدَه من الذنوب والجرائم، لا سيما مع قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ} [الفرقان:69]، فذكر المضاعفة إنما وقع لمكان مضاعفة جرائمهم جريمة بعد جريمة؛ لأن قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الفرقان:68] يعود إلى الجمل المتقدمة كلها، وما ذكر المضاعفة إلا مقابلة اهـ)
(3)
.
الدراسة:
أشار ابن عقيل إلى أن ظاهر آية العقاب جاءت مقابل ما ذُكر من جرائمهم، وأن قوله:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الفرقان:68] عائد إلى جميع الجمل السابقة، وهذا ما يدل عليه سياق الآية.
(1)
روح المعاني 19/ 38.
(2)
ينظر: المحرر الوجيز 4/ 216.
(3)
الواضح 3/ 134.
قال السمرقندي مؤيداً أن سبب تضعيف العذاب كونه يرجع إلى الجميع: ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الفرقان:68]، يعني: الشرك، والقتل، والزنى يلقَ أثاماً)
(1)
.
وقال الرازي: (سبب تضعيف العذاب: أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك عُذِّب على الشرك وعلى المعاصي جميعاً؛ فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقَب عليه، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع)
(2)
.
وقال الشوكاني: ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الفرقان:68]، أي: شيئاً مما ذكر)
(3)
.
ويتفرع على هذا مسألة مشهورة وهي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ فأقول:
اختلف العلماء في هذه المسألة - بعد اتفاقهم على أنهم مخاطبون بالإيمان الذي هو الأصل
(4)
- على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بشرط تقدم الإيمان
(5)
، وهو قول ابن عقيل، وجماعة من الحنفية
(6)
، والراجح عند الشافعية
(7)
، وإحدى الروايتين عن أحمد
(8)
.
واستدلوا بأدلة منها:
1 -
الآية التي معنا، ووجه الاستدلال: أنه رتب الوعيد فيها على مجموع ترك الأصل والفرع فكانت الفروع جزءاً من سبب الوعيد، وذلك يلزم أنهم مكلفون بها
(9)
.
(1)
تفسير السمرقندي 2/ 545.
(2)
التفسير الكبير 24/ 97.
(3)
فتح القدير 4/ 109.
(4)
ينظر: نزهة الخاطر لابن بدران 1/ 145.
(5)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 2/ 125.
(6)
ينظر: الفصول للرازي 2/ 158، حيث قال: (والكفار مكلفون بشرائع الإسلام وأحكامه، كما هم مكلفون بالإسلام، وكذلك كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله.
(7)
ينظر: المستصفى 2/ 78، البحر المحيط للزركشي 2/ 126.
(8)
ينظر: روضة الناظر 1/ 146، شرح الكوكب المنير 3/ 243.
(9)
نزهة الخاطر 1/ 147.
2 -
قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} (7)} [فصلت:6 - 7]، فتوعد المشركين على شركهم، وعلى ترك إيتاء الزكاة، فدل على أنهم مخاطبون بهما؛ لأنه لا يُتَوعَّد على ما لا يجب على الإنسان، ولا يخاطب به.
3 -
قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} [المدثر:42 - 46]، ففي الآية التصريح بأن من الأسباب التي سلكتهم في سقر هو عدم الصلاة وترك إطعام المسكين والخوض مع الخائضين، وهي من الفروع.
القول الثاني: أنهم مخاطبون بالنواهي دون الأوامر، وهو قول بعض الحنفية
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد قدمها ابن قدامة في روضة الناظر
(2)
.
قالوا: لا معنى لوجوب الأوامر مع استحالة فعلها في الكفر وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله، وما لا فائدة من التكليف به عبث محال على الشرع
(3)
.
القول الثالث: أنهم غير مكلفين بشيء سوى الأصل الذي هو الإيمان، وهو المشهور عن أصحاب الرأي
(4)
، وبعض الشافعية
(5)
.
واستدلوا بأدلة منها:
1 -
ما احتج به أصحاب القول الثاني.
(1)
ينظر: أصول السرخسي 1/ 173.
(2)
روضة الناظر 1/ 146.
(3)
ينظر: نزهة الخاطر 1/ 146.
(4)
ينظر: التقرير والتحبير 2/ 88.
(5)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 2/ 127، ونسبه للمالكية 2/ 128.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله "
(1)
فلو كان هؤلاء مكلفون لأمرهم بفروع الشريعة، مع أمرهم بالإيمان.
3 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين
(2)
.. "
(3)
.
ومن خلال استقراء أقوالهم وأدلتهم يتبين لي أن العلماء متفقون على أن الكفار مكلفون كالمسلمين إلا أن الخلاف قد وقع في نقطة واحدة وهي: هل هم ملزمون بالأوامر أم لا؟
(1)
أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع (4347)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
قيل: هم الخدم، وقيل: هم أتباع عبدالله بن أريس، وقيل: هم الملوك، ينظر: النهاية في غريب الأثر 1/ 38.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي (7)، ومسلم في كتاب الجهاد وسير أعلام النبلاء باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
أما تكليفهم بالنواهي فقد نُقل الاتفاق عليه كما قال الزركشي: (وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا خلاف في تكليفهم بالنواهي، وإنما الخلاف في تكليفهم بالأوامر)
(1)
.
فيتلخص الخلاف في قولين: التكليف بالأوامر أو عدمه، وإذا عُرف هذا فما القول الراجح.
قلت: والذي يترجح عندي هو القول الأول لقوة أدلته، وإمكان الإجابة على أدلة المخالفين.
فقولهم: إن تكليف الكفار بالأوامر عبث، لا يوافقون عليه بل فيه فائدة وهي: أنه لو مات عُوقِب على تركه
(2)
، وهم مخاطبون بفروع الشرع وبما لا تصح إلا به وهو الإيمان
(3)
.
وكذلك يُقال: إنه وإن كان لا يتمكن من فعلها مع الكفر، فقد جُعِل له السبيل الذي يوصله إليها؛ بأن يقدم الإيمان ثم يفعل العبادات، كالمُحْدِث الذي لا تقبل صلاته إلا إذا توضأ، وإنما الذي يستحيل فعله هو ما لا طريق يُوصِل إليه.
فإن قيل: صحيح أن المحدِث مخاطب بفعل الصلاة وإن لم تصح منه؛ لأن الحدث يمنع فعل الصلاة؛ لكن إذا تطهر لم تسقط عنه الصلاة التي لزمته حال الحدث، بخلاف الكافر فإنه لا يتأتى منه في حال كفره، ويسقط عنه القضاء حال إسلامه، فلا يفعله مطلقاً.
(1)
البحر المحيط للزركشي 2/ 130، ونقل ما حكاه أبا حامد الاسفراييني حيث قال:(وأما المعاصي فمنهيون عنها بلا خلاف بين المسلمين). وقال أبو إسحاق الاسفراييني في كتابه في الأصول: (لا خلاف أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه على الكفار كما يتوجه على المسلمين).
(2)
روضة الناظر 1/ 148.
(3)
مذكرة في أصول الفقه ص 40.
فيُقال: إنما لم يجب القضاء على الكافر؛ لأن الإسلام جُعِل مسقطاً لما سلف، لئلا يكون وجوب القضاء تنفيراً عن الإسلام؛ فقد يسلم بعد كبر، فإذا علم أنه يلزمه قضاء ما ترك في عمره من صلاة أو صيام أو زكاة، نفَّره ذلك عن اختيار الإسلام واعتقاده، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه:" أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله "
(1)
، فهذا يدل على أن الإسلام هو المسقط لما سبقه من الواجب.
وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه وكتابه إلى قيصر؛ فالجواب عنه أن يُقال:
إنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأن يدعوهم لفروع الشريعة أولاً؛ لأنه لا يصح منهم فعله في حال كفرهم، فبدأ بما يصح فعله وهو الإيمان، ويؤيد هذا: أنه ثنى في حديث معاذ: بالأمر بالصلاة وغيرها من فروع الشريعة
(2)
. والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب كون الإسلام يهدم ما قبله (121).
(2)
يراجع في هذه المسألة: العدة 2/ 364، الواضح 3/ 132، نهاية السول ص 72، البحر المحيط للزركشي 2/ 124، التقرير والتحبير 2/ 87، روضة الناظر 1/ 145.
109/ 3 - قال ابن عقيل في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70]: (يرجع إلى سائر الجمل، فترفع حكمها التوبة اهـ)
(1)
.
الدراسة:
في كلام ابن عقيل مسألتان:
المسألة الأولى: استدل ابن عقيل بالآية على أن الاستثناء يعود إلى كل ما سبقه من الجمل، فيرفع حكمها التوبة، وقد سبق خلاف العلماء في الاستثناء إذا جاء بعد جمل عند قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور:4 - 5]، وتبين أن الراجح هو عود الاستثناء إلى جميع الجمل التي يصلح عوده إليها ما لم يدل دليل على خلاف ذلك
(2)
.
قال السمرقندي: (ثم قال عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان:70]، يعني: تاب من الشرك والزنى والقتل وصدق بتوحيد الله تعالى وعمل صالحاً {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، يعني: مكان الشرك الإيمان، ومكان القتل الكف، ومكان الزنى العفاف، ومكان المعصية العصمة والطاعة، ويقال: إنه يبدل في الآخرة مكان عمل السيئات الحسنات)
(3)
.
المسألة الثانية: لا خلاف بين العلماء في أن التوبة ترفع حكم الكفر والزنى، واختلفوا في حكم قتل النفس التي حرم الله.
(1)
الواضح 3/ 491.
(2)
ينظر: ص 407.
(3)
تفسير السمرقندي 2/ 546.
قال ابن عطية: (وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ لَا} الآية [الفرقان:70]، لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني، واختلفوا في القاتل من المسلمين)
(1)
.القول الأول:
المشهور من مذهب ابن عباس رضي الله عنه، وإحدى الروايتين عن أحمد: أن توبة القاتل غير مقبولة
(2)
.
…
وقد ناظر ابن عباس في هذه المسألة أصحابه، فقالوا: أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68] إلى أن قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان:70]، فقال: كانت هذه الآية في الجاهلية
(3)
، وذلك أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعو إليه لَحَسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة؛ فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان:68]، فهذه في أولئك، وأما التي في سورة النساء وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء:93]، فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه، ثم قتل، فجزاؤه جهنم
(4)
.
(1)
المحرر الوجيز 4/ 221، الجامع لأحكام القرآن 13/ 77.
(2)
ينظر: الإنصاف مع الشرح 27/ 140.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان:68](4764).
(4)
ينظر: جامع البيان 7/ 342.
وصح عن ابن عباس أن آية الفرقان مكية، وآية النساء مدنية، نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء
(1)
.
واستدلوا: بأن التوبة من قتل المؤمن عمداً متعذرة، إذ لا سبيل إليها إلا باستحلاله، أو إعادة نفسه إلى جسده وكلاهما متعذر
(2)
.
القول الثاني:
ذهب جمهور العلماء
(3)
إلى أن توبة قاتل النفس مقبولة، واستدلوا بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالآية عامة، وهي مذكورة في هذه السورة بعد آية الوعيد وقبلها؛ لتقوية الرجاء.
2 -
وقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]، فهذه عامة في جميع التائبين.
3 -
وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه:82]، فإذا تاب القاتل وآمن وعمل صالحاً، فإن الله عز وجل غفار له
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان:68](4763)، ومسلم في كتاب التفسير (3023)، وينظر: جامع البيان 7/ 342، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 232، تفسير السمعاني 4/ 33.
(2)
ينظر: مدارج السالكين 1/ 396.
(3)
ينظر: تفسير السمعاني 4/ 33، معالم التنزيل 1/ 370، زاد المسير 2/ 100.
(4)
والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ينظر: مدارج السالكين 1/ 396 وما بعدها.
4 -
…
قصة قاتل المائة لما تاب نفعته توبته وأُلحِق بالقرية الصالحة التي خرج إليها
(1)
.
5 -
…
أن الكفر أعظم ذنباً من القتل، والكافر إذا تاب قبلت توبته، فالقاتل إذا تاب من باب أولى.
والراجح في هذه المسألة ما عليه جمهور العلماء؛ لصراحة وقوة أدلتهم، وإمكان الإجابة عما استدل به أصحاب القول الأول بما يلي:
أولاً: أن يكون ابن عباس استبعد أن يكون للقاتل عمداً توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، أو يحمل على أنه لا توبة للقاتل فيما يتعلق بحق المقتول
(2)
، ويأتي الجواب عن هذا.
ثانياً: دعوى النسخ لآية الفرقان غير مقبول؛ لأنه خبر، والأخبار لا تنسخ بإجماع؛ لأن الخبر لو نسخ لكان تكذيباً له، ويتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فالآيتان محكمتان
(3)
.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ لَا} الآية [الفرقان:70] قال: نزلت في أهل الشرك
(4)
.
قال ابن حجر: (ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرة المؤمن القتل متعمداً، وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض وأولى من دعوى أنه قال بالنسخ ثم رجع عنه)
(5)
.
ثالثاً: أنه روي عن ابن عباس القول بقبول توبة القاتل وأنه تحت مشيئة الله
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
ينظر: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين 8/ 222.
(3)
الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه بتصرف ص 233.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب التفسير (3023)، والطبري 7/ 345.
(5)
فتح الباري 8/ 496.
(6)
ينظر: الدر المنثور 2/ 627؛ فقد نسبه لابن أبي حاتم وابن المنذر.
قال ابن عطية: (وروي عن بعض العلماء: أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحياناً؛ فيطلقون: لا تقبل توبة القاتل، منهم ابن شهاب: كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل، قال له: توبتك مقبولة، وإذا سأله من لم يفعل، قال له: لا توبة للقاتل، ومنهم ابن عباس، وقع عنه في تفسير عبد بن حميد: أن رجلاً سأله أللقاتل توبة؟ فقال له: لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم، فلما مضى السائل، قال له أصحابه: ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة، فقال لهم: إني رأيته مغضباً وأظنه يريد أن يقتل، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه فإذا هو كذلك)
(1)
.
رابعاً: آية النساء في القتل محمولة على أحد المعاني التي ذكرها العلماء ومن أظهرها:
أ/ أن يكون معناها: فجزاؤه إن جازاه، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] قال: " هو جزاؤه إن جازاه "
(2)
، والله سبحانه إذا وعد بالعذاب جاز أن يعفو
(3)
.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه - إن جزاه - جهنم خالداً فيها، ولكنه يعفو، ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها)
(4)
.
ب/ أن يُقال: إن هذا جزاؤه إذا لم يتب، فإن تاب فقد بَيَّن الله أمره في آيات التوبة
(5)
، وهو قبول توبته.
(1)
المحرر الوجيز 2/ 95، وينظر: الجامع لأحكام القرآن 5/ 333، تفسير البيضاوي 2/ 236.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط 8/ 270 (8606) بسند ضعيف كما قال السيوطي، ينظر: الدر المنثور 2/ 627، فيه من لا يتابع عليه كما قال العقيلي، ينظر: ميزان الاعتدال 5/ 131.
(3)
ينظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 233.
(4)
جامع البيان 7/ 350.
(5)
معاني القرآن للنحاس 2/ 166.
ج/ وقال بعضهم: إنها نزلت في رجل بعينه من الأنصار ارتد وقتل رجلاً مؤمناً
(1)
.
د/ أن ما في الآية وعيد، وإخلاف الوعيد لا يذم، بل يمدح، فيجوز إخلاف الوعيد دون الوعد؛ لأن إخلاف الوعيد عفو وهبة وإسقاط، وذلك موجب كرمه وإحسانه
(2)
.
هـ / أن المراد بالخلود المكث الطويل، وليس المراد المكث الدائم؛ لأن اللغة يطلق فيها الخلود على المكث الطويل كما يقال: فلان خالد خلود الجبال، ومعلوم أن الجبال ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً، والله سبحانه لم يذكر التأبيد في هذه الآية
(3)
.
و/ ومن أحسن المعاني ما ذكره ابن القيم حيث قال: (هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده؛ فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه، وغاية هذه النصوص: الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتضٍ لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع، فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص، فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين، ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتباراً بمقتضى العقاب ومانعه، وإعمالاً لأرجحها)
(4)
.
(1)
جامع البيان 7/ 340، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 234، الجامع لأحكام القرآن 5/ 333.
(2)
ينظر: مدارج السالكين 1/ 399.
(3)
ينظر: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين 8/ 220.
(4)
مدارج السالكين 1/ 400، وأشار إلى غيرها من الوجوه.
خامساً: أن إقامة القصاص عليه كفارة له
(1)
، كما في حديث عبادة بن الصامت قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال:" تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه؛ فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه "
(2)
.
سادساً: قال العلماء: الحقوق في القتل ثلاثة: حق لله، وحق للمقتول، وحق للوارث.
فإذا تاب القاتل من حق الله وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان، وبقي حق المقتول فلا يضيعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل: أن يعوض المقتول عن مظلمته ويرضيه عن مطالبته، وأن لا يعاقب القاتل التائب
(3)
؛ لأن التوبة تهدم ما قبلها.
قال ابن القيم: (فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده، والحكم بعد ذلك لله {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78])
(4)
. والله أعلم.
(1)
ينظر: المحرر الوجيز 2/ 94.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب من الإيمان حب الأنصار (18)، ومسلم في كتاب الحدود باب الحدود كفارات لأهلها (1709).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير 2/ 986.
(4)
مدارج السالكين 1/ 402.