الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى)
ش: مُخْتَصَرًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ تَأْلِيفُ كِتَابٍ مُخْتَصَرٍ وَالِاخْتِصَارُ ضَمُّ بَعْضِ الشَّيْءِ إلَى بَعْضٍ لِلْإِيجَازِ وَهُوَ إيرَادُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِأَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى الْمُخْتَصَرِ فَقَالَ الْإسْفَرايِينِيّ: حَقِيقَةُ الِاخْتِصَارِ ضَمُّ بَعْضِ الشَّيْءِ إلَى بَعْضٍ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رَدُّ الْكَثِيرِ إلَى الْقَلِيلِ وَفِي الْقَلِيلِ مَعْنَى الْكَثِيرِ، قَالَ: وَقِيلَ: هُوَ إيجَازُ اللَّفْظِ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ هَذَا الثَّانِي وَذَكَرَهُمَا جَمِيعًا الْمَحَامِلِيُّ وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مَا دَلَّ قَلِيلُهُ عَلَى كَثِيرِهِ يُسَمَّى اخْتِصَارًا لِاجْتِمَاعِهِ وَدِقَّتِهِ كَمَا سُمِّيَتْ الْمِخْصَرَةُ مِخْصَرَةً لِاجْتِمَاعِ السُّيُورِ وَخَصْرُ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِهِ وَدِقَّتِهِ انْتَهَى بِلَفْظِهِ وَالْمَذْهَبُ لُغَةً الطَّرِيقُ وَمَكَانُ الذَّهَابِ ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَا بِهِ الْفَتْوَى مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى جُزْئِهِ الْأَهَمِّ نَحْوُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْحَجُّ عَرَفَةَ» ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْفَقِيهِ الْمُقَلِّدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[تَرْجَمَة الْإِمَام مالك]
وَمَالِكٌ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ نِسْبَةً إلَى ذِي أَصْبَحَ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ وَهُوَ مِنْ الْعَرَبِ حِلْفُهُ فِي قُرَيْشٍ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ فَهُوَ مَوْلَى حِلْفٍ لَا مَوْلَى عَتَاقَةٍ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِابْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهُوَ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ وَعَالِمُ الْمَدِينَةِ وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَهُوَ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ عَائِشَةَ بِنْتَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَقَدْ قِيلَ فِيهَا: إنَّهَا صَحَابِيَّةٌ وَالصَّحِيحُ فِيهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ صَحَابِيَّةً؛ لِأَنَّ الْكَلَابَاذِيَّ ذَكَرَهَا فِي التَّابِعِيَّاتِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابِيَّاتِ قَالَهُ فِي رَسْمِ الشَّجَرَةِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَجَدُّهُ أَبُو عَامِرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ حَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَغَازِيَهُ كُلَّهَا إلَّا بَدْرًا جَدُّهُ مَالِكٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ حَمَلُوا عُثْمَانَ إلَى قَبْرِهِ وَغَسَّلُوهُ وَدَفَنُوهُ لَيْلًا وَأَبُوهُ أَنَسٌ. كَانَ فَقِيهًا وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ مَشْهُورَةٌ دُوِّنَتْ بِهَا الدَّوَاوِينُ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِلَفْظِ «يُوشَكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» وَذُكِرَ فِي الْمَدَارِكِ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَفِي رِوَايَةٍ آبَاطَ الْإِبِلِ مَكَانَ أَكْبَادِ الْإِبِلِ وَفِي رِوَايَةٍ أَفْقَهَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ عَالِمٍ بِالْمَدِينَةِ وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تَنْقَضِي السَّاعَةُ حَتَّى يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ إلَى عَالِمِ الْمَدِينَةِ يَطْلُبُونَ عِلْمَهُ» . وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْأَئِمَّةُ عَلَى مَالِكٍ حَتَّى إذَا قِيلَ: هَذَا قَوْلُ عَالِمِ الْمَدِينَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ وَقَالَ سُفْيَانُ: كَانُوا يَرَوْنَهُ مَالِكًا، قَالَ ابْنُ فَهْدٍ: يَعْنِي سُفْيَانُ بِقَوْلِهِ: كَانُوا يَرَوْنَهُ التَّابِعِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: إذَا جَاءَ الْأَثَرُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ، وَقَالَ أَيْضًا: إذَا ذُكِرَ الْعُلَمَاءُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ، وَمَا أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيَّ فِي دِينِ اللَّهِ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَالَ مَالِكٌ أُسْتَاذِي وَعَنْهُ أَخَذْنَا الْعِلْمَ وَمَا أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيَّ مِنْ مَالِكٍ وَجَعَلْت مَالِكًا حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ مَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ آمَنُ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ مَالِكٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: قُلْت لِأَبِي: مَنْ أَثْبَتُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ؟ قَالَ: مَالِكٌ أَثْبَتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ مَالِكٌ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمَدَارِكِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَالِكٌ أَتْبَعُ مِنْ سُفْيَانَ وَسُئِلَ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ إذَا
اخْتَلَفَا أَيُّهُمَا أَفْقَهُ؟ قَالَ: مَالِكٌ أَكْبَرُ فِي قَلْبِي. قِيلَ لَهُ: فَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ؟ قَالَ: مَالِكٌ أَحَبُّ إلَيَّ وَإِنْ كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ مِنْ الْأَئِمَّةِ. قِيلَ: فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ؟ قَالَ: مَالِكٌ، قِيلَ: فَمَالِكٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ؟ قَالَ: مَالِكٌ، قِيلَ: فَمَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ؟ قَالَ: ضَعْهُ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ مَالِكٌ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ إمَامٌ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَمَنْ مِثْلُ مَالِكٍ؟ . وَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ حَدِيثَ مَنْ تَرَى يَحْفَظُ؟ قَالَ حَدِيثَ مَالِكٍ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ بِمَكَانٍ.
قَالَ: وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ أَعْلَمُ أَمَالِكٌ أَوْ أَبُو حَنِيفَةَ؟ قَالَ: مَالِكٌ أَعْلَمُ مِنْ أُسْتَاذِي أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ إمَامٌ فِي الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ آمَنُ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِكٍ وَلَا أُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَحَدًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِثْلَهُ انْتَهَى وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِي أَوَّلِ التَّمْهِيدِ عَنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ: سُئِلَ مَنْ أَعْلَمُ مَالِكٌ أَوْ أَبُو حَنِيفَةَ؟ قَالَ: مَالِكٌ أَعْلَمُ مِنْ أُسْتَاذِي أَبِي حَنِيفَةَ يَعْنِي حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ انْتَهَى وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّإِ: قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إمَامُ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ بِإِمَامٍ فِي السُّنَّةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ إمَامٌ فِي السُّنَّةِ وَلَيْسَ بِإِمَامٍ فِي الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ إمَامٌ فِيهِمَا جَمِيعًا وَسُئِلَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ: السُّنَّةُ هُنَا ضِدُّ الْبِدْعَةِ فَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ انْتَهَى وَفِي الدِّيبَاجِ الْمُذَهَّبِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَ الْحَدِيثَ وَيَنْظُرَ فِي الْفِقْهِ حَدِيثَ مَنْ يَكْتُبُ وَفِي رَأْيٍ مَنْ يَنْظُرُ؟ قَالَ حَدِيثَ مَالِكٍ وَرَأْيَ مَالِكٍ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: مَا أُقَدِّمُ عَلَى مَالِكٍ فِي زَمَانِهِ أَحَدًا، وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَيْضًا عَنْ خَلَفِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: مَا أَجَبْت فِي الْفُتْيَا حَتَّى سَأَلْت مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي هَلْ يَرَانِي مَوْضِعًا لِذَلِكَ؛ سَأَلْت رَبِيعَةَ وَسَأَلْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ فَأَمَرَانِي بِذَلِكَ، فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَلَوْ نَهَوْك قَالَ: كُنْت أَنْتَهِي لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِشَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: مَا أَفْتَى مَالِكٌ رحمه الله حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا ذَكَرَهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَزِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا مِنْ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ وَصْفَهُمْ بِالتَّحْنِيكِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ امْتَازُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِلَّا فَمَا كَانَ لِوَصْفِهِمْ بِالتَّحْنِيكِ فَائِدَةٌ إذْ الْكُلُّ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ انْتَهَى وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا قَالَ سَحْنُونُ: النَّاسُ هَاهُنَا الْعُلَمَاءُ. قَالَ ابْنُ هَارُونَ: وَيُرْوَى هُوَ نَفْسُهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: رضي الله عنهما أَيُّهُمَا أَعْلَمُ صَاحِبُنَا أَمْ صَاحِبُكُمْ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكًا؟ فَقَالَ: قُلْت: أَعَلَى الْإِنْصَافِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْت: فَأُنْشِدُك اللَّهَ مَنْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ أَصَاحِبُنَا أَمْ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ صَاحِبُكُمْ. قُلْت: فَأُنْشِدُك اللَّهَ مَنْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ صَاحِبُنَا أَمْ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ اللَّهُمَّ صَاحِبُكُمْ. قَالَ: قُلْت: فَأُنْشِدُك اللَّهَ مَنْ أَعْلَمُ بِأَقَاوِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَقَدِّمِينَ أَصَاحِبُنَا أَمْ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ اللَّهُمَّ صَاحِبُكُمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ قُلْت: فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقِيَاسُ وَالْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَقِيسُ؟ انْتَهَى وَعَنْ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا بِتُّ لَيْلَةً إلَّا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمَدَارِكِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَتْ لِي عَمَّتِي: وَنَحْنُ بِمَكَّةَ رَأَيْت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، قُلْت: وَمَا هُوَ؟ قَالَتْ: كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: مَاتَ اللَّيْلَةَ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فَحَسَبْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ مَاتَ مَالِكٌ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَمْزَةَ الْجَعْفَرِيُّ: كُنْت أَشْتُمُ مَالِكًا فَنِمْت فَرَأَيْت كَأَنَّ الْجَنَّةَ فُتِحَتْ قُلْت: مَا هَذَا؟ قَالُوا: الْجَنَّةُ. قُلْت: فَمَا هَذِهِ الْغُرَفُ؟ قَالُوا: لِمَالِكٍ لَمَّا ضَبَطَ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ فَلَمْ أَنْتَقِصْهُ بَعْدُ وَكُنْت أَكْتُبُ عَنْهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْنَا
مَالِكٌ وَاللَّيْثُ فَأَيُّهُمَا أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: مَالِكٌ وَرِثَ وَجْدِي، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: مَعْنَاهُ وَارِثُ عِلْمِي، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ: لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى مَسْأَلَةِ اشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي سَرِقَةِ النِّصَابِ فَرَحِمَ اللَّهُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الرَّأْيِ وَالْآثَارِ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ، انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعْدُونٍ سَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ عَنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا مَالِكٌ وَاللَّيْثُ فَقَالَ: رَأْيُ مَالِكٍ هُوَ الصَّوَابُ وَحُكِيَ فِي الدِّيبَاجِ عَنْ الْمَدَارِكِ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: جَالَسْت ابْنَ هُرْمُزَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيُرْوَى سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً فِي عِلْمٍ لَمْ أَبُثَّهُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ وَمَذْهَبُهُ رضي الله عنه مَبْنِيٌّ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ فَهُوَ أَبْعَدُ الْمَذَاهِبِ عَنْ الشُّبَهِ وَنَقَلَ ابْنُ سَهْلٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَنْ زَاغَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ مِمَّنْ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَقَدْ رَأَيْت فِي أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ وَرَأَيْت مَا صُنِّفَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَلَمْ أَرَ مَذْهَبًا أَنْقَى وَلَا أَبْعَدَ مِنْ الزَّيْغِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجَلَّ مَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبًا مِنْ الْمَذَاهِبِ فِيهِمْ الْخَارِجِيُّ وَالرَّافِضِي إلَّا مَذْهَبَ مَالِكٍ فَمَا سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُقَلِّدُهُ قَالَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِهِ نَجَاةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (قُلْت) وَفِي أَوَّلِ هَذَا الْكَلَامِ بَشَاعَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ مَا قَالَهُ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنهم عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَكُلُّ مَنْ قَلَّدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَهُوَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ إنَّمَا تَكَلَّمَ عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْخَوَارِجِ (وَإِنَّمَا نَقَلْتُهُ) لِأُنَبِّهَ عَلَى مَا فِيهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى يَعْصِمُنَا مِنْ الزَّلَلِ وَيُوَفِّقُنَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ آخِرًا أَعْنِي قَوْلَهُ: فَمَا سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُقَلِّدُهُ قَالَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ، فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ قَالَ السُّبْكِيُّ فِي مُفِيدِ النِّعَمِ وَمُبِيدِ النِّقَمِ: وَهَؤُلَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَفُضَلَاءُ الْحَنَابِلَةِ يَدٌ وَاحِدَةٌ كُلُّهُمْ عَلَى رَأْيِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَدِينُونَ بِطَرِيقَةِ شَيْخِ السُّنَّةِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَحِيدُ عَنْهَا إلَّا رَعَاعٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَحِقُوا بِأَهْلِ الِاعْتِزَالِ وَرَعَاعٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ لَحِقُوا بِأَهْلِ التَّجْسِيمِ، وَبَرَّأَ اللَّهُ الْمَالِكِيَّةَ فَلَمْ يُرَ مَالِكِيٌّ إلَّا أَشْعَرِيَّ الْعَقِيدَةِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: يُخَاطِبُ أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَمَّا تَعَصُّبُكُمْ فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَحَمْلُكُمْ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ فَهُوَ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْكُمْ وَلَا يَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ إلَّا مَحْضُ التَّعَصُّبِ وَالتَّحَاسُدِ وَلَوْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا وَأَحْمَدَ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ لَشَدَّدُوا النَّكِيرَ عَلَيْكُمْ وَتَبَرَّءُوا مِنْكُمْ فِيمَا تَفْعَلُونَ انْتَهَى وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يُنَقِّصُ مَالِكًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ قَالَ أَبُو دَاوُد وَأَخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: إذَا رَأَيْت الْحِجَازِيَّ يُحِبُّ مَالِكًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ وَإِذَا رَأَيْت أَحَدًا يَتَنَاوَلُهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَالَ فِي الدِّيبَاجِ: وَكَانَ رَبِيعَةُ إذَا جَاءَ مَالِكٌ يَقُولُ: جَاءَ الْعَاقِلُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْقَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: قَالَ مَالِكٌ: مَا جَالَسْت سَفِيهًا قَطُّ. وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ غَيْرُهُ وَلَا فِي فَضَائِلِ الْعُلَمَاءِ أَجَلُّ مِنْ هَذَا وَذَكَرَ يَوْمًا شَيْئًا فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَك بِهَذَا؟ فَقَالَ: إنَّا لَمْ نُجَالِسْ السُّفَهَاءَ وَقَدْ عَدَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَدَارِكِ بِالتَّرْجِيحِ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَبَيَّنَ الْحُجَّةَ فِي وُجُوبِ تَقْلِيدِهِ وَرَجَّحَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَالِاعْتِبَارِ فَلْيُنْظَرْ ذَلِكَ فِيهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي آخِرِ الْمَعُونَةِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: اخْتَارَ الشَّيْخُ مَذْهَبَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ ثُمَّ قَالَ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ شَرَفَيْ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ إمَّا فَقِيهٌ صِرْفٌ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُمَا ذِكْرٌ عِنْدَ الصَّحِيحَيْنِ. وَإِمَّا مُحَدِّثٌ صِرْفٌ كَأَحْمَدَ وَدَاوُد انْتَهَى. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي الْمَدَارِكِ. وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: يَكْفِي فِي
أَرْجَحِيَّتِهِ كَوْنُهُ إمَامَ دَارِ الْهِجْرَةِ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَمَتْبُوعَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ رِوَايَتُهُ وَعَصَمَ اللَّهُ مَذْهَبَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ذُو هَوًى مَوْسُومًا بِالْإِمَامَةِ وَجَعَلَهُ مُقَدَّمًا عِنْدَ الْكَافَّةِ حَتَّى أَنَّ كُلَّ ذِي مَذْهَبٍ يَخْتَارُهُ بَعْدَ مَذْهَبِهِ وَجَعَلَ رُؤَسَاءَ مَذْهَبِهِ حُجَّةً بَعْدَهُ فِي الْحَدِيثِ كَالْفِقْهِ قَدْ خَرَّجَ لَهُمْ الْبُخَارِيُّ وَمَا مَلَأَ كِتَابَهُ إلَّا بِهِمْ فَهُمْ الْحُجَّةُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَثْبَاتُ الَّذِينَ بَرَزُوا وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا أَمِينًا وَمَنْ طَالَعَ مَنَاقِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَرَفَ عُلُوَّ مَرْتَبَتِهِمْ وَوُجُوبَ تَقْدِيمِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلُزُومَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُهُمْ عَلَى مَا يَتَعَرَّفُ مِنْ مَرَاتِبِهِمْ وَيَرَى مَعَ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا أَعْلَاهُمْ وَأَسْنَاهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ تِلْمِيذُهُ وَأَحْمَدُ تِلْمِيذُ الشَّافِعِيِّ وَيَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ الْأَثِيرِ حَيْثُ يَقُولُ: كَفَى مَالِكًا شَرَفًا أَنَّ الشَّافِعِيَّ تِلْمِيذُهُ وَأَحْمَدُ تِلْمِيذُ الشَّافِعِيِّ وَكَفَى الشَّافِعِيُّ شَرَفًا أَنَّ مَالِكًا شَيْخُهُ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَقِيَ مَالِكًا وَأَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ إذًا شَيْخُ الْكُلِّ وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ وَكُلُّهُمْ عَلَى هُدًى وَتُقَى وَعِلْمٍ وَوَرَعٍ وَزُهْدٍ انْتَهَى وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ تَزْيِينَ الْمَمَالِكِ بِتَرْجَمَةِ الْإِمَامِ مَالِكٍ بَلَغَنِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّ ثَمَّ مَنْ أَنْكَرَ رِوَايَةَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكِبَرِ سِنِّهِ وَهَذَا لَا يُقَالُ فَقَدْ رَوَى عَنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ سِنًّا وَقَدْ رَوَى عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَقْدَمُ وَفَاةً كَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَكِلَاهُمَا مِنْ شُيُوخِ مَالِكٍ فَإِذَا رَوَى عَنْهُ شُيُوخُهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ وَرِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مَالِكٍ ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي كِتَابِهِ وَابْنُ حَجَرٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ فِي كِتَابِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ وَذَكَرَهَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْحَافِظُ مُغَلْطَاي وَالشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي نُكَتِهِ: صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيّ جُزْءًا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَاهَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ قَالَ: وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَجَلُّ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَبُو حَنِيفَةَ انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَيْضًا فِي الْمَدَارِكِ رِوَايَةَ الْإِمَامِ مَالِكٍ قَالَ: وَرَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّةُ الْأَجِلَّاءُ مِنْ شُيُوخِهِ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْ شُيُوخِهِ مِنْ التَّابِعِينَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَمَاتَ قَبْلَ مَالِكٍ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَاتَ قَبْلَهُ بِثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَمِنْ شُيُوخِهِ مِنْ غَيْرِ التَّابِعِينَ نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِي قَرَأَ مَالِكٌ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَرَوَى هُوَ عَنْ مَالِكٍ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْأَعْمَشُ، وَمِنْ أَقْرَانِهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الْمِصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُهُ حَمَّادٌ وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْ طَبَقَةٍ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَالِكِيُّ وَالْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْوَلِيدُ بْن مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مَشَاهِيرِ الرُّوَاةِ وَعَدَّ الْقَاضِي رحمه الله مِنْهُمْ أَلْفًا وَنَيِّفًا، قَالَ: وَتَرَكْنَا كَثِيرًا مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَا أَحَدٌ مِمَّنْ نَقَلْت عَنْهُ هَذَا الْعِلْمَ إلَّا اُضْطُرَّ إلَيَّ حَتَّى سَأَلَنِي عَنْ أَمْرِ دِينِهِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ اجْتَمَعَ لَهُ مَا اجْتَمَعَ لِمَالِكٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ رَجُلَانِ حَدِيثًا وَاحِدًا بَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ شَيْخُهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَأَبُو حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ تُوُفِّيَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَالْمِائَتَيْنِ رَوَيَا عَنْهُ حَدِيثَ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ فِي سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ وَتَوَرُّعُهُ وَتَثَبُّتُهُ فِي الْفُتْيَا مَشْهُورٌ وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: لَوْ شِئْت أَنْ أَمْلَأَ أَلْوَاحِي مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لَا أَدْرِي فَعَلْت وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ
قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا جَاءَ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ أَيَّامًا مَا يُجِيبُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ، قَالَ: فَأَطْرَقَ طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ يَا هَذَا، فَقَالَ: إنِّي إنَّمَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَلَيْسَ أُحْسِنُ مَسْأَلَتَك هَذِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكًا عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أُحْسِنُهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي ضَرَبْت إلَيْك مِنْ كَذَا وَكَذَا لِأَسْأَلَك عَنْهَا، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: فَإِذَا رَجَعْت إلَى مَكَانِك وَمَوْضِعِك فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي قُلْت لَك: لَا أُحْسِنُهَا.
(وُلِدَ رحمه الله) بِذِي الْمَرْوَةِ مَوْضِعٌ مِنْ مَسَاجِدِ تَبُوك عَلَى ثَمَانِيَةِ بُرْدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي أَوَّلِ الْمَشَارِقِ: إنَّهُ مَدَنِيُّ الدَّارِ وَالْمَوْلِدِ وَالنَّشْأَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ ذَا الْمَرْوَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَدِينَةِ وَوُلِدَ رضي الله عنه سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ (وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ بِالْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَقَبْرُهُ بِهِ مَعْرُوفٌ وَعَلَيْهِ قُبَّةٌ وَإِلَى جَانِبِهِ قَبْرٌ لِنَافِعٍ قَالَ السَّخَاوِيُّ: أَمَّا نَافِعٌ الْقَارِي أَوْ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ رحمه الله: وَكَانَ رحمه الله طَوِيلًا جَسِيمًا عَظِيمَ الْهَامَةِ أَصْلَعَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ أَبْيَضَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ إلَى الصُّفْرَةِ حَسَنَ الصُّورَةِ أَشَمَّ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ تَامَّهَا تَبْلُغُ صَدْرَهُ ذَاتَ سَعَةٍ وَطُولٍ وَكَانَ يَأْخُذُ آطَارَ شَارِبِهِ وَلَا يَحْلِقُهُ وَيَرَى حَلْقَهُ مُثْلَةً وَكَانَ يَتْرُكُ لَهُ سِبَالَيْنِ طَوِيلَيْنِ وَيَحْتَجُّ بِفَتْلِ عُمَرَ لِشَارِبِهِ إذَا أَهَمَّهُ أَمْرٌ وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ مَالِكٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْلَاهُمْ عَيْنًا وَأَنْقَاهُمْ بَيَاضًا وَأَتَمَّهُمْ طُولًا فِي جُودَةِ بَدَنٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ رحمه الله: كَانَ مَالِكٌ رحمه الله يَأْتِي الْمَسْجِدَ وَيَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَالْجَنَائِزَ وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيَقْضِي الْحُقُوقَ وَيُجِيبُ الدَّعْوَةَ ثُمَّ تَرَكَ الْجُلُوسَ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ يُصَلِّي وَيَنْصَرِفُ ثُمَّ تَرَكَ عِيَادَةَ الْمَرْضَى وَشُهُودَ الْجَنَائِزِ فَكَانَ يَأْتِي أَصْحَابَهَا فَيُعَزِّيهِمْ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَلَمْ يَكُنْ يَشْهَدُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا الْجُمُعَةَ وَلَا يَأْتِي أَحَدًا يُعَزِّيهِ وَلَا يَقْضِي لَهُ حَقًّا فَاحْتَمَلَ النَّاسُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ وَكَانَ رُبَّمَا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِعُذْرِهِ. وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمَدَارِكِ ثُمَّ تَرَكَ عِيَادَةَ الْمَرْضَى وَشُهُودَ الْجَنَائِزِ وَكَانَ أَصْحَابُهَا يَأْتُونَ إلَيْهِ فَيُعَزِّيهِمْ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: فَاحْتَمَلَ النَّاسُ لَهُ كُلَّ ذَلِكَ وَكَانُوا أَرْغَبَ فِيهِ وَأَشَدَّ تَعْظِيمًا فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ سُئِلَ عَنْ تَخَلُّفِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ وَكَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ سَبْعَ سِنِينَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلِهِ مِنْ الْآخِرَةِ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِي سَلَسُ بَوْلٍ فَكَرِهْت أَنْ آتِيَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ عِلَّتِي فَأَشْكُوَ رَبِّي وَقِيلَ: كَانَ اعْتَرَاهُ فَتْقٌ مِنْ الضَّرْبِ الَّذِي ضَرَبَهُ فَكَانَتْ الرِّيحُ تَخْرُجُ مِنْهُ، فَقَالَ: إنِّي أُوذِيَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسَ (وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ ضَرَبَهُ وَفِي سَبَبِ ضَرْبِهِ) فَالْأَشْهَرُ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ فِي وِلَايَتِهِ الْأُولَى بِالْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا سَبَبُهُ فَقِيلَ: إنَّ أَبَا جَعْفَرٍ نَهَاهُ عَنْ حَدِيثِ «لَيْسَ عَلَى مُسْتَكْرَهٍ طَلَاقٌ» ثُمَّ دَسَّ إلَيْهِ مَنْ سَأَلَهُ فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَقِيلَ: إنَّ الَّذِي نَهَاهُ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَقِيلَ: إنَّهُ سَعَى بِهِ إلَى جَعْفَرٍ وَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَرَى أَيْمَانَ بَيْعَتِكُمْ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَفْتَى عِنْدَ قِيَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ بِأَنَّ بَيْعَةَ أَبِي جَعْفَرٍ لَا تَلْزَمُ لِأَنَّهَا عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ الرُّوَاةِ وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ إنَّمَا ضُرِبَ فِي تَقْدِيمِهِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَقِيلَ لِابْنِ بُكَيْرٍ: خَالَفْت أَصْحَابَك، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْ أَصْحَابِي، وَالْأَشْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَقِيلَ: فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ ضَرْبِهِ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَى مِائَةٍ وَمُدَّتْ يَدَاهُ حَتَّى انْخَلَعَتْ كَتِفُهُ وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مُطَالَ الْيَدَيْنِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا أَنْ يُسَوِّيَ رِدَاءَهُ وَلَمَّا حَجَّ الْمَنْصُورُ أَقَادَهُ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَأَرْسَلَهُ لِيَقْتَصَّ مِنْهُ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ، وَاَللَّهِ مَا اُرْتُفِعَ مِنْهَا
سَوْطٌ عَنْ جِسْمِي إلَّا وَأَنَا أَجْعَلُهُ فِي حِلٍّ مِنْ ذَاكَ الْوَقْتِ لِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ: حُمِلَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ وَدَخَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي جَعَلْت ضَارِبِي فِي حِلٍّ ثُمَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَدْ تَخَوَّفْت أَنْ أَمُوتَ أَمْسِ فَأَلْقَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْتَحِي مِنْهُ بِأَنْ يَدْخُلَ بَعْضُ آلِهِ النَّارَ بِسَبَبِي فَمَا كَانَ إلَّا مُدَّةٌ حَتَّى غَضِبَ الْمَنْصُورُ عَلَى ضَارِبِهِ فَضَرَبَهُ وَنِيلَ مِنْهُ أَمْرٌ شَدِيدٌ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ حِينَ ضُرِبَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَكَانَ ضَرَبَهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ.
قَالَ مَالِكٌ: مَا كَانَ عَلَيَّ أَشَدَّ يَوْمَ ضُرِبْت مِنْ شَعْرٍ كَانَ فِي صَدْرِي وَكَانَ فِي إزَارِي خَرْقٌ ظَهَرَتْ مِنْهُ فَخِذِي فَجَعَلْت بِيَدَيَّ أَسْتَجْدِي الْإِزَارَ وَلَا أَتْرُكُ عَلَيَّ شَعْرًا وَكَانَ يَقُولُ: ضُرِبْت فِيمَا ضُرِبَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَيَذْكُرُ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا أَغْبِطُ أَحَدًا لَمْ يُصِبْهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَذًى قَالَ الْإِبْيَانِيُّ: مَا زَالَ مَالِكٌ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّرْبِ فِي رِفْعَةٍ مِنْ النَّاسِ وَإِعْظَامٍ حَتَّى كَأَنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْوَاطُ إلَّا حُلِيًّا حُلِّيَ بِهِ رحمه الله، وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّإِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ إلَى مَالِكٍ يَحُضُّهُ عَلَى الِانْفِرَادِ وَالْعَمَلِ وَتَرْكِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ فَكَتَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ: إنَّ اللَّهَ قَسَّمَ الْأَعْمَالَ كَمَا قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ فَرُبَّ رَجُلٍ فَتَحَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ وَآخَرَ فَتَحَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ وَآخَرَ فَتَحَ لَهُ فِي الْجِهَادِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَنَشْرُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَقَدْ رَضِيت بِمَا فَتَحَ اللَّهُ لِي مِنْ ذَلِكَ وَمَا أَظُنُّ مَا أَنَا فِيهِ بِدُونِ مَا أَنْتَ فِيهِ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ كُلُّنَا عَلَى خَيْرٍ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ وَالسَّلَامُ اهـ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْمَدَارِكِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكًا عَنْ شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْبَاطِنِ فَغَضِبَ وَقَالَ: إنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ عَرَفَ الظَّاهِرَ فَإِنَّهُ مَتَى عَرَفَهُ وَعَمِلَ بِهِ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ عِلْمَ الْبَاطِنِ وَلَا يَكُونُ ذَاكَ إلَّا مَعَ فَتْحِ الْقَلْبِ وَتَنْوِيرِهِ ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: عَلَيْك بِالدِّينِ الْمَحْضِ وَإِيَّاكَ وَبُنَيَّاتِ الطُّرُقِ وَعَلَيْك بِمَا تَعْرِفُ وَاتْرُكْ مَا لَا تَعْرِفُ وَقَالَ رضي الله عنه: طَلَبُ الْعِلْمِ حَسَنٌ لِمَنْ رُزِقَ خَيْرَهُ وَهُوَ قِسْمٌ مِنْ قَسْمِ اللَّهِ عز وجل وَلَكِنْ اُنْظُرْ مَا يَلْزَمُك مِنْ حِينِ تُصْبِحُ إلَى حِينِ تُمْسِي فَالْزَمْهُ وَقَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ، وَقَالَ: شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ وَخَيْرُ الْعِلْمِ الظَّاهِرُ الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ، وَقَالَ لِابْنِ وَهْبٍ: أَدِّ مَا سَمِعْت وَحَسْبُك وَلَا تَحْمِلْ لِأَحَدٍ عَلَى ظَهْرِك فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: أَخْسَرُ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ وَأَخْسَرُ مِنْهُ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ.
وَقِيلَ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا خُوِّلَ عِلْمًا وَكَانَ رَأْسًا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ أَنْ يَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَعْتِبُ نَفْسَهُ إذَا خَلَا بِهَا وَلَا يَفْرَحُ بِالرِّئَاسَةِ فَإِنَّهُ إذَا اُضْطُجِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُسِّدَ التُّرَابَ سَاءَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَقَالَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا سُئِلَ عَنْهَا الرَّجُلُ فَلَمْ يُجِبْ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُ فَإِنَّمَا هِيَ بَلِيَّةٌ صَرَفَهَا اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ مَنْ صَدَقَ فِي حَدِيثِهِ مُنِعَ بِعَقْلِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ وَقَالَ لَا يَصْلُحُ الرَّجُلُ حَتَّى يَتْرُكَ مَا لَا يَعْنِيه وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَعْنِيه فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ قَلْبُهُ، وَقَالَ: مَا زَهِدَ أَحَدٌ فِيهَا إلَّا أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِالْحِكْمَةِ، وَقَالَ: عَلَيْك بِمُجَالَسَةِ مَنْ يَزِيدُ فِي عَمَلِك قَوْلُهُ: وَيَدْعُوك إلَى الْآخِرَةِ فِعْلُهُ وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ مَنْ يُضِلُّك قَوْلُهُ وَيَدْعُوك إلَى الدُّنْيَا فِعْلُهُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: إذَا هَمَمْت بِأَمْرٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَلَا تَحْبِسْهُ فَوَاقًا حَتَّى تُمْضِيَهُ فَإِنَّك لَا تَأْمَنُ الْأَحْدَاثَ وَإِذَا هَمَمْت بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تُمْضِيَهُ وَلَوْ فَوَاقًا فَلَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ لَك تَرْكَهُ وَلَا تَسْتَحْيِي إذَا دُعِيت لِأَمْرٍ لَيْسَ بِحَقٍّ أَنْ تَعْمَلَ الْحَقَّ، وَاقْرَأْ:{وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] وَطَهِّرْ ثِيَابَك وَنَقِّهَا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَعَلَيْك بِمَعَالِي الْأُمُورِ وَكِبَارِهَا وَاتَّقِ رَذَائِلَهَا وَسَفَاسِفَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَأَكْثِرْ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَاجْتَهِدْ فِي الْخَيْرِ وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْت