الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذَا فَعَلَهُ الشَّخْصُ فِي نَفْسِهِ أَمَّا هَذَا وَغُسْلُ الْمَيِّتِ وَمَا شَابَهَهُمَا فَلَا قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ قِيَاسًا عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي النَّضْحِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْغَسْلَ هُنَا يُزِيلُ اللُّعَابَ فَالنَّضْحُ لَا يُزِيلُ شَيْئًا فَكَانَ تَعَبُّدًا بِخِلَافِ إنَاءِ الْكَلْبِ وَأَصْلُهُ لِصَاحِبِ الطِّرَازِ قَالَ: فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ فِي الْمَاءِ فَهَلْ يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعًا، أَوْ بِحَسَبِ الْمَاءِ الَّذِي أَلْقَاهُ فِيهِ وَاسْتَعْمَلَهُ مَرَّةً فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ قَالَ الْبَاجِيُّ لَا نِيَّةَ وَهَلْ يَتَخَرَّجُ فِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ قِيَاسًا عَلَى النَّضْحِ، أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ، الْأَمْرُ مُحْتَمَلٌ وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ.
(فَرْعٌ) آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ غَسْلِهِ لَا يَسْقُطُ الْغَسْلُ، وَلَا يُؤْمَرُ بِغَسْلِ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ طَهَارَتُهُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) هَلْ يُشْتَرَطُ الدَّلْكُ؟ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَالظَّاهِرُ عَلَى أُصُولِنَا الِاشْتِرَاطُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ عِنْدَنَا لَا تَتِمُّ حَقِيقَتُهُ إلَّا بِهِ اهـ. وَقَوْلُهُ لَا نَصَّ إنْ أَرَادَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَأَصْلُهُ لِصَاحِبِ الطِّرَازِ لَكِنَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فَقَالَ: فَرْعٌ وَإِذَا شُرِطَ فِيهِ النِّيَّةُ فَهَلْ يُشْتَرَطُ الْحَكُّ بِالْيَدِ كَمَا يُشْتَرَطُ التَّدَلُّكُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ أَوْ يُجْزِي تَمَضْمُضُهُ بِالْمَاءِ؟ هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ أَصْلًا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا يُشْتَرَطُ دَلْكُهُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ مَأْمُورٌ بِهِ فِيهِ خَرَجَ عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْ غَسْلِ الْأَوَانِي، وَقَدْ يُطْلَقُ الْغَسْلُ مِنْ غَيْرِ دَلْكٍ يُقَالُ: غَسَلَتْ السَّمَاءُ الْأَرْضَ بِالْمَطَرِ اهـ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لَا يُشْتَرَطُ الدَّلْكُ، وَفِي كَلَامِهِ إيمَاءٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِهَا، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَإِنَّهُ الْمَذْهَبُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي أَنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْغُسْلِ فَقِيلَ: هُوَ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ، وَقِيلَ: هُوَ إمْرَارُ الْيَدِ مَعَ الْمَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ، أَوْ عَرْكُ الْمَحَلِّ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَبُّ الْمَاءِ لِإِزَالَةِ شَيْءٍ فَإِذَا زَالَ كَانَ غُسْلًا وَكَانَ الْمَحَلُّ مَغْسُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ غَسْلَ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ صَبُّ الْمَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُزَالُ؟ اهـ.
ص (وَلَا تَتْرِيبَ)
ش: يَعْنِي أَنَّ تَتْرِيبَ الْإِنَاءِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُلِّ الرِّوَايَاتِ قَالَهُ عِيَاضٌ، أَوْ لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَفِي بَعْضِهَا إحْدَاهُنَّ، وَفِي بَعْضِهَا أُولَاهُنَّ وَبَعْضُهَا فِي أُخْرَاهُنَّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إنَّمَا لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ بِالتَّعْفِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ.
ص (وَلَا يَتَعَدَّدُ بِوُلُوغِ كَلْبٍ أَوْ كِلَابٍ)
ش: أَيْ لَا يَتَعَدَّدُ الْغَسْلُ الْمَذْكُورُ بِتَعَدُّدِ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْإِنَاءِ، وَلَا بِتَعَدُّدِ الْكِلَابِ فَلَوْ وَلَغَ كَلْبٌ فِي إنَاءٍ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَوْ وَلَغَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْكِلَابِ فِي إنَاءٍ كَفَى فِي ذَلِكَ سَبْعُ غَسَلَاتٍ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ إذَا تَسَاوَتْ مُوجِبَاتُهَا اُكْتُفِيَ بِأَحَدِهَا كَتَعَدُّدِ النَّوَاقِضِ فِي الطَّهَارَةِ وَالسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ وَمُوجِبَاتِ الْحُدُودِ، وَقِيلَ يَتَعَدَّدُ حَكَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ ابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا نَصَّ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ فِيهِ عَدَمُ التَّكَرُّرِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هَذَا خِلَافُ حِكَايَةِ ابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ شَاسٍ فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ لَا يَتَعَدَّدُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَذَكَرَ سَنَدٌ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَجَعَلَهُ الْمَذْهَبَ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا إلَّا عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: عَدَمُ التَّعَدُّدِ يُنَاسِبُ الْقَوْلَ بِالنَّجَاسَةِ وَالِاسْتِقْذَارِ، وَالتَّعَدُّدُ يُنَاسِبُ مَنْ قَالَ بِالتَّعَبُّدِ، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُ مَا قَالَ، وَقَالَ ابْنُ هَارُونَ: وَسَبَبُ الْخِلَافِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْكَلْبِ هَلْ هِيَ لِلْمَاهِيَّةِ، أَوْ لِلْجِنْسِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَكَرَّرُ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَتَكَرَّرُ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي الصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ التَّعَدُّدِ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ وَبِالتَّعَدُّدِ فِي وُلُوغِ الْكِلَابِ، فَلِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ وَسُنَنَهُ وَفَضَائِلَهُ]
ص (فَصْلٌ: فَرَائِضُ الْوُضُوءِ غَسْلُ مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، وَمَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ، وَالذَّقَنِ
وَظَاهِرِ اللِّحْيَةِ)
ش أَيْ هَذَا فَصْلٌ أَذْكُرُ فِيهِ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ وَسُنَنَهُ وَفَضَائِلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَضَى كَلَامُهُ عَلَى وَسَائِلِ الطَّهَارَةِ الثَّلَاثِ الَّتِي هِيَ بَيَانُ الْمَاءِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ، وَبَيَانُ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ، وَبَيَانُ حُكْمِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَكَيْفِيَّةِ إزَالَتِهَا وَمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْهَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى مَقَاصِدِ الطَّهَارَةِ وَهِيَ الْوُضُوءُ، وَنَوَاقِضُهُ، وَالْغُسْلُ، وَنَوَاقِضُهُ وَمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهُمَا وَهُوَ التَّيَمُّمُ أَوْ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ مَسْحُ الْخُفِّ وَالْجَبِيرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْفُصُولُ الثَّلَاثَةُ وَسَائِلَ؛ لِأَنَّ بِمَعْرِفَتِهَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَوَسِيلَةُ الشَّيْءِ مَا يُوصِلُ إلَيْهِ وَبَدَأَ مِنْ الْمَقَاصِدِ بِالْوُضُوءِ لِتَكَرُّرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ إمَّا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا.
وَالْفَرَائِضُ جَمْعُ فَرِيضَةٍ وَهِيَ الْأَمْرُ الَّذِي يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَرَتَّبُ الْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ، وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا: فَرْضٌ وَيُجْمَعُ عَلَى فُرُوضٍ، وَيُطْلَقُ الْفَرْضُ شَرْعًا عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ وَجَوَازُ الْإِتْيَانِ بِهَا كَوُضُوءِ النَّافِلَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ، وَيُشَارِكُهُ الْأَوَّلُ فِي أَنَّهُ يَأْثَمُ بِفِعْلِ الْعِبَادَةِ بِدُونِهِ، وَيَنْفَرِدُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ مَعَ تَرْكِ الْعِبَادَةِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَيْهِ.
وَالْوُضُوءُ بِضَمِّ الْوَاوِ اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَبِفَتْحِهَا اسْمٌ لِلْمَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ الْخَلِيلِ الْفَتْحُ فِيهِمَا وَعَنْ غَيْرِهِ الضَّمُّ فِيهِمَا وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ. حَكَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَضَاءَةِ بِالْمَدِّ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ النَّظَافَةُ وَالْحُسْنُ، وَيُطْلَقُ الْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ عَلَى غَسْلِ عُضْوٍ فَمَا فَوْقَهُ وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ «بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْيَدِ وَمَحْمَلُهُ عِنْدَنَا مَا إذَا أَصَابَهَا أَذًى مِنْ عَرَقٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ وَيُصَحِّحُ الْبَصَرَ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: وَيُصَحِّحُ الْبَصَرَ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ غَسْلُ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ. فَوَائِدُ: (الْأُولَى) اُخْتُلِفَ مَتَى فُرِضَتْ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ فُرِضَتْ الصَّلَاةُ وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ فَهَمَزَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِعَقِبِهِ فَتَوَضَّأَ وَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَقَالَ ابْنُ الْجَهْمِ: كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ سُنَّةً ثُمَّ فُرِضَتْ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ. نَقَلَهُ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَكَلَامُ الْقَاضِي أَتَمُّ فَلْيُنْظَرْ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ: جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ رُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
(الثَّانِيَةُ) ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ فِي غَزْوَةِ السَّوِيقِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا مَا نَصُّهُ فِيهِ أَنَّ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَقَايَا دِينِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَمَا بَقِيَ فِيهِمْ الْحَجُّ وَالنِّكَاحُ، وَلِذَلِكَ سَمَّوْهَا جَنَابَةً، وَقَالُوا: رَجُلٌ جُنُبٌ لِمُجَانَبَتِهِمْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلِذَلِكَ عَرَفُوا مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الْقُرْآنِ أَعْنِي قَوْلَهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَلَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَفْسِيرِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مُحْدِثًا فَلْيَتَوَضَّأْ، بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ فَبَيَّنَ الْوُضُوءَ وَأَعْضَاءَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ وَسَبَبَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ فِي الْجَنَابَةِ انْتَهَى.
(الثَّالِثَةُ) قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ الْغُرَّةَ وَالتَّحْجِيلَ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَعَارَضَهُ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» وَالْأُمَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ لَا بِالْوُضُوءِ (وَأُجِيبَ) بِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَوْ أَنَّهُ اخْتَصَّتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ دُونَ أُمَمِهَا إلَّا أُمَّةَ
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. وَانْظُرْ كَلَامَ ابْنِ حَجَرٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ. (قُلْتُ) : وَقَالَ فِي الْإِكْمَالِ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فِي حَدِيثِ جُرَيْجٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى فَيَتَّجِهُ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَا وَتَصْحِيحٌ لِتَأْوِيلِ اخْتِصَاصِهَا بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى، فَتَحَصَّلَ مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ، وَاخْتُلِفَ فِي اخْتِصَاصِهَا بِهِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اخْتِصَاصِهَا.
وَالسِّيمَا بِكَسْرِ السِّينِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ: الْعَلَامَةُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ فِي آخِرِ الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ قَوْلَ الْأَصِيلِيِّ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الرَّابِعَةُ) الْوُضُوءُ فِي الشَّرْعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَرْضٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَمُبَاحٌ، وَمَمْنُوعٌ. (فَالْوُضُوءُ الْفَرْضُ) لِكُلِّ عِبَادَةٍ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا إلَّا بِطَهَارَةٍ كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فَرْضُهُمَا وَنَفْلُهُمَا وَلَمْسُ الْمُصْحَفِ، وَقِيلَ: إنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّفْلِ مِنْهُمَا وَمَسَّ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دُونَ طَهَارَةٍ مَعْصِيَةٌ وَأَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ تِلْكَ النَّافِلَةُ وَلَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهَا بَلْ عَدَّ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ فِيمَا يَكْفُرُ بِهِ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، (وَالْمُسْتَحَبُّ) الْوُضُوءُ الْمُجَدَّدُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إذَا كَانَ قَدْ فُعِلَتْ بِهِ عِبَادَةٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ سُنَّةٌ وَوُضُوءُ الْإِمَامِ لِخُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: فَرِيضَةٌ وَالْوُضُوءُ لِلْأَذَانِ وَالْإِقَامَةُ وَلِلنَّوْمِ وَلَوْ كَانَ جُنُبًا، وَقِيلَ: إنَّ وُضُوءَ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ وَلِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ظَاهِرًا، وَلِقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ وَلِاسْتِمَاعِهِمَا، وَلِلدُّعَاءِ، وَالْمُنَاجَاةِ، وَلِلذِّكْرِ، وَلِصَاحِبِ السَّلَسِ، وَمِنْهُ الْمُسْتَحَاضَةُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ إذَا كَانَ إتْيَانُ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ انْقِطَاعِهِ أَوْ تَسَاوَيَا كَمَا سَيَأْتِي، وَلِأَعْمَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كُلِّهَا مَا عَدَا الطَّوَافَ وَالصَّلَاةَ فَيَجِبُ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْجُنُبِ إلَّا عِنْدَ الْأَكْلِ خِلَافًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ قَالَ الْبَاجِيُّ وَالْمَازِرِيُّ: وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ فِي أَمْرِ الْجُنُبِ بِالْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ عِنْدَنَا عَلَى غَسْلِ الْيَدِ وَهَلْ ذَلِكَ لِأَذًى أَصَابَهَا؟ (وَالْمُبَاحُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي قَوَاعِدِهِ: هُوَ الْوُضُوءُ لِلدُّخُولِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَلِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَشِبْهِهِ مِنْ الْمَخَاوِفِ، وَلِيَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى طَهَارَةٍ وَلَا يُرِيدُ بِهِ صَلَاةً يَعْنِي اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ يُرِيدُ أَوْ غَيْرَهَا مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا كُلِّهِ: إنَّهُ مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ. (قُلْتُ) وَجَزَمَ ابْنُ جُزَيٍّ فِي قَوَانِينِهِ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِذَلِكَ وَزَادَ وَلِقِرَاءَةِ الْعِلْمِ.
قَالَ: وَالْمُبَاحُ الْوُضُوءُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ بِاسْتِحْبَابِهِ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَقَالَ الشَّبِيبِيُّ: مِنْ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ فِي هَذَا كُلِّهِ الِاسْتِحْبَابُ مَا عَدَا التَّنْظِيفَ وَالتَّبَرُّدَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ التَّنْظِيفَ وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا شَرْعًا لَمْ يُطْلَبْ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِخُصُوصِهَا لَهُ.
وَحَدِيثُ «بُنِيَ الدِّينُ عَلَى النَّظَافَةِ» ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ هَكَذَا وَفِي الضُّعَفَاءِ لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «تَنَظَّفُوا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ نَظِيفٌ» وَلِلطَّبَرَانِيِّ سَنَدٌ ضَعِيفٌ جِدًّا «النَّظَافَةُ تَدْعُو إلَى الْإِيمَانِ» انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَاب الِاسْتِئْذَانِ مِنْ سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ خَالِدُ بْنُ إيَاسٍ وَهُوَ مُضَعَّفٌ (وَالْوُضُوءُ الْمَمْنُوعُ) هُوَ الْمُحَدَّدُ قَبْلَ أَنْ تُفْعَلَ بِهِ عِبَادَةٌ، وَالْوُضُوءُ لِغَيْرِ مَا شُرِّعَ لَهُ الْوُضُوءُ أَوْ أُبِيحَ. وَجَعَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ جُزَيٍّ وَالشَّبِيبِيُّ الْوُضُوءَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ وَزَادُوا الْوُضُوءَ الْمَسْنُونَ وَعَدُّوا فِيهِ وُضُوءَ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ، وَزَادَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَوُضُوءَ النَّافِلَةِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَالْمَشْهُورُ فِي الْأَوَّلَيْنِ الِاسْتِحْبَابُ، وَفِي وُضُوءِ النَّافِلَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ الْفَرِيضَةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَلِذَلِكَ تَرَكْتُ هَذَا الْقِسْمَ. وَقَالَ فِي الْإِكْمَالِ: الْوُضُوءُ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ فَرِيضَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا الْوُضُوءُ لِغَيْرِ الْفَرْضِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ كَحُكْمِ مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنْ فَرِيضَةٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ نَافِلَةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ فَرْضٌ لِكُلِّ عِبَادَةٍ لَا تُسْتَبَاحُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلِهَا فَالْمَجِيءُ بِهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَعْصِيَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُ الْمَجِيءُ بِشُرُوطِهَا فَرْضًا، كَمَا أَنَّهُ إذَا دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا. قَالَ الْقَبَّابُ: وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ يُونُسَ وَابْنُ رُشْدٍ إلَّا الْقَوْلَ الثَّانِيَ، قَالَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَخْتَلِفَا فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَمْنُوعَةٌ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا، وَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّافِلَةِ لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فَعَادَ الْخِلَافُ إلَى عِبَادَةٍ، فَمَنْ لَاحَظَ كَوْنَ النَّافِلَةِ لَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَأْثَمْ وَكَذَلِكَ طُهْرُهَا قَالَ: إنَّهُ سُنَّةٌ وَمَنْ لَاحَظَ كَوْنَهُ إذَا تَلَبَّسَ بِهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَثِمَ قَالَ: إنَّهُ فَرْضٌ.
(قُلْتُ) وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى التَّفْسِيرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ لِلْفَرْضِ فَمَنْ نَفَاهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَمَا حُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالطَّبَرِيِّ مِنْ تَجْوِيزِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْخَامِسَةُ) لِلْوُضُوءِ شُرُوطٌ، وَفُرُوضٌ، وَسُنَنٌ، وَفَضَائِلُ، وَمَكْرُوهَاتٌ، وَمُبْطِلَاتٌ، وَهِيَ نَوَاقِضُهُ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَرَائِضَهُ، وَسُنَنَهُ، وَفَضَائِلَهُ، وَيَذْكُرُ نَوَاقِضَهُ فِي فَصْلٍ بَعْدَ هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ شُرُوطَهُ، وَلَا مَكْرُوهَاتِهِ فَنَذْكُرُ الشُّرُوطَ هُنَا لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَنَذْكُرُ الْمَكْرُوهَاتِ فِي آخِرِ الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَنَقُولُ: شُرُوطُ الْوُضُوءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا: مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا، وَمِنْهَا: مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ فَقَطْ، وَمِنْهَا: مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ فَقَطْ.
فَالْأَوَّلُ خَمْسَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ بُلُوغُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم وَالْعَقْلُ، وَانْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ، وَانْقِطَاعُ دَمِ النِّفَاسِ، وَوُجُودُ مَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
وَالثَّانِي سِتَّةٌ: دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَتَذَكُّرُ الْفَائِتَةِ، وَالْبُلُوغُ، وَعَدَمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى تَرْكِهِ، وَعَدَمُ السَّهْوِ وَالنَّوْمِ عَنْ الْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبِ لَهَا الْوُضُوءُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ أَوْ الشَّكُّ فِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا سَيَأْتِي.
(وَالثَّالِثُ) هُوَ الْإِسْلَامُ فَقَطْ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَعَلَى مُقَابِلِهِ يَكُونُ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ، وَشُرُوطُ وُجُوبِ الْغُسْلِ وَشُرُوطُ صِحَّتِهِ كَالْوُضُوءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا فَرَائِضِ الْوُضُوءِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي عَدَدِهَا فَعَدَّهَا ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا سِتَّةً: الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالنِّيَّةُ، وَالْمُوَالَاةُ. وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ وَجَعَلُوا الدَّلْكَ رَاجِعًا لِلْغُسْلِ، وَعَدَّهَا ابْنُ يُونُسَ وَابْنُ بَشِيرٍ وَغَيْرُهُمَا سَبْعَةً: السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ. وَعَدَّهَا ابْن رُشْدٍ ثَمَانِيَةً: السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَالتَّرْتِيبُ. وَعَدَّهَا غَيْرُهُ ثَمَانِيَةً أَيْضًا لَكِنَّهُ جَعَلَ بَدَلَ التَّرْتِيبِ الْجَسَدَ الطَّاهِرَ، وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الطِّرَازِ عَلَى عَدِّ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ: وَأَمَّا النِّيَّةُ فَنَعْتُهَا بِالشَّرْطِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ نَعْتِهَا بِالْفَرْضِيَّةِ. وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الدَّلْكَ وَالْمُوَالَاةَ يَرْجِعَانِ إلَى صِفَةِ الْغُسْلِ، وَعَدَّهَا الْمُصَنِّفُ سَبْعَةً: الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَالنِّيَّةُ وَالدَّلْكُ، وَالْمُوَالَاةُ. إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَلَمْ يَعُدَّ التَّرْتِيبَ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِيهِ أَنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي، وَلَمْ يَعُدَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُعِدَّ الْجَسَدَ الطَّاهِرَ كَمَا عَدَّهُ الْأَبْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي ارْتَضَاهُ فِي تَوْضِيحِهِ فِي بَابِ الْغُسْلِ وَابْنُ عَرَفَةَ هُنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ طَهَارَةُ الْمَحَلِّ قَبْلَ وُرُودِ الْمَاءِ لِغَسْلِ الْوُضُوءِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَظَاهِرُ قَوْلِ عَبْدِ الْحَقِّ وَبَعْضِ شُيُوخِهِ فِي انْغِمَاسِ الْجُنُبِ وَالْمَازِرِيِّ فِي نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَسَمَاعِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ لَا بَأْسَ بِوُضُوئِهِ بِطَهُورٍ يَنْقُلُهُ لِأَعْضَائِهِ وَبِهَا مَاءٌ نَجِسٌ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا فِي مَاءٍ تَوَضَّأَ بِهِ إنْ لَمْ يَجِدْ
غَيْرَهُ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَا يُنَجِّسُ ثَوْبًا أَصَابَهُ إنْ كَانَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ أَوَّلًا طَاهِرًا.
عَدَمُ شَرْطِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ قَبْلَ وُرُودِ الْمَاءِ لِغَسْلِ الْوُضُوءِ خِلَافًا لِلْجَلَّابِ وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ فِي اشْتِبَاهِ الْآنِيَةِ وَيَغْسِلُ أَعْضَاءَهُ فَمَا قَبْلَهُ يُرَدُّ بِكَوْنِهِ لِاحْتِمَالِ قُصُورِ وُضُوئِهِ الثَّانِي عَنْ مَحَلِّ الْأَوَّلِ، وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الْبَاجِيِّ: رَأَيْت لِابْنِ مَسْلَمَةَ مَنْ كَانَ بِذِرَاعِهِ نَجَاسَةٌ فَتَوَضَّأَ وَلَمْ يُنَقِّهَا أَعَادَ أَبَدًا يُرَدُّ بِأَنَّ نَصَّهَا فِي النَّوَادِرِ بِزِيَادَةٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ مَحَلَّهَا وَلَوْ كَانَتْ بِرَأْسِهِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ بَعْضِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّ إعَادَتَهُ لِتَرْكِ مَحَلِّهَا إذَا كَانَتْ فِي الرَّأْسِ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ كَصَلَاتِهِ بِنَجَاسَةٍ انْتَهَى. وَقَالَ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي شَرْحِ حَدِيث مَيْمُونَةَ فِي الْغُسْلِ: وَإِنْ شَاءَ نَوَى الْجَنَابَةَ عِنْدَ غَسْلِ الْأَذَى وَلَا يُعِيدُ غَسْلَ مَحَلِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي أَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ: شَرْطُهَا ذَلِكَ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَأْتِي فِي بَابِ الْغُسْلِ مَعَ كَلَامِ الْجُزُولِيّ وَصَاحِبِ الطِّرَازِ وَغَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ إذَا غَسَلَ مَوْضِعَ الْأَذَى بِنِيَّةِ الْجَنَابَةِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ هُوَ قَوْلُهُ فِيمَنْ نَزَلَ فِي حَوْضٍ نَجِسٍ ثُمَّ خَرَجَ وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَغَرَفَ بِهِمَا مِنْ الْمَاءِ الطَّهُورِ وَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَفِيهِ الْمَاءُ النَّجِسُ ثُمَّ رَدَّهُمَا وَغَرَفَ بِهِمَا وَغَسَلَ بَقِيَّةَ أَعْضَائِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ وَأَرَاهُ سَهْلًا، وَقَدْ قَالَ: هَذَا مِمَّا أَجَازَهُ النَّاسُ وَكَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ نَجَسَ طَهُورُهُ بِرَدِّ يَدَيْهِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ مَسَّ بِهِمَا جِسْمَهُ فِي نَقْلِ الْمَاءِ إلَيْهِ وَغَسْلِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَنْجَسَ الْمَاءُ الَّذِي نَقَلَهُ إلَيْهِ بِمُلَاقَاتِهِ إيَّاهُ فَلَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى فَسَادِ هَذَا مَا يَقْضِي بِفَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ طُهْرَهُ يَنْجَسُ بِذَلِكَ وَإِنَّ الْغُسْلَ لَا يُجْزِي وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا يُنَجِّسُ ثَوْبًا أَصَابَهُ إنْ كَانَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ أَوَّلًا طَاهِرَ الْأَعْضَاءِ قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: يَقُومُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ الطَّهَارَةَ فِي حَقِّ الْمُتَوَضِّئِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ صَحِيحٌ بِالْإِطْلَاقِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ خِلَافًا لِابْنِ الْجَلَّابِ قَالَ ابْنُ نَاجِي: مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ ابْنِ الْجَلَّابِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْمَاءِ الْيَسِيرِ: تَحِلُّهُ النَّجَاسَةُ أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَعِبَارَةُ الْجَلَّابِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِيمَا يَنْسُبُونَهُ إلَيْهَا وَنَصُّهَا: وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَنْ الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَالْمَكَانِ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَتَجِبُ إزَالَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ مَعَ وُجُودِهَا فِيهَا، فَوَجَبَ إزَالَتُهَا لِذَلِكَ لَا لِنَفْسِهَا فَتَأَمَّلْهُ.
(فَرْعٌ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحِنَّاءِ: وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ طَهَارَةَ الْأَعْضَاءِ مِنْ الدَّنَسِ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا إذَا انْضَافَ الْمَاءُ بَعْدَ وُصُولِهِ لِلْعُضْوِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ وَعَلَى الدَّلْكِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَقَوْلُ الشَّيْخِ زَرُّوق فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ: إنَّهُ يَدْخُلُهُ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ تَحِلُّهُ نَجَاسَةٌ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْضَافُ بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى الْعُضْوِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ إنَّ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَقِسْمٌ اُتُّفِقَ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ النِّيَّةُ وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْفَوْرُ وَالتَّرْتِيبِ.
(قُلْتُ) وَمَا حَكَاهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ حَكَاهُ ابْنُ حَارِثٍ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِيهَا الْخِلَافَ وَسَيَأْتِي، وَيُزَادُ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ الدَّلْكُ وَالْجَسَدُ الطَّاهِرُ فَتَتِمُّ الْجُمْلَةُ عَشْرَةً، وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ الْكَلَامَ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَعَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْآيَةِ فَبَدَأَ بِالْكَلَامِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ حَدِّهِ عَرْضًا وَطُولًا فَقَالَ: فَرَائِضُ الْوُضُوءِ غَسْلُ مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، يَعْنِي أَنَّ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ سَبْعٌ
(الْفَرِيضَةُ) الْأُولَى غَسْلُ الْوَجْهِ وَفَرْضِيَّتُهَا ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَحَدُّهُ عَرْضًا مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَهَذَا
أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مِنْ الْأُذُنِ إلَى الْأُذُنِ لِلْخِلَافِ فِي الْغَايَةِ هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْمُغَيَّا أَمْ لَا؟ وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ: مِنْ الْعِذَارِ إلَى الْعِذَارِ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَقِيلَ: إنْ كَانَ نَقِيَّ الْخَدِّ فَكَالْأَوَّلِ وَإِلَّا فَكَالثَّانِي. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَانْفَرَدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بِأَنَّ غَسْلَ مَا بَيْنِ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ سُنَّةٌ وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْوَجْهِ وَجَبَ وَإِلَّا سَقَطَ وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ سُنَّةً إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَثْبُتْ فَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَأَنَّ مَا بَيْنَ الْعِذَارَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ بِالْجَمِيعِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ غَالِبًا. وَوَجْهُ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ ظَاهِرٌ قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ التَّنَازُعُ فِي الْمُوَاجَهَةِ هَلْ تَتَنَاوَلُ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَالْعِذَارُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَارِضِ وَالْعَارِضُ صَفْحَةُ الْخَدِّ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) ذَكَرَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّهُ قَالَ: وَانْظُرْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَغْسِلُ مِنْ الْعِذَارِ إلَى الْعِذَارِ، هَلْ يَدْخُلُ الْعِذَارُ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ دُخُولُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: قُلْتُ: الْأَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَدَمُهُ.
(قُلْتُ) الظَّاهِرُ مَا قَالَهُ أَبُو عِمْرَانَ.
(الثَّانِي) قَالَ اللَّخْمِيُّ خَفِيفُ الْعِذَارِ كَمَنْ لَيْسَ لَهُ عِذَارٌ وَقَبِلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ.
(الثَّالِثُ) عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: إنَّ غَسْلَ مَا بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ سُنَّةٌ فَيَغْسِلُهُ مَعَ الْوَجْهِ وَلَا يُفْرِدُهُ بِالْغَسْلِ قَالَهُ فِي الطِّرَازِ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْحِ الْأُذُنِ حَيْثُ طَلَبَ لَهَا تَجْدِيدَ الْمَاءِ أَنَّ إفْرَادَهُ بِالْغَسْلِ يُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدَّ الْوَجْهِ طُولًا فَقَالَ: وَمَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ وَالذَّقَنِ وَظَاهِرِ اللِّحْيَةِ. يَعْنِي أَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ طُولًا مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ إلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ لِحْيَةٌ وَأَمَّا مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ فَيَغْسِلُ ظَاهِرَهَا وَلَوْ طَالَتْ. وَالذَّقَنُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ مَجْمَعُ اللَّحْيَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ تَثْنِيَةُ لَحْيٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاء أَيْضًا، وَحُكِيَ كَسْرُ اللَّامِ فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَاللَّحْيُ الْعَظْمُ الَّذِي تَنْبُتُ فِيهِ اللِّحْيَةُ. هَكَذَا فَسَّرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْفَاكِهَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْعَظْمُ الَّذِي تَنْبُتُ فِيهِ الْأَسْنَانُ السُّفْلَى وَتَنْبُتُ اللِّحْيَةُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَا أَدْرِي لِمَ قَيَّدُوهُ بِالْأَسْنَانِ السُّفْلَى وَقَدْ قَالُوا فِي بَابِ الْجِرَاحِ: اللَّحْيُ الْأَعْلَى وَاللَّحْيُ الْأَسْفَلُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي أَحْكَامِ الْجِرَاحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ تَفْسِيرَ اللَّحْيِ الَّذِي هُوَ مُفْرَدُ اللَّحْيَيْنِ اللَّذَانِ أُخِذَا فِي تَفْسِيرِ الذَّقَنِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَسْرُ اللَّامِ فِي اللِّحْيَةِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا، وَتَسْمِيَةُ اللِّحْيَةِ دَقْنًا بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ كَمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ لَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى أَصْلٍ فِي اللُّغَةِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ: وَمَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ وَالذَّقَنِ إنْ جَعَلْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأُذُنَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَمَا بَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ وَالذَّقَنِ اقْتَضَى كَلَامُهُ خُرُوجَ الذَّقَنِ مِنْ حَدِّ الْوَجْهِ، وَقَدْ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّ الذَّقَنَ دَاخِلٌ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا فِي الْمِرْفَقِ مِنْ الْخِلَافِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَى " مَا " مِنْ قَوْلِهِ: غَسْلَ عَلَى مَا قَالَ الْبِسَاطِيُّ لَزِمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَفْحَشُ مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ غَسْلَهُمَا فَقَطْ.
(قُلْتُ) قَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي: إنَّ غَسْلَ مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ مَعَ غَسْلِ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالذَّقَنِ يَسْتَكْمِلُ غَسْلَ جَمِيعِ الْوَجْهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنَابِتَ شَعْرِ الرَّأْسِ مِنْ الْوَجْهِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: وَمَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأُذُنَيْنِ، وَقَوْلُهُ: وَالذَّقَنِ وَظَاهِرِ اللِّحْيَةِ مَعْطُوفَانِ عَلَى مَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ هُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْأُذُنَيْنِ وَمَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ فَيَغْسِلُ ذَلِكَ مَعَ الذَّقَنِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ لِحْيَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ لِحْيَةٌ فَيَغْسِلُ ذَلِكَ مَعَ غَسْلِ ظَاهِرِهَا.
(الثَّانِي) قَوْلُهُ: مَنَابِتُ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ يَعْنِي الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْبُتَ فِيهَا شَعْرُ الرَّأْسِ وَاحْتَرَزَ بِذَلِكَ مِنْ الْغَمَمِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَمِيمَيْنِ
وَهُوَ نَبَاتُ الشَّعْرِ عَلَى الْجَبْهَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَوْضِعِ ذَلِكَ، يُقَالُ: رَجُلٌ غَمٌّ وَامْرَأَةٌ غَمَّاءُ وَالْعَرَبُ تَذِمُّ بِهِ وَتَمْدَحُ بِالنَّزْعِ؛ لِأَنَّ الْغَمَمَ يَدُلُّ عَلَى الْبَلَادَةِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالنَّزْعُ بِضِدِّ ذَلِكَ قَالَ:
فَلَا تَنْكِحِي إنْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَنَا
…
أَغَمَّ الْقَفَا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ وَالْجَبْهَةُ مَا أَصَابَ الْأَرْضَ فِي حَالِ السُّجُودِ وَالْجَبِينَانِ مَا أَحَاطَ بِهَا مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ وَالْعَارِضَانِ وَالْعَنْفَقَةُ وَأَهْدَابُ الْعَيْنِ وَالشَّارِبِ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ فَمَا كَانَ كَثِيفَ الشَّعْرِ غُسِلَ ظَاهِرُهُ وَلَمْ يَجِبْ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ، وَقِيلَ: يَجِبُ، وَمَا كَانَ خَفِيفًا وَجَبَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ انْتَهَى. وَفِي سَمَاعِ سَحْنُونٍ.
(قُلْتُ) لَهُ وَمَا حَدُّ الْوَجْهِ الَّذِي إذَا قَصُرَ عَنْهُ الْمُتَوَضِّئُ أَعَادَ فَقَالَ لِي: دَوْرُ الْوَجْهِ.
(قُلْتُ) فَاللَّحْيُ الْأَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ وَالذَّقَنُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّحْيَ الْأَسْفَلَ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَةٌ، فَقَالَ: أَخْطَأَ مَنْ يَقُولُ هَذَا قَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْأَنْفَ لَا مُوضِحَةَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَاللَّحْيُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ فِي الْوُضُوءِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الذَّقَنُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا تَحْتَهُ وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَفِي النَّوَادِرِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَمَا تَحْتَ اللَّحْيِ الْأَسْفَلِ وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ: وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا تَحْتَ الذَّقَنِ اتِّفَاقًا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ، وَنَحْوُهُ فِي شَرْحِهِ لِلرِّسَالَةِ وَزَادَ فِيهِ: وَلَقَدْ رَأَيْت شَيْخَ الْمَالِكِيَّةِ نُورَ الدِّينِ السَّنْهُورِيَّ يَغْسِلُهُ وَهُوَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ فَلَا أَدْرِي لِوَرَعٍ أَوْ غَيْرِهِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الطِّرَازِ: وَاللَّحْيُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْوَجْهِ. قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَقَالَ التُّونُسِيُّ: لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ انْتَهَى. وَاحْتُرِزَ بِهِ أَيْضًا مِنْ الصَّلَعِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ خُلُوُّ النَّاصِيَةِ مِنْ الشَّعْرِ، وَالنَّاصِيَةُ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ فَلَا تَدْخُلُ فِي حَدِّ الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ النَّزَعَتَانِ كَمَا قَالَهُ فِي الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا وَالنَّزَعَتَانِ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْعَيْنِ تَثْنِيَةُ نَزَعَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْضًا وَهُمَا بَيَاضَانِ يَكْتَنِفَانِ النَّاصِيَةَ. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: هُمَا الْخَالِيَتَانِ مِنْ الشَّعْرِ عَلَى جَنْبَيْ الْجَبِينِ الذَّاهِبَتَيْنِ عَلَى جَنْبَيْ الْيَافُوخِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُمَا بَيَاضَانِ يَكْتَنِفَانِ النَّاصِيَةَ فَهُمَا مِنْ الرَّأْسِ وَيُقَالُ لَهُمَا الْجَلَحَتَانِ مِنْ الْجَلَحِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاللَّامِ، وَفِي الصِّحَاحِ رَجُلٌ أَنْزَعُ بَيْنَ النَّزَعِ وَهُوَ الَّذِي انْحَسَرَ عَنْ جَانِبَيْ جَبْهَتِهِ وَمَوْضِعُهُ النَّزَعَةُ وَهُمَا النَّزَعَتَانِ قَالَهُ فِي بَابِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ فِي فَصْلِ الْجِيمِ مِنْ بَابِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْجَلَحُ فَوْقَ النَّزَعِ وَهُوَ انْحِسَارُ الشَّعْرِ عَنْ جَانِبَيْ الرَّأْسِ، أَوَّلُهُ النَّزَعُ ثُمَّ الْجَلَحُ ثُمَّ الصَّلَعُ وَقَدْ جَلِحَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ أَجْلَحُ بَيِّنُ الْجَلَحِ وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الْجَلَحَةُ، وَقَالَ سَنَدٌ: النَّزَعَتَانِ مِنْ الرَّأْسِ وَهُمَا الْجَلَحَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي سَمْتِ النَّاصِيَةِ وَمَا يَلِي الْجَلَحَتَيْنِ إلَى الصُّدْغَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ انْتَهَى فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الشَّعْرَ الَّذِي فِي الصُّدْغَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ لَا مِنْ الْوَجْهِ. قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: وَقَدْ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ شَعْرَ الصُّدْغَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ يَدْخُلُ فِي الْمَسْحِ وَمَعْنَاهُ عِنْدِي مِنْ فَوْقِ الْعَظْمِ مِنْ حَيْثُ يَعْرِضُ الصُّدْغُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَحْلِقُهُ الْمُحْرِمُ وَأَمَّا مَا دُون ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ الرَّأْسِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ شَعْرُ الْعَارِضَيْنِ مِنْ الْخِفَّةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ لَزِمَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَارِضَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي مِنْ مَوْضِعِ الْعَظْمِ وَحَيْثُ يَبْتَدِئُ نَبَاتُ الشَّعْرِ مِنْ جِهَةِ الْوَجْهِ انْتَهَى.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: النَّزَعَتَانِ مِنْ الرَّأْسِ يُمْسَحَانِ وَلَا يُغْسَلَانِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَشَعْرُ الصُّدْغَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ مَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلٌ مِنْهُ فِي دَوْرِ الْوَجْهِ فَإِنَّهُ يُغْسَلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ اهـ وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: الْمَوْضِعُ الثَّانِي مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعِذَارِ وَالنَّزَعَةِ وَهُوَ الدَّاخِلُ إلَى الْجَبِينِ مِنْ جَانِبَيْ الْوَجْهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الرَّأْسِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ:
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ التَّحْذِيفُ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْعَادَةِ إذْ لَمْ يَجْعَلْهُ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْ الْوَجْهِ انْتَهَى. وَيُرِيدُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجَبِينِ جِدًّا وَيُجَاوِزُ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ اللَّخْمِيِّ السَّابِقُ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَفْسِيرِ مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ: هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْخَفِيفُ مُتَّصِلًا بِالصُّدْغِ وَضَابِطُهُ أَنْ يَضَعَ طَرَفَ خَيْطٍ عَلَى طَرَفِ الْأُذُنِ، وَالطَّرَفَ الثَّانِيَ عَلَى أَعْلَى الْجَبْهَةِ فَمَا نَزَلَ عَنْهُ إلَى جَانِبِ الْوَجْهِ فَهُوَ مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ وَالْأَشْرَافَ يَحْذِفُونَ الشَّعْرَ عَنْهُ لِيَتَّسِعَ الْوَجْهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ: صَحَّحَ الْجُمْهُورُ أَنَّ مَوْضِعَ التَّحْذِيفِ مِنْ الرَّأْسِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّعْرَ الَّذِي فِي الصُّدْغَيْنِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ إلَّا مَا كَانَ دَاخِلًا مِنْ ذَلِكَ فِي دَوْرِ الْوَجْهِ كَالْأَغَمِّ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ. إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَمَا اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَا إشْكَالَ فِيهِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَمْ يُبَيِّنُوا فِي الْمَذْهَبِ حَدَّ الْوَجْهِ مِنْ جِهَةِ الْأُذُنِ إلَى طَرَفِ الْجَبْهَةِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ وَفِي تِلْكَ الْجِهَةِ يَنْبُتُ الشَّعْرُ عَادَةً لِغَيْرِ الْأَغَمِّ، فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى مَا حَدَّدُوهُ فِي الطُّولِ لَمْ يَدْخُلْ وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى مَا حُدُودُهُ فِي الْعَرْضِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَحِدُّهُ مِنْ الْأُذُنِ إلَى الْأُذُنِ دَخَلَ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَالنَّفْسُ أَمْيَلُ إلَى دُخُولِهِ انْتَهَى. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِغَسْلِهِ إمَّا عَلَى أَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ طُولًا مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ فِي الْجَبْهَةِ أَوْ فِي الصُّدْغِ إلَى آخِرِ الذَّقَنِ وَعَرْضًا مِنْ الْأُذُنِ إلَى الْأُذُنِ، وَلَيْسَ وَتَدَا الْأُذُنِ مِنْهُ، وَمِنْهُ الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ، وَطَرَفُ اللَّحْيِ الْأَسْفَلُ الْخَارِجُ مِنْ تَحْتِ الْأُذُنِ فِي سَمْتِ الْأُذُنِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الطِّرَازِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ الصُّدْغِ وَالْأُذُنِ وَاللَّحْيَيْنِ الْخَارِجَيْنِ مِنْ تَحْتِ الْأُذُنِ فِي سَمْتِ الْأُذُنِ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْرَجَهُ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْبَيَانِ أَنَّ اللَّحْيَ الْأَسْفَلَ مِنْ الْوَجْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصُّدْغَ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ هُوَ مَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ كَذَا فَسَّرَهُ فِي الصِّحَاحِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ مِنْهُ دُونَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ فَهُوَ مِنْ الْوَجْهِ وَمَا كَانَ فَوْقَهُ فَهُوَ مِنْ الرَّأْسِ، وَقَوْلُهُمْ: يَجِبُ غَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الصُّدْغِ وَالْأُذُنِ يَعْنُونَ بِهِ مَا كَانَ تَحْتَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَوْلُهُ: وَظَاهِرِ اللِّحْيَةِ يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ وَلَوْ طَالَتْ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ سَحْنُونٍ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ: وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، وَقِيلَ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مِنْ لِحْيَتِهِ إلَّا مَا اتَّصَلَ مِنْهَا بِوَجْهِهِ لَا مَا طَالَ مِنْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي سَمَاع مُوسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ انْتَهَى. وَنَقَلَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ كَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ وَجَزَمَ بِنِسْبَةِ الثَّانِي لِسَمَاعِ مُوسَى قَالَ: وَقَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَلَهُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي مَسْحِ مَا طَالَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا مَا حَاذَى الْمَمْسُوحَ مِنْ الرَّأْسِ. قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ هَلْ يُعْتَبَرُ الْأَصْلُ فَيَجِبُ أَوْ يُعْتَبَرُ الْمُحَاذَى وَهُوَ الصَّدْرُ فَلَا يَجِبُ؟ وَقَالَ ابْنُ هَارُونَ: وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى، وَالْمُرَادُ بِغَسْلِ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ إمْرَارُ الْيَدِ عَلَيْهَا مَعَ الْمَاءِ وَتَحْرِيكُهَا. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُحَرِّكُ اللِّحْيَةَ فِي الْوُضُوءِ وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلٍ قَالَ ابْنُ نَاجِي: لَا خِلَافَ أَنَّ التَّحْرِيكَ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَقَالَ سَنَدٌ: إذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ تَخْلِيلُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهَا مَعَ الْيَدِ وَيُحَرِّكُ يَدَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ يَنْبُو بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ
فَيَمْنَعُ بَعْضُهُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى بَعْضٍ فَإِذَا حَرَّكَ ذَلِكَ حَصَلَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ ظَاهِرِهِ انْتَهَى. وَهَذَا التَّحْرِيكُ غَيْرُ التَّخْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي التَّخْلِيلِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ فِي النَّوَادِرِ: وَصِفَةُ التَّحْرِيكِ هُوَ أَنْ يُدَافِعَ مَا انْصَبَّ مِنْ الْمَاءِ عَلَيْهَا حَتَّى يُدَاخِلَهَا مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلٍ بِالْأَصَابِعِ: وَلَفْظُ النَّوَادِرِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَعْنَى تَحْرِيكِهَا تَحْرِيكُ الْيَدِ عَلَيْهَا عِنْدَ مُرُورِ الْيَدِ عَلَيْهَا لِيُدَاخِلَهَا الْمَاءُ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ يَنْبُو عَنْهُ الْمَاءُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: يَنْبُو أَيْ يَنْدَفِعُ وَيَتَبَاعَدُ.
(فُرُوعٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي النَّوَادِرِ: قَالَ سَحْنُونٌ: وَمَنْ لَمْ يُمِرَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ أَعَادَ وَلَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ انْتَهَى. (الثَّانِي) إذَا كَانَ عَلَى الشَّعْرِ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ وَجَبَ إزَالَتُهُ فَإِنْ لَمْ يُزِلْهُ ثُمَّ قَصَّ الشَّعْرَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْحَائِلُ هَلْ يَكْفِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ.
(الثَّالِثُ) قَالَ الْجُزُولِيُّ وَالشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَجِبُ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ لِيُسْتَكْمَلَ غَسْلُ الْوَجْهِ، كَمَا يَجِبُ مَسْحُ بَعْضِ الْوَجْهِ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ لِيَسْتَكْمِلَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَهُمَا مِنْ بَابِ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ انْتَهَى بِالْمَعْنَى. وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ كَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَلَمْ يَعْزُهُ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَيُحَرِّكُ اللِّحْيَةَ فِي الْوُضُوءِ وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلٍ: اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ هَلْ يَغْسِلُ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ لِيَتَحَقَّقَ تَعْمِيمُ الْوَجْهِ أَمْ لَا؟ قَالَ شَيْخُنَا: وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْوَجْهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ اتِّفَاقًا إذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ.
وَأَجَبْتُهُ بِأَنَّهُ يُخْتَلَفُ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوَجْهُ إلَّا بَعْدَ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ لِقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ فِي مَسْحِ الْجَبِيرَةِ: إذَا بَرِئَتْ وَنَسِيَ غَسْلَهَا انْتَهَى. وَيَعْنِي بِشَيْخِهِ الْبُرْزُلِيِّ وَقَالَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَنَابِتَ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ أَحَدُ نَقْلَيْ شُيُوخِنَا وَهُمَا جَارِيَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، فَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ وَكَذَا اُخْتُلِفَ هَلْ يَجِبُ إمْسَاكُ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّوْمِ؟ وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَأَصْلُهُ لِابْنِ هَارُونَ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ " وَمَبْدَؤُهُ مِنْ مَبْدَأِ الْوَجْهِ ": هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ لِاسْتِيعَابِ الْوَجْهِ كَمَا لَا يَجِبُ مَسْحُ جُزْءٍ مِنْ الْوَجْهِ لِاسْتِيعَابِ الرَّأْسِ، فَأَوْجَبَهُ بَعْضُهُمْ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ دُونَ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ الْوُجُوبُ (الرَّابِعُ) قَالَ فِي الرِّسَالَةِ فِي صِفَةِ غَسْلِ الْوَجْهِ غَاسِلًا لَهُ مِنْ أَعْلَى جَبْهَتِهِ: قَالَ شَارِحُهَا الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنِ شَعْبَانَ: السُّنَّةُ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ أَوَّلِهَا، فَإِنْ بَدَأَ مِنْ أَسْفَلِهَا أَجْزَأَهُ، وَبِئْسَ مَا صَنَعَ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا لِيمَ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُلِّمَ، وَعَدَّ صَاحِبُ الطِّرَازِ فِي فَضَائِلِ الْوُضُوءِ تَرْتِيبَ أَعْلَى الْعُضْوِ عَلَى أَسْفَلِهِ وَسَيَأْتِي فِي غَسْلِ الْيَدِ نَحْوُهُ عَنْ الذَّخِيرَةِ، وَعَدَّ فِي اللُّمَعِ فِي فَضَائِلِ الْوُضُوءِ أَنْ يَبْدَأَ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَنَحْوُهُ فِي التَّلْقِينِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ. (الْخَامِسُ) قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق وَفِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ لِلْعَامَّةِ فِي الْوُضُوءِ أُمُورٌ مِنْهَا صَبُّ الْمَاءِ مِنْ دُونِ الْجَبْهَةِ وَهُوَ مُبْطَلٌ، وَنَفْضُ الْيَدِ قَبْلَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا تَوَضَّأْتُمْ فَلَا تَنْفُضُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا مَرَاوِحُ لِلشَّيْطَانِ» قَالَ الدَّمِيرِيُّ: لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَطْمُ الْوَجْهِ بِالْمَاءِ وَهُوَ جَهْلٌ لَا يَضُرُّ. وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ فِي مَرَاقِي الزَّلَفِ، وَالتَّشَهُّدُ وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لَمْ يَقُلْ بِهِ إلَّا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ قَالَ: وَالْأَذْكَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْأَعْضَاءِ لَا أَصْلَ لَهَا وَأَنْكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُضُوءِ ذِكْرٌ غَيْرُ التَّسْمِيَةِ أَوَّلَهُ وَالتَّشَهُّدُ آخِرَهُ، نَعَمْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «قَالَ عَلَى وُضُوئِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ مِنْ خَيْرٍ؟» فَتَرْجَمَ النَّسَائِيُّ لِذَلِكَ فَقَالَ: بَابُ
مَا يَقُولُ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَابْنُ السِّينِيِّ بَابُ مَا يَقُولُ بَيْنَ ظَهْرَانِي وُضُوئِهِ وَذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ فِي حِلْيَةِ الْأَبْرَارِ انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ: وَلَا يَنْفُضُ يَدَيْهِ قَبْلَ وُصُولِهِمَا إلَى وَجْهِهِ فَلَا يَصِحُّ وُضُوءُهُ بِاتِّفَاقٍ وَلَا يَرُشُّهُ رَشًّا وَلَا يَلْطِمُهُ لَطْمًا وَلَا يَكُبُّ وَجْهَهُ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ، بَلْ يُفَرِّغُهُ تَفْرِيغًا حَالَ كَوْنِهِ غَاسِلًا لَهُ بِيَدَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُدَلِّكُهُ بِهِمَا مَعَ الْمَاءِ أَوْ أَثَرِهِ مُتَّصِلًا بِهِ دَلْكًا وَسَطًا إذْ لَا يَلْزَمُهُ إزَالَةُ الْوَسَخِ الْخَفِيِّ بَلْ مَا ظَهَرَ وَحَالَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعُضْوِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
ص (فَيَغْسِلُ الْوَتَرَةَ وَأَسَارِيرَ جَبْهَتِهِ وَظَاهِرَ شَفَتَيْهِ) .
ش: الْوَتَرَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَهِيَ الْحَاجِزُ بَيْنَ ثُقْبَيْ الْأَنْفِ. وَالْأَسَارِيرُ جَمْعُ أَسِرَّةِ وَهِيَ خُطُوطُ الْجَبْهَةِ وَالْكَفِّ، الْوَاحِدُ سِرَرُ بِوَزْنِ عِنَبٍ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ جَمْعُ أَسْرَارٍ كَأَعْنَابٍ فَالْأَسَارِيرُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَفِي الْحَدِيثِ: تَبْرُقُ أَسَارِيرُ جَبْهَتِهِ وَفِي الْمُفْرَدِ لُغَةٌ أُخْرَى وَهِيَ سِرَارٌ وَجَمْعُهُ أَسِرَّةٌ كَزِمَامٍ وَأَزِمَّةٍ قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ، وَقَالَ الْجُزُولِيُّ: هِيَ التَّكَاسِيرُ أَوْ الْعُطُوفُ أَوْ الطَّيَّاتُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ دَاخِلَةٌ فِي تَحْدِيدِ الْوَجْهِ وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَيْهَا لِآنِ الْمَاءَ يَنْبُو عَنْهَا، قَالَ الْجُزُولِيُّ فَيَلْزَمُ الْمُتَوَضِّئَ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَيْهَا فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ كَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» فَنَبَّهَ عَلَى الْوَتَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْحَدِرُ مِنْ أَعْلَى الْأَنْفِ فَلَا يُصِيبُهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الرِّسَالَةِ: وَمَا تَحْتَ مَارِنِهِ مِنْ ظَاهِرِ أَنْفِهِ وَالْمَارِنُ طَرَفُ الْأَنْفِ قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْأَسَارِيرِ لِاحْتِيَاجِهَا أَيْضًا إلَى إمْرَارِ الْيَدِ لِنُبُوِّ الْمَاءِ عَمَّا أَصَابَتْهَا: وَنَبَّهَ عَلَى ظَاهِرِ الشَّفَتَيْنِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمَا مِنْ الْبَاطِنِ الَّذِي لَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَدَاخِلِ الْفَمِ وَدَاخِلِ الْأَنْفِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَغَسْلُ مَا بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ وَظَاهِرِ الشَّفَتَيْنِ فَرْضٌ انْتَهَى. فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ أَنْ لَا يَضُمَّ شَفَتَيْهِ فَمَنْ ضَمَّ شَفَتَيْهِ حِينَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَقَدْ تَرَكَ لَمْعَةً مِنْ وَجْهِهِ، قَالَ الْجُزُولِيُّ: وَلَا يُطْبِقُ شَفَتَيْهِ خِيفَةَ أَنْ تَبْقَى هُنَاكَ لَمْعَةٌ وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى مَا غَار مِنْ الْأَجْفَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُتَحَفَّظُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ فِي الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: لَا جُرْحًا بَرَأَ.
ص (بِتَخْلِيلِ شَعْرٍ تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهُ)
ش: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ خَشِيَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَخْلِيلُهَا مُطْلَقًا فَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِتَخْلِيلِ شَعْرٍ إلَخْ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ يَجِبُ غَسْلُ مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَمَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ وَالذَّقَنِ وَغَسْلُ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ مَعَ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ الَّذِي تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهُ وَالْبَشَرَةُ الْجِلْدُ وَالْمُرَادُ ظُهُورُهَا عِنْدَ التَّخَاطُبِ قَالَهُ ابْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْمُرَادُ بِالتَّخْلِيلِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَخْلِيلُ الْكَثِيفِ وَهُوَ مَا لَا تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَذَكَرَ الشَّعْرَ لِيَعُمَّ شَعْرَ اللِّحْيَةِ وَغَيْرِهَا كَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ وَالْحَاجِبِ وَالْهُدْبِ.
قَالَ فِي التَّلْقِينِ: فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ شَعْرٌ لَزِمَ إمْرَارُ الْيَدِ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَمَا كَانَ كَثِيفًا قَدْ سَتَرَ الْبَشَرَةَ سَتْرًا لَا تَتَبَيَّنُ مَعَهُ انْتَقَلَ الْفَرْضُ إلَيْهِ وَسَقَطَ فَرْضُ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا تَتَبَيَّنُ مَعَهُ الْبَشَرَةُ لَزِمَ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَشَرَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَدٍّ أَوْ شَفَةٍ أَوْ حَاجِبٍ أَوْ عِذَارٍ أَوْ عَنْفَقَةٍ وَيَلْزَمُ فِيمَا انْسَدَلَ عَنْ الْبَشَرَةِ كَلُزُومِهِ فِيمَا تَحْتَ الْبَشَرَةِ انْتَهَى. وَالْهُدْبُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ تَضُمُّ الشَّعْرَ النَّابِتَ عَلَى أَجْفَانِ الْعَيْنِ وَاحِدُهُ هُدْبَةٌ وَكَذَلِكَ هُدْبَةُ الثَّوْبِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي آدَابِ الْكِتَابَةِ فِي بَابِ مَا يَضَعُهُ النَّاسُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ: مِنْ ذَلِكَ أَشْفَارُ الْعَيْنِ يَذْهَبُ النَّاسُ إلَى أَنَّهَا الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى حَرْفِ الْعَيْنِ وَذَلِكَ غَلَطٌ إنَّمَا الْأَشْفَارُ حَرْفُ الْعَيْنِ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَالشَّعْرُ هُوَ الْهُدْبُ وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ الْفُصَحَاءِ سَمَّى الشَّعْرَ شَفْرًا فَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِمَنْبَتِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَيَجِبُ تَخْلِيلُ خَفِيفِ
الشَّعْرِ دُونَ كَثِيفِهِ فِي اللِّحْيَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى الْهُدْبِ، وَقِيلَ: وَكَثِيفُهُ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: الْخَفِيفُ مَا تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ مِنْ تَحْتِهِ وَالْكَثِيفُ مَا لَا تَظْهَرُ قَالَهُ فِي التَّلْقِينِ، وَقَوْلُهُ: يَجِبُ تَخْلِيلُ خَفِيفِ الشَّعْرِ أَيْ بِأَنْ يُوَصِّلَ الْمَاءَ إلَى الْبَشَرَةِ، وَقَوْلُهُ: دُونَ كَثِيفِهِ أَيْ فَلَا يَجِبُ انْتَهَى. فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّخْلِيلِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ وَلِهَذَا قَالَ سَنَدٌ: الْمَذْهَبُ اسْتِوَاءُ كَثِيفِ اللِّحْيَةِ وَخَفِيفِهَا فِي عَدَمِ وُجُوبِ التَّخْلِيلِ وَقَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْخَفِيفِ: " يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ " لَا يُنَاقِصُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَرَّ بِيَدَيْهِ عَلَى عَارِضَيْهِ وَحَرَّكَهُمَا وَصَلَ الْمَاءُ إلَى كُلِّ مَحَلٍّ مَكْشُوفٍ مِنْ الشَّعْرِ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ الْمَاءُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهَا مِنْ الْيَدِ وَيُحَرِّكُ يَدَهُ عَلَيْهَا انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهَذَا لَيْسَ خِلَافًا فِي الْمَعْنَى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّخْلِيلِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَذَكَرَ الْهُدْبَ لِمَا رَآهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ وَفِي الْحَاجِبَيْنِ مِنْ سُقُوطِ التَّخْلِيلِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي شَعْرِهِمَا الْخِفَّةُ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْهُدْبِ مُتَّجِهٌ أَيْ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْخِفَّةُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا لَصِقَ مِنْ الْقَذَى فِي قَوْلِهِ: وَنَفْضُ غَيْرِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ سُقُوطِ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ كَثِيفَةً، وَلَا يَصِلُ إلَى بَشَرَتِهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ وَقَدْ خَرَجَ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ عَنْ الْمُوَاجَهَةِ وَانْتَقَلَتْ الْمُوَاجَهَةُ إلَى مَا ظَهَرَ مِنْ الشَّعْرِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ نَفَى التَّخْلِيلَ وَعَابَ تَخْلِيلَهَا فَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْإِبَاحَةَ وَالْكَرَاهَةَ اهـ.
(قُلْتُ) جَزَمَ ابْنُ عَرَفَةَ بِالثَّانِي فَإِنَّهُ عَزَا الْكَرَاهَةَ لِسَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْمُدَوَّنَةِ وَنَحْوُهُ لِابْنِ رُشْدٍ قَالَ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رَسْمِ نَذْرِ سَنَةٍ فِي تَخْلِيلِهَا فِي الْوُضُوءِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ الْمُدَوَّنَةِ: إنَّهَا لَا تُخَلَّلُ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ: إنَّ تَخْلِيلَهَا مَكْرُوهٌ وَكَذَا قَالَ ابْنُ نَاجِي: إنَّ ظَاهِرَ الْمُدَوَّنَةِ الْكَرَاهَةُ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: عَابَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ قَالَ فِي النَّوَادِرِ عَنْهَا: وَعَابَ مَالِكٌ تَخْلِيلَهَا فِي الْوُضُوءِ. قَالَ عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ فِي وُضُوئِهِ، وَجَاءَ أَنَّهُ خَلَّلَ أُصُولَ شَعْرِهِ فِي الْجَنَابَةِ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَيُحَرِّكُهَا فِي الْوُضُوءِ بِأَنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَلَا يُخَلِّلُهَا. قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْوُجُوبُ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ فِي الْبَيَانِ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ نَافِعٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ. يَعْنِي ابْنَ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ وَكَثِيفُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي بِلَا قِيَاسٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْغَسْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الِاسْتِحْبَابُ لِابْنِ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الرَّسْمِ الْمَذْكُورِ: وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ أَتُخَلِّلُ لِحْيَتَكَ؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي؟ لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ» .
(قُلْتُ) حَدِيثُ عَمَّارٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مَعْلُولٌ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: لَيْسَ فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ شَيْءٌ صَحِيحٌ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ: لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ شَيْءٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَقَوْلُ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمُ يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَنَقَلَ ابْنُ نَاجِي عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الصَّغِيرِ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الرِّسَالَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْلِيلُهَا فِي الْوُضُوءِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ. قَالَ ابْنُ نَاجِي وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ أَرَادَ دَلَالَةَ ذَلِكَ وَكَثِيرًا مَا يَتَسَامَحُ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا سِيَّمَا ابْنُ الْجَلَّابِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ فِيمَا عَلِمْتَ وَإِنَّمَا هُوَ لِابْنِ حَبِيبٍ، وَلَهُ نَحْوُهُ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ قَالَ: وَقَوْلُ الشَّيْخِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى عَدَمِ ارْتِضَائِهِ
بِذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ قَالُوا: وَالْمَذْهَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ: إنَّ تَخْلِيلَهَا سُنَّةٌ ذَكَرَهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ الزَّنَاتِيِّ شَارِحِ الْمُدَوَّنَةِ وَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَا يَأْبَاهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْخِلَافُ فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ فِي الْغَسْلِ يَأْتِي فِي فَصْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كُلُّهُ فِي اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ، فَأَمَّا الْخَفِيفَةُ فَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ لِمَا تَحْتَهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَقَالَهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ تَخْلِيلِ الْكَثِيفَةِ فَهَلْ ذَلِكَ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إلَى دَاخِلِ الشَّعْرِ فَقَطْ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ؟ قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمَازِرِيُّ.
(قُلْتُ) حَكَاهُمَا ابْنُ عَرَفَةَ فِي بَابِ الْغُسْلِ عَنْ الْمَازِرِيِّ، وَذَكَرَ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: تَخْلِيلُهَا وَاجِبٌ لِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ انْتَهَى. وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ.
(الثَّانِي) قَالَ ابْنُ نَاجِي أَيْضًا وَهَلْ يَضْرِبُ أَصَابِعَهُ فِيهَا مِنْ أَعْلَاهَا أَوْ مِنْ أَسْفَلِهَا؟ قَوْلَانِ لِابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَابْنِ شَبْلُونٍ.
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ: يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَخْلِيلُ لِحْيَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لِنُدُورِهَا، وَنَقَلَهُ عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ فِي نُزْهَةِ الطَّالِبِ.
(قُلْتُ) وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَحَكَاهُ سَنَدٌ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ.
(الرَّابِعُ) فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشْهُورِ هُنَا وَبَيْنَ الْمَشْهُورِ فِي الْغَسْلِ فَإِنَّهُ يَجِب فِيهِ تَخْلِيلُ الْكَثِيفِ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْغَسْلِ الْمُبَالَغَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَلَكِنْ ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ فِيهِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ.
ص (لَا جُرْحًا بَرَأَ أَوْ خُلِقَ غَائِرًا)
ش: يُقَالُ: بَرَأَ الْجُرْحُ يَبْرَأُ وَيَبْرُؤُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فِي الْمَاضِي، وَبِفَتْحِهَا وَضَمِّهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَالضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: بَرِيءَ يَبْرَأُ بِكَسْرِهَا فِي الْمَاضِي، وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَبَرُؤَ يَبْرُؤ بِضَمِّهَا فِيهِمَا، وَأَمَّا إبْدَالُ هَمْزَتِهِ أَلِفًا بَعْدَ الْفَتْحَةِ وَوَاوًا بَعْدَ الضَّمَّةِ وَيَاءً بَعْدَ الْكَسْرَةِ فَشَاذٌّ؛ لِأَنَّ إبْدَالَ الْهَمْزَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ شَاذٌّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْجُرْحِ إذَا بَرَأَ غَائِرًا وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ غَسْلُ مَا خُلِقَ مِنْ وَجْهِهِ غَائِرًا مِنْ أَجْفَانِهِ أَوْ غَيْرِهَا، فَقَوْلُهُ: غَائِرًا حَالٌ مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ خُلِقَ وَيُقَدَّرُ مِثْلُهُ لِفَاعِلِ بَرَأَ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ فِي الْحَالِ.
(تَنْبِيهٌ) وَهَذَا إذَا كَانَ اسْتِغْوَارُ ذَلِكَ كَثِيرًا لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ. قَالَ فِيهَا نَاقِلًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: وَلْيُحَافِظْ عَلَى غَسْلِ مَا تَحْتَ مَارِنِهِ بِيَدِهِ وَمَا غَارَ مِنْ أَجْفَانِهِ وَأَسَارِيرِ جَبْهَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا غَارَ مِنْ جُرْحٍ بَرَأَ عَلَى اسْتِغْوَارٍ كَثِيرٍ أَوْ كَانَ خَلْقًا خُلِقَ بِهِ، وَلَا غَسْلُ مَا تَحْتَ ذَقَنِهِ انْتَهَى. قَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ وَشَقَّ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَجُرْحٍ بَرَأَ عَلَى اسْتِغْوَارٍ كَثِيرٍ، وَمَا كَانَ خَلْقًا خُلِقَ بِهِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بِالْيَدِ، وَلَوْ كَانَ أَثَرُ الْجُرْحِ ظَاهِرًا لَوَجَبَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ وَغَسْلُهُ كَمَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ الْكُوعِ وَأَصَابِعِ الْقَدَمِ انْتَهَى.
وَقَالَ سَنَدٌ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ النَّوَادِرِ: هَذَا يَرْجِعُ إلَى حَرْفٍ وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ غَسْلُهُ مِنْ وَجْهِهِ، فَغَوْرُ الْعَيْنِ مِمَّا يُمْكِنُهُ غَسْلُهُ وَهُوَ مِمَّا يُوَاجَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ غَوْرُ الْجُرْحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَوْرًا دَاخِلًا أَوْ طَالِعًا بِحَيْثُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى جَمِيعِهِ أَوْ لَا يُوَاجَهُ بِجَمِيعِهِ، أَوْ يَكُونُ ضَيِّقًا فَيَغْسِلُ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: أَوْ طَالِعًا كَذَا رَأَيْتُهُ فِي ثَلَاثِ نُسَخٍ مِنْ الطِّرَازِ وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّ جَوَانِبَ الْغَوْرِ طَالِعَةٌ وَنَقَلَ ابْنُ يُونُسَ كَلَامَ النَّوَادِرِ وَقَبِلَهُ وَكَذَلِكَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَغَيْرِهِ وَقَبِلُوهُ بَلْ لَمْ يَذْكُرُوا خِلَافَهُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ وَنَصُّهُ: وَيَجِبُ غَسْلُ مَا تَحْتَ مَارِنِهِ وَظَاهِرِ شَفَتَيْهِ وَأَسَارِيرِ
جَبْهَتِهِ وَغَائِرِ مَا تَحْتَ مَارِنِهِ وَغَائِرِ أَجْفَانِهِ لَا مَا غَارَ جِدًّا مِنْ جُرْحٍ أَوْ خِلْقَةٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ: وَوَصْفُ الِاسْتِغْوَارَ بِكَوْنِهِ كَثِيرًا هُوَ الصَّوَابُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِغْوَارَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْكَثْرَةِ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ سُقُوطِ غَسْلِهِ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا فِي الِاسْتِغْوَارِ الْكَثِيرِ. قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْدُودٌ بِرُؤْيَةِ قَعْرِهِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ وَعَدَمِهَا.
(قُلْتُ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا أَطْلَقَهُ وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَمِيلُ إلَى حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَوَابٍ.
(تَنْبِيهٌ) يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْبَاجِيِّ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَلْكٍ وَجَبَ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ: لَوْ انْتَقَبَتْ كَفُّهُ بِسَهْمٍ وَنَفَذَتْ وَانْدَمَلَتْ نَافِذَةً لَزِمَهُ غَسْلُ دَاخِلِهَا إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا أَوْصَلَ الْمَاءَ إلَيْهَا، وَلَوْ اتَّصَلَ طَرَفَاهَا وَانْدَمَلَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَقْبُهَا انْتَهَى. (فَرْعٌ) قَالَ سَنَدٌ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ، وَيُؤْثَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ حَتَّى عَمِيَ.
(قُلْتُ) وَاسْتَحَبَّهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ: وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَنْ هَذَا احْتَرَزَ الشَّيْخُ فِي الرِّسَالَةِ. وَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى مَا غَارَ مِنْ ظَاهِرِ أَجْفَانِهِ كَمَا قَالَهُ الْجُزُولِيُّ وَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَيَدَيْهِ بِمِرْفَقَيْهِ)
ش: هَذِهِ هِيَ الْفَرِيضَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَهِيَ ثَانِيَةٌ أَيْضًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمِرْفَقُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا وَهُوَ آخِرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَفْصِلِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَرْتَفِقُ بِهِ إذَا أَخَذَ بِرَاحَتِهِ رَأْسَهُ مُتَّكِئًا عَلَى ذِرَاعَيْهِ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمِرْفَقَيْهِ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ الْفَرِيضَةُ الثَّانِيَةُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَبِهَذَا عَبَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَعَدَلُوا عَنْ لَفْظِ الْآيَةِ إلَيْهَا لِبَيَانِ وُجُوبِ دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ فَإِلَى فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14]رحمهم الله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أَوْ تَقُولُ: الْيَدُ حَقِيقَةً مِنْ الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَ " إلَى " لِلْغَايَةِ، وَالْغَايَةُ إذَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْ الْمُغَيَّا فَهِيَ دَاخِلَةٌ أَوْ " إلَى " غَايَةٌ لِلْمَتْرُوكِ أَيْ اُتْرُكُوا مِنْهَا إلَى الْمَرَافِقِ وَقِيلَ: إنَّ لَفْظَةَ الْيَدِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ مَعَانٍ ثَلَاثٍ: مِنْ الْأَصَابِعِ إلَى الْكُوعِ، وَمِنْ الْأَصَابِعِ إلَى الْمِرْفَقِ، وَمِنْ الْأَصَابِعِ إلَى آخِرِ الْعَضُدِ، وَأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ إجْمَالٌ، وَإِنْ قُلْنَا:" إلَى " بِمَعْنَى مَعَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ غَسْلَ الْيَدِ إلَى الْكُوعِ ثُمَّ يَغْسِلُ الْمِرْفَقَ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ شَارَكَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَالِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى شَرَعَ فِي الْعَضُدِ. وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ»
وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غَسْلَ يَدَيْهِ حَتَّى جَاوَزَ الْمِرْفَقَ» وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنٌ فَلَمَّا أَدْخَلَ الْمِرْفَقَيْنِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِمَا وَقِيلَ: إنَّ الْمِرْفَقَيْنِ غَيْرُ دَاخِلَيْنِ فِي الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبْلُغَهُمَا رَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ وَحَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ، وَقِيلَ يَدْخُلَانِ لَا لِأَجْلِهِمَا بَلْ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِدُخُولِهِمَا وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ لِأَبِي الْفَرَجِ وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّيْخِ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِدْخَالُهُمَا أَحْوَطُ لِزَوَالِ تَكَلُّفِ التَّحْدِيدِ لَكِنْ فَسَّرَهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ بِالِاسْتِحْبَابِ فَيَكُونُ رَابِعًا.
ص (وَبَقِيَّةُ مِعْصَمٍ إنْ قُطِعَ)
ش: الْمِعْصَمُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَوْضِعُ السِّوَارِ مِنْ الْيَدِ وَرُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْيَدِ. قَالَهُ فِي الْمُحْكَمِ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا قُطِعَ بَعْضُ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام -
«إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِذَا قُطِعَتْ الْيَدُ مِنْ الْكُوعِ وَجَبَ غَسْلُ الْمِعْصَمِ وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ الْمِعْصَمِ وَجَبَ غَسْلُ الْبَاقِي مِنْهُ، وَالْكُوعُ رَأْسُ الذِّرَاعِ مِمَّا يَلِي الْإِبْهَامَ، وَالْكُرْسُوعُ بِضَمِّ الْكَافِ رَأْسُهُ مِمَّا يَلِي الْخِنْصَرَ، وَيُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا زَنْدٌ بِفَتْحِ الزَّايِ وَهُمَا زَنْدَانِ، وَقَوْلُهُ: إنْ قُطِعَ لَا مَفْهُومَ لَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِبَيَانِ فَرْضِ الْمَسْأَلَةِ إذْ لَا يُقَالُ: لَهُ بَقِيَّةُ غَالِبًا إلَّا إذَا ذَهَبَ بَعْضُهُ وَلَوْ قَالَ: وَبَقِيَّةُ مِعْصَمٍ قُطِعَ بِدُونِ إنْ لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَحْسَنَ، وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا: كَكَفٍّ بِمَنْكِبٍ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْبِسَاطِيُّ بِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَوْ خُلِقَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ (قُلْتُ) وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ.
(فَرْعٌ) فَلَوْ قُطِعَتْ الْيَدُ مِنْ الْمِرْفَقِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: سَقَطَ يَعْنِي الْفَرْضَ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيَغْسِلُ أَقْطَعَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَوْضِعَ الْقَطْعِ وَبَقِيَّةَ الْكَفَّيْنِ إذْ الْقَطْعُ تَحْتَهُمَا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمُ: قَالَ تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وَالْكَعْبَانِ اللَّذَانِ إلَيْهِمَا حَدُّ الْوُضُوءِ هُمَا اللَّذَانِ فِي السَّاقَيْنِ، وَلَا يَغْسِلُ ذَلِكَ أَقْطَعَ الْمِرْفَقَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمِرْفَقَ فِي الذِّرَاعَيْنِ وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ إلَّا أَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ وَالنَّاسُ أَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْعَضُدَيْنِ فَيَغْسِلُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ وَبَقِيَّتَهُمَا وَالتَّيَمُّمُ مِثْلُهُ.
(تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ) تَعَقَّبَ قَوْلَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَدًّا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ قِصَاصًا فَلَا اخْتِصَاصَ لِلْجَنَابَةِ بِالْمِرْفَقَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ دُونَهُمَا وَأَجَابَ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ جَوَابٌ لِمَسْأَلَةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَمُرَادُهُ بِالْعَرَبِ الْعَرَبُ الَّذِينَ لَمْ تُغَيَّرْ طِبَاعُهُمْ الْعَجَمِيَّةُ، وَبِالنَّاسِ الْعَارِفُونَ بِكَلَامِ الْعَرَبِ.
(الثَّانِي) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَلَفْظُ الْمُدَوَّنَةِ يُشِيرُ إلَى تَرَدُّدٍ عِنْدَهُ فِي حَقِيقَةِ الْمِرْفَقِ هَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ طَرَفِ السَّاعِدِ أَوْ عَنْ مَجْمَعِ طَرَفَيْ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ لِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ؟ قَالَ: وَفِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ فَلَوْ قَطَعَ الْمِرْفَقَ سَقَطَ إجْمَالًا وَإِذَا أُخِذَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ مَا يُسَمَّى مِرْفَقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَقَطَ الْوُجُوبُ لِسُقُوطِ مَحَلِّهِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيمَا إذَا فُصِلَ عَظْمُ الذِّرَاعِ عَنْ عَظْمِ الْعَضُدِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الْعَضُدِ أَمْ لَا؟ وَأَصْلُ اخْتِلَافِهِمْ الِاخْتِلَافُ فِي مُنْتَهَى الْمِرْفَقِ، هَلْ هُوَ طَرَفُ عَظْمِ السَّاعِدِ وَقَدْ زَالَ بِالْقَطْعِ فَلَا يُغْسَلُ أَوْ هُوَ مَجْمَعُ الْعَظْمَاتِ وَقَدْ بَقِيَ أَحَدُهُمَا فَيُغْسَلُ؟ فَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ هَذَا الَّذِي تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ نَحْوَهُ عَنْ ابْنِ سَابِقٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْمَذْهَبِ وَلِهَذَا قَالَ سَنَدٌ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ: نَقُولُ قَوْله تَعَالَى {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] لَمْ يَذْكُرْ الْمَرَافِقَ إلَّا لِامْتِدَادِ الْغَسْلِ إلَيْهِمَا سَوَاءٌ قُلْنَا إلَى ابْتِدَائِهِمَا أَوْ إلَى اسْتِغْرَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي دُخُولِهِمَا فِي الْغَسْلِ لَا فِي وُجُوبِ مَزِيدٍ عَلَيْهِمَا.
وَالْمَرَافِقُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُنْتَهَى الذِّرَاعَيْنِ فَإِذَا خَرَجَ الذِّرَاعُ بِنِهَايَتِهِ فَقَدْ خَرَجَ الْمِرْفَقُ قَطْعًا إلَّا أَنْ يَزْهَقَ الْقَاطِعُ فَيَفْصِلُ بَقِيَّةً مِنْ الْمِرْفَقِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْعَضُدِ يَعْرِفُ ذَلِكَ النَّاسُ وَتَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلِيَغْسِلْ مَا بَقِيَ مِنْ الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ إذَا زَادَ الْمَاءُ عَلَى مِرْفَقَيْهِ فَذَلِكَ لِضَرُورَةِ اسْتِيعَابِ الْمِرْفَقَيْنِ كَمَا يُمْسِكُ الصَّائِمُ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ، فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِرْفَقَيْنِ فَإِذَا زَالَ الْمِرْفَقَانِ سَقَطَ حُكْمُ تَوَابِعِهِمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: فَلَوْ وَقَعَ الْقَطْعُ دُونَ الْمِرْفَقِ فَانْكَشَطَتْ جِلْدَةٌ وَبَقِيَتْ مُعَلَّقَةً فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالذِّرَاعِ أَوْ بِالْمِرْفَقِ وَجَبَ غَسْلُهَا؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِنْ جَاوَزَتْ الْعَضُدَ إلَى الْمِرْفَقِ وَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَضُدِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا اعْتِبَارًا بِأَصْلِهَا فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْ الذِّرَاعِ وَسَيَكُونُ لِلذِّرَاعِ جِلْدَةٌ أُخْرَى،
وَكَذَلِكَ إنْ قُطِعَتْ مِنْ الْعَضُدِ وَبَلَغَتْ إلَى الْمِرْفَقِ أَوْ الذِّرَاعِ وَبَقِيَتْ مُتَدَلِّيَةً فِيهِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الذِّرَاعِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهَا وَمَوْضِعِ اسْتِمْدَادِ حَيَاتِهَا. قَالَ: وَهَذَا التَّفْرِيعُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَنْهَجِ الصَّوَابِ إلَّا الْفَرْعَ الْأَخِيرِ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِرْفَقِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مِنْ قَبْلُ، وَمَا لَا يَجِبُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا انْتَهَى.
وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي الْكَبِيرِ عَنْ ابْنِ سَابِقٍ شَيْئًا مِنْ هَذَا.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: فَإِنْ وَقَعَ الْقَطْعُ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَقَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمِرْفَقِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ ذَلِكَ وَلَا مَسْحُهُ خِلَافًا لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِظَاهِرِ الْيَدِ وَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طُهْرٌ ثَانٍ إلَّا بِوُجُودِ سَبَبِ أَصْلِ الطَّهَارَةِ انْتَهَى مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يُعِيدُ مَنْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فِي كَفِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْيَدِ وَالْيَدُ تَتَنَاوَلُهَا انْتَهَى.
(قُلْتُ) ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا إحْسَاسٌ أَمْ لَا وَهُوَ ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الطِّرَازِ إنْ وَجَدَ الْأَقْطَعُ مَنْ يُوَضِّئُهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ بِأُجْرَةٍ، كَمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَقَدَرَ عَلَى لَمْسِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَدَلُّكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْوُضُوءِ وَيَسْقُطُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّدَلُّكِ فَإِذَا فَاتَ التَّدَلُّكُ فَلَا غَسْلَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَسْحُ وَجْهِهِ بِالْأَرْضِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّهِ وَاعْتِبَارًا بِمَا تَصِلُ إلَيْهِ الْيَدُ مِنْ الظَّهْرِ انْتَهَى. وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَبِلَهُ.
(قُلْتُ) وَمَا اسْتَظْهَرَهُ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا وَجْهَ لِمُقَابِلِهِ؛ لِأَنَّ الدَّلْكَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ كَمَا ذُكِرَ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ آدَابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ الْكَلَامُ عَلَى مَا إذَا عَجَزَ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ مِنْ غَسْلِ فَرْجِهِ، وَفِي فَصْلِ الْغُسْلِ الْكَلَامُ عَلَى مَا إذَا عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى بَدَنِهِ، وَفِي الرَّسْمِ الثَّانِي مِنْ سَمَاع ابْنِ الْقَاسِمِ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْأَقْطَعِ أَيَتَيَمَّمُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَتَيَمَّمُ؟ قَالَ: كَيْفَ يَتَوَضَّأُ؟ قِيلَ: يُوَضِّئُهُ غَيْرُهُ. فَقَالَ: كَمَا يَتَوَضَّأُ كَذَلِكَ يَتَيَمَّمُ التَّيَمُّمُ مِثْلُ الْوُضُوءِ. وَقَبِلَهُ ابْنُ رُشْدٍ.
(فَرْعٌ) وَمَنْ طَالَتْ أَظَافِرُهُ وَخَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ أَصَابِعِهِ كَأَهْلِ السِّجْنِ وَغَيْرِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَرَكَهُ وَصَلَّى فَهَلْ يَخْرُجُ عَلَى مَا طَالَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ عَنْ حَدِّ الْعُضْوِ أَوْ لَا يَدْخُلُهُ الْخِلَافُ الَّذِي فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ يُعَدُّ زِيَادَةً فِي الْعُضْوِ بِخِلَافِ الظُّفْرِ فَإِنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْيَدِ، وَلِهَذَا نَجِدُ أَصْلَهُ حَيًّا كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَإِنَّمَا هُوَ لَمَّا طَالَ انْقَطَعَتْ الْحَيَاةُ عَنْهُ فَصَارَ كَأُصْبُعٍ لَحِقَهَا شَلَلٌ أَوْ زَمَانَةٌ؟ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى. بِالْمَعْنَى مِنْ الطِّرَازِ وَجَزَمَ ابْنُ عَرَفَةَ بِالْأَوَّلِ فَقَالَ: وَغَسْلُ مَا طَالَ مِنْ الظُّفْرِ كَالْمَسْجُونِ كَمَا طَالَ مِنْ اللِّحْيَةِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَدْخُلُهُ الْخِلَافُ الَّذِي فِيمَا طَالَ مِنْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ جَزَمَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ تَرَكَهُ وَصَلَّى فَهَلْ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا طَالَ مِنْ اللِّحْيَةِ أَوْ الرَّأْسِ أَوْ لَا يَدْخُلُهُ الْخِلَافُ؟ .
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا دُخُولَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورَ وُجُوبُ غَسْلِ مَا طَالَ مِنْ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ فَيَجِبُ غَسْلُ مَا طَالَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ عَلَى إزَالَةِ وَسَخِ الْأَظْفَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنَقْضِ غَيْرِهِ.
ص (كَكَفٍّ بِمَنْكِبٍ)
ش: الْكَفُّ الْيَدُ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَالْمَنْكِبُ مَجْمَعُ عَظْمَاتِ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ خُلِقَتْ لَهُ كَفٌّ فِي مَنْكِبِهِ وَلَمْ يُخْلَقْ لَهُ عَضُدٌ وَلَا سَاعِدٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ تِلْكَ الْكَفِّ وَقَالَهُ فِي السُّلَيْمَانِيَّة وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
(فَرْعٌ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: مَنْ نَبَتَتْ لَهُ يَدٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا مِنْ مِرْفَقِهِ أَوْ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُهَا إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْعَضُدِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي شَامِلِهِ
إنْ كَانَتْ قَصِيرَةً لَا تَبْلُغُ مَحَلَّ الْفَرْضِ فَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَوِيلَةً بِحَيْثُ تُحَاذِي الذِّرَاعَ فَهَلْ لَا يَجِبُ إذْ لَيْسَتْ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ أَوْ يَجِبُ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى يَدًا؟ قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ الصَّبَّاغِ أَيْضًا مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَلَكِنَّهُ رَآهُ عَنْهُ مُوَافِقًا لِلْمَذْهَبِ فَذَكَرَهُ وَكَلَامُ الطِّرَازِ أَتَمُّ تَحْرِيرًا مِمَّا تَقَدَّمَ. قَالَ: لَوْ كَانَتْ لَهُ كَفٌّ زَائِدَةٌ فَإِنْ كَانَتْ فِي ذِرَاعِهِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّرْنَا يَدًا زَائِدَةً فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْعَضُدِ أَوْ الْمَنْكِبِ فَإِنْ كَانَتْ بِمِرْفَقٍ وَجَبَ غَسْلُهَا إلَى الْمِرْفَقِ لَتَنَاوُلِ الْخِطَابِ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِمِرْفَقٍ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ سَوَاءٌ بَلَغَتْ أَصَابِعُهَا إلَى حَدِّ الْمِرْفَقِ أَمْ لَمْ تَبْلُغْ، وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَذُكِرَ عَنْهُمْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَوْ نَبَتَ ذِرَاعٌ فِي الذِّرَاعِ وَجَبَ غَسْلُهُمَا وَإِنْ نَبَتَ فِي الْعَضُدِ فَلَمْ يَمْتَدَّ إلَى الذِّرَاعِ الْأَصْلِيَّةِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ امْتَدَّ إلَى الذِّرَاعِ الْأَصْلِيَّةِ وَجَبَ غَسْلُهُمَا، وَجَعَلَهَا عَبْدُ الْحَمِيدِ مَسْأَلَةَ نَظَرٍ وَنَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مَا تَقَدَّمَ انْتَهَى.
وَأَجْحَفَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي اخْتِصَارِهِ فَقَالَ: لَوْ نَبَتَ فِي ذِرَاعٍ أُخْرَى أَوْ فِي الْعَضُدِ وَامْتَدَّتْ إلَى الذِّرَاعِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْجَبَ بَعْضُهُمْ غَسْلَ الثَّانِيَةِ عَبْدُ الْحَمِيدِ فِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ) ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَمْتَدَّ الذِّرَاعُ إلَى الذِّرَاعِ الْأَصْلِيَّةِ لَا يَجِبُ غَسْلُهَا وَلَوْ كَانَتْ لَهَا مِرْفَقٌ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ، وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَيَشْهَدُ لَهُ الْفَرْعُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذَا عَنْ السُّلَيْمَانِيَّة.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي السُّلَيْمَانِيَّة فِي امْرَأَةٍ خُلِقَتْ مِنْ سُرَّتِهَا إلَى أَسْفَلَ خِلْقَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِلَى فَوْقٍ خِلْقَةَ امْرَأَتَيْنِ: أَنَّهَا تَغْسِلُ مِنْهَا مَحَلَّ الْأَذَى وَتَغْسِل الْوَجْهَيْنِ فَرْضًا أَوْ سُنَّةً وَالْأَيْدِي الْأَرْبَعَ وَتَمْسَحُ الرَّأْسَيْنِ وَتَغْسِلُ الرِّجْلَيْنِ، نَقَلَهُ عَنْهَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ نَاجِي وَغَيْرُهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَرْضًا أَوْ سُنَّةً يَعْنِي تَغْسِلُ الْمَفْرُوضَ وَالْمَسْنُونَ كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ زَادَ فِي السُّلَيْمَانِيَّة قِيلَ لَهُ: أَفَتُوطَأُ هَذِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَنَقَلَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِلَفْظِ وَيَصِحُّ وَطْؤُهَا بِنِكَاحٍ وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَنْعِ ذَلِكَ لِوَحْدَةِ مُتْعَةِ الْوَطْءِ لِاتِّحَادِ مَحَلِّهِ.
(قُلْتُ) وَانْظُرْ لَوْ كَانَ رَجُلًا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيْضًا امْرَأَةً نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ مَحَلِّ الْوَطْءِ أَوْ يُمْنَعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا رَجُلَانِ مِنْ فَوْقُ، وَلَا يَجُوزُ لِرَجُلَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَا امْرَأَةً وَاحِدَةً فَتَأَمَّلْهُ أَيْضًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَرَأَيْت فِي تَارِيخِ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ أَنَّ صَبِيَّةً وُلِدَتْ لَهَا رَأْسَانِ وَرَقَبَتَانِ وَوَجْهَانِ وَأَرْبَعُ أَيْدٍ عَلَى بَدَنٍ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ فِي عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي آخِرِهَا: رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ بَلْدَةً مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ فَرَأَيْت بِهَا إنْسَانًا مِنْ وَسَطِهِ إلَى أَسْفَلِهِ بَدَنُ امْرَأَةٍ وَمِنْ وَسَطِهِ إلَى فَوْقِهِ بَدَنَانِ مُفْتَرِقَانِ بِأَرْبَعِ أَيْدٍ وَرَأْسَيْنِ وَوَجْهَيْنِ وَهُمَا يَتَقَاتَلَانِ وَيَتَلَاطَمَانِ وَيَصْطَلِحَانِ وَيَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ غِبْتُ عَنْهُمَا سَنَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعْتُ فَقِيلَ أَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَكَ فِي أَحَدِ الْجَسَدَيْنِ تُوُفِّيَ وَرُبِطَ مِنْ أَسْفَلِهِ بِحَبْلٍ وَثِيقٍ وَتُرِكَ حَتَّى ذَبُلَ ثُمَّ قُطِعَ، فَعَهْدِي بِالْجَسَدِ الْآخَرِ فِي السُّوقِ جَائِيًا وَذَاهِبًا انْتَهَى.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي السُّلَيْمَانِيَّة: وَمَنْ خُلِقَ بِلَا يَدَيْنِ وَلَا رِجْلَيْنِ وَلَا دُبُرٍ وَلَا ذَكَرٍ وَيَتَغَوَّطُ وَيَبُولُ مِنْ سُرَّتِهِ يَغْسِلُ مَكَانَ الْقَذَرِ وَيَفْعَلُ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ وَسُنَنِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِهِ وَرَأْسِهِ خَاصَّةً نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِلَفْظِ: وَمَنْ لَا يَدَ لَهُ وَلَا رِجْلَ وَلَا دُبُرَ وَلَا ذَكَرَ وَفَضْلَتُهُ مِنْ سُرَّتِهِ فَهِيَ كَدُبُرِهِ، وَفَرْضُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ سَاقِطٌ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: كَدُبُرِهِ أَنَّهُ إذَا مَسَّهَا لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
ص (بِتَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ)
ش: كَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ الَّتِي رَأَيْتُهَا بِالْبَاءِ الَّتِي لِلْمُصَاحَبَةِ يَعْنِي أَنَّ الْفَرِيضَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ غَسْلُ يَدَيْهِ مَعَ مِرْفَقَيْهِ
مَعَ تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ وَكَأَنَّهُ فِي نُسْخَةِ الْبِسَاطِيِّ بِالْوَاوِ فَقَالَ: مَرْفُوعٌ بِالْعَطْفِ عَلَى غَسْلِ وَيُحْتَمَلُ النَّصْبُ عَلَى الْمَعِيَّةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ بِمِرْفَقِيِّهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وُجُوبِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ هُوَ الْمَشْهُور قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي طَلَبِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي الطَّلَبِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ نَدْبٌ؟ قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ، وَالْمَشْهُورُ الْوُجُوبُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْوُجُوبُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) قَوْلُهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي طَلَبِهِ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي، وَعَزَا ابْنُ عَرَفَةَ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ لِابْنِ حَبِيبٍ وَبِالِاسْتِحْبَابِ لِابْنِ شَعْبَانَ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَالْأَوَّلُ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ التَّدَلُّكِ وَالثَّانِي عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ أَوْ لِأَنَّهَا يَحْتَكُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ التَّدَلُّكِ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: حَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ شَاسٍ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَأَمَّا ابْنُ بَشِيرٍ فَحَكَى الْوُجُوبَ وَالسُّقُوطَ وَظَاهِرُهُ الْإِبَاحَةُ فَتَكُونُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ إلَى النَّدْبِ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا.
(قُلْتُ) حَكَى ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّخْلِيلِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ قَالَ: وَتَخْلِيلُ أَصَابِعِهِمَا أَوْجَبَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ شَعْبَانَ. ابْنُ حَارِثٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ رَجَعَ مَالِكٌ عَنْ إنْكَارِهِ لِوُجُوبِهِ لَمَّا أَخْبَرْتُهُ بِحَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُخَلِّلُهُمَا فِي وُضُوئِهِ» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: فِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْوُجُوبُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالْإِنْكَارُ انْتَهَى. وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَصُّهُ: وَالظَّاهِرُ الْوُجُوبُ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ انْتَهَى. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْضِيحِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي طَلَبِ التَّخْلِيلِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ الْفَاكِهَانِيِّ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ وَهْبٍ دَلِيلٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِابْنِ لَهِيعَةَ: ثَالِثُهَا مَا سُمِعَ مِنْهُ قَبْلَ حَرْقِ كُتُبِهِ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: فِي رُجُوعِ مَالِكٍ إلَى الْوُجُوبِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ تَخْلِيلَهُ عليه الصلاة والسلام أَعَمُّ مِنْ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَرُجُوعِ مَالِكٍ إلَى مَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ لِمَكَانَتِهِ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ قَرَأَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ عَالِمٍ وَمَعَ هَذَا كَانَ يَقُولُ: لَوْلَا مَالِكٌ وَاللَّيْثُ لَضَلَلْتُ. وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الطِّرَازِ لِلْوُجُوبِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد بِأَنَّ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ فَوَجَبَ دَلْكُهُ، وَاسْتَدَلَّ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَقَلَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّحَاحِ لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ يَتَخَلَّلُ الْأَصَابِعَ وَهِيَ تَمَاسُّ بَعْضَهَا فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ حَقِيقَةُ الْغَسْلِ وَنَحْوُهُ لِلْفَاكِهَانِيِّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ قَالَ: لَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيلِهَا لِيَحْصُلَ اسْتِيعَابُهَا أَوْ ذَلِكَ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلٍ لِاحْتِكَاكِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ؟ .
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَ يَدَيْهِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ بِحَيْثُ يُدْخِلُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى فِي خِلَالِ الْيُمْنَى مِنْ ظَاهِرِهَا لَا مِنْ بَاطِنِهَا وَالْيُمْنَى فِي خِلَالِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ عِنْدَ غَسْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَلَا يُدْخِلُهَا مِنْ بَاطِنِهَا؛ لِأَنَّهُ تَشْبِيكٌ وَالتَّشْبِيكُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَتَوَصَّلُ لِمَقْصُودِ دَلْكِ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ مُسْتَوْفًى انْتَهَى.
وَقَالَ الْجُزُولِيُّ وَصِفَةُ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَنْ يُدْخِلَ بَعْضَهَا فِي فَرْجِ بَعْضٍ مِنْ ظَاهِرٍ لَا مِنْ بَاطِنٍ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ بِخِلَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ إنَّمَا تُخَلَّلُ مِنْ أَسْفَلِهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ، وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى فِي غَسْلِهَا وَأَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى فِي غَسْلِهَا، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ وَقَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُكْرَهُ التَّشْبِيكُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا فِي التَّعَالِيقِ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْوُضُوءِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهَذَا كُلُّهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْ جِهَةُ الْأَوْلَى، وَكَيْفَمَا خَلَّلَ أَجْزَاهُ،
وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْجُزُولِيِّ وَيُخَلِّلُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ.
(الثَّانِي) قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ أَيْضًا: ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّحَفُّظَ عَلَى الْبَرَاجِمِ وَهِيَ عُقُودُ الْأَنَامِلِ مِنْ مَحَلِّ اشْتِرَاكِهَا، وَعَلَى الرَّوَاجِبِ وَهِيَ رُءُوسُ الْأَصَابِعِ قَائِلًا: يَجْمَعُهَا ثُمَّ يَحُكُّهَا فِي كَفِّهِ وَالتَّحَفُّظُ عَلَى بَاطِنِ الْكَفِّ أَيْضًا انْتَهَى بِالْمَعْنَى، وَنَحْوُهُ لِلْجُزُولِيِّ وَنَقَلَهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَفِي الصِّحَاحِ الْبَرْجَمَةُ بِالضَّمِّ وَاحِدَةُ الْبَرَاجِمِ وَهِيَ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ الَّتِي بَيْنَ الْأَشَاجِعِ، وَالرَّوَاجِبُ وَهِيَ رُءُوسُ السُّلَامَيَاتِ مِنْ ظَاهِرِ الْكَفِّ إذَا قَبَضَ الْقَابِضُ كَفَّهُ نُشِرَتْ وَارْتَفَعَتْ انْتَهَى. وَقَالَ: الْأَشَاجِعُ أُصُولُ الْأَصَابِعِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِعَصَبِ ظَاهِرِ الْكَفِّ، الْوَاحِدُ شَجَعٌ وَنَاسٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَشْجَعَ مِثْلُ أَصْبَعٍ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَبُو الْغَوْثِ وَقَالَ: وَالرَّاجِبَةُ فِي الْأَصَابِعِ وَاحِدَةُ الرَّوَاجِبِ وَهِيَ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ الَّتِي تَلِي الْأَنَامِلَ ثُمَّ الْبَرَاجِمَ ثُمَّ الْأَشَاجِعَ اللَّاتِي يَلِينَ الْكَفَّ، وَفِي الْقَامُوسِ الرَّوَاجِبُ وَهِيَ أُصُولُ الْأَصَابِعِ أَوْ بُطُونُ مَفَاصِلِهَا أَوْ هِيَ قَصَبُ الْأَصَابِعِ أَوْ مَفَاصِلُهَا أَوْ ظَاهِرُ السُّلَامَيَاتِ أَوْ مَا بَيْنَ الْبَرَاجِمِ مِنْ السُّلَامَيَاتِ، وَاحِدَتُهَا رَاجِبَةٌ وَرُجْبَةٌ وَفَسَّرَ الْأَشَاجِعَ بِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الصِّحَاحِ وَقَالَ: الْبُرْجُمَةُ بِالضَّمِّ الْمِفْصَلُ الظَّاهِرُ أَوْ الْبَاطِنُ مِنْ الْأَصَابِعِ أَوْ رُءُوسُ السُّلَامَيَاتِ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: السُّلَامَيَاتُ عِظَامُ الْأَصَابِعِ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْإِشَارَاتِ وَقَالَ: أَرَى وَاحِدَهَا سُلَامَى بِضَمِّ السِّينِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْجَمْعُ سُلَامَيَاتٌ قَالَ: وَهِيَ الْمَفَاصِلُ وَالْأَعْضَاءُ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: الْبَرَاجِمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ بُرْجُمَةٍ بِضَمَّهَا وَهِيَ الْعُقَدُ الْمُشَنَّجَةُ الْجِلْدِ فِي ظُهُورِ الْأَصَابِعِ وَهِيَ مَفَاصِلُهَا فِي وَسَطِهَا بَيْنَ الرَّوَاجِبِ وَالْأَشَاجِعِ، وَالرَّوَاجِبُ هِيَ الْمَفَاصِلُ الَّتِي تَلِي رُءُوسَ الْأَصَابِعِ، وَالْأَشَاجِعُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ الْمَفَاصِلُ الَّتِي تَلِي ظَهْرَ الْكَفِّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الرَّوَاجِبُ وَالْبَرَاجِمُ جَمِيعًا هِيَ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا كَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَآخَرُونَ: وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ يَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْبَرَاجِمِ وَأَنَّهَا مِنْ الْفِطْرَةِ انْتَهَى مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَلَمْ أَرَ مَنْ فَسَّرَ الرَّوَاجِبَ بِأَنَّهَا رُءُوسُ الْأَصَابِعِ.
(الثَّالِثُ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنْ يَخْتِمَ الْمُتَطَهِّرُ أَبَدًا بِالْمَرَافِقِ وَالْكَعْبَيْنِ مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ الْغَايَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، لَكِنَّ الْأَدَبَ أَوْلَى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِغَسْلِ أَوَّلِهَا.
ص (لَا إجَالَةِ خَاتَمِهِ)
ش: بِالْجَرِّ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِتَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ أَيْ الْفَرِيضَةُ الثَّانِيَةُ غَسْلُ يَدَيْهِ مَعَ مِرْفَقَيْهِ مَعَ تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ لَا مَعَ إجَالَةِ خَاتَمِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ إجَالَةَ الْخَاتَمِ أَيْ تَحْرِيكَهُ لَا تَجِبُ فِي الْوُضُوءِ يُرِيدُ وَلَا فِي الْغُسْلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النَّوَادِرِ وَغَيْرِهَا، وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ ضَيِّقًا أَوْ وَاسِعًا وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ عَنْ مَالِكٍ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَدْ عَضَّ فِي أُصْبُعِهِ قَالَ فِي النَّوَادِرِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ عَنْ مَالِكٍ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَحْرِيكُ خَاتَمِهِ فِي الْوُضُوءِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَا فِي الْغُسْلِ وَهُوَ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي رَسْمِ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ. قَالَ: لَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُحَرِّكَ خَاتَمَهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمِثْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِأَبِي زَيْدٍ فِي الَّذِي يَكُونُ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ قَدْ عَضَّ وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ سَلِسًا فَالْمَاءُ يَصِلُ إلَى مَا تَحْتَهُ وَيَغْسِلُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَضَّ بِأُصْبُعِهِ صَارَ كَالْجَبِيرَةِ لِمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ لَهُ مِنْ لِبَاسِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي فِيمَنْ لَصِقَ بِذِرَاعِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعَجِينِ انْتَهَى. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: كَلَامُ مَالِكٍ يَحْتَمِلُ تَعْلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَاتَمَ لَمَّا كَانَ لِبَاسُهُ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً لَمْ يَجِبْ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ كَالْخُفِّ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ لِرِقَّتِهِ يَصِلُ إلَى مَا تَحْتَهُ.
قَالَ
ابْنُ فَرْحُونٍ: وَالتَّعْلِيلَانِ ضَعِيفَانِ (أَمَّا الثَّانِي) فَلِأَنَّ الْإِجَالَةَ مَطْلُوبَةٌ لِتَحْصِيلِ الدَّلْكِ لَا لِوُصُولِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَسْحٌ وَالْأَصْلُ الْغَسْلُ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْخُفِّ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ لَا يُقَاسَ عَلَيْهَا، وَعَلَى صِحَّتِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَلْبَسَهُ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ لِكَوْنِ لُبْسِهِ مَطْلُوبًا وَلِيَسَارَةِ مَحَلِّهِ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ تَقْوِيَةٌ لِهَذَا الْقَوْلِ وَكَذَا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ تَجِبُ إجَالَتُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ تَعْمِيمَ الْيَدِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِبَاحَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إنَّهُ الظَّاهِرُ وَقِيلَ: تَجِبُ إجَالَةُ الضَّيِّقِ دُونَ الْوَاسِعِ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي مَسْلَمَةَ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَيْضًا أَنَّهُ يَنْزِعُهُ. قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ إنْ أَرَادَ النَّدْبَ فَلَهُ وَجْهٌ لِتَيَقُّنِ حُصُولِ الدَّلْكِ وَإِنْ أَرَادَ الْوُجُوبَ فَلَا مَعْنَى لَهُ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: قَوْلُ ابْنِ بَشِيرٍ مُحْتَمِلُ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ يُرَدُّ بِأَنَّ لَفْظَ ابْنِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَهُ وَظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَجَعَلَ الْقَابِسِيُّ الثَّالِثَ تَفْسِيرًا انْتَهَى.
وَأَكْثَرُ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ خِلَافٌ وَحَكَى ابْنُ فَرْحُونٍ عَنْ الْجُزُولِيِّ قَوْلًا بِعَكْسِ الثَّالِثِ وَأَنَّهُ إنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا تَجِبُ إجَالَتُهُ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا وَجَبَتْ إجَالَتُهُ وَهُوَ غَرِيبٌ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: إذَا جَوَّزْنَا الْمَسْحَ عَلَيْهِ وَكَانَ ضَيِّقًا فَيَنْبَغِي إذَا نَزَعَهُ بَعْدَ وُضُوئِهِ أَنْ يَغْسِلَ مَحَلَّهُ وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ لَمْ يُجْزِهِ كَالْجَبِيرَةِ، إلَّا إنْ كَانَ يَتَيَقَّنُ إيصَالَ الْمَاءِ وَإِصَابَتَهُ لِمَا تَحْتَهُ انْتَهَى. وَجَزَمَ بِذَلِكَ فِي الذَّخِيرَةِ نَاقِلًا عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ فَقَالَ: وَإِذَا جَوَّزْنَا الْمَسْحَ عَلَيْهِ وَكَانَ ضَيِّقًا فَنَزَعَهُ بَعْدَ وُضُوئِهِ فَإِنْ لَمْ يَغْسِلْ مَوْضِعَهُ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ إصَابَةَ الْمَاءِ لِمَا تَحْتَهُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ كَالْجَبِيرَةِ وَعَبَّرَ عَنْ غَسْلِ الْخَاتَمِ بِالْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَرْضُ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ صَارَ كَالْجَبِيرَةِ الَّتِي حُكْمُهَا الْمَسْحُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) قَالَ فِي الطِّرَازِ هَذَا حُكْمُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا لَمْ يَجُزْ لِلرَّجُلِ لُبْسُهُ وَلَا يُعْفَى عَنْ غَسْلِ مَا تَحْتَهُ وَدَلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِهِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ رُخْصَةٌ حَتَّى قَالَ سَحْنُونٌ: يُعِيدُ لَابِسُهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ انْتَهَى. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَقَبِلُوهُ وَنَحْوُهُ مَا حَكَى ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ شَيْخِهِ الشَّبِيبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِعَدَمِ الْإِجَالَةِ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ مُطْلَقًا وَيُخَصَّصُ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِلُبْسِهِ الْمَعْصِيَةَ فَإِنْ قَصَدَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إجَالَتِهِ وَنَزْعِهِ. قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ جَارٍ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَتَرَخَّصُ بِالْقَصْرِ وَالْفِطْر، وَقَدْ يُقَالُ: لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ هُنَا انْتَهَى.
وَقَالَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَكَانَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ يَقُولُ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِلِبَاسِهِ الْمَعْصِيَةَ وَأَمَّا إنْ قَصَدَ ذَلِكَ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى النَّزْعِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ لَا أَعْرِفُهُ، وَأُصُولُ الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ عُمُومًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ الْعَاصِيَ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَهَلْ يُبَاحُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ لَكِنَّ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّبِيبِيُّ هُوَ الْجَارِي عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَوْلُهُ: " لَا بُدَّ مِنْ إجَالَتِهِ أَوْ نَزْعِهِ " الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَوْ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا كَافٍ وَيَأْتِي الْكَلَامُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ صَلَّى بِخَاتَمِ الذَّهَبِ فِي فَصْلِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَاتَمَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ لَا يَنْتَهِي إلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ كَمَا فِي خَاتَمِ الذَّهَبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِنَزْعِهِ ابْتِدَاءً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ لُبْسِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَنَقْصِ غَيْرِهِ)
ش: قَالَ الْبِسَاطِيُّ هَذِهِ
اللَّفْظَةُ مِمَّا تَحَيَّرَ الشُّرَّاحُ فِي ضَبْطِهَا وَمَعْنَاهَا وَعَلَى أَيْ شَيْءٍ مَعْطُوفَةٍ فَمِنْ قَائِلٍ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ مِنْ النُّقْصَانِ، وَيَجْعَلُهُ مَصْدَرًا مُضَافًا لِغَيْرِ مَعْطُوفًا عَلَى مِعْصَمٍ أَيْ يَجِبُ غَسْلُ بَقِيَّةِ مِعْصَمٍ وَبَقِيَّةِ نَقْصِ غَيْرِهِ قَالَ: وَأَرَادَ بِهِ مَسْأَلَةَ السُّلَيْمَانِيَّة يَعْنِي الْمُتَقَدِّمَةَ فِيمَنْ خُلِقَ بِلَا يَدَيْنِ وَلَا رِجْلَيْنِ وَلَا ذَكَرٍ وَلَا دُبُرٍ. قَالَ الْبِسَاطِيُّ: قَالَ هَذَا الْقَائِلُ، وَدَخَلَ فِي كَلَامِهِ قَوْلُهُ فِي التَّهْذِيبِ: وَيَغْسِلُ أَقْطَعَ الرِّجْلَيْنِ مَوْضِعَ الْقَطْعِ وَبَقِيَّةَ الْكَعْبَيْنِ قَالَ الْبِسَاطِيُّ: وَأَقُولُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي دُخُولِ مَسْأَلَةِ السُّلَيْمَانِيَّة تَحْتَ كَلَامِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. قَالَ الْبِسَاطِيُّ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى إجَالَةٍ أَيْ وَلَا غَسْلِ عُضْوٍ مَنْقُوصٍ غَيْرِ الْمِعْصَمِ. وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عُضْوِ الْمَحْذُوفِ انْتَهَى. أَكْثَرُهُ بِالْمَعْنَى، وَكَلَامُ الشَّارِحِ فِي شُرُوحِهِ الثَّلَاثَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا بِالضَّبْطِ الْمَذْكُورِ أَعْنِي بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِغَيْرِ وَأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمِعْصَمِ لَكِنَّهُ جَعَلَ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى بَقِيَّةٍ أَيْ يَجِبُ غَسْلُ بَقِيَّةِ الْمِعْصَمِ وَغَسْلُ نَقْصِ غَيْرِهِ أَيْ بَقِيَّتِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْوَسَطِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَقْصُ غَيْرِ الْمِعْصَمِ كَذَلِكَ أَيْ كَنَقْصِ الْمِعْصَمِ يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا إذَا خُلِقَ نَاقِصَ الْمِعْصَمِ وَخُلِقَتْ كَفُّهُ بِمَنْكِبِهِ سَقَطَ غَسْلُ الْمِعْصَمِ.
كَذَلِكَ إذَا خُلِقَ نَاقِصَ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ الْمِعْصَمِ سَقَطَ غَسْلُ ذَلِكَ الْعُضْوِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ السُّلَيْمَانِيَّة. ذَكَرَ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْكَبِيرِ لَكِنْ بِعِبَارَةٍ مُخْتَصَرَةٍ قَدْ يَعْسُرُ فَهْمُهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الصَّغِيرِ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي مِنْهُمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمُ فِي كَلَامِ الْبِسَاطِيِّ ثُمَّ قَالَ الْبِسَاطِيُّ إثْرَ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَقَالَ آخَرُ: هُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَقَالَ يُشِيرُ بِهِ إلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ فِيمَنْ لُصِقَ بِذِرَاعِهِ قَدْرُ الْخَيْطِ مِنْ الْعَجِينِ لَا يَصِلُ الْمَاءُ لِمَا تَحْتَهُ فَصَلَّى بِذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمُ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى إجَالَةٍ فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِقَوْلِ ابْنِ دِينَارٍ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى بَقِيَّةٍ فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ الْبِسَاطِيُّ: وَأَقُولُ مَا مَعْنَى النَّقْضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِزَالَةُ فَابْنُ دِينَارٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ إنَّمَا تَكَلَّمَا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَكَلَامُهُ الْآن فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَوَضِّئُ وَعِنْدِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى إجَالَةٍ وَأَنَّهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُضَافًا إلَى غَيْرِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى هَكَذَا وَلَا تَجِبُ إجَالَةُ الْخَاتَمِ وَلَا نَقْضُ غَيْرِهِ أَيْ إزَالَتُهُ مِمَّا يُشْبِهُ كَالْحِلَقِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الرُّمَاةُ بَلْ يَكْفِي إجَالَتُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ وَنُقِضَ غَيْرُهُ أَيْ نُزِعَ وَلَكِنِّي لَمْ أَرَ ذَلِكَ مَنْقُولًا وَلَا يَبْعُدُ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ انْتَهَى. وَفِي عِبَارَتِهِ مُسَامَحَةٌ حَيْثُ جَزَمَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ عِنْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى إجَالَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الِاحْتِمَالَيْنِ وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي مِنْهُمَا لَا يَتَأَتَّى مَعَ الْعَطْفِ وَإِنَّمَا تَكُونُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ.
(قُلْتُ) وَتَحَصَّلَ لِي فِي ذَلِكَ مِمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشُّرَّاحِ احْتِمَالَاتٌ ثَمَانِيَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ " نَقْصِ " إنْ كَانَ بِسُكُونِ الْقَافِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا مَعْطُوفًا عَلَى بَقِيَّةِ أَيْ يَجِبُ غَسْلُ بَقِيَّةِ مِعْصَمٍ وَيَجِبُ غَسْلُ نَقْصِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ أَيْ بَقِيَّتِهِ.
(الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى كَفٍّ بِمَنْكِبٍ وَهُوَ كَالْأَوَّلِ.
(الثَّالِثُ) أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ أَيْ وَنَقْصُ غَيْرِ الْمِعْصَمِ كَذَلِكَ أَيْ كَنَقْصِ الْمِعْصَمِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَمَا قَبْلَهُ
(الرَّابِعُ) أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى إجَالَةِ أَيْ لَا تَجِبُ إجَالَةُ الْخَاتَمِ وَلَا غَسْلُ عُضْوٍ مَنْقُوصٍ غَيْرَ الْمِعْصَمِ يَعْنِي أَنَّ الْعُضْوَ إذَا نَقَصَ مِنْ الشَّخْصِ سَقَطَ عَنْهُ غَسْلُهُ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ عَائِدٌ عَلَى الْمِعْصَمِ، وَكَلَامُ الشَّارِحِ فِي شُرُوحِهِ الثَّلَاثَةِ يَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي شُرُوحِهِ أَيْ وَنَقْصُ غَيْرِ الْمِعْصَمِ كَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ بَقِيَّةَ غَيْرِ الْمِعْصَمِ كَبَقِيَّةِ الْمِعْصَمِ وَأَنْ
يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ إذَا نَقَصَ مِنْ الشَّخْصِ عُضْوٌ غَيْرُ الْمِعْصَمِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ غَسْلُهُ كَمَا يَسْقُطُ غَسْلُ الْمِعْصَمِ إذَا لَمْ يُخْلَقْ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَطْفِ عَلَى إجَالَةٍ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ الْبِسَاطِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ وَاسْتَبْعَدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ نَقْضٍ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ اسْمًا أَوْ فِعْلًا، فَإِنْ جُعِلَ اسْمًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:(أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى بَقِيَّةٍ أَيْ يَجِبُ نَقْضُ غَيْرِ الْخَاتَمِ مِنْ عَجِينٍ وَشَمْعٍ وَغَيْرِهِ.
(الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى إجَالَةِ أَيْ لَا يَجِبُ نَقْضُ غَيْرِ الْخَاتَمِ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَيُشِيرُ إلَى مَسْأَلَةِ مَنْ لُصِقَ بِذِرَاعِهِ أَوْ ظُفْرِهِ قَدْرُ الْخَيْطِ مِنْ الْعَجِينِ وَنَحْوِهِ وَصَلَّى، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمُ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى بَقِيَّةٍ فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى إجَالَةٍ فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِقَوْلِ ابْنِ دِينَارٍ هَكَذَا ذَكَرَ الْبِسَاطِيُّ عَنْ بَعْضِ الشُّرَّاحِ.
(قُلْتُ) وَفِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى بَقِيَّةٍ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَيَجِبُ غَسْلُ بَقِيَّةِ مِعْصَمٍ وَغَسْلُ نَقْضِ غَيْرِهِ وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْكَلَامِ وَإِذَا جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى إجَالَةٍ يَصِيرُ الْمَعْنَى لَا تَجِبُ إجَالَةُ الْخَاتَمِ وَلَا نَقْصُ غَيْرِهِ أَيْ نَقْضُ غَيْرِ الْخَاتَمِ مِنْ الْحَائِلَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ إزَالَتُهُ ابْتِدَاءً وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِلُ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا، وَقَوْلُ ابْنِ دِينَارٍ إنَّمَا هُوَ فِي الْيَسِيرِ بَعْدَ الْوُقُوعِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَائِدٌ إلَى الْخَاتَمِ وَغَيْرُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ السِّتَّةِ مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ.
وَإِنْ جَعَلْنَا اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِعْلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ أَوْ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا يَعُودُ إلَى الْمُتَوَضِّئِ وَغَيْرُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَعَلَى الثَّانِي فَغَيْرُ مَرْفُوعَةٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَلَى الْفَاعِلِ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَائِدٌ إلَى الْخَاتَمِ أَيْضًا كَالْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ غَازِيٍّ وَقَالَ: هَذَا أَمْثَلُ مَا يُضْبَطُ بِهِ وَأَبْعَدُهُ مِنْ التَّكَلُّفِ وَالضَّمِيرُ فِي غَيْرِهِ لِلْخَاتَمِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ إذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ أُضِيفَ أَيْ وَنَزْعُ غَيْرِ الْخَاتَمِ مِنْ كُلِّ حَائِلٍ فِي يَدٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا يَجْعَلهُ الرُّمَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي أَصَابِعِهِمْ مِنْ عَظْمٍ وَنَحْوِهِ، وَمَا يُزَيِّنُ بِهِ النِّسَاءُ وُجُوهَهُنَّ وَأَصَابِعَهُنَّ مِنْ النَّقْطِ الَّذِي لَهُ جَسَدٌ وَمَا يُكَثِّرْنَ بِهِ شُعُورَهُنَّ مِنْ الْخُيُوطِ وَمَا يَكُونُ فِي شَعْرِ الْمَرْأَةِ مِنْ حِنَّاءَ أَوْ حَنْتِيتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا لَهُ تَجَسُّدٌ أَوْ مَا يُلْصَقُ بِالظُّفْرِ أَوْ بِالذِّرَاعِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ عَجِينٍ أَوْ زِفْتٍ أَوْ شَمْعٍ أَوْ نَحْوِهَا وَكَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُعَيَّنَةً فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الضَّبْطِ وَإِرَادَةِ هَذَا الْعُمُومِ أَوْ بَعْضِهِ وَلَا سِيَّمَا الْحِنَّاءُ فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْ تَعْيِينِهِ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَمُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَمَشَاهِيرِ الْكُتُبِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَا يُسْكَتُ عَنْهُ غَالِبًا إلَّا إذَا أَدْرَجَهُ فِي عُمُومٍ.
(فَإِنْ قُلْتَ) لَمَّا تَحَدَّثَ ابْنُ رُشْدٍ عَلَى الْخَاتَمِ فِي رَسْمِ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ ذَكَرَ فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَقَدْ لُصِقَ بِظُفْرِهِ أَوْ بِذِرَاعِهِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْ الْعَجِينِ أَوْ الْقِيرِ أَوْ الزِّفْتِ قَوْلَيْنِ وَقَالَ: الْأَظْهَرُ مِنْهُمَا تَخْفِيفُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو زَيْدِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْعُتْبِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلَافَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَوْلِ أَشْهَبَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْعُتْبِيَّةِ. .
(قُلْتُ) لَا خَفَاءَ أَنَّ هَذَا فِي الْيَسِيرِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَأَمَّا ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهِ، وَكَوْنُ ابْنِ رُشْدٍ ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْخَاتَمِ مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ لَفْظَ الْمُؤَلِّفِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) لَا خَفَاءَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ أَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَفِي كَلَامِ الْبِسَاطِيِّ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُخَالِفًا لِمَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ مَا اسْتَظْهَرَهُ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الطِّرَازِ بِأَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ أَيْضًا: إنَّهُ الْمَذْهَبُ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ
قَالَ فِي الطِّرَازِ فِي بَابِ تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ وَمُوَالَاتِهِ: أَمَّا حُكْمُ اللُّمْعَةِ فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ الْإِيعَابِ وَأَنَّهُ إنْ تَرَكَ لُمْعَةً مِنْ مَفْرُوضَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَحَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ فِيمَنْ لَصِقَ بِذِرَاعَيْهِ قَدْرُ الْخَيْطِ مِنْ الْعَجِينِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَصِلُ الْمَاءُ إلَى مَا تَحْتَهُ فَيُصَلِّي بِذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمُ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وَهَذَا لَمْ يَغْسِلْ وَجْهَهُ وَإِنَّمَا غَسَلَ وَجْهَهُ إلَّا لُمْعَةً وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» وَقَوْلُهُ لِمَنْ تَرَكَ قَدْرَ ظُفْرٍ عَلَى رِجْلِهِ «أَعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ اسْمَ الْغَسْلِ يَثْبُتُ بِدُونِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ مِنْ الرَّأْسِ فِي مَسْحِهِ هَذَا الْقَدْرُ لَأَجْزَاهُ، فَكَذَلِكَ الْوَجْهُ فَإِنَّ الْكُلَّ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَاغْتِفَارُ ذَلِكَ الْقَدْرِ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَالْخَاتَمِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ فِي تَرْكِ الْيَسِيرِ مِنْ الْمَسْحِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ كَمَا سَيَأْتِي وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ إذَا كَانَتْ لُمْعَةً يَسِيرَةً كَالْخَيْطِ الرَّقِيقِ مِنْ الْعَجِينِ وَالْمَشْهُورُ اغْتِفَارُهُ ذَكَرَهُ فِي بَابٍ جَامِعٍ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: إنَّ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ بِهِ وَصَرَّحَ الْبُرْزُلِيُّ أَيْضًا بِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُ ابْنِ غَازِيٍّ يَنْدَرِجُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَنَقْضِ غَيْرِهِ مَا يَجْعَلُهُ الرُّمَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي أَصَابِعِهِمْ مِنْ عَظْمٍ وَنَحْوِهِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - إذَا كَانَ ذَلِكَ ضَيِّقًا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ وَاسِعًا يَدْخُلُ الْمَاءُ تَحْتَهُ فَتَكْفِي إجَالَتُهُ، وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ غَازِيٍّ فَإِنَّهُ إنَّمَا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا هُوَ حَائِلٌ فَقَالَ: أَيْ وَنَقْضِ غَيْرِ الْخَاتَمِ مِنْ كُلِّ حَائِلٍ فِي يَدٍ أَوْ غَيْرِهَا فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ قَوْلُ الْبُرْزُلِيِّ فِي أَوَائِلِ مَسَائِلِ الطَّهَارَةِ عَنْ السُّيُورِيِّ يُزَالُ الْقَذْيَ مِنْ أَشْفَارِ الْعَيْنِ إذَا لَمْ يَشُقَّ جِدًّا، قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: فَإِنْ صَلَّى بِهِ وَكَانَ يَسِيرًا مِثْلَ خَيْطِ الْعَجِينِ وَالْمِدَادُ فِيهِ قَوْلَانِ الْمَشْهُورُ فِيهِ الْإِعَادَةُ وَأَحْفَظُ لِابْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ مُغْتَفَرٌ انْتَهَى.
(فَرْعٌ) نَقَلَ الْبُرْزُلِيُّ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيمَنْ صَلَّى ثُمَّ وَجَدَ فِي عَيْنِهِ عَمَشًا أَنَّهُ قَالَ: صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إنْ دَلَكَ عَيْنَيْهِ بِيَدَيْهِ فِي وُضُوئِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا صَارَتْ بَعْدَ الصَّلَاةِ انْتَهَى. ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ خَاصًّا بِالْقَذَى، بَلْ كُلُّ حَائِلٍ حُكْمُهُ كَذَلِكَ وَإِذَا وُجِدَ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ طَرَأَ بَعْدَ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ طَرَأَ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيمَنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ مَنِيًّا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعِيدُ مِنْ آخِرِ نَوْمَةٍ نَامَهَا، وَالْقَذَى مَقْصُورٌ وَأَشْفَارُ الْعَيْنِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا أَثَرُ الْحِنَّاءِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَلَيْسَ بِلُمْعَةٍ قَالَ فِي رَسْمِ الْوُضُوءِ وَالْجِهَادِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تُخَضِّبُ يَدَيْهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ مِمَّا كَانَ النِّسَاءُ يَتَحَرَّيْنَهُ لِئَلَّا يَنْقُضَ خِضَابُهُنَّ الطُّهُورَ لِلصَّلَاةِ. ابْنُ رُشْدٍ وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا إشْكَالَ فِي جَوَازِهِ وَلَا وَجْهَ لِكَرَاهَتِهِ؛ لِأَنَّ صَبْغَ الْخِضَابِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي يَدَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ عَنْهَا بِالْغُسْلِ إذَا اغْتَسَلَتْ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَتْ بِلُمْعَةٍ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا أَثَرُ النَّشَادِرِ فَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ فِي مَسَائِلِ الصَّلَاةِ: كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ يَقُولُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحِنَّاءِ وَلَا يَعُدُّهُ لُمْعَةً وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّبِيبِيُّ يَعُدُّهُ لُمْعَةً وَيَنْقُلُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَائِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عِنْدَ الْعَجِينِ وَنَحْوِهِ، فَعَلَيْهِ لَا يَجُوزُ الْخِضَابُ بِهِ وَكَذَا عِنْدَهُ الْحُرْقُوصُ الَّذِي لَا يُزَالُ بِالْمَاءِ بَلْ بِالتَّقْشِيرِ. قَالَ: وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَزُولُ بِالْمَاءِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَثَرُهُ كَالْحُرْقُوصِ الْمُسَمَّى بِالْغُبَارِ فَلَا بَأْسَ بِهِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) الظَّاهِرُ فِي النَّشَادِر مَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَخُرُوجُ أَثَرِهِ عِنْدَ الْعَجِينِ وَنَحْوِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ حَائِلًا؛ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ أَيْضًا كَذَلِكَ يَخْرُجُ أَثَرُهُ عَنْ الْعَجِينِ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَعُدُّوهُ حَائِلًا، وَأَمَّا الْحُرْقُوصُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَفْصُ وَالْغَالِبُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا عُمِلَ
فِي الْجِسْمِ يَكُونُ حَائِلًا إلَّا إذَا كَانَ رَقِيقًا جِدًّا كَاَلَّذِي يَعْمَلُهُ النِّسَاءُ فِي أَظْفَارِهِنَّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَبْقَى أَثَرُهُ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى رِقَّةِ الْعَفْصِ وَثُخْنِهِ وَتَجَسُّدِهِ كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ التُّونُسِيِّينَ فِي النَّشَادِرِ فَقِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ بِلُمْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَقِيلَ: لُمْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَشَّرُ وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الزَّائِلَ قِشْرَةُ الْيَدِ لِحَرَارَةِ مَائِهَا وَأَفْتَى أَبُو الْحَسَنِ الْقَيْرَوَانِيُّ بِأَنَّ الْحُرْقُوصَ لُمْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ مِمَّا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ الشَّفَتَيْنِ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالسِّوَاكِ الْجَوْزَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا الْمِدَادُ فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ كَالْمُسْتَثْنَى مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَائِلِ وَنَصُّهُ أَثَرُ كَلَامِهِ السَّابِقِ.
(فَرْعٌ) إذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَلَا مِنْ مِثْلِهِ فَهَلْ يُعْفَى عَنْهُ وَيَنْتَقِلُ الْفَرْضُ لِلْجِسْمِ الْحَائِلِ كَمَا فِي الظُّفْرِ يُكْسَى مَرَارَةً مِنْ ضَرُورَةٍ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَعَلَى يَدَيْهِ مِدَادٌ فَرَآهُ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عَلَى حَالِهِ: إنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ إذَا أَمَرَّ الْمَاءَ عَلَى الْمِدَادِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا كَانَ الَّذِي كَتَبَ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْكَاتِبَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْكَاتِبِ، وَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الْمِدَادِ وَاضِحٌ فِي إعْطَاءِ الْمِدَادِ حُكْمَ مَا تَحْتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الْمِدَادُ غَيْرُ حَائِلٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي حُكْمِ مَا يَصْبُغُ كَالْحِنَّاءِ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحِنَّاءَ تُزَالُ وَيَبْقَى أَثَرُهَا بِخِلَافِ الْمِدَادِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ حَائِلٍ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ هُوَ الْكَاتِبَ مَعْنًى انْتَهَى. بِلَفْظِهِ وَنَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ قَبْلَ فَصْلِ التَّيَمُّمِ بِيَسِيرٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَلَفْظُهُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمُ: وَمَنْ تَوَضَّأَ عَلَى مِدَادٍ بِيَدِهِ لَمْ يَضُرَّهُ وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الشَّيْخُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى مِدَادِ يَدَيْهِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى مِدَادٍ بِيَدِهِ أَجْزَأَهُ وَعَزَاهُ الطِّرَازُ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدٍ وَقَيَّدَهُ بِالْكَاتِبِ وَقَيَّدَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا بِرِقَّتِهِ وَعَدَمِ تَجَسُّدِهِ إذْ هُوَ مِدَادُ مَنْ مَضَى انْتَهَى.
(قُلْتُ) قَوْلُهُ: وَقَيَّدَهُ بِالْكَاتِبِ الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِهِ أَنَّ الْمُقَيِّدَ لَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَمُحَمَّدٍ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ فَإِنَّ لَفْظَهُ: ثُمَّ قَالَ: إذَا كَانَ الَّذِي كُتِبَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ الْمُتَقَدِّمِ يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهَا مِنْ الرِّوَايَةِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَقْيِيدَ بَعْضِ شُيُوخِ ابْنِ عَرَفَةَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ فَتَأَمَّلْهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ غَازِيٍّ كَلَامَ ابْنِ عَرَفَةَ وَقَبِلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ إنَّ الْكَاتِبَ قَيَّدَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا إلَخْ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ غَازِيٍّ مِنْ ابْنِ عَرَفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: سُئِلَ السُّيُورِيّ هَلْ يَلْزَمُ زَوَالُ وَسَخِ الْأَظْفَارِ فِي الْوُضُوءِ؟ فَأَجَابَ لَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِهَذَا إنْ أَطَعْتَنِي وَاتْرُكْ الْوَسْوَاسَ وَاسْلُكْ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ الصَّالِحِ تَسْلَمْ. قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: أَرَادَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ تَرْكُ هَذَا التَّعَمُّقِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْعَجِينِ وَالْمِدَادِ فِي الظُّفْرِ الَّذِي فِيهِ خِلَافٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذَا حُكْمُ دَاخِلِ الْجِسْمِ وَلِتَكَثُّرِهِ فِي الْإِنْسَانِ فَأَشْبَهَ مَا عُفِيَ عَنْهُ مِنْ جِلْدِ الْبَثْرَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَخْلُو الْجِسْمُ مِنْهُ غَالِبًا وَإِنْ كَانَ شَيْخُنَا الشَّبِيبِيُّ حَكَى فِيهِ الْخِلَافَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَظَاهِرُ الشَّرِيعَةِ التَّسَامُحُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ ذَا وَسْوَسَةٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ وَذَكَرَ نَحْوَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَالَ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَخْلِيلِ قَصِّ الْأَظْفَارِ إذْ قَدْ يَحْصُلُ تَحْتَهَا مَا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَطُلْ مِنْهَا طُولًا غَيْرَ مُعْتَادٍ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: وَتَخْلِيلُ أَصَابِعِ يَدَيْهِ وَمَا يَكُونُ تَحْتَ رُءُوسِ الْأَظْفَارِ مِنْ الْوَسَخِ مَانِعٌ إذَا طَالَتْ انْتَهَى.
يُرِيدُ إذَا خَرَجَتْ عَنْ الْمُعْتَادِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْأَبِيِّ وَبِهَذَا أَيْضًا يُقَيَّدُ إطْلَاقُ الْبُرْزُلِيِّ وَمَا فِي نَظْمِ قَوَاعِدِ ابْنِ رُشْدٍ أَعْنِي قَوْلَهُ
وَوَسَخُ الْأَظْفَارِ إنْ تَرَكْتَهُ
…
فَمَا عَلَيْكَ حَرَجٌ أَوْ زِلْتَهُ.
(فَرْعٌ) قَدْ يَتَرَبَّى عَلَى الشَّعْرِ الَّذِي فِي الْإِبْطِ وَفِي رَأْسِ الْفَخْذَيْنِ شَيْءٌ مِنْ الْوَسَخِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ فِي أَيَّامِ الصَّيْفِ، وَيَلْتَصِقُ بِالشَّعْرِ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْحَكِّ وَيَكْثُرُ ذَلِكَ وَيَشُقُّ وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ لِلْمَشَقَّةِ إذَا لَمْ يُتْرَكْ الشَّعْرُ مُدَّةً طَوِيلَةً تَزِيدُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ وَفِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) وَأَمَّا مَا يُجْعَلُ فِي الرَّأْسِ مِنْ حِنَّاءَ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَا يَكْثُرُ بِهِ الشَّعْرُ مِنْ صُوفٍ وَنَحْوِهِ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، وَكَذَا الْكَلَامُ عَلَى التَّلْبِيدِ وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامُ هُنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرُوعَ يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَمَسْحُ مَا عَلَى الْجُمْجُمَةِ)
ش: هَذِهِ الْفَرِيضَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ الْفَرَائِضِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَهِيَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِهِ وَاجِبٌ فَإِنْ تُرِكَ بَعْضُهُ لَمْ يُجْزِهِ وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: يُجْزِئُ الثُّلُثَانِ وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الثُّلُثُ وَقَالَ أَشْهَبُ: تُجْزِئُ النَّاصِيَةُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ يَعُمَّ رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ وَأَطْلَقَ وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَهُ وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ وَكَيْفَمَا مَسَحَ أَجْزَأَهُ إذَا أَوْعَبَ رَأْسَهُ. ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ بَعْضَهُ وَإِنْ قَلَّ لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ بَقِيَّةَ الْأَقْوَالِ وَيَصِحُّ فِي عَلَى مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّف: مَا عَلَى الْجُمْجُمَةَ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنْ الْعُلُوِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4] وَعَلَى هَذَا فَالْجُمْجُمَةُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا أَنْ تَكُونَ اسْمًا لِعَدَمِ دُخُولِ مِنْ عَلَيْهَا وَأَنْ تَكُونَ حَرْفَ جَرٍّ وَالْجُمْجُمَةُ مَجْرُورَةً بِهَا، وَالْجُمْجُمَةُ هِيَ عَظْمُ الرَّأْسِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الدِّمَاغِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ مَسْحُ مَا عَلَى الْجُمْجُمَةِ فَائِدَتَيْنِ الْأُولَى: أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ مَا كَانَ فَوْقَ الْجُمْجُمَةِ مِنْ الشَّعْرِ إنْ كَانَ ثَمَّ شَعْرٌ أَوْ الْجِلْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَعْرٌ، فَالشَّعْرُ هُوَ الْأَصْلُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بِخِلَافِ غَسْلِ الْوَجْهِ فَإِنَّهُ فِيهِ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] إنْ رَاعَيْنَا الِاشْتِقَاقَ مِنْ الرَّأْسِ وَهُوَ مَا عَلَا فَيَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ الشَّعْرَ لِعُلُوِّهِ وَالْبَشَرَةَ عِنْدَ عَدَمِهِ لِعُلُوِّهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّعٍ وَلَا رُخْصَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الرَّأْسَ هُوَ الْعُضْوُ فَثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ امْسَحُوا شَعْرَ رُءُوسِكُمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَسْحُ الْبَشَرَةِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ فَيَكُونُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا فِي عَدَمِ الشَّعْرِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالنَّصِّ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَكُونُ الشَّعْرُ أَصْلًا فِي الرَّأْسِ فَرْعًا فِي اللِّحْيَةِ وَالْأَصْلُ الْوَجْهُ.
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ مُنْتَهَى الرَّأْسِ آخِرُ الْجُمْجُمَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ قَالَ سَنَدٌ: وَأَمَّا آخِرُهُ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مُنْتَهَى الْجُمْجُمَةِ حَيْثُ يَتَّصِلُ عَظْمُ الرَّأْسِ بِفَقَارِ الْعُنُقِ وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: إلَى آخِرِ مَنْبَتِ الشَّعْرِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ مُبَايِنٌ لِلرَّأْسِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُوضِحَةٌ كَمَا فِي الرَّأْسِ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ لِلَّخْمِيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَ: وَمَبْدَؤُهُ مِنْ مَبْدَأ الْوَجْهِ وَآخِرُهُ مَا تَحُوزُهُ الْجُمْجُمَةُ وَقِيلَ: مَنَابِتُ شَعْرِ الْقَفَا الْمُعْتَادِ، وَقَبِلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ مِنْ شُرَّاحِهِ كَابْنِ هَارُونَ وَابْنِ رَاشِدٍ وَالْأَبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَعَزَوْا الشَّاذَّ لِابْنِ شَعْبَانَ، وَنَحْوُهُ لِلْقَرَافِيِّ وَالْفَاكِهَانِيِّ وَابْنِ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ وَعَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي صِفَةِ الْمَسْح: يَبْدَأُ بِيَدَيْهِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى يَذْهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ. فَفَهِمَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ كَقَوْلِ ابْنِ شَعْبَانَ فَقَالَ فِي حَدِّ الرَّأْسِ: وَهُوَ مِنْ مُلَاصِقِ الْوَجْهِ، وَآخِرُهُ فِيهَا، وَفِي سَمَاعِ مُوسَى رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ حَتَّى آخِرَ شَعْرِ الْقَفَا وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِابْنِ شَعْبَانَ وَجَعَلَ الْمَذْهَبَ حَتَّى آخِرَ الْجُمْجُمَةِ انْتَهَى. وَنَصُّ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي سَمَاعِ مُوسَى قَالَ مَالِكٌ: يَمْسَحُ رَأْسَهُ فَيَمُرُّ بِيَدَيْهِ مِنْ مُقَدَّمِهِ إلَى قَفَاهُ.
(قُلْتُ) وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ فِي التَّلْقِينِ: وَأَمَّا الرَّأْسُ فَهُوَ مَا صَعِدَ عَنْ الْجَبْهَةِ إلَى آخِرِ الْقَفَا طُولًا وَإِلَى الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا، وَكَذَا فِي عِبَارَةِ غَيْرِهِ لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ كُلَّهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ
صَاحِب الطِّرَازِ وَيُمْكِنُ رَدُّ ذَلِكَ إلَى مَا قَالَهُ غَيْرُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إلَى آخِرِ شَعْرِ رَأْسِهِ كَمَا قَالَ فِي الرِّسَالَةِ.
(الثَّانِيَةُ) الْقَفَا مَقْصُورٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَجَمْعُهُ أَقْفِيَةٌ وَقُفِيُّ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَفِيهِ لُغَاتٌ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: قَالَ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْجَمِيعِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَكَانَ بَعْضُ أَشْيَاخِي يَحْكِي عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ ابْتِدَاءً فِي الْمَذْهَبِ وَلَمْ أَرَهُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَلَمْ يَرْتَضِ ابْنُ عَرَفَةَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَلْ قَالَ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمَازِرِيِّ إثْرَ ذِكْرِهِ الْأَقْوَالَ. هَذَا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ وَالْكَمَالُ فِي الْإِكْمَالِ اتِّفَاقًا وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْإِجْزَاءِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً وَهُوَ ظَاهِرُ عَزْوِ ابْنِ رُشْدٍ لِأَشْهَبَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ حَارِثٍ عَنْ أَشْهَبَ مَنْ تَرَكَ غَيْرَ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وُضُوءُهُ جَائِزٌ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُتَعَلِّقُ الْإِجْزَاءِ ظَاهِرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقْوَالٍ وَمَذَاهِبَ لَا فِي مُرَاعَاةِ خِلَافٍ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ شَيْءٍ قَبْلَ فِعْلِهِ وَسُقُوطِهِ بِتَرْكِهِ لَا عَلَى مَعْنَى رَعْيِ الْخِلَاف لَا يُعْقَلُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي لِانْقِلَابِ الْوَاجِبِ غَيْرَ وَاجِبٍ وَقَوْلُهُ: مُتَعَلِّقُ الْإِجْزَاءِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ ظَاهِرُ عَزْوِ ابْنِ رُشْدٍ لِأَشْهَبَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ يُشِيرُ بِهِ إلَى قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي رَسْمِ الصَّلَاةِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى إجَازَةِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَشْهَبُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ سَنَدٌ: وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ مَنْ مَسَحَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَعُمَّهُ؟ فَقَالَ: يُعِيدُ أَرَأَيْت إنْ غَسَلَ بَعْضَ وَجْهِهِ وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرٌ بِمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الْوَجْهِ فَكَمَا لَمْ يَقَعْ الِامْتِثَالُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ بِالِاسْتِيعَابِ كَذَلِكَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَاعْتِبَارًا بِمَسْحِ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَفْعَالُ الْقُرَبِ تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ يَبْطُلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّيَمُّمِ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ» كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْزَأَهُ الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ لَمَا مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ لِلضَّرُورَةِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ فَأَكْثَرُهُ يُجْزِئُ عَنْ أَقَلِّهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي الْفَرَجِ أَنَّ الثُّلُثَ فِي حَيِّزِ الْكَثِيرِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ (الثَّانِي) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِ أَشْهَبَ الثَّانِي: اُنْظُرْ هَلْ يَذْهَبُ بِهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فِي قَوْلٍ أَوْ بَعْضِ شَعْرَةٍ فِي قَوْلٍ؟ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ رَأْسَهُ ظَاهِرُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ جُزْءٍ مُعْتَبَرٍ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فِي التَّوْضِيحِ فَقَالَ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ أَشْهَبَ إنْ لَمْ يَعُمَّ رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ بِإِجْزَاءِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ إنْ لَمْ يَعُمَّ عُرْفًا أُخِذَ جُزْءٌ جَيِّدٌ مِنْهُ.
(قُلْتُ) وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي رَسْمِ الصَّلَاةِ مِنْ سَمَاع أَشْهَبَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى إجَازَةِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَشْهَبُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ رَاشِدٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ فَقَالَ عَلَى مَا نَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَذَهَبَ أَشْهَبُ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ تَبَعًا لِابْنِ هَارُونَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ قَوْلُهُ الْمُطْلَقُ إلَى قَوْلِهِ الْمُقَيَّدِ، زَادَ ابْنُ فَرْحُونٍ: وَلَفْظُهُ قَوِيٌّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ لِقَوْلِهِ: إنْ لَمْ يَعُمَّ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ الْمُقَيَّدِ بِالنَّاصِيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ: إنَّمَا شَرَّكَ بَيْنَهُمْ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْبَعْضِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ.
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ نَاجِي: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُلُّ
هَذَا الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ إذَا وَقَعَ الْمَسْحُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَلَا يَكْفِي بَعْضُهُ اتِّفَاقًا، وَضَعَّفَهُ شَيْخُنَا الشَّبِيبِيُّ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبُدَاءَةِ بِالْمُقَدَّمِ أَوْ بِغَيْرِهِ قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَيُرَدُّ بِأَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَطِيَّةَ يَقْتَضِي أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى النَّصِّ بِذَلِكَ فَتَكُونُ الْبُدَاءَةُ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ اتِّفَاقًا إنَّمَا هِيَ حَيْثُ التَّعْمِيمِ، أَمَّا حَيْثُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ فَلَا انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ غَرِيبٌ وَمَا قَالَهُ الشَّبِيبِيُّ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَانْظُرْ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ كَافِيًا فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَمْسُوحُ مِمَّا يُحَاذِي الرَّأْسَ إذَا كَانَ الشَّعْرُ طَوِيلًا؟ فَإِنْ كَانَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَذْهَبُ إلَى سُقُوطِ مَسْحِ مَا اسْتَدْلَى مِنْ الشَّعْرِ عَلَى الرَّأْسِ قَالَ ابْنُ نَاجِي: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ الْمَذْهَبِ مَسْحُ مَا طَالَ مِنْ الشَّعْرِ.
(قُلْتُ) هَذَا الرَّدُّ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بَحْثَهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْخَامِسُ) قَالَ فِي الرِّسَالَةِ فِي صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَيُفْرِغُهُ عَلَى بَاطِنِ يَدِهِ الْيُسْرَى قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق: يَعْنِي وَيُرْسِلُهُمَا حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِمَا إلَّا الْقَلِيلُ وَإِنْ شَاءَ غَمَسَهُمَا فِي الْمَاءِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا لَكِنَّ اخْتِيَارَ ابْنِ الْقَاسِمِ الْأَوَّلُ وَاخْتِيَارَ مَالِكٍ الْأَخِيرُ اسْتِحْبَابًا فِيهِمَا انْتَهَى.
(السَّادِسُ) اُخْتُلِفَ إذَا جَفَّ الْبَلَلُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ اسْتِيعَابِهِ فَقِيلَ: إنَّهُ يُجَدِّدُ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ: قَدْ يَكْثُرُ الْمَاءُ فَيَكْفِي الْمُسَبِّحَةُ الْوَاحِدَةُ وَقَدْ يَقِلُّ فَتَكُونُ اثْنَيْنِ وَذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي مَسْحِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا وَقِيلَ: إنَّهُ لَا يُجَدَّدُ وَقَالَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ مُوسَى أَنَّ مَسْحَهُ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ، وَعَنْ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ عَرَفَةَ الْأَوَّلُ لِسَمَاعِ أَشْهَبَ وَلَيْسَ فِيهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ عَنْ الْمَجْمُوعَةِ وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَيَّدَ عَبْدُ الْحَقِّ إجْزَاءَ الْأُصْبُعِ بِتَكْرَارِ إدْخَالِهَا فِي الْمَاءِ، زَادَ ابْنُ نَاجِي وَأَطْلَقَهُ اللَّخْمِيُّ.
(قُلْتُ) سَبَقَ عَبْدَ الْحَقِّ بِالتَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ صَاحِبُ النَّوَادِرِ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ رِوَايَةَ الْعُتْبِيَّةِ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ تَكَرُّرَ بَلَلِ أُصْبُعِهِ بِالْمَاءِ، وَكَذَا ابْنُ رُشْدٍ فِي السَّمَاعِ الْمَذْكُورِ وَنَصُّهُ: يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ إنْ فَعَلَ وَلَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ تَرْجِيحٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ: لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ أَنْ يَصِلَ الْمَاءُ إلَى الْمَحَلِّ، وَيُفَارِقُ مَسْحَ الْخُفِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّأْسَ هُوَ الْمُطَهَّرُ بِالْمَاءِ وَالْخُفُّ لَيْسَ هُوَ الْمُطَهَّرُ وَإِنَّمَا الْمُطَهَّرُ الرِّجْلُ فَلَا مَعْنَى لِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى مَحَلٍّ لَا يَتَطَهَّرُ، لَكِنْ شُرِعَ نَقْلُ الْمَاءِ فِيهِ ابْتِدَاءً وَلِأَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ لَهُ تَأْكِيدُ الْأَصْلِيَّةِ وَمَسْحَ الْخُفِّ لَهُ تَخْفِيفُ الْبَدَلِيَّةِ وَلِأَنَّ الْمَاءَ يُفْسِدُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَيْفِيَّةِ نَقْلِ الْمَاءِ وَحُكْمِهِ إذَا مَسَحَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ وَذِرَاعَيْهِ فِي الدَّلْكِ.
(السَّابِعُ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَبْدَأَ الْمَسْحِ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ فَإِنَّ مَنَابِتَ شَعْرِ الرَّأْسِ مَبْدَأٌ لِلْوَجْهِ وَلِلرَّأْسِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَمَبْدَؤُهُ مِنْ عِنْدِ الْوَجْهِ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ: وَيَمْسَحُ الرَّأْسَ إلَخْ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ الْوَجْهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَنَقَلَهُ الْجُزُولِيُّ وَعَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهُ هُوَ الْمَذْهَبُ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (بِعَظْمِ صُدْغَيْهِ مَعَ الْمُسْتَرْخِي)
ش: مَا ذَكَرَهُ هُوَ حَدُّ الرَّأْسِ عَرْضًا وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، يَعْنِي أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْجُمْجُمَةِ مَعَ مَا عَلَى عَظْمَاتِ صُدْغَيْهِ مَعَ مَا اسْتَرْخَى مِنْ الشَّعْرِ وَطَالَ وَلَوْ نَزَلَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الصُّدْغَ هُوَ مَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَأَنَّ مَا كَانَ عَنْهُ فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ عَلَى الْعَارِضَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ فَهُوَ مِنْ الرَّأْسِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ النَّزَعَتَانِ وَمَوْضِعُ
التَّحْذِيفِ، قَالَ فِي النَّوَادِرِ وَشَعْرُ الصُّدْغَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ مَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي دَوْرِ الْوَجْهِ وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: وَيَمْسَحُ النَّزَعَتَيْنِ وَمَا ارْتَفَعَ إلَى الرَّأْسِ مِنْ شَعْرِ الصُّدْغَيْنِ وَيَمْسَحُ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: يَمْسَحُ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ خَلْفَ الْأُذُنِ، وَمَتَى تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ جُزْءًا مِنْ الرَّأْسِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَسْحِ شَعْرِ الْمُسْتَرْخِي عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ فِيهَا: وَتَمْسَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا كَالرَّجُلِ وَتَمْسَحُ عَلَى الْمُسْتَرْخِي مِنْ شَعْرِهَا نَحْوَ الدَّلَالَيْنِ، وَكَذَلِكَ الطَّوِيلُ الشَّعْرِ مِنْ الرِّجَالِ، وَالدَّلَالَيْنِ تَثْنِيَةُ دَلَالٍ هُوَ مَا اسْتَرْخَى مِنْ الشَّعْرِ قَالَ عِيَاضٌ هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَقِيلَ: لَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَرْخَى عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ، وَعَزَاهُ ابْنُ نَاجِي لِأَبِي الْفَرَجِ وَابْنِ عَرَفَةَ لِلْأَبْهَرِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ سَحْنُونٍ لِظَاهِرِ مَا فِي سَمَاعِ مُوسَى بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ لَيْسَ بِرَأْسٍ.
قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ لَمَّا نَبَتَ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِهِ كَمَا أَنَّ مَا نَبَتَ فِي الْحَرَمِ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْحَرَمِ وَإِنْ طَالَ وَخَرَجَ عَنْهُ إلَى الْحِلِّ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: إذَا قُلْنَا لَا يَجِبُ مَسْحُ الْمُنْسَدِلِ فَهَلْ يُسَنُّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قَوْلُهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَمْسَحَ إلَى قَفَاهَا يَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَا تُؤْمَرُ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِاسْتِيعَابِهِ كَمَالُ الْإِيعَابِ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ (قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ الِاسْتِحْبَابُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ مَطْلُوبٌ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ ابْنُ نَاجِي عَنْ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ عَارَضَ مَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ بِقَوْلِهِ فِي الضَّحَايَا لَا بَأْسَ بِصَيْدِ طَائِرٍ عَلَى غُصْنٍ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ فَلَمْ يُحْكَمْ لِلْفَرْعِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ وَرَدَّهُ ابْنُ نَاجِي بِأَنَّ وِزَانَ مَا طَالَ مِنْ الشَّعْرِ طَرَفُ الْغُصْنِ لَا الطَّائِرُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَلَا يَنْقُضُ ضَفْرَهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ)
ش: الضَّفْرُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَتْلُ الشَّعْرِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَالْعَقْصُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ جَمْعُ مَا ضُفِرَ مِنْهُ قُرُونًا صِغَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَالَهُ فِي التَّنْبِيهَاتِ وَهُوَ مَصْدَرُ عَقَصَ شَعْرَهُ يَعْقِصُهُ عَقْصًا، قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْعَقْصُ ضَرْبٌ مِنْ الضَّفْرِ وَهُوَ أَنْ يَلْوِيَ الشَّعْرَ عَلَى الرَّأْسِ، وَقَالَ اللَّيْثُ هُوَ أَنْ تَأْخُذَ الْمَرْأَةُ كُلَّ خُصْلَةٍ مِنْ شَعْرِهَا فَتَلْوِيَهَا ثُمَّ تَعْقِدَهَا فَيَبْقَى فِيهَا الْتِوَاءٌ ثُمَّ تُرْسِلَهَا فَكُلُّ خُصْلَةٍ عَقِيصَةٌ وَرُبَّمَا اتَّخَذَتْ الْمَرْأَةُ عَقِيصَةً مِنْ شَعْرِ غَيْرِهَا وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَقَصَتْ شَعْرَهَا شَدَّتْهُ فِي قَفَاهَا وَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: عَقِيصَةٌ وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ فِي تَقْيِيدِ أَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ الْعَقْصُ أَنْ تَجْمَعَ ضَفْرَهُ وَتَرْبِطَهُ بِخَيْطٍ وَالضَّفْرُ أَنْ تَرْبِطَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَنَقَلَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ هَارُونَ أَنَّ الْعَقْصَ جَمْعُ عِقَاصٍ قَالَ: وَهُوَ أَنْ تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ مَا تَضْفُرُهُ مِنْ شَعْرِهَا إلَى خَلْفِهَا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ كَانَ شَعْرُهَا مَعْقُوصًا مَسَحَتْ عَلَى ضَفْرِهَا وَلَا تَنْقُضُ شَعْرَهَا قَالَ فِي الطِّرَازِ: لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْحِ التَّخْفِيفُ وَفِي نَقْضِ الشَّعْرِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ أَعْظَمُ مَشَقَّةٍ وَلِأَنَّ الْعِقَاصَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَفَا فَأَمْرُهُ خَفِيفٌ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ يَأْتِي عَلَيْهِ الْمَسْحُ وَمَا انْسَدَلَ مِنْ الشَّعْرِ عَنْ الْقَفَا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ مَعْقُوصًا وَمَرَّ الْمَسْحُ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ الْعِقَاصِ فَهُوَ يُعَدُّ مَمْسُوحًا مَعَ خِفَّةِ أَمْرِهِ، وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: قَالَ فِي الْكِتَابِ: تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى وَجْهِ شَعْرِهَا الْمَعْقُوصِ وَالضَّفَائِرِ مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَا تَنْقُضُ عِقَاصَهَا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: ضَفْرَهُ عَائِدٌ إلَى مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلٌ وَقَالَ الشَّارِحُ فِي الصَّغِيرِ: إنَّهُ يَعُودُ إلَى الشَّعْرِ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) عِبَارَةُ الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ وَابْنِ الْحَاجِبِ أَحْسَنُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْزَمْ حَلُّ الْعِقَاصِ لَمْ يَلْزَمْ حَلُّ الضَّفْرِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الضَّفْرِ عَدَمُ نَقْضِ الْعَقْصِ؛ لِأَنَّ
الْعَقْصَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ التَّنْبِيهَاتِ هُوَ جَمْعُ مَا ضُفِرَ مِنْهُ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي كَلَامِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهَا تَمْسَحُ عَلَى عِقَاصِهَا فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهَا وَلَا تَنْقُضُ شَعْرَهَا وَقَدْ نَسَبَ فِي الذَّخِيرَةِ لِلْمُدَوَّنَةِ أَنَّهَا تَمْسَحُ عَلَى الشَّعْرِ الْمَعْقُوصِ.
(الثَّانِي) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَالْعَقِيصَةُ الَّتِي يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مَا تَكُونُ بِخَيْطٍ يَسِيرٍ وَأَمَّا لَوْ كَثُرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ حَائِلٌ قَالَ الْبَاجِيُّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَثَّرَتْ شَعْرَهَا بِصُوفٍ أَوْ شَعْرٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَمْسَحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الِاسْتِيعَابِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْبَاجِيِّ أَصْلُهُ لِابْنِ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ قُرُونُ شَعْرِهَا مِنْ شَعْرِ غَيْرِهَا أَوْ مِنْ صُوفٍ أَسْوَدَ كَثَّرَتْ بِهِ شَعْرَهَا لَمْ يُجْزِهَا الْمَسْحُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْزِعَهُ إذَا لَمْ يَصِلْ الْمَاءُ إلَى شَعْرِهَا مِنْ أَجَلِهِ، وَفِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة» وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ النَّوَادِرِ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ فَرْحُونٍ وَغَيْرُهُمْ وَقَبِلُوهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَإِذَا كَانَ مَا كَثَّرَتْ بِهِ مَرْبُوطًا عِنْدَ الْقَفَا أَوْ نَازِلًا عَنْهُ دَخَلَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي مَسْحِ مَا انْسَدَلَ. وَقَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: هَذَا إذَا كَانَ عِقَاصُهَا مِثْلَ عِقَاصِ الْعَرَبِ تَفْتِلُهُ ضَفَائِرَ صِغَارًا وَتَرْبِطُهُ بِالْخَيْطِ وَالْخَيْطَيْنِ، وَأَمَّا إنْ فَتَلَتْهُ عَلَى نَاحِيَتَيْنِ وَأَكْثَرَتْ عَلَيْهِ الْخُيُوطَ فَلَا بُدَّ مِنْ حَلِّهِ وَإِنْ مَسَحَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَنَحْوُهُ لِلْجُزُولِيِّ.
(قُلْتُ) وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إذَا كَانَ مَا كَثَّرَتْ بِهِ شَعْرَهَا ظَاهِرًا فَوْقَ الشَّعْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مُسْتَبْطَنِ الشَّعْرِ فَلَا يَضُرُّ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ فِي مَسْأَلَةِ الْحِنَّاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَصْلُ الشَّعْرِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي وَهَذَا إذَا وُصِلَ بِمَا يُشْبِهُ الشَّعْرَ، وَأَمَّا خَيْطُ الْحَرِيرِ الَّذِي لَا يُشْبِهُ الشَّعْرَ فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصْلٍ وَلَا قُصِدَ بِهِ الْوَصْلُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ التَّجَمُّلُ وَالتَّحْسِينُ نَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي عَنْ الْإِكْمَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ هُنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَلَا تَنْقُضُ عَقْصَهَا: يَعْنِي وَلَكِنْ تَسْقِيهِ الْمَاءَ وَتَضْغَثُهُ بِيَدِهَا ضَغْثًا حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ دَاخَلَ الشَّعْرَ وَبَلَّ الْبَشَرَةَ. وَهَذَا سَهْوٌ ظَاهِرٌ سَرَى ذِهْنُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى الْغُسْلِ وَهُوَ بَيِّنٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: فَلَوْ رَفَعَتْ الضَّفَائِرَ مِنْ أَجْنَابِ الرَّأْسِ وَعَقَصَتْ الشَّعْرَ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ وَهُوَ لَوْ تُرِكَ انْسَدَلَ عَنْ الرَّأْسِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ مَسْحُهُ؛ لِأَنَّهُ حَائِلٌ دُونَ مَا يَجِبُ مَسْحُهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هُوَ كَالْعِمَامَةِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَنَقَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَقَبِلَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْخَامِسُ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّأْسِ حِنَّاءُ فَلَا تَمْسَحُ حَتَّى تَنْزِعَهُ فَتَمْسَحُ عَلَى الشَّعْرِ. قَالَ فِي الطِّرَازِ: إنَّ جَعْلَ الْحِنَّاءِ لِلضَّرُورَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْ حَرٍّ وَشِبْهِهِ جَازَ وَلَا يَجِبُ نَزْعُهُ كَالْقِرْطَاسِ عَلَى الصُّدْغِ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مَاسَّةٍ وَهِيَ صُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ إيصَالَ الْمَسْحِ لِلرَّأْسِ كَالثَّوْبِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ اللَّخْمِيُّ إذَا كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ حِنَّاءٌ وَكَانَتْ لِضَرُورَةٍ فَهِيَ كَالدُّهْنِ يُمْسَحُ عَلَيْهَا كَالْحَائِلِ وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَعْضِهِ فَإِنْ كَانَتْ لِضَرُورَةٍ مَسَحَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى مَا بَقِيَ عَلَى قَوْلٍ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ، وَلَا يُجْزِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ إلَّا إذَا كَانَ الْجَمِيعُ.
(قُلْتُ) قَوْلُهُ: إنْ كَانَ التَّدَاوِي فَلَا يَنْزِعُهُ يُرِيدُ إذَا خَافَ بِنَزْعِهِ ضَرَرًا فَإِنْ كَانَ الْحِنَّاءُ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ وَهُوَ لِضَرُورَةٍ مَسَحَ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ وَعَلَى الْحِنَّاءِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ نَزَعَهُ، فَإِنْ مَسَحَ عَلَى الْحِنَّاءِ وَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ لَمْ يُجْزِهِ وَذَلِكَ وَاضِحٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ قَالَهُ ابْنُ نَاجِي وَذَكَرَ الشَّيْخُ زَرُّوق عَنْ شَيْخِهِ الْقُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ إنِّي لَأُفْتِي النِّسَاءَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْحِنَّاءِ
لِأَنَّا إذَا مَنَعْنَاهُمْ مِنْهُ تَرَكْنَ الصَّلَاةَ وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ فِعْلِهَا جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فَارْتِكَابُ الْأَخَفِّ أَوْلَى فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ انْتَهَى.
(قُلْتُ) يُشِيرُ بِالْخِلَافِ إلَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُد وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ فِي الْفَرْعِ الْآتِي بَعْدَهُ.
(السَّادِسُ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا وَلَا غَيْرِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ أَعَادَتْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ. قَالَ فِي الطِّرَازِ: يُرِيدُ إذَا أَمْكَنَهَا الْمَسْحُ عَلَى رَأْسِهَا وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ اخْتِيَارًا وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاشْتَرَطَ ابْنُ حَنْبَلٍ أَنْ يُلْبَسَ ذَلِكَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ تَكُونَ الْعِمَامَةُ تَحْتَ الْحَنَكِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّتِهَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى الْجَوَازِ إذَا مَسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ وَمُتَعَلِّقُهُمْ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ» وَمَا فِي أَبِي دَاوُد أَنَّهُ «مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي مُسْلِمٍ «أَنَّهُ مَسَحَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ» قَالَ: وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَالْعِمَامَةُ لَا تُسَمَّى رَأْسًا، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ الْبَاءُ لِلتَّأْكِيدِ كَأَنَّهُ قَالَ امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ نَفْسَهَا وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمَرَافِقِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ» الْحَدِيثَ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا تُقْبَلُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ» وَكَانَ قَدْ مَسَحَ رَأْسَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ فِيهِ لَكَانَ مَسْحُهَا شَرْطًا وَلَا قَائِلَ بِهِ وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ فَقَالَ: لَا، حَتَّى تَمْسَحَ الشَّعْرَ بِالْمَاءِ وَلَمْ يُعْرَفْ لِذَلِكَ نَكِيرٌ وَالْقِيَاسُ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ فَإِنْ مَسَحَتْ عَلَى الْخِمَارِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُعِيدُ الْوُضُوءَ قَالَ سَحْنُونٌ: لِأَنَّهَا مُتَعَمِّدَةٌ. يُرِيدُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَرَكَتْهُ سَهْوًا وَإِنَّمَا فَعَلَتْهُ جَهْلًا وَالْجَاهِلُ وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ.
(قُلْتُ) وَقَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَعَادَتْ الْوُضُوءَ لَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَامِدَةً وَكَذَا إنْ كَانَتْ جَاهِلَةً؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ كَالْعَامِدِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ كَالسَّاهِي، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ سَاهِيَةً فَتَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا فَقَطْ وَالصَّلَاةُ بَاطِلَةٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَأَمَّا إنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَتْ سَاهِيَةً مَسَحَتْ رَأْسَهَا مَتَى مَا ذَكَرَتْ وَأَعَادَتْ غَسْلَ رِجْلَيْهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْقُرْبِ، وَحَدُّهُ جَفَافُ الْأَعْضَاءِ الْمُعْتَدِلَةِ فِي الزَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنْ كَانَتْ عَامِدَةً أَوْ جَاهِلَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْقُرْبِ جِدًّا فَإِنَّهَا تُزِيلُ الْحَائِلَ وَتَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا وَتُعِيدُ غَسْلَ رِجْلَيْهَا، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ أَعَادَتْ الْوُضُوءَ وَلَا يُحَدُّ الْقُرْبُ هُنَا بِجَفَافِ الْأَعْضَاءِ بَلْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُوَالَاةِ، وَقَالَ فِي الطِّرَازِ: فَإِنْ وَقَعَ الْمَسْحُ عَلَى الْحِنَّاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَنَزَعَهُ بِالْقُرْبِ مَسَحَ رَأْسَهُ وَأَعَادَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ وَلَا يُشْبِهُ مَنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ عَبَثًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَإِنْ طَالَ ابْتِدَاءُ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ كَالْعَامِدِ لَا كَالسَّاهِي، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا مَسَحَ رَأْسَهُ مَتَى مَا ذَكَرَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ وَالصَّلَاةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَاسِدَةٌ انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: فَرْعٌ إنْ مَسَحَتْ عَلَى الْوِقَايَةِ أَوْ حِنَّاءٍ أَوْ مَسَحَ رَجُلٌ عَلَى الْعِمَامَةِ وَصَلَّى لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَبَطَلَ وُضُوءُهُ وَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا وَإِنْ فَعَلَهُ جَهْلًا فَقَوْلَانِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: يُرِيدُ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ لَا يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَمْسَحُ عَلَى حَائِلٍ مَعَ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا مَعَ الضَّرُورَةِ فَجَائِزٌ ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ الطِّرَازِ ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ أَحْمَدَ عِنْدِي أَقْرَبُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُرَجِّحُهُ شَيْخُنَا، يَعْنِي الْبُرْزُلِيَّ وَلَا يُفْتِي بِهِ وَكَوْنُهُ عليه الصلاة والسلام دَاوَمَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مُدَاوَمَتَهُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِيُؤْذِنَ بِالْإِبَاحَةِ، وَكَوْنُهُ
لِعُذْرٍ دَعْوَى.
(قُلْتُ) يَرُدُّ مَا قَالَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ) ذَكَرَ ابْنُ نَاجِي أَنَّهُ حَضَرَ ابْنُ رَاشِدٍ دَرْسَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ الْمُدَرِّسُ: الدَّلِيلُ لَنَا عَلَى مَالِكٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى حَائِلٍ أَصْلُهُ الشَّعْرُ فَإِنَّهُ حَائِلٌ، فَأَجَابَهُ ابْنُ رَاشِدٍ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا تَعَذَّرَتْ اُنْتُقِلَ إلَى الْمَجَازِ إنْ لَمْ يَتَعَدَّدْ وَإِلَى الْأَقْرَبِ مِنْهُ إنْ تَعَدَّدَ وَالشَّعْرُ هُنَا أَقْرَبُ وَالْعِمَامَةُ أَبْعَدُ فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى الشَّعْرِ فَلَمْ يَجِدْ جَوَابًا وَنَهَضَ قَائِمًا وَأَجْلَسَهُ بِإِزَائِهِ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ عِيَاضٌ الْحِنَّاءُ مَمْدُودٌ انْتَهَى. وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: الْحِنَّاءُ مُذَكَّرٌ مَمْدُودٌ وَاحِدُهُ حِنَّاءَةٌ.
(السَّابِعُ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: فَإِنْ كَانَتْ الْحِنَّاءُ فِي مُسْتَبْطَنِ الشَّعْرِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَمْنَعْ؛ لِأَنَّ مُسْتَبْطَنَ الشَّعْرِ لَا يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ وَلَا مُبَاشَرَتُهُ بِالْمَسْحِ وَلِهَذَا تَعَلَّقَ الْمَسْحُ بِظَاهِرِ الضَّفِيرَةِ دُونَ بَاطِنِهَا، وَقَدْ أَجَازَ الشَّرْعُ التَّلْبِيدَ فِي الْحَجِّ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ نَاجِي وَغَيْرُهُمْ وَقَبِلُوهُ وَلَفْظُ ابْنِ عَرَفَةَ: الطِّرَازِ: إنْ كَانَ الْحِنَّاءُ بِبَاطِنِ الشَّعْرِ لَمْ يَمْنَعْ كَالتَّلْبِيدِ انْتَهَى.
(الثَّامِنُ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ فِي قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ حَتَّى يَنْزِعَهُ: هَلْ بِالْمَاءِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الشُّيُوخِ؟ وَظَاهِرُ الْكِتَابِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَهُ الشَّيْخُ وَمَنْ يَقُولُ بِالْمَاءِ يَقُولُ لِئَلَّا يَنْضَافَ الْمَاءُ الَّذِي يَمْسَحُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ بِيَدِهِ يَنْضَافُ وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ تَكُونُ أَعْضَاؤُهُمْ غَيْرَ نَقِيَّةٍ مِنْ الدَّنَسِ فَإِذَا فَرَّغَ الْمَاءَ عَلَى أَوَّلِ الْعُضْوِ لَمْ يَصِلْ إلَى آخِرِهِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ طَهَارَةَ الْأَعْضَاءِ مِنْ الدَّنَسِ وَقَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ ذَهَبَتْ الْحِنَّاءُ أَوْ انْتَشَرَ بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ بَعْضِ الشُّيُوخِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْحِنَّاءِ. قَالَ ابْنُ هَارُونَ: يُرِيدُ إذَا كَانَ مُتَجَسِّدًا وَإِلَّا فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى صَبْغِهِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ هَارُونَ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَكَذَلِكَ الطِّيبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَجَسِّدًا مِمَّا تَرُشُّ بِهِ رَأْسَهَا أَوْ تَجْعَلُهُ فِي شَعْرِهَا وَمَا زَالَ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ يَجْعَلْنَ الطِّيبَ فِي رُءُوسِهِنَّ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِهِ وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يُضِيفُ الْمَاءَ حَالَةَ الْمَسْحِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَهْلِ بِالسُّنَّةِ وَالتَّعَمُّقِ فِي الدِّينِ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي الْبَيَانِ فِي بَابِ الْقَذْفِ فِي الْمَرْأَةِ تَعْمَلُ نَضُوحًا مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَتَمْتَشِطُ بِهِ، قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ ابْنُ رُشْدٍ وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَفِيهِ إجَازَتُهُ أَيْضًا عَلَى تَرْخِيصٍ، وَالْكَرَاهَةُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ الْمَسْحَ عَلَيْهِ وَهَذَا نَصٌّ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ مَا هُوَ مُتَجَسِّدٌ يَحُولُ بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْمَاءِ وَأَمَّا النَّضُوحُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَإِنَّهُ يُلَبِّدُ الشَّعْرَ وَيَضُمُّهُ عَنْ الِانْتِشَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ جَوَازُ تَصْمِيغِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ انْتَهَى. كَلَامُ ابْنِ فَرْحُونٍ وَمَسْأَلَةُ الْبَيَانِ فِي رَسْمِ الْأَشْرِبَةِ وَالْحُدُودِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ.
وَقَوْلُهُ: وَالْكَرَاهَةُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حَائِلٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ فَرْحُونٍ وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُبَّائِيُّ عِنْدَ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَلَا يَمْسَحُ عَلَى حِنَّاءٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إضَافَةَ الْمَاءِ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْعُضْوَ لَا تَضُرُّ وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَدْهُنُونَ وَيَتَمَنْدَلُونَ بِأَقْدَامِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ يَنْضَافُ بِمُلَاقَاتِهِ لِلْعُضْوِ مِمَّا عَلَيْهِ انْتَهَى. وَنَقَلَ ابْنُ فَرْحُونٍ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ الْمُتَقَدِّمَ وَزَادَ عَلَيْهِ قَالَ: وَقَدْ نَصَّ أَبُو زَيْدٍ الْبُرْنُوسِيُّ فِي تَقْيِيدِهِ عَلَى الْجَلَّابِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا إذَا نَقَضَتْهَا وَزَالَ نَقْضُهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الطِّيبِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْجُزُولِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْحِنَّاءِ: قَالَ الْفَقِيهُ: لَا يَمْسَحُ حَتَّى يُزِيلَهَا بِالْمَاءِ وَقَالَ غَيْرُهُ: إذَا نَقَضَهَا، وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى هُنَاكَ مَا يُضِيفُ الْمَاءَ انْتَهَى. وَزَادَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ وَالطَّفْلِ وَالْمَشْطِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْشُطْهُ بِالطَّفْلِ يَنْضَافُ الْمَاءُ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ انْتَهَى
(قُلْتُ) وَمَا قَالَ الْجُزُولِيُّ إنَّهُ الْأَبْيَنُ هُوَ الَّذِي ضَعَّفَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ فَرْحُونٍ وَغَيْرُهُمَا وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ فَرْحُونٍ وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ
عَنْ الْقَرَافِيِّ أَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ فِي الْعُضْوِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ. وَبِيصُ الطِّيبِ بَرِيقُهُ وَلَمَعَانُهُ وَهُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ عَلَى وَزْنِ رَغِيفٍ وَالنَّضُوحُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى وَزْنِ صَبُورٍ مَا يَنْضَحُ بِهِ مِنْ الطِّيبِ أَيْ يَرُشُّ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّضْحِ.
(التَّاسِعُ) قَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْحَائِلِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَ عَلَى رَأْسِهِ الدُّهْنَ لِعِلَّةٍ بِهِ فَإِنَّهُ يَمْسَحَ عَلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَى الدُّهْنِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ بِأَنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَى الْحِنَّاءِ حَتَّى يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ لِئَلَّا يَنْضَافَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكْثُرَ وَيَتَجَسَّدَ عَلَى الشَّعْرِ حَتَّى يَصِيرَ حَائِلًا يَمْنَعُ مِنْ الْمَسْحِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْعَاشِرُ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: وَإِذَا مَسَحَتْ عَلَى الْحِنَّاءِ لِعِلَّةٍ ثُمَّ أَزَالَتْهُ وَهِيَ عَلَى وُضُوءٍ مَسَحَتْهُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْجَبِيرَةِ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَالْقَرَافِيِّ وَابْنِ عَرَفَةَ وَابْنِ فَرْحُونٍ وَابْنِ نَاجِي أَنَّ الْمُلَبَّدَ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ الْمُلَبَّدِ وَلَا يَكُونُ حَائِلًا وَقَالَ الْجُزُولِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ: وَانْظُرْ الْمُحْرِمَ إذَا لَبَّدَ رَأْسَهُ قَالُوا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ وَلَا رَاعَوْا الْحَائِلَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ قَالَهُ شَيْخُنَا الشَّارْمَسَاحِيُّ وَقَالَهُ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ الْجُزُولِيُّ فِي بَابِ الْحَجِّ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى التَّلْبِيدِ فِي الْوُضُوءِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْإِضَافَةُ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُضِيفُ الْمَاءَ إضَافَةً تُؤَثِّرُ، وَأَمَّا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْحَائِلِ انْتَهَى.
(الثَّانِيَ عَشَرَ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَكَذَلِكَ الْقَطْرَانُ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْعَوَاتِقُ فِي رُءُوسِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْمُلَبَّدِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا: يُمْسَحُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهَذَا كُلُّهُ يَرُدُّ مَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّ ذَلِكَ يُضِيفُ الْمَاءَ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الرَّجُلَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ وَضَفْرُهُ أَوْ عَقَصَهُ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَرْأَةِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَفِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا فَتَلَ رَأْسَهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ كَالْمَرْأَةِ وَحَكَى الْبَلَنْسِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْتِلَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَزَادَ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ وَتَمْسَحُ عَلَى مَا اسْتَرْخَى مِنْ شَعْرِهَا: وَكَذَلِكَ طَوِيلُ الشَّعْرِ مِنْ الرِّجَالِ. ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ طَوِيلُ الشَّعْرِ مِنْ الرِّجَال وَإِنْ كَانَ مَضْفُورًا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَنَقَلَ الْمَغْرِبِيُّ قَوْلًا بِأَنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ وَاسْتَشْكَلَهُ؛ لِأَنَّ الضَّفْرَ فِي حَقِّهِ مُبَاحٌ (فَإِنْ قُلْتُ) قَدْ نَصَّ الْبَلَنْسِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرِّجَالِ أَنْ يُضَفِّرُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا أَعْرِفُهُ لِغَيْرِهِ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الرِّسَالَةِ وَقَالَ الْجُزُولِيُّ: وَلَوْ ضَفَرَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ فَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: يَمْسَحُ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ الرَّابِعُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. نَبَّهَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي هَذَا الْفَرْضِ دُونَ سَائِرِ الْفُرُوضِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْوُضُوءِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا لَبَّدَتْ رَأْسَهَا بِشَيْءٍ مِنْ الطِّيبِ وَرُبَّمَا ضَفَرَتْهُ بِشَعْرِ غَيْرِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ بِمَسْحِ جَمِيعِهِ كَالرَّجُلِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: نَبَّهَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُنَّ يَطْلُبْنَ الْمُسَامَحَةَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَفِي كَلَامِ الشَّارِحِ فِي الصَّغِيرِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ: رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ رَاجِعٌ إلَى الْمَاسِحِ يَعْنِي وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَعْنِي مَسْحَ الْجَمِيعِ وَالصُّدْغَيْنِ وَالْمُسْتَرْخِيَ وَعَدَمَ نَقْضِ الضَّفْرَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.
(الرَّابِعَ عَشَرَ) قَالَ فِي الطِّرَازِ إذَا كَانَ فِي الشَّعْرِ صُوفٌ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَرْكَبُ الشَّعْرَ وَيَمْنَعُ مُبَاشَرَتَهُ أَوْ الْتَصَقَ بِالشَّعْرِ شَمْعٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَمْنَعُ غَسْلَهُ وَمَسْحَهُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ بَعْدَ وُضُوئِهِ قَرَضَهُ بِمِقْرَاضٍ هَلْ يُجْزِئُهُ وُضُوءُهُ؟ يَخْرُجُ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ مَا غُسِلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ هَلْ يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْحَدَثِ عَنْهُ وَيَطْهُرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ لَا يَرْتَفِعُ حَتَّى يَكْمُلَ الْجَمِيعُ؟
فَإِنْ قُلْنَا: يَرْتَفِعُ صَلَّى بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا فِعْلٌ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَرْتَفِعُ أَعَادَ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ نَاقِصَةً وَتَعَذَّرَ تَمَامُهَا.
(قُلْتُ) الْمَشْهُورُ هُوَ الثَّانِي كَمَا سَيَأْتِي أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِغَسْلِ الْجَمِيعِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: يُعِيدُ الطَّهَارَةَ مُشْكِلٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَقَوْلُهُ: تَعَذَّرَ إتْمَامُهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّعْرِ إذَا قُرِضَ يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِنْ نُتِفَ مِنْ أَصْلِهِ فَمَوْضِعُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْخَامِسَ عَشَرَ) قَالَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ: وَأُرَخِّصُ لِلْعَرُوسِ أَيَّامَ سَابِعِهَا أَنْ تَمْسَحَ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى مَا فِي رَأْسِهَا مِنْ الطِّيبِ وَتَتَيَمَّمَ إنْ كَانَ فِي جَسَدِهَا؛ لِأَنَّ إزَالَتَهُ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ انْتَهَى. وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(السَّادِسَ عَشَرَ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ حُكِيَ فِي تَعَالِيقِ الْمَذْهَبِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى سَحْنُونٍ وَقَالَ: تَوَضَّأْتُ لِلصُّبْحِ وَصَلَّيْتُ بِهِ الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ ثُمَّ أَحْدَثْتُ وَتَوَضَّأْتُ فَصَلَّيْتُ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَذَكَّرْتُ أَنَّنِي نَسِيتُ مَسْحَ رَأْسِي مِنْ أَحَدِ الْوُضُوءَيْنِ لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ فَقَالَ: لَهُ امْسَحْ رَأْسَكَ وَأَعِدْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، فَذَهَبَ وَأَعَادَهَا وَنَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: امْسَحْ رَأْسَكَ وَأَعِدْ الْعِشَاءَ وَحْدَهَا فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ، وَوَجْهُ الْفِقْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَوَّلًا بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِتَطَرُّقِ الشَّكِّ لِلْجَمِيعِ وَالذِّمَّةُ مَعْمُورَةٌ بِالصَّلَوَاتِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ الْبَرَاءَةُ، فَلَمَّا أَعَادَهَا بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ صَارَتْ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ قَدْ صُلِّيَتْ بِوُضُوءَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَأَحَدُهُمَا صَحِيحٌ جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَسِيَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَصُلِّيَتْ وَأُعِيدَتْ بِوُضُوئِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِيهِ فَتَجِبُ إعَادَتُهَا بَعْدَ الْمَسْحِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعُ كُلُّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِوُضُوءٍ، وَهَذَا فَرْعٌ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: ابْنُ رُشْدٍ: وَمَنْ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاجِبٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَذَكَرَ مَسْحَ رَأْسِهِ مِنْ وُضُوءِ أَحَدِهَا مَسَحَهُ وَأَعَادَ الْخَمْسَ فَلَوْ أَعَادَهَا نَاسِيًا فَجَوَابُ ابْنِ رُشْدٍ بِمَسْحِهِ وَإِعَادَةِ الْعِشَاءِ فَقَطْ، وَتَوْهِيمُهُ مَنْ قَالَ: يُعِيدُ الْخَمْسَ وَاضِحُ الصَّوَابِ، وَعَزْوُ الْقَرَافِيِّ جَوَابَ ابْنِ رُشْدٍ عَنْ بَعْضِ التَّعَالِيقِ لِسَحْنُونٍ لَمْ أَجِدْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ الْجُزُولِيُّ: اُخْتُلِفَ فِي الرَّأْسِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: (الْأَوَّلُ) هَلْ يَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ أَوْ بِيَدِهِ الْيُمْنَى؟
(الثَّانِي) هَلْ يُجَدِّدُ الْمَاءَ أَوْ يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ؟ .
(الثَّالِثُ) نَقْلُ الْمَاءِ إلَيْهِ.
(الرَّابِعُ) إذَا غَسَلَهُ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ.
(الْخَامِسُ) صِفَةُ مَسْحِهِ.
(السَّادِسُ) هَلْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مَرَّةً أَوْ ثَلَاثًا؟
(السَّابِعُ) إذَا حَلَقَهُ.
(الثَّامِنُ) هَلْ الْبَدْءُ مِنْ مُقَدَّمِهِ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟
(التَّاسِعُ) هَلْ الرَّدُّ سُنَّةٌ أَوْ فَرْضٌ؟ .
(الْعَاشِرُ) إذَا جَفَّ الْمَاءُ فِي أَثْنَاءِ مَسْحِهِ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) هَلْ يَمْسَحُ مَا طَالَ مِنْ الشَّعْرِ أَمْ لَا؟
(الثَّانِيَ عَشَرَ) إذَا مَسَحَ بَعْضَهُ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ) هَلْ يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ؟ .
(الرَّابِعَ عَشَرَ) هَلْ يَمْسَحُ عَلَى الْقَفَا؟ وَزَادَ خَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ هَلْ يَمْسَحُ بَعْضَ الْوَجْهِ مَعَ الرَّأْسِ؟ قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، أَمْ لَا يَمْسَحُ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سِتَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشْرَ وَهِيَ الْعَاشِرُ وَمَا بَعْدَهُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التِّسْعَةِ الْأُوَلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَيُدْخِلَانِ يَدَيْهِمَا تَحْتَهُ فِي رَدِّ الْمَسْحِ)
ش: يَعْنِي أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ إذَا كَانَ شَعْرُهُمَا مَضْفُورًا أَوْ مَعْقُوصًا أَوْ مَسْدُولًا مِنْ غَيْرِ ضَفْرٍ وَلَا عَقْصٍ وَمَسَحَا عَلَيْهِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إلَى آخِرِ الْمُنْسَدِلِ مِنْهُ وَالْمَضْفُورِ وَالْمَعْقُوصِ فَإِنَّهُمَا إذَا رَدَّا أَيْدِيَهُمَا إلَى الْمُقَدَّمِ يُدْخِلَانِ أَيْدِيَهُمَا تَحْتَهُ، قَالَ فِي الرِّسَالَةِ وَتُدْخِلُ يَدَيْهَا مِنْ تَحْتِ عِقَاصِ شَعْرِهَا فِي رُجُوعِ يَدَيْهَا فِي الْمَسْحِ.
قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِهَا: لِتَمْسَحْ مَا غَابَ عَنْهَا وَمَا وَالَى ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِهَا وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ، وَهَلْ إدْخَالُ الْيَدَيْنِ تَحْتَ الْعِقَاصِ مَنُوطٌ بِالْوُجُوبِ لِتَمَامِ الْمَسْحِ أَوْ بِالرَّدِّ؟ لَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مُشْكِلٌ فَانْظُرْهُ انْتَهَى. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ: وَيُدْخِلُ الْمَعْقُوصُ شَعْرُهُ يَدَيْهِ تَحْتَهُ
عِنْدَ رَدِّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ وَنَصُّهُ: وَسُنَّةُ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ كَسُنَّةِ وُضُوءِ الرَّجُلِ سَوَاءً غَيْرَ أَنَّهَا إذَا مَسَحَتْ رَأْسَهَا بَدَأَتْ مِنْ أَصْلِ شَعْرِ قُصَّتِهَا فَتَذْهَبُ بِيَدِهَا عَلَى جَمِيعِ شَعْرِ قُصَّتِهَا وَأَدْلَتْهَا وَجَمِيعَ شَعْرِ رَأْسِهَا، مَضْفُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَضْفُورٍ، مَجْمُوعًا كَانَ أَوْ مَسْدُولًا عَلَى ظَهْرِهَا حَتَّى تَبْلُغَ إلَى آخِرِهِ، ثُمَّ تُدْخِلُ يَدَيْهَا مِنْ تَحْتِهِ فَتُحَوِّلُهُ حَتَّى تَرُدَّ يَدَيْهَا بِهِ أَوْ بِضَفَائِرِهَا الْمُرْسَلَةِ إلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَجْمَعَهُ فِي قَبْضَتِهَا جَمَعَتْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهَا إلَّا أَنْ تَنْتَقِلَ بِيَدَيْهَا فَعَلَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْمَاءَ ثَانِيَةً، وَإِنْ شَاءَتْ اكْتَفَتْ بِالْأُولَى إنْ كَانَ بَقِيَ فِي يَدَيْهَا مِنْ بَلَلِهَا شَيْءٌ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ ذَاتُ الْقُرُونِ إذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَعُمَّ بِيَدَيْهَا رَأْسَهَا وَقُرُونَهَا، فَإِنْ فَرَّطَتْ فِي ذَلِكَ فَلَا صَلَاةَ عَلَيْهَا وَعَلَيْهَا الْإِعَادَةُ مَتَى عَلِمَتْ قُبْحَ مَا صَنَعَتْ انْتَهَى. وَنَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ بِاخْتِصَارِ وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ بِتَمَامِهِ.
ص (وَغَسْلُهُ مُجْزِئٌ)
ش: يَعْنِي أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ فِي الْوُضُوءِ بَدَلًا عَنْ مَسْحِهِ فَإِنَّ غَسْلَهُ يُجْزِئُهُ عَنْ مَسْحِهِ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ مَسْحٌ وَزِيَادَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ شَعْبَانَ وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَقِيلَ: لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْغَسْلِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْمَسْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُجْزِئُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ إعْمَالًا لِدَلِيلِ الْجَوَازِ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سَابِقٍ وَلَمْ يَعْزُهُمَا، وَعَنْهُ نَقَلَهُمَا ابْنُ شَاسٍ وَشُرَّاحُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمْ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَإِجْزَاءُ غَسْلِهِ لِابْنِ شَعْبَانَ، ابْنُ سَابِقٍ: أَبَاهُ غَيْرُهُ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْأَظْهَرُ الْكَرَاهَةُ وَنَقَلَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ أَصَحُّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ قَدْ رَجَحَ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا أَقْوَى؛ لِأَنَّ قَائِلَهُ مَعْرُوفٌ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ النَّوَادِرِ وَصَرَّحَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ بِتَشْهِيرِهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ غَسْلَهُ مُجْزِئٌ إلَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّاسِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمَوَّاقُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَلَا الْمُصَنِّفُ فِي تَوْضِيحِهِ.
(الثَّانِي) قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَغَسْلُهُ مُجْزِئٌ لَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ ابْتِدَاءً وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شَعْبَانَ بِالْإِجْزَاءِ الْجَوَازُ ابْتِدَاءً وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: لَيْسَ فِي الْمَذْهَبِ نَصٌّ بِجَوَازِهِ ابْتِدَاءً انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَسْلُهُ ثَالِثُهَا يُكْرَهُ: ظَاهِرُ هَذَا النَّقْلِ أَنَّ فِيهِ قَوْلًا بِالْجَوَازِ ابْتِدَاءً وَفِي وُجُودِهِ عِنْدِي نَظَرٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَجَعْلُهُمْ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فَإِذَا كَانَ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ ابْتِدَاءً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَيُجْزِي فِي الْغُسْلِ اتِّفَاقًا قَالَ فِي التَّوْضِيحِ يَعْنِي أَنَّ الْمُغْتَسِلَ لِلْجَنَابَةِ إذَا لَمْ يَمْسَحْ رَأْسَهُ فَغُسْلُهُ لَهُ فِي الْجَنَابَةِ يُجْزِيهِ عَنْ الْوُضُوءِ اتِّفَاقًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ وَأَيُّ وُضُوءٍ أَعَمُّ مِنْ الْغُسْلِ. وَقَرَّرَهُ ابْنُ رَاشِدٍ وَابْنُ هَارُونَ وَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّفَقَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ هَلْ تَضْمَحِلُّ شُرُوطُ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى أَوْ إنَّمَا يَضْمَحِلُّ مِنْهَا مَا تُوَافِقُ فِيهِ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى؟ انْتَهَى كَلَامُ التَّوْضِيحِ وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَيُجْزِئُ فِي الْغُسْلِ اتِّفَاقًا: إنْ أَرَادَ بِاعْتِبَارِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ فَحَقٌّ؛ لِأَنَّهُ الْمَنْوِيُّ، وَإِنْ أَرَادَ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ فَضْلِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ فَلَا لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ وَابْنِ الْقَاسِمِ مَنْعَ تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ انْتَهَى. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ص (وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ بِكَعْبَيْهِ النَّاتِئَيْنِ بِمِفْصَلَيْ السَّاقَيْنِ)
ش: هَذِهِ الْفَرِيضَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ الْفَرَائِضِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا وَهِيَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وَبِوُجُوبِ غَسْلِهِمَا قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ
بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْل، وَبِهِ قَالَ دَاوُد وَقَالَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ الْوَاجِبُ الْمَسْحُ وَلَا يَجُوزُ الْغَسْلُ، وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُكْتَرَثُ بِمَنْ يَخْرُجُ عَنْ الْجَمَاعَةِ فَالْغَسْلُ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَشَارَ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إلَى وُجُوبِهِمَا مَعًا وَهُوَ بَعِيدٌ.
(قُلْتُ) بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ وَالتَّخْيِيرِ: وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ. قَالَ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ فَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ يَكُونُ وُجُوبُ الْغَسْلِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِمَسْحِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَرِّ فَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ إلَّا الْغَسْلُ فَيَتَعَيَّنُ وَيُجَابُ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى الرُّءُوسِ وَإِنَّمَا هِيَ مَخْفُوضَةٌ عَلَى الْجَوَازِ. حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُحَقِّقُونَ وَرَأَوْا أَنَّ الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ لَا يَحْسُنُ فِي الْمَعْطُوفِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ حَاجِزٌ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ وَمُبْطِلٌ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ حَمْلٌ عَلَى شَاذٍّ يَنْبَغِي صَوْنُ الْقُرْآنِ عَنْهُ وَقَالُوا: الْخَفْضُ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَطْفِ عَلَى لَفْظِ الرُّءُوسِ، فَقِيلَ: الْأَرْجُلُ مَغْسُولَةٌ لَا مَمْسُوحَةٌ فَأَجَابُوا بِوَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَسْحَ هُنَا هُوَ الْغَسْلُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَكَى لَنَا مَنْ لَا يُتَّهَمُ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ قَالَ: الْمَسْحُ خَفِيفُ الْغَسْلِ يُقَالُ: تَمَسَّحْتُ لِلصَّلَاةِ وَيُرَادُ بِهِ الْغَسْلُ وَخُصَّتْ الرِّجْلَانِ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْمَغْسُولَاتِ بِاسْمِ الْمَسْحِ لِيَقْتَصِدَ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتَا مَظِنَّةَ الْإِسْرَافِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: بِكَعْبَيْهِ الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ مَعَ كَعْبَيْهِ وَالْمَشْهُورُ دُخُولُهُمَا فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ، وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ لَا يَجِبُ إدْخَالُهُمَا وَقِيلَ: يَدْخُلَانِ احْتِيَاطًا قَالَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْخِلَافُ فِي دُخُولِهِمَا فِي الْغَسْلِ كَالْخِلَافِ فِي دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَفَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ بِدُخُولِ الْكَعْبَيْنِ بِخِلَافِ الْمِرْفَقَيْنِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الرِّجْلِ لَا يَتَنَاوَلُ السَّاقَ فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَدْخُلَا فَلَا بُدَّ لِذِكْرِهِمَا مِنْ فَائِدَةٍ ثُمَّ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ اللَّخْمِيُّ الْكَعْبَانِ كَالْمِرْفَقَيْنِ. عِيَاضٌ قَدْ يُفَرِّقُ بِأَنَّ الْقَطْعَ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ بِخِلَافِ الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الْكَعْبَيْنِ بِقَوْلِهِ: النَّاتِئَيْنِ بِمِفْصَلَيْ السَّاقَيْنِ، وَالنَّاتِئُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ نَتَأَ يَنْتَأُ نُتُوءًا وَهُوَ بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ إبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً لِوُقُوعِهَا بَعْدَ الْكَسْرَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ الْكَعْبَيْنِ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقِيلَ: هُمَا الْكَائِنَانِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعِيَاضٌ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ مَالِكًا أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: زَادَ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: وَقِيلَ: هُمَا مُجْتَمَعُ الْعُرُوقِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَذَكَرَ ابْنُ نَاجِي هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عِيَاضٍ عَنْ ظَاهِرِ كِتَابِ الْوَقَارِ وَنَصُّهُ: وَقِيلَ: هُمَا الْمِفْصَلَانِ اللَّذَانِ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ، وَعَزَاهُ عِيَاضٌ لِظَاهِرِ كِتَابِ الْوَقَارِ
(قُلْتُ) وَقِيلَ: إنَّهُمَا مُؤَخَّرَا الرِّجْلِ حَكَاهُ فِي الطِّرَازِ قَالَ: وَيُنْسَبُ لِمَالِكٍ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الْكَعْبَ مَا نَتَأَ وَظَهَرَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّكَعُّبِ وَهُوَ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ كَاعِبٌ إذَا ارْتَفَعَ ثَدْيُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ارْتِفَاعَ اللَّذَيْنِ فِي طَرَفِ السَّاقِ أَظْهَرُ وَلِأَنَّ الْأَرْجُلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] اسْمُ جِنْسٍ أُضِيفَ وَاسْمُ الْجِنْسِ إذَا أُضِيفَ عَمَّ وَالْعَامُّ يَقَعُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَيَكُونُ كُلُّ رِجْلٍ مَعْنَاهُ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ هَذَا الِاسْتِدْلَال فِي مَجْلِسِ الرَّبَعِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فَمَا بَقِيَ فِي الْمَجْلِسِ إلَّا مَنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَرَافِيَّ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ لَقَالَ إلَى الْكِعَابِ كَمَا قَالَ إلَى الْمَرَافِقِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ رِجْلٍ حِينَئِذٍ كَعْبَيْنِ كَمَا أَنَّ لِكُلِّ يَدٍ مِرْفَقًا فَيُقَابَلُ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْهُ إلَى التَّثْنِيَةِ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْكَعْبَانِ اللَّذَانِ فِي طَرَفِ السَّاقِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى اغْسِلُوا كُلَّ رِجْلٍ إلَى سَاقِهَا.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ شَاسٍ وَابْنِ بَشِيرٍ وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الَّذِينَ يَحْكُونَ الْخِلَافَ فِي الْكَعْبَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فِي مُنْتَهَى الْغَسْلِ وَأَنَّ فِي الْمَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: يَنْتَهِي الْغَسْلُ إلَى الْكَعْبِ الَّذِي عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فِي الْمَذْهَبِ وَلَا خَارِجِهِ وَنَقَلَ ابْنُ الْفَرَسِ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ إلَيْهِمَا انْتَهَى حَدُّ الْوُضُوءِ هُمَا النَّاتِئَانِ فِي السَّاقَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَقَلَ الزَّنَاتِيُّ أَيْضًا اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمَا اللَّذَانِ فِي جَنْبَيْ السَّاقَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ رَاجِعٌ إلَى اللُّغَةِ وَكَذَا قَالَ الزَّنَاتِيُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْكَعْبِ النَّاتِئِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ وَمَا فَوْقَهُ إلَى الْكَعْبَيْنِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفَرَسِ وَالزَّنَاتِيُّ مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَكَلَامُ مَنْ تَقَدَّمَ يُؤْذِنُ بِالْخِلَافِ فِيهِ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَقَالَ: تَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ حَسَنٌ وَقَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ: وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ فَلَا خِلَافَ فِي دُخُولِهِمَا فِي الْغَسْلِ انْتَهَى.
(الثَّانِي) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ أَوْرَدَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ عَدَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْفَرَائِضِ مَعَ أَنَّ غَسْلَهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ لَيْسَ بِفَرْضٍ لِجَوَازِ تَرْكِهِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: الْوَاجِبُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
(قُلْتُ) وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ، وَالْوَاجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَنُدِبَ تَخْلِيلُ أَصَابِعِهِمَا)
ش: يَعْنِي أَنَّ تَخْلِيلَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ مُسْتَحَبٌّ وَهَذَا الْقَوْلُ عَزَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ لِابْنِ شَعْبَانَ وَقَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ: أَنَّهُ الْمَشْهُورُ قَالَ: وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الرِّسَالَةِ وَالتَّخْلِيلُ أَطْيَبُ لِلنَّفْسِ وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: أَنَّهُ الْمَشْهُورُ وَعَزَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ لِابْنِ حَبِيبٍ قَالَ وَلِلْبَاجِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ كَابْنِ الْحَاجِبِ قَالَ: وَفِي أَوَّلِ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُهُ وَفِي أَثْنَائِهِ إنْكَارُهُ.
(قُلْتُ) يُشِيرُ بِالْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ فِي رَسْمِ اغْتَسَلَ وَنَصُّهُ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُخَلِّلْ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ قَالَ: يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ تَخْلِيلَهُمَا حَسَنٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَفِي رَسْمِ نَذْرِ سَنَةٍ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا يُخَلِّلُ وَنَحْوَهُ.
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ قَالَ: وَلَا خَيْرَ فِي الْجَفَاءِ وَالْغُلُوِّ انْتَهَى. وَنَصُّ مَا فِي رَسْمِ نَذْرِ سَنَةٍ قَالَ فِي اللِّحْيَةِ: يُحَرِّكُ ظَاهِرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِيهَا وَهُوَ مِثْلُ أَصَابِعِ الرِّجْلِ وَالْيَدُ لَا تُخَلَّلُ، وَهَذَا هُوَ الثَّانِي وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْإِنْكَارِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: وَفِي أَثْنَائِهِ إنْكَارُهُ. عَزَا فِي التَّوْضِيحِ الْقَوْلَ بِالْإِنْكَارِ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ فَقَطْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقِيلَ بِوُجُوبِ التَّخْلِيلِ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: رَجَّحَ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ بَزِيزَةَ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْوُجُوبَ فِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَلِّلُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ» وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يُنْكِرُ التَّخْلِيلَ قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ بِالْحَدِيثِ فَرَجَعَ إلَيْهِ انْتَهَى. يَعْنِي الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَإِنَّمَا أَتَى فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ قَوْلٌ بِالْإِنْكَارِ وَلَمْ يَأْتِ فِي الْيَدَيْنِ لِالْتِصَاقِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ
فَأَشْبَهَ مَا بَيْنَهُمَا الْبَاطِنَ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ الْقَوْلِ بِالْإِنْكَارِ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَيْضًا، لَكِنَّ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ يَصِحُّ أَنْ يُفَرَّقَ بِهِ لِلْمَشْهُورِ حَيْثُ كَانَ فِي الْيَدَيْنِ الْوُجُوبُ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الِاسْتِحْبَاب وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ نَاجِي فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ يُوَافِقُ الْمَشْهُورَ فِي وُجُوبِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَاسْتِحْبَابِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ وَذَكَرَ فَرْقَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَدَيْنِ فَرْضُهُمَا الْغَسْلِ بِلَا خِلَافٍ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرِّجْلَيْنِ هَلْ فَرْضُهُمَا الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّجْلَيْنِ يَسْقُطُ غَسْلُهُمَا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَيَسْقُطَانِ فِي التَّيَمُّمِ بِخِلَافِ الْيَدَيْنِ وَذَكَرَ عَنْ شَيْخِهِ الشَّبِيبِيّ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي إلَى أَنْ مَاتَ بِتَخْلِيلِ مَا بَيْنَ إبْهَامِ الرِّجْلِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ فَقَطْ لِانْفِرَاجِ مَا بَيْنَهُمَا وَعَزَا لِلرِّسَالَةِ الْإِبَاحَةَ قَالَ: فَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. يُرِيدُ بِفَتْوَى شَيْخِهِ وَبِمَا عَزَاهُ لِلرِّسَالَةِ وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ، وَقَالَ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ الْفَخَّارِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّارِحُ وَالشَّيْخُ زَرُّوق فَكَانَ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ خِلَافًا، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ رَجَّحَهُ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ بَزِيزَةَ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ الصَّحِيحُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَبْدَأُ بِتَخْلِيلِ خِنْصَرِ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهُ يُمْنَى أَصَابِعِهَا وَيَخْتِمُ بِإِبْهَامِهَا وَيَبْدَأُ بِإِبْهَامِ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ يُمْنَى أَصَابِعِهَا وَيَخْتِمُ بِخِنْصَرِهَا، وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَتَقَدَّمَ عَنْ الْجُزُولِيِّ أَنَّهُ يُخَلِّلُ أَصَابِعَ الرِّجْلَيْنِ مِنْ أَسْفَلَ بِخِلَافِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ يُخَلِّلُهُمَا مِنْ ظَاهِرِهِمَا وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: وَإِنْ شَاءَ خَلَّلَ أَصَابِعَهُ. يَعْنِي بِأَنْ يُدْخِلَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ فِي خِلَالِ أَصَابِعِهِمَا مَعَ الْمَاءِ. قَالُوا: وَالْمُسْتَحَبُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُخَلِّلَهُمَا مِنْ أَسْفَلِهِمَا وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالنَّحْرِ وَعَنْ تَخْلِيلِ الْيَدَيْنِ بِالذَّبْحِ وَيَبْدَأُ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى وَيَخْتِمُ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التَّوْضِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُخَلِّلُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ» وَذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ حَدِيثًا آخَرَ «أَنَّهُ كَانَ يُخَلِّلُ بِالْمُسَبِّحَةِ» وَهُوَ أَمْكَنُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْغَسْلِ فَأَمَّا أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ فَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ تَخْلِيلَهُمَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ فِي الْوُضُوءِ فَأَحْرَى أَنْ يَجِبَ فِي الْغُسْلِ، وَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ حُكْمَهُمَا فِي الْغَسْلِ كَحُكْمِهِمَا فِي الْوُضُوءِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ فِي بَابِ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ: وَفِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِمَا مَا فِي الْوُضُوءِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورَ النَّدْبُ وَقَالَ الْمَوَّاقُ بْنُ حَبِيبٍ هُوَ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَأَمَّا فِي الْغُسْلِ فَوَاجِبٌ انْتَهَى. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ الْفَخَّارِ أَنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْغُسْلِ وَاسْتِحْبَابُهُ فِي الْوُضُوءِ انْتَهَى. مُخْتَصَرًا وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ التَّخْلِيلِ رَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ فَتَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ خُصُوصًا فِي الْغُسْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) إذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَلَا فِي الْغُسْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إيصَالِ الْمَاءِ لِمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ قَالَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ص (وَلَا يُعِيدُ مَنْ قَلَمَ ظُفْرَهُ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ)
ش: الظُّفْرُ بِضَمِّ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَالَةُ وَضَمُّ الْفَاءِ عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَانِيَةٌ بِكَسْرِ الظَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ بِضَمِّ الظَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَفِيهِ لُغَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ أُظْفُورٌ عَلَى وَزْنِ عُصْفُورٍ وَقَوْلُهُ: قَلَمَ مُقْتَضَى كَلَامِ الصِّحَاحِ أَنَّهُ مَعَ الظُّفْرِ الْوَاحِدِ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ. قَالَ: فِيهَا قَلَّمْتُ ظُفْرِي وَقَلَّمْتُ أَظْفَارِي يُشَدَّدُ لِلْكَثْرَةِ انْتَهَى. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي بَابِ مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْتَضَرِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: يُقَالُ: قَلَّمْتُ ظُفْرِي يُرِيدُ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ فِي
الْمُحْكَمِ: قَلَمَ ظُفْرَهُ يَقْلِمُهُ قَلْمًا وَقَلَّمَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ أَنَّهُ يُقَالُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ مَعَ الظُّفْرِ الْوَاحِدِ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُ غَسْلَ مَوْضِعِ الْأَظْفَارِ وَلَا يُعِيدُ مَسْحَ رَأْسِهِ.
وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَنَصِّهَا عَلَى اخْتِصَارِ صَاحِبِ الطِّرَازِ. قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ: إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَهُ ثَانِيَةً، وَكَذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمُ بَعْدَ كَلَامِ مَالِكٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مِنْ لَحْنِ الْفِقْهِ وَاخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِي مُرَادِهِ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُخْتَصِرِينَ، وَأَسْقَطَ الْبَرَاذِعِيُّ فِي اخْتِصَارِهِ تَقْلِيمَ الْأَظَافِرِ وَاخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِي مُرَادِهِ فَإِنَّ اللَّحَنَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهُ الصَّوَابُ وَأَصْلُهُ الْفِطْنَةُ، وَبِسُكُونِهَا مَعْنَاهُ الْخَطَأُ وَنَقَلَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ بِالسُّكُونِ عَلَى الصَّوَابِ وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الطِّرَازِ أَنَّ اللَّحْنَ مِنْ الْأَضْدَادِ، يُطْلَقُ عَلَى الصَّوَابِ وَعَلَى الْخَطَأِ فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْأَضْدَادِ إذَا كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَتَأَمَّلْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: قَوْلُ ابْنِ أَبِي سَلَمَةَ هَذَا مِنْ لَحْنِ الْفِقْهِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ فَقِيلَ: يَعْنِي مِنْ صَوَابِ الْفِقْهِ، وَقِيلَ: يَعْنِي مِنْ خَطَأِ الْفِقْهِ.
قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَإِذَا قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ صَوَابِ الْفِقْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إلَى جَوَابِ مَالِكٍ أَوْ إلَى الْفِعْلِ أَيْ أَنَّهُ صَوَابٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ يَعْنِي إعَادَةَ الْمَسْحِ وَغَسْلَ الْأَظْفَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ خَطَأِ الْفِقْهِ. غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ بِعِلْمِ الرَّجُلِ أَنَّهُ عَابَ فِعْلَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ لِابْنِ بَشِيرٍ وَكَذَا قَالَ فِي النُّكَتِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ الصَّوَابُ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِنَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْخَطَأُ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي مَسْلَمَةَ مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ كَلَامِ مَالِكٍ: هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إلَّا ابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ وَاَلَّذِي تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي إشْرَاقِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَالِكٍ وَقَالَ فِي التَّنْبِيهَاتِ: رَوَيْنَاهُ بِسُكُونِ الْحَاءِ وَكُتِبَتْ مِنْ أَصْلِ الشَّيْخِ قَالَ سَحْنُونٌ: مَعْنَاهُ مِنْ خَطَأِ الْفِقْهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لَا غَيْرُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ مَنْ قَالَ: يُرِيدُ بِالْخَطَأِ قَوْلَ مَنْ خَالَفْنَا، وَلَا إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: صَوَابُ الْفِقْهِ يَعْنِي قَوْلَنَا؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ لَا يُوَافِقُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَيَرَى عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ الْوُضُوءَ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِهِ أَيْضًا وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ عَلَى خِلَافِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّوَابَ فَتُفْتَحُ الْحَاءُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ: بَلْ الظَّاهِرُ مَا قَالَهُ سَحْنُونٌ وَصَوَّبَهُ عِيَاضٌ أَنَّ مُرَادَهُ الْخَطَأُ فَتُسَكَّنُ الْحَاءُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَذْهَبُهُ الْإِعَادَةَ فَلَا يُصَوَّبُ غَيْرُ مَذْهَبِهِ.
(قُلْتُ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَصِحُّ تَصْوِيبُ مَذْهَبِهِ عَلَى كِلَا الضَّبْطَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِالْفَتْحِ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ بِالسُّكُونِ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ مَالِكٍ غَيْرَ أَنَّ السُّكُونَ يَتَرَجَّحُ بِقَوْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ رَوَيْنَاهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي التَّنْبِيهَاتِ: " يُعِيدُ الْوُضُوءَ " أَنَّ وُضُوءَهُ انْتَقَضَ. قَالَ ابْنُ نَاجِي وَمِثْلُهُ نَقَلَ ابْنُ يُونُسَ عَنْهُ بِلَفْظِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَنَزْعِ الْخُفِّ وَنَقَلَهُ اللَّخْمِيُّ عَنْهُ وَاخْتَارَهُ أَنَّهُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ لَا أَنَّهُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِنَفْسِ الْإِزَالَةِ.
(قُلْتُ) فَيَتَحَصَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَكَذَا يَحْكِي ابْنُ عَرَفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فَقَالَ: وَلَوْ حَلَقَهُ فَفِي إعَادَةِ مَسْحِهِ ثَالِثُهَا يَبْتَدِئ الْوُضُوءَ، وَعَنْ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَهُوَ إعَادَةُ مَسْحِهِ فَقَطْ لِنَقْلِ اللَّخْمِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَاخْتِيَارِ اللَّخْمِيِّ، وَالثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ إعَادَةِ مَسْحِهِ لِلْمَذْهَبِ وَالثَّالِثُ وَهُوَ إعَادَةُ الْوُضُوءِ لِنَقْلِ عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنَقَلَ ابْنُ يُونُسَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَنَزْعِ الْخُفِّ وَظَاهِرُ كَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ وَابْنِ نَاجِي أَنَّ الْوُضُوءَ يَبْطُلُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَلَوْ أَعَادَ غَسْلَ مَوْضِعِ الْأَظْفَارِ وَمَسْحَ الرَّأْسِ بِالْقُرْبِ وَهُوَ بَعِيدٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوُضُوءَ يَبْطُلُ بِنَزْعِ الْخُفِّ وَأَنَّ