الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الْإِحْيَاءِ لَمَّا ذَكَرَ مَذْهَبَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الْمَاءِ قُلَّتَيْنِ مَا نَصُّهُ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: رحمه الله وَكُنْتُ أَوَدُّ أَنَّ مَذْهَبَهُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ وَإِنْ قَلَّ فَلَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ إذْ الْحَاجَةُ مَاسَةٌ إلَيْهِ وَمَثَارُ الْوَسْوَاسِ اشْتِرَاطُ الْقُلَّتَيْنِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُلَّتَيْنِ بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَبِإِصْغَائِهِ صلى الله عليه وسلم الْإِنَاءَ لِلْهِرَّةِ وَبِوُضُوءِ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ هُوَ يَعْنِي حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ تَمَسُّكٌ بِالْمَفْهُومِ فِيمَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ وَتَرْكُ الْمَفْهُومِ بِأَقَلِّ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُمْكِنٌ انْتَهَى.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَيْضًا قَوْلًا بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ بِمِقْدَارٍ بَلْ بِالْعَادَةِ وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ بَشِيرٍ أَنَّ الْيَسِيرَ هُوَ الَّذِي إذَا حَرَّكَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ تَحَرَّكَ الْآخَرُ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمُخَالِطُ نَجِسًا فَإِنْ غَيَّرَ لَوْنَ الْمَاءِ أَوْ طَعْمَهُ كَانَ نَجِسًا بِإِجْمَاعٍ وَإِنْ غَيَّرَ رِيحَهُ فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَالْمَاءُ كَثِيرٌ بِحَيْثُ إذَا حَرَّكَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّك فِي الْحَالِ الطَّرَفُ الثَّانِي فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الطَّهَارَةِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَهَذَا غَرِيبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[تَنْبِيهَاتٌ]
[الْمَاءُ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ]
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) لَوْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا وَخَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ ثُمَّ فُرِّقَ أَوْ اُسْتُعْمِلَ حَتَّى صَارَ قَلِيلًا فَذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونٍ الِاتِّفَاقَ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ فَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَاءِ الْجَارِي.
(الثَّانِي) لَوْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَخَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ وَقُلْنَا إنَّهُ مَكْرُوهٌ ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ مُطْلَقٌ حَتَّى صَارَ كَثِيرًا فَلَا إشْكَالَ فِي طَهُورِيَّتِهِ، وَنُصُوصُهُمْ كَالصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا لَوْ جَمَعَ إلَيْهِ مِيَاهً قَلِيلَةً كُلٌّ مِنْهَا قَدْ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ حَتَّى صَارَ الْمَجْمُوعُ كَثِيرًا فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالظَّاهِرُ انْتِفَاءُ الْكَرَاهَةِ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَصِيرُ طَهُورًا وَهُوَ مِمَّا يَقْوَى فِيهِ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ إذَا جُمِعَ حَتَّى صَارَ كَثِيرًا.
(الثَّالِثُ) قَالَ الْبُرْزُلِيُّ فِي مَسَائِلِ الطَّهَارَةِ عَنْ بَعْضِ الْمِصْرِيِّينَ فِي إنَاءِ وُضُوءٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَصُبَّ فِيهِ الْمَاءُ حَتَّى فَاضَ وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ كَبِيرًا وَالنَّجَاسَةُ يَسِيرَةٌ وَصُبَّ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ كَثِيرٌ حَتَّى تَحَقَّقَ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً وَصُبَّ الْمَاءُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِنَاءُ صَغِيرًا وَالنَّجَاسَةُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ النَّجَسُ كَثِيرًا فِي الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ وَصُبَّ الْمَاءُ حَتَّى فَاضَ فَالْغَالِبُ عَدَمُ طَهَارَتِهِ انْتَهَى، يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ وَأَمَّا عَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ.
(الرَّابِعُ) مَنْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ فَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَانْظُرْ عَلَى الْمَشْهُورِ هَلْ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ أَوْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَا فِي وَقْتٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ الرَّجْرَاجِيُّ: الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ أَيْ لَا فِي وَقْتٍ وَلَا بَعْدَهُ وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ النَّصْرَانِيِّ وَمَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَيُعِيدُ الْوُضُوءَ لِمَا يَسْتَقْبِلُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ.
وَالثَّالِثُ مَنْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِهِ فَكَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَكَالْقَوْلِ الثَّانِي وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَذْهَبِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَاسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ كَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُعِيدَ أَبَدًا فَقِيلَ إنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ بِتَرْكِهِ وَيَتَيَمَّمُ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ.
[الْمَاءُ الْجَارِي حُكْمُهُ كَالْكَثِيرِ]
(الْخَامِسُ) أَمَّا الْمَاءُ الْجَارِي فَحُكْمُهُ كَالْكَثِيرِ قَالَهُ الْمَازِرِيُّ وَأَطْلَقَ وَهَكَذَا نَقَلَهَا ابْنُ عَرَفَةَ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي اللُّبَابِ: وَأَمَّا الْمَاءُ الْجَارِي فَحُكْمُهُ كَالْكَثِيرِ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَزَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ إذَا كَانَ الْمَجْمُوعُ كَثِيرًا وَالْجِرْيَةُ لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمُرَادُهُ جَمِيعُ مَا فِي الْجِرْيَةِ وَاحْتُرِزَ بِعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَنْ مِيزَابِ السَّانِيَةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) : فِي عَزْوِهِ لِلْمُدَوَّنَةِ نَظَرٌ لِأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا عَلَى مَنْ عَزَاهُ لَهَا وَلَمْ يَعْزُهُ ابْنُ عَرَفَةَ إلَّا لِلْمَازِرِيِّ
كَمَا تَقَدَّمَ وَلِصَاحِبِ الْكَافِي وَلَهُ عَزَاهُ فِي التَّوْضِيحِ كَمَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ مُرَادُ ابْنِ الْحَاجِبِ بِالْمَجْمُوعِ جَمِيعُ مَا فِي الْجِرْيَةِ كَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ كَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ وَلَكِنَّهُ اعْتَرَضَهُ وَقَالَ: الْحَقُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ مَحِلِّ سُقُوطِ النَّجَاسَةِ إلَى مُنْتَهَى الْجِرْيَةِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ مَحَلِّ السُّقُوطِ غَيْرُ مُخَالِطٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ دَعْوَاهُ أَنَّ عَزْوَ ابْنِ الْحَاجِبِ يَعْنِي مِنْ أَصْلِ الْجَرْيِ وَهْمٌ لِمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِطٍ قَالَ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ كَلَامَهُمَا بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى مَا نَصُّهُ: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْنِيَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ أَصْلِ الْجَرْي لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُهُ مِنْ حَيْثُ إضَافَتُهُ إلَى مَا بَعْدَهُ لِلتَّكْثِيرِ بِهِ وَيَصْدُقُ عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّهُ مُخَالِطٌ إذَا لَيْسَ مِنْ الْكَثِيرِ الْمُخَالِطِ بِمَا لَا يُغَيِّرُهُ أَنْ يُمَازِجَ الْمُخَالِطُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ إذْ ذَاكَ مُحَالٌ كَغَدِيرٍ سَقَطَتْ النَّجَاسَةُ بِطَرَفٍ مِنْهُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) : وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ فَإِنَّ مَا فَوْقَ مَحِلِّ السُّقُوطِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا بَعْدَهُ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ الْوَاقِعُ فَتَأَمَّلْهُ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ: إذَا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فَوْقَ الْوَاقِعِ لَمْ تَضُرَّهُ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ يَسِيرًا قَالَ ابْنُ هَارُونَ: إلَّا أَنْ يَقْرَبَ مِنْهُ جِدًّا انْتَهَى.
(قُلْتُ) : وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَوْ قَرُبَ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّ الْمَاءَ جَارٍ فَلَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلَى مَا فَوْقَ مَحِلِّ السُّقُوطِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي الطِّرَازِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْمَاءِ تُصِيبُهُ نَجَاسَةٌ فَتُغَيِّرُهُ: إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي نَجَاسَةٌ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَعَ الْمَاءِ فَمَا فَوْقَهَا طَاهِرٌ إجْمَاعًا وَأَمَّا الْجِرْيَةُ الَّتِي فِيهَا وَهِيَ مَا بَيْنَ حَافَّتَيْ النَّهْرِ عَرْضًا فَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ تَقِرُّ فِيهِ الْمَيْتَةُ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مَعَهَا بِحَرَكَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمَّا الْجِرْيَةُ الَّتِي تَحْتَهَا فَطَاهِرَةُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا يَلِيهَا لِأَنَّ الْمَاءَ رُبَّمَا يَسْبِقُ جَرْيُهُ جَرْيَهَا سِيَّمَا إذَا قَوِيَتْ الْأَرْيَاحُ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهَا فَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِي بِئْرِ السَّانِيَةِ وَشَبَهُهَا مِمَّا مَاؤُهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَالْمَيْتَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَالنَّهْرُ الْجَارِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَتَوَقَّى مَا قَرُبَ مِنْ النَّجَاسَةِ مِنْ تَحْتِ جَرْيِهَا انْتَهَى. فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَا فَوْقَ النَّجَاسَةِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنَّجَاسَةِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ بَعْدَ مَحِلِّ السُّقُوطِ وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ بِذَلِكَ الْحَالِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهِ فِي مَحِلِّ الْوُقُوعِ فَيَنْظُرُ إلَى مَا بَيْنَ مَحِلِّ الْوُقُوعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فَقَدْ يَكُونُ يَسِيرًا وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا وَالْمَحِلُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا أَوْ طَاهِرًا أَجْرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَا يُعْتَبَرُ هُنَا الْمَجْمُوعُ مِنْ مَحِلِّ النَّجَاسَةِ إلَى آخِرِ الْجِرْيَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَنْحَلَّ الْمُغَيِّرُ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يُنْظَرُ إلَى مَجْمُوعِ مَا بَيْنَ مَحِلِّ الْوُقُوعِ وَمَحِلِّ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الْحَالِّ الْمُغَيِّرِ فَلَوْ كَانَ مَجْمُوعُ الْجِرْيَةِ كَثِيرًا وَمِنْ مَحِلِّ الْوُقُوعِ إلَى مَحِلِّ الِاسْتِعْمَالِ يَسِيرًا جَازَ الِاسْتِعْمَالُ لِكَوْنِ الْمُغَيِّرِ قَدْ ذَهَبَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ انْتَهَى، وَانْظُرْ قَوْلَهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَيُنْظَرُ إلَى مَجْمُوعِ مَا بَيْنَ مَحِلِّ الْوُقُوعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنِ عَرَفَةَ وَلِمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْأَبِيِّ وَكَذَلِكَ يُنْظَرُ لِقَوْلِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مَا بَيْنَ مَحِلِّ الْوُقُوعِ وَمَحِلِّ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الْمُغَيِّرِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ إنَّ الْمُعْتَبَرَ الْجِرْيَةُ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ وَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْأَبِيِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْ مَحِلِّ النَّجَاسَةِ إلَى مُنْتَهَى الْجَرْيِ ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَحْثِ فِي كَلَامِهِ يَعْنِي ابْنَ الْحَاجِبِ وَلَمْ أَرَهَا مَنْصُوصَةً لِلْمُتَقَدِّمِينَ هَكَذَا، نَعَمْ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كَافِيهِ إنَّ الْمَاءَ الْجَارِي إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ جَرَى بِهَا فَمَا بَعْدَهَا مِنْهُ طَاهِرٌ وَأَشَارَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَبُولَن أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» إلَى أَنَّ الْجَارِيَ كَالْكَثِيرِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) : وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، نَعَمْ إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ ظَاهِرَةً فَيُعْتَبَرُ الْمَحِلُّ الَّذِي هِيَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا جَازَ الْوُضُوءُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا كُرِهَ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَقَالَ الْأَبِيُّ فِي
شَرْحِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَبُولَن أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» الَّذِي لَا يَجْرِي قَالَ عِيَاضٌ: التَّقْيِيدُ بِلَا يَجْرِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْجَارِي وَأَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ لِأَنَّ الْجَارِيَ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ وَيَخْلُفُهَا طَاهِرٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَارِيَ كَالْكَثِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا يَغْلِبُهُ الْبَوْلُ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنْ تَسْقُطَ النَّجَاسَةُ وَيَمُرَّ الْمَاءُ بِهَا وَبَعْضُهَا بَاقٍ بِمَحِلِّ السُّقُوطِ، فَالْمَجْمُوعُ عَلَى مَا قَالَ الشَّيْخَانِ فِيمَنْ تَطْهُرُ فِي خَلَلِ مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْظُرُ فِي الْمَجْمُوعِ وَكَذَا لَوْ اجْتَمَعَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِنْهُ مَا يُتَّفَقُ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ بِطَرَفِ السَّطْحِ فَيَنْزِلُ الْمَطَرُ فَيَمُرُّ مَاءُ السَّطْحِ بِتِلْكَ النَّجَاسَةِ وَيَجْتَمِعُ جَمِيعُهَا فِي قَصْرِيَّةٍ أَوْ زِيرٍ تَحْتَ الْمِيزَابِ فَوَقَعَتْ الْفُتْيَا بِأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الْجَارِي كَالْكَثِيرِ، وَالثَّانِي أَنْ لَا تَبْقَى النَّجَاسَةُ بِمَحِلِّ السُّقُوطِ فَالْمَجْمُوعُ بَيْنَ أَجْزَاءِ مَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ وَمُنْتَهَى الْجَرْيِ وَقَوْلُهُ احْتِرَازًا عَنْ مِيزَابِ السَّانِيَةِ أَيْ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ قَلِيلٌ وَإِذَا وَقَفَتْ الدَّابَّةُ انْقَطَعَ.
(السَّادِسُ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ إذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ طَهُورٌ فَأَحْرَى إذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ وَذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا وَخَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ.
وَبَقِيَ عَلَيْهِ مَا إذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ طَهُورٌ بِلَا كَرَاهَةٍ خِلَافًا لِلْقَابِسِيِّ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ وَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ يَقَعُ فِيهِ الْبُصَاقُ وَالْمُخَاطُ وَشَبَهُهُ قَالَ سَنَدٌ: وَغَيْرُهُ يُرِيدُ مَا لَمْ يَكْثُرْ حَتَّى يُغَيِّرَهُ فَيَكُونُ مُضَافًا.
وَفِي سَمَاعِ عِيسَى فِي لُعَابِ الْكَلْبِ وَالدَّابَّةِ وَالْحِمَارِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ لَا بَأْسَ بِسُؤْرِهَا انْتَهَى فَعَلَى هَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ سُؤْرِ الْكَلْبِ الْقَلِيلِ فَيُكْرَهُ وَبَيْنَ مَا أَصَابَهُ لُعَابُهُ فَلَا يُكْرَهُ.
ص (أَوْ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ)
ش: يَعْنِي أَنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ إذَا وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذَّكَرِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ بَعْدُ وَمَا لَا يَتَوَقَّى نَجِسًا مِنْ مَاءٍ لِأَنَّ سُؤْرَ الْكَلْبِ أَخَفُّ مِنْ سُؤْرِ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكَانَ يَرَى الْكَلْبَ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ: لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ السِّبَاعِ.
وَنَقَلَهُ سَنَدٌ بِلَفْظِ وَالْكَلْبُ أَيْسَرُ مُؤْنَةً مِنْ السِّبَاعِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ تَوَضَّأَ بِفَضْلَةِ سُؤْرِهِ وَصَلَّى عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ فِيهَا: قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ قَدْ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ قَالَ عَنْهُ عَلِيٌّ: وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَلِمَ فِي الْوَقْتِ وَقَالَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَابْنُ وَهْبٍ: وَلَا يُعْجِبُنِي ابْتِدَاءُ الْوُضُوءِ بِهِ إنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْكَثِيرِ كَالْحَوْضِ وَنَحْوِهِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: قَوْلُهُ أَجْزَأَهُ يُرِيدُ وَإِنْ عَلِمَ وَتَوَضَّأَ بِهِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ سُؤْرُ كَلْبٍ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَلِابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَطْرَحُهُ وَيَتَيَمَّمُ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَلِابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ يُعِيدُ الْمُتَوَضِّئُ بِهِ فِي الْوَقْتِ.
ص (وَرَاكِدٌ يُغْتَسَلُ فِيهِ)
ش: يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ يُغْتَسَلُ فِيهِ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ كَمَا قَدْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ يُغْتَسَلُ كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ مُعَدٍّ لِلْغُسْلِ.
وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَانَ مَنْ يَغْتَسِلُ فِيهِ نَجِسُ الْأَعْضَاءِ أَوْ طَاهِرُهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْمَاءِ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ طَهُورِيَّتِهِ ثُمَّ إنْ عَلِمَ الْمُغَيِّرَ هَلْ هُوَ نَجِسٌ أَوْ طَاهِرٌ عَمِلَ عَلَيْهِ وَإِلَّا عَمِلَ عَلَى ظَاهِرِ أَمْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَبْحِرًا أَوْ كَالْقَصْرِيَّةِ وَنَحْوِهَا أَوْ بَيْنَ ذَلِكَ كَالْحَوْضِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا الْمُسْتَبْحِرُ وَالْمَاءُ الْمُعَيَّنُ كَالْغَدِيرِ الْكَبِيرِ وَالْبِرْكَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْبِئْرِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ كَالْقَصْرِيَّةِ وَهِيَ الْمِرْكَنُ فَلَا إشْكَالَ فِي كَرَاهِيَتِهِ إنْ كَانَ الَّذِي اغْتَسَلَ فِيهِ نَجَسُ الْأَعْضَاءِ أَوْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَسِيرٌ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ أَوْ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَدَثٍ وَإِنْ كَانَ الَّذِي اغْتَسَلَ فِيهِ طَاهِرُ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ غَيْرُ جُنُبٍ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِهِ قَالَ سَنَدٌ: قَوْلُهُ لَا خَيْرَ فِيهِ عَلَى أَيْ وَجْهٍ قُدِّرَ لِأَنَّهُ إنْ اغْتَسَلَ بِنَجَاسَةٍ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى
مَا عُرِفَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَدَثٍ وَقَدْ عَظُمَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَأَمَّا غَيْرُ الْجُنُبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا يُغْسَلُ فِيهِ الثَّوْبُ الطَّاهِرُ وَشَبَهُهُ مِنْ الطَّهَارَاتِ وَمَذْهَبُهُ خَارِجٌ عَنْ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَيْثُ السُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْجَنَابَةِ وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرِ فَإِنَّ أَدِيمَ الْجِلْدِ إذَا كَانَ طَاهِرًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَا يُغَيِّرُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ كَانَ مُرُورُ الْمَاءِ عَلَيْهِ كَمُرُورِهِ عَلَى أَدِيمِ الْقِرَبِ انْتَهَى، وَذَكَرَ ابْنُ نَاجِي نَحْوَهُ وَأَمَّا الْحَوْضُ وَنَحْوُهُ فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا يَغْتَسِلُ الْجُنُبُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ فَإِنْ فَعَلَ أَفْسَدَهُ إذَا كَانَ مِثْلَ حِيَاضِ الدَّوَابِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسْلُ مَوْضِعِ الْأَذَى قَبْلَ دُخُولِهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ قَالَ ابْنُ نَاجِي أَشَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَفْسَدَهَا يَحْتَمِلُ الْكَرَاهَةَ وَالتَّنْجِيسَ وَالصَّوَابُ حَمْلُهَا عَلَى التَّنْجِيسِ وَعَلَيْهِ يَقُومُ مِنْهُ مِثْلُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ آنِيَةَ الْغُسْلِ لَا تُنَجِّسُهَا الْقَطْرَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ النَّجَاسَةِ بَلْ مَالَهُ بَالٌ كَاَلَّذِي عَلَى جَسَدِ الْجُنُبِ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ نَاجِي إنَّمَا يَأْتِي عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْيَسِيرَ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ أَفْسَدَتْهُ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَةُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَعَلِيٍّ أَنَّ نَحْوَ الْجَرَّةِ وَالزِّيرِ وَالْحَوْضِ يَسِيرٌ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ قَالَ فِي الْجَلَّابِ: وَيُكْرَهُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي مَاءٍ وَاقِفٍ إذَا كَانَ يَسِيرًا وَوَجَدَ مِنْهُ بَدَلًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ جَازَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ وَيَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا وَيُكْرَه لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي بِئْرٍ قَلِيلَةِ الْمَاءِ فَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَلَا بَأْسَ انْتَهَى، بَلْ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إذَا لَمْ يَجْعَلْ الْجَرَّةَ وَالزِّيرَ وَالْحَوْضَ مِنْ الْكَثِيرِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَفِي الْعُمْدَةِ لِابْنِ عَسْكَرٍ نَحْوِ مَا فِي الْجَلَّابِ وَنَصُّهُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ وَانْغَمَسَ فِيهِ جُنُبٌ انْتَهَى.
(فَإِنْ قُلْتَ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتَهُ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ (قُلْتُ) : أَمَّا الْمُسْتَبْحِرُ الْكَبِيرُ فَلَا إشْكَالَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ كَلَامِهِ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ كَلَامِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّا إنْ حَمَلْنَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ يُغْتَسَلُ فِيهِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا إشْكَالَ فِي الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ إلَيْهِ التَّغَيُّرُ وَلَا يَفْطِنُ بِهِ وَلَا يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ اغْتِسَالِ جُنُبٍ أَوْ غَسْلِ نَجَاسَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْبَيَانِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاغْتِسَالُ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ لِكَوْنِهِ يُسَخَّنُ بِالْأَقْذَارِ وَالنَّجَاسَاتِ وَلِاخْتِلَافِ الْأَيْدِي فِيهِ فَرُبَّمَا يَتَنَاوَلُ أَخْذُهُ بِيَدِهِ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ لِدِينِهِ فَإِذَا كُرِهَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَيْدِي فَمَا بَالُكَ بِمَا يَكْثُرُ فِيهِ الِاغْتِسَالُ وَلِمَا يُخْشَى مِنْ سُرْعَةِ التَّغَيُّرِ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ بَلْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي آخِرِ سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ فِي حِيَاضِ الرِّيفِ الَّتِي يَغْتَسِلُ فِيهَا النَّصَارَى وَالْجُنُبُ: لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا وَلَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ الْغُسْلُ فِيهَا لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا صَحِيحٌ لِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ حُصُولِ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ تَغَيُّرُ أَحَدِ أَوْصَافِهِ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْوَاضِحَةِ وَلِمَالِكٍ فِي رَسْمٍ حَلَفَ لَا يَبِيعُ سِلْعَةً سَمَّاهَا مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ قَبْلَهُ فِي حَوْضِ الْحَمَّامِ وَإِنَّمَا حَكَمَ بِنَجَاسَةٍ لِكَثْرَةِ الْمُنْغَمِسِينَ فِيهِ إذْ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامُهُمْ جَمِيعُهَا طَاهِرَةً وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا (قُلْتُ) : وَهَذَا عَلَى أَصْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ يُنَجِّسُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ وَلَوْ لَمْ يُغَيِّرْهُ وَعَلَى قَوْلِهِ أَيْضًا أَنَّ مِثْلَ الْحَوْضِ يَسِيرٌ وَقَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ هَذَا صَحِيحٌ أَيْ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فَيُنْظَرُ إلَى الْمَاءِ فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَهُوَ غَيْرُ طَهُورٍ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ فَهُوَ طَهُورٌ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِكَثْرَةِ الْمُغْتَسِلِينَ فِيهِ وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ بَيَانُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُغْتَسِلِينَ فِي الْمَاءِ تُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِنَجَاسَةٍ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالنَّجَاسَةِ. وَالظَّاهِرُ
أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَى