الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلَّا حَيْثُ وَضَعَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - انْتَهَى.
وَعَنْ أَبِي الضِّيَاءِ: مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْأَذَانُ الثَّانِي عَلَى حَزْوَرَةٍ لِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ مَفَاسِدِهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَتَهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ إلَّا إذَا سَمِعَهُ، وَقَدْ يَدْخُلُ الْإِمَامُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَهُ أَوْ يَدْخُلُ عَقِبَيْهِ بِسُرْعَةٍ فَتَفُوتُ الشَّخْصَ الصَّلَاةُ.
(قُلْتُ) وَفِي جَعْلِهِ مُنْكَرًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْمُؤَذِّنِينَ وَتَرْتِيبَهُمْ مَطْلُوبٌ فِي غَيْرِ الْمَغْرِبِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فَذَلِكَ لِعَدَمِ ضَبْطِ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. نَعَمْ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ أَذَانُهُمْ عَلَى حَزْوَرَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ دُخُولِ الْإِمَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، وَالْحَزْوَرَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى وَزْنِ قَسْوَرَةٍ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَبَعْضُ النَّاسِ يُشَدِّدُ الْوَاوَ، وَيَفْتَحُ الزَّايَ، وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ: عَزُّورَةً، وَهُوَ غَلَطٌ كَانَ سُوقَ مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ أُدْخِلَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
[تَنْبِيه الْأَذَانُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ]
(تَنْبِيهٌ) حَيْثُ اسْتَطْرَدَ الْكَلَامُ إلَى ذِكْرِ مَا أَحْدَثَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فَلْنَخْتِمْ ذَلِكَ بِفُرُوعٍ ثَلَاثَةٍ لَا بَأْسَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا.
(أَحَدُهَا) الْأَذَانُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ، قَالَ فِي الْمَدْخَلِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى تَسْمِينِ النِّسَاءِ: وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ تَنْظِيفَ الْبَيْتِ وَكَنْسَهُ عَقِبَ سَفَرِ مَنْ سَافَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَتَشَاءَمُونَ بِفِعْلِ ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهِ، وَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ لَا يُرْجِعُ الْمُسَافِرَ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مَعَهُ إلَى تَوْدِيعِهِ فَيُؤَذِّنُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَمَنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَهَا فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا يَذْكُرُ النَّاسُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدْعَةِ فَعُومِلُوا بِالضَّرَرِ الَّذِي يَتَوَقَّعُونَهُ وَقَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سبحانه وتعالى أَنَّ الْمَكْرُوهَاتِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ انْتَهَى. وَقَالَ النَّاشِرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْإِيضَاحِ يُسْتَحَبُّ الْأَذَانُ لِمُزْدَحَمِ الْجِنِّ، وَفِي أُذُنِ الْحَزِينِ وَالصَّبِيِّ عِنْدَمَا يُولَدُ فِي الْيَمِينِ، وَيُقِيمُ فِي الْيُسْرَى، وَالْأَذَانُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ وَالْإِقَامَةُ، وَفِي فَتَاوَى الْأَصْبَحِيِّ، هَلْ وَرَدَ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ خَبَرٌ؟ فَالْجَوَابُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ وُرُودَ خَبَرٍ وَلَا أَثَرٍ إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَعَلَّهُ مَقِيسٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ فَإِنَّ الْوِلَادَةَ أَوَّلُ الْخُرُوجِ إلَى الدُّنْيَا وَهَذَا أَوَّلُ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا تَوْقِيفًا انْتَهَى.
وَانْظُرْ قَوْلَهُ: " لِمُزْدَحَمِ الْجِنِّ " وَلَعَلَّهُ يُشِيرُ إلَى حَدِيثِ «إذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ» كَمَا سَيَأْتِي وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فِي أُذُنِ الْحَزِينِ " فَيُشِيرُ إلَى مَا أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ «عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَزِينًا، فَقَالَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ أَرَاك حَزِينًا فَمُرْ بَعْضَ أَهْلِكَ يُؤَذِّنْ فِي أُذُنِكَ فَإِنَّهُ دَوَاءٌ لِلْهَمِّ، فَجَرَّبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ كَذَلِكَ» ، وَقَالَ كُلُّ مَنْ رَوَى مِنْ رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ: إنَّهُ جَرَّبَهُ فَوَجَدَهُ كَذَلِكَ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ أَيْضًا عَنْهُ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَمَّنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنْ إنْسَانٍ أَوْ دَابَّةٍ فَأَذِّنُوا فِي أُذُنِهِ» انْتَهَى. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ صَاحِبُ تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ: أَنَّ الْأَذَانَ عِنْدَ رُكُوبِ الْبَحْرِ مِنْ الْبِدَعِ.
(الثَّانِي) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ فِي بَابِ {مَا يَقُولُ إذَا عَرَضَ لَهُ شَيْطَانٌ} يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَوَّذَ ثُمَّ يَقْرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ ثُمَّ، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَذِّنَ أَذَانَ الصَّلَاةِ فَقَدْ رَوَيْنَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إلَى بَنِي حَارِثَةَ، وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِي عَلَى الْحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي، فَقَالَ: لَوْ شَعَرْتُ أَنَّك تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنَّكَ إذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ» وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ يُسْتَحَبُّ إذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَانُ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ
إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ» وَالْغِيلَانُ: طَائِفَةٌ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَهُمْ سَحَرَتُهُمْ وَمَعْنَى تَغَوَّلَتْ تَلَوَّنَتْ فِي صُوَرٍ انْتَهَى. وَزَادَ فِي الْأَذْكَارِ، فَقَالَ: وَالْمُرَادُ ادْفَعُوا شَرَّهُمْ بِالْأَذَانِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَدْبَرَ انْتَهَى. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَهِيَ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ مِنْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَا الْقُرْطُبِيُّ وَلَا الْأَبِيُّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْمُدَوَّنَةِ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُؤَذَّنَ فِي أُذُنِ الصَّبِيِّ الْمَوْلُودِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ بِإِثْرِ الْعَقِيقَةِ فِي تَرْجَمَةِ الْخِتَانِ، وَالْخِفَاضِ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ أَنْ يُؤَذَّنَ فِي أُذُنِهِ حِينَ يُولَدُ انْتَهَى. وَقَالَ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أُذُنِ الصَّبِيِّ وَيُقِيمَ حِينَ يُولَدُ انْتَهَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أُذُنِ الصَّبِيِّ الْيُمْنَى، وَيُقِيمَ الصَّلَاةَ فِي أُذُنِهِ الْأُخْرَى، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم «أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَيْنَا فِي كِتَابَ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى، وَأَقَامَ فِي الْأُذُنِ الْيُسْرَى لَمْ تَضُرَّهُ أُمُّ الصِّبْيَانِ» انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَقَدْ جَرَى عَمَلُ النَّاسِ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَصِحَّتُهُ بِإِسْلَامٍ)
ش: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ: فَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ الْكَافِرِ، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْكَافِرِ فَإِنْ أَذَّنَ كَانَ أَذَانُهُ إسْلَامًا انْتَهَى. وَنَحْوُهُ لِلْبِسَاطِيِّ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي بَابِ الرِّدَّةِ، قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ وَإِذَا أَذَّنَ كَافِرٌ كَانَ أَذَانُهُ إسْلَامًا انْتَهَى.
(قُلْتُ) فَإِنْ ارْتَدَّ بَعْدَ أَذَانِهِ حُكِمَ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَيُظْهِرَ الْعُذْرَ الَّذِي ادَّعَاهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الرِّدَّةِ فِيمَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ قُرْبٍ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ عَنْ ضِيقٍ أَوْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَقَالَ إنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ خَوْفًا فَإِنَّهُ يُقْبَلُ عُذْرُهُ عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْبِسَاطِيُّ وَلَهُمْ خِلَافٌ فِي وُقُوعِ الشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَانْظُرْ هَلْ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا أَنَّ أَذَانَهُ يُجْزِئُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ الْفَاكِهَانِيِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يُجْزِئُ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا، وَقَدْ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إذَا أَجْمَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَلْبِهِ، وَاغْتَسَلَ أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ.
(قُلْتُ) قَوْلُ الْبِسَاطِيِّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا يُوهِمُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَأَمَّا بَحْثُهُمَا فِي الْإِجْزَاءِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ أَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَلِتَصْرِيحِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّ أَذَانَ الْكَافِرِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ فَلِأَنَّ أَوَّلَ الْأَذَانِ أَوْقَعَهُ قَبْلَ حُصُولِ الشَّرْطِ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ إلَّا بَعْدَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي أَنَّ الرِّدَّةَ يَبْطُلُ بِهَا الْأَذَانُ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي بَابِ الرِّدَّةِ مِنْ التَّوْضِيحِ، قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: وَإِنْ أَذَّنَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ جَرَى عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الرِّدَّةِ هَلْ تُبْطِلُ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِهَا أَوْ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الرِّدَّةَ بِمُجَرَّدِهَا تُبْطِلُ الْعَمَلَ وَلِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَرَفَةَ بِبُطْلَانِ أَذَانِهِ، فَقَالَ: وَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَهُ بَطَلَ، وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ: وَمَنْ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنْ أَعَادُوا فَحَسَنٌ، وَإِنْ اجْتَزُوا بِذَلِكَ أَجْزَاهُمْ انْتَهَى.
ص (وَعَقْلٍ)
ش: قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْمَجْنُونِ وَلَا السَّكْرَانِ وَلَا الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَفِي النَّوَادِرِ وَإِذَا أَذَّنَ لِقَوْمٍ سَكْرَانُ أَوْ مَجْنُونٌ لَمْ يُجْزِهِمْ فَإِنْ صَلَّوْا لَمْ يُعِيدُوا
ص (وَذُكُورَةٍ)
ش: فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ امْرَأَةٍ وَهَلْ أَذَانُ الْمَرْأَةِ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؟ قَالَ اللَّخْمِيُّ: الْأَذَانُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: سُنَّةٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ
مَمْنُوعٌ ثُمَّ، قَالَ الْخَامِسُ: الْأَذَانُ لِلْفَوَائِتِ وَالسُّنَنِ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَأَذَانِ النِّسَاءِ لِلْفَرَائِضِ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، فَاعْتَمَدَ فِي الشَّامِلِ آخِرَ كَلَامِهِ، فَقَالَ: وَيُكْرَهُ لِامْرَأَةٍ وَكَذَا، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ كَرَاهَةُ التَّأْذِينِ لِلْمَرْأَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ مَكْرُوهٌ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَتَرْكِ الْحَيَاءِ، وَإِنَّمَا تُسْمِعُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَمَنْ يَدْنُو مِنْهَا فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ كَصَلَاتِهَا وَتَلْبِيَتِهَا انْتَهَى. وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ وَقَبِلَهُ، وَنَقَلَ فِي الْقَوَانِينِ: أَنَّ أَذَانَ الْمَرْأَةِ حَرَامٌ، وَالْأَذَانَ لِلْفَوَائِتِ مَكْرُوهٌ، وَكَذَلِكَ، قَالَ الشَّبِيبِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ بِظَاهِرٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْكَرَاهَةُ فِي آخِرِ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ عَلَى الْمَنْعِ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الطِّرَازِ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَأَمَّا الْأَذَانُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْ النِّسَاءِ اتِّفَاقًا، وَنَصَّ اللَّخْمِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: وَأَمَّا الْأَذَانُ فَمَمْنُوعٌ فِي حَقِّهِنَّ، قَالَهُ اللَّخْمِيُّ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ، ثُمَّ قَالَ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى شُرُوطِ الْمُؤَذِّنِ: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَانَ يَنْبَغِي قَبُولُ قَوْلِهَا إنْ اتَّصَفَتْ بِالْعَدَالَةِ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ الْأَذَانِ، وَأَقْدَمَتْ عَلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا عُقُوبَةً لَهَا انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ، نَحْوُهُ لِابْنِ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَاعْتَرَضَهُ شَيْخُنَا أَبُو مَهْدِيٍّ: بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُولَ؛ لِأَنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا عَوْرَةٌ؛ لِرِوَايَةِ الصَّحَابَةِ عَنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَقَالَهُ ابْنُ هَارُونَ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: لِضَرُورَةِ التَّعْلِيمِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا انْتَهَى.
ص (وَبُلُوغٍ)
ش: ظَاهِرُهُ أَنَّ أَذَانَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لَا يَصِحُّ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَقِيلَ: يَصِحُّ مُطْلَقًا رَوَاهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْحَاوِي وَقِيلَ: يَصِحُّ إنْ كَانَ مَعَ النِّسَاءِ وَفِي مَوْضِعٍ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَزَادَ ابْنُ عَرَفَةَ رَابِعًا وَعَزَاهُ لِلَّخْمِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَذَانُهُ إذَا كَانَ ضَابِطًا وَأَذَّنَ تَبَعًا لِبَالِغٍ، وَنَصُّهُ:" وَفِي صِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ ثَالِثُهَا إنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، وَرَابِعُهَا إنْ كَانَ ضَابِطًا تَابِعًا لِبَالِغٍ لِرِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ وَلَهَا وَلِرِوَايَةِ أَشْهَبَ وَاللَّخْمِيِّ انْتَهَى ".
(قُلْتُ) مَا عَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَفِي الصَّبِيِّ قَوْلَانِ مَا نَصُّهُ: " إنْ كَانَ مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُخَاطِبُ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحِلُّ الْخِلَافِ كَوْنَهُ مُوَقِّتًا يُعْتَمَدُ عَلَى إخْبَارِهِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ، وَإِنْ صَحَّ مِنْ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَالَتِهِ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْعَدَالَةِ انْتَهَى. فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رَاشِدٍ فِيمَا إذَا كَانَ تَبَعًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ كَمَا، قَالَ وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُؤَذِّنَ لِنَفْسِهِ ذَكَرَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقِيمُ وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ احْتِجَاجِهِ أَنَّ مَا يُخَاطَبُ بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ يُؤْمَرُ بِهِ قَبْلَهُ تَمْرِينًا لَهُ فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ إذَا سَافَرَ يُؤْمَرُ بِالْأَذَانِ وَكَذَا لَوْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصِّبْيَانِ، وَالْأَذَانُ يَجْمَعُهُمْ لَأُمِرُوا بِالْأَذَانِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَجَعَلَ ابْنُ بَشِيرٍ الْخِلَافَ فِي أَذَانِ الصَّبِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالْجَوَازِ وَالْكَرَاهَةِ، فَقَالَ: وَهَلْ يَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْجُنُبِ وَالصَّبِيِّ فِي الْمَذْهَبِ قَوْلَانِ: الْكَرَاهَةُ وَالْجَوَازُ، فَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ دَاعٍ إلَى الصَّلَاةِ، وَهَذَانِ لَيْسَا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ إلَيْهَا، وَالْجَوَازُ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَهَذَانِ مِنْ أَهْلِهِ انْتَهَى.
فَلَمْ يُحْكَ فِيهِ إلَّا الْكَرَاهَةُ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ، فَقَالَ: وَيُكْرَهُ أَذَانُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ انْتَهَى.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رَاشِدٍ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَعْنِي أَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْمَنْعِ مِنْ كَوْنِهِ مُوَقِّتًا يُعْتَمَدُ عَلَى أَذَانِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا وَلَا إشْكَالَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا وَقَعَ ذَلِكَ، وَأَذَّنَ أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَضْبِطُ الْأَوْقَاتَ وَيَأْمُرُ
الصَّبِيَّ بِالْأَذَانِ فَهَلْ يَصِحُّ أَذَانُهُ، وَتَحْصُلُ بِهِ السُّنَّةُ وَيَسْقُطُ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَذَانَ وَاجِبٌ أَمْ لَا هَذَا مَحِلُّ الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ؛ وَبِهَذَا يَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَدَّ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ الْبُلُوغَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَمْ يَحْكِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَيَجِبُ كَوْنُهُ عَدْلًا عَالِمًا بِالْوَقْتِ إنْ اُقْتُدِيَ بِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَأَمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ إلَى آخِرِهَا فَيُحْمَلُ كَلَام ابْنِ عَرَفَةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً، وَكَلَامُ الْفَاكِهَانِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ غَيْرُ الْعَدْلِ وَغَيْرُ الْعَارِفِ بِالْأَوْقَاتِ صَحَّ أَذَانُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ لَمَّا عَدَّ شُرُوطَ الْمُؤَذِّنِ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِيهَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْجَوَاهِرِ مِنْ عَدِّهِ ذَلِكَ فِي شُرُوطِ الْمُؤَذِّن، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ يَشْتَرِطُ فِي الْمُؤَذِّنِ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ سَالِمًا مِنْ اللَّحْنِ فِيهِ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ ابْتِدَاءً، قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا مُمَيِّزًا ذَكَرًا بَالِغًا عَدْلًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ انْتَهَى.
وَلَفْظُ الْجَوَاهِرِ: {الْفَصْلُ الثَّالِثِ فِي صِفَةِ الْمُؤَذِّنِ} يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا مُمَيِّزًا ذَكَرًا ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ فِي الْأَذَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَلْيَكُنْ الْمُؤَذِّنُ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ، ثُمَّ قَالَ: وَلْيَكُنْ عَدْلًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ لِتَقَلُّدِهِ عُهْدَتَهَا انْتَهَى. وَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، قَالَ الْبُرْزُلِيُّ فِي مَسَائِلِ الصَّلَاةِ عَنْ السُّيُورِيِّ: يَلْزَمُ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ إقَامَتُهُ، وَمِنْ إقَامَةِ الْحَقِّ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْأَوْقَاتِ مَنْ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ وَيُنْهَوْنَ عَنْ سَبْقِهِ فَإِنْ انْتَهَوْا وَإِلَّا تُوُعِّدُوا فَإِنْ عَادُوا سُجِنُوا، وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَمَنْ تَعَدَّى بَعْدَ النَّهْيِ عُوقِبَ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ التُّونُسِيِّ: إنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا أَوْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَيُنْهَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَذَانِ أَشَدَّ النَّهْيِ فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ أَدَبًا وَجِيعًا، وَقَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ: لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَمَنْ صَلَّى بِتَقْلِيدِهِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ انْتَهَى.
الثَّانِي عَدَّ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْحُرِّيَّةَ فِي شُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَالَةَ، وَمَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ فِي الْمُؤَذِّنِ الْحُرِّيَّةَ، فَيَصِحُّ أَذَانُ الْعَبْدِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الطِّرَازِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى أَذَانِ الصَّبِيِّ، وَذَكَرَهُ فِي النَّوَادِرِ وَفَضَّلَهُ عَلَى أَذَانِ الْأَعْرَابِيِّ، وَوَلَدِ الزِّنَا وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ، وَذَكَرَهُ فِي الطِّرَازِ أَيْضًا وَالْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَشَرْطُ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا ذَكَرًا، وَفِي الصَّبِيِّ قَوْلَانِ فَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ كَافِرٍ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا سَكْرَانَ، وَلَا امْرَأَةٍ، هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَذَانِ مَا عَدَا الذُّكُورِيَّةَ. شَرْطٌ فِي الْإِقَامَةِ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يُؤَذِّنُ وَلَا يُقِيمُ إلَّا مَنْ احْتَلَمَ انْتَهَى.
(قُلْتُ) هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا وَلَمْ أَرَ مَا ذَكَرَاهُ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ فِيهَا وَلَفْظُ التَّهْذِيبِ: وَلَا يُؤَذِّنُ وَلَا يَؤُمُّ إلَّا مَنْ احْتَلَمَ، وَهَكَذَا فِي الْأُمِّ وَلَفْظُهَا:" وَلَا يُؤَذِّنُ إلَّا مَنْ احْتَلَمَ؛ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ إمَامٌ وَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ إمَامًا " انْتَهَى. وَعَلَى ذَلِكَ اخْتَصَرَهَا ابْنُ يُونُسَ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ وَغَيْرُهُمَا نَعَمْ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ، قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا يُؤَذِّنُ الصَّبِيُّ وَلَا يُقِيمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ نِسَاءٍ أَوْ بِمَوْضِعٍ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ فَلْيُؤَذِّنْ وَيُقِيمُ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: فَإِنْ صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُقِمْ انْتَهَى. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْمُقِيمِ لِلْجَمَاعَةِ الْبَالِغِينَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا، وَأَمَّا إذَا صَلَّى الصَّبِيُّ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَنُدِبَ مُتَطَهِّرٌ)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُ دَاعٍ إلَى الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ مُتَطَهِّرًا بَادَرَ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ، فَيَكُونُ كَالْعَالِمِ الْعَامِلِ إذَا تَكَلَّمَ انْتَفَعَ النَّاسُ بِعِلْمِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ
وَتُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ فِي الْأَذَانِ وَيَصِحُّ بِدُونِهَا، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْجُنُبِ شَدِيدَةٌ وَفِي الْإِقَامَةِ أَشَدُّ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا بَأْسَ بِأَذَانِ الْجُنُبِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَلَا يُؤَذِّنُ الْجُنُبُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: حَمَلَ اللَّخْمِيُّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَلِابْنِ نَافِعٍ مِثْلُ قَوْلِ سَحْنُونٍ وَبِهِ كَانَ شَيْخُنَا الشَّبِيبِيُّ يُفْتِي إلَى أَنْ مَاتَ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فَكَمَا لَا يُمْنَعُ مِنْ الْأَذْكَارِ اتِّفَاقًا غَيْرَ الْقُرْآنِ، فَكَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ الْأَذَانِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ: إنَّ الْجُنُبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَابِرِ سَبِيلٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِيهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: تُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ وَالِاسْتِحْبَابُ لِلْمُقِيمِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ إلَّا مَنْ يُشَارِكُ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يُصَلُّونَ أَوْ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَهَارَةٍ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ كَثِيرَةٌ وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الِاعْتِبَارِ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُقِيمُ، وَقَدْ يَفْتَرِقُ حَالُ الْكَرَاهَةِ بِالْقُوَّةِ، وَالضَّعْفِ فِي حَقِّ مَنْ يُخَفِّفُ الْوُضُوءَ أَوْ كَانَ مُتَيَمِّمًا وَتَقَدَّمَ حُكْمُ أَذَانِ الْجُنُبِ انْتَهَى.
يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ: وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ جَوَازَهُ لِلْقَاعِدِ، وَكَذَلِكَ رَوَى فِي الْجُنُبِ كَمَذْهَبِ سَحْنُونٍ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ انْتَهَى. أَيْ فَلَا يَجُوزُ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكَرَاهَةُ كَمَا تَقَدَّمَ وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ حَتَّى، قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ فِي تُبَّانٍ مِنْ شَعْرٍ أَوْ سَرَاوِيلَ فَلْيُعِدْهُمَا إنْ لَمْ يُصَلُّوا، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ انْتَهَى. وَنَقَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَلَفْظُهُ: يُسْتَحَبُّ حُسْنُ الْهَيْئَةِ إلَخْ.
ص (صَيِّتٌ)
ش: الْمُرَادُ بِالصَّيِّتِ: الْمُرْتَفِعُ الصَّوْتُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ وَإِذَا كَانَ صَيِّتًا كَانَ أَبْلَغَ فِي الْإِسْمَاعِ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْجَوَاهِرِ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ وَابْنُ نَاجِي فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ «قُمْ يَا بِلَالُ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ فَأَنْتَ أَنْدَى مِنْهُ صَوْتًا» ، قَالَ فِي الْإِكْمَالِ قِيلَ: أَرْفَعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَحْسَنَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَإِنَّكَ فَظِيعُ الصَّوْتِ، فَفِيهِ أَنَّهُ يُخْتَارُ لِلْأَذَانِ أَصْحَابُ الْأَصْوَاتِ النَّدِيَّةِ الْمُرْتَفِعَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَيُكْرَهُ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ غِلْظَةٌ أَوْ فَظَاعَةٌ أَوْ تَكَلُّفُ زِيَادَةٍ، وَلِذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا انْتَهَى.
وَفِي التَّوْضِيحِ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ لَهُ مُؤَذِّنٌ يَطْرَبُ فِي أَذَانِهِ، فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: الْأَذَانُ سَهْلٌ سَمْحٌ فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَهْلًا سَمْحًا فَأَذِّنْ وَإِلَّا فَلَا» انْتَهَى، وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا مُعْلَنًا يُرْفَعُ بِهِ الصَّوْتَ، وَعَدَّ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي الصِّفَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لَحَّانٍ، وَأَنْ يَكُونَ جَهِيرَ الصَّوْتِ، وَأَنْ يَكُونَ يَقُومُ بِأُمُورِ الْمَسْجِدِ، وَأَنْ يُؤَانِسَ الْغَرِيبَ، وَأَنْ لَا يَغْضَبَ عَلَى مَنْ أَذَّنَ فِي مَوْضِعِهِ أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَنْ يَكُونَ صَادِقَ الْقَوْلِ، وَيَحْفَظَ حَقَّهُ عَنْ ابْتِلَاعِ الْحَرَامِ، وَأَنْ يُؤَذِّنَ لِلَّهِ خَالِصًا، وَقَالَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فِي صِفَاتِ الْأَذَانِ: الْأُولَى أَنْ يُبَالِغَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِمَا لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِعْلَامُ فَكُلَّمَا رَفَعَ صَوْتَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي الْمَقْصُودِ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُتَرَسِّلًا أَيْ: مُتَمَهِّلًا مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا مَدٍّ مُفْرِطٍ انْتَهَى. وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ وَيَجْتَهِدُ مُؤَذِّنُو مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ فِي مَدِّ أَذَانِهِمْ وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ لِانْتِفَاعِ أَهْلِ الْبُيُوتِ وَلِاقْتِدَاءِ مُؤَذِّنِي الْعَشَائِرِ بِهِمْ انْتَهَى.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُكْرَهُ التَّطْرِيبُ فِي الْأَذَانِ، قَالَ فِي الطِّرَازِ وَالتَّطْرِيبُ تَقْطِيعُ الصَّوْتِ وَتَرْعِيدُهُ، وَأَصْلُهُ خِفَّةٌ تُصِيبُ الْمَرْءَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوْ مِنْ شِدَّةِ التَّحْزِينِ، وَهُوَ مِنْ الِاضْطِرَابِ أَوْ الطَّرِبَةِ، قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ: التَّطْرِيبُ فِي الْأَذَانِ مُنْكَرٌ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَكَذَلِكَ التَّحْزِينُ
مِنْ غَيْرِ تَطْرِيبٍ وَلَا يَنْبَغِي إمَالَةُ حُرُوفِهِ وَالتَّغَنِّي فِيهِ وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُحْدَرًا مُعْلَنًا يُرْفَعُ بِهِ الصَّوْتُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَالتَّطْرِيبُ: مَدُّ الْمَقْصُورِ، وَقَصْرُ الْمَمْدُودِ، وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلًا يُطْرِبُ فِي أَذَانِهِ، فَقَالَ لَوْ كَانَ عُمَرُ حَيًّا فَكَّ لَحْيَيْكَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: يُكْرَهُ التَّطْرِيبُ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْخُشُوعَ وَالْوَقَارَ، وَيَنْحُو إلَى الْغِنَاءِ وَالْكَرَاهَةُ فِي التَّطْرِيبِ عَلَى بَابِهَا إنْ لَمْ تَتَفَاحَشْ وَإِلَّا فَالتَّحْرِيمُ، وَأَلْحَقَ ابْنُ حَبِيبٍ التَّحْزِينَ بِالتَّطْرِيبِ، نَقَلَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَمَّا الْحَسَنُ الصَّوْتِ فَحَسَنٌ كَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: رَأَيْت الْمُؤَذِّنِينَ بِالْقَاهِرَةِ يَسْتَعْمِلُونَ التَّطْرِيبَ وَأَظُنُّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَخْشَعُ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ، وَتَمِيلُ إلَيْهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ النُّفُوسُ تَخْشَعُ لِلصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْشَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ. ابْنُ نَاجِي فَرَّقَ بَيْنَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ وَالتَّطْرِيبِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: يُكْرَهُ التَّطْرِيبُ فِي الْأَذَانِ، وَكَذَلِكَ التَّحْزِينُ وَيُكْرَهُ إمَالَةُ حُرُوفِهِ وَإِفْرَاطُ الْمَدِّ فِيهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، ثُمَّ قَالَ: وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُؤَذِّنَ بِالْأَلْحَانِ مِمَّا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ حَتَّى لَا يُعْلَمَ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ قَرِيبَةُ الْحُدُوثِ أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بِمَدْرَسَةٍ بَنَاهَا ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ: التَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ، وَهُوَ مِنْ الْبَغْيِ وَالِاعْتِدَاءِ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ لِابْنِ عُمَرَ: إنِّي لَأُحِبّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إنِّي لَأَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ؛ لِأَنَّكَ تُغَنِّي فِي أَذَانِكَ، وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ: وَالتَّطْرِيبُ وَالتَّحْزِينُ مَكْرُوهٌ وَالْمُغَيِّرُ لِلْمَعْنَى أَوْ الْقَادِحُ فِيهِ مَمْنُوعٌ انْتَهَى. فَتُحَصِّلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ، وَمُرْتَفِعَ الصَّوْتِ، وَأَنْ يُرْجِعَ صَوْتَهُ، وَيُكْرَهُ الصَّوْتُ الْغَلِيظُ الْفَظِيعُ، وَالتَّطْرِيبُ وَالتَّحْزِين إنْ لَمْ يَتَفَاحَشْ وَإِلَّا حَرُمَ.
(فَوَائِدُ الْأُولَى) فِي بَيَانِ أُمُورٍ يَغْلَطُ فِيهَا الْمُؤَذِّنُونَ مِنْهَا: مَدُّ الْبَاءِ مِنْ " أَكْبَرُ " فَيَصِيرُ جَمْعَ كَبَرٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُوَ الطَّبْلُ فَيَخْرُجُ إلَى مَعْنَى الْكُفْرِ، وَمِنْهَا: الْمَدُّ فِي أَوَّلِ " أَشْهَدُ " فَيَخْرُجُ إلَى حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا إنْشَائِيًّا، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي أَوَّلِ الْجَلَالَةِ، وَمِنْهَا الْوَقْفُ عَلَى " لَا إلَهَ " وَهُوَ كُفْرٌ وَتَعْطِيلٌ، قَالَ الْقَرَافِيُّ وَقَدْ شَاهَدْتُ مُؤَذِّنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة يَمُدُّ إلَى أَنْ يَفْرُغَ نَفَسُهُ هُنَاكَ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ " إلَّا اللَّهُ "، وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يُدْغِمُ تَنْوِينَ مُحَمَّدًا فِي الرَّاءِ بَعْدَهَا، وَهُوَ لَحْنٌ خَفِيٌّ عِنْدَ الْقُرَّاءِ، وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَنْطِقُ بِالْهَاءِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " وَلَا بِالْحَاءِ مِنْ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " فَيَخْرُجُ إلَى الدُّعَاءِ إلَى " صَلَا النَّارِ " فِي الْأَوَّلِ وَإِلَى " الْفَلَا " فِي الثَّانِي وَالْفَلَا: جَمْعُ فَلَاةٍ، وَهِيَ الْمَفَازَةُ نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْقَرَافِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنُ فَرْحُونٍ وَزَادَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: مَدَّ هَمْزَةِ " أَكْبَرُ " وَتَسْكِينَهَا، وَفَتْحَ النُّونِ مِنْ " أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، وَالْمَدَّ عَلَى هَاءِ " إلَهَ " وَتَسْكِينَهَا أَوْ تَنْوِينَهَا، وَهُوَ أَفْحَشُ، وَالْإِتْيَانَ بِهَاءٍ زَائِدَةٍ بَعْدَ الْهَاءِ مِنْ " إلَهَ " وَضَمَّ " مُحَمَّدًا "، وَمَدَّ " حَيَّ " أَوْ تَخْفِيفَهَا، وَإِبْدَالَ هَمْزَةِ " أَكْبَرُ " وَاوًا، وَقَدْ اسْتَخَفُّوهُ فِي الْإِحْرَامِ فَيَكُونُ هُنَاكَ أَحْرَى انْتَهَى. مُخْتَصِرًا.
(قُلْتُ) وَيَبْقَى شَيْءٌ لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ، وَهُوَ: إشْبَاعُ مَدِّ أَلْفِ الْجَلَالَةِ الَّتِي بَيْنَ اللَّامِ وَالْهَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ سَبَبٌ لَفْظِيٌّ يَقْتَضِي إشْبَاعَ مَدِّهَا فِي الْوَصْلِ أَمَّا إذَا وَقَفَ عَلَيْهَا كَمَا فِي آخِرِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، فَالْمَدُّ حِينَئِذٍ جَائِزٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، نَعَمْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي النَّشْرِ فِي بَابِ الْمَدِّ وَالْقَصْرِ: أَنَّ الْعَرَبَ تَمُدُّ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَعِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ، وَيَمُدُّونَ مَا لَا أَصْلَ لَهُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ انْتَهَى. ثُمَّ رَأَيْت فِي كِتَابِ الْمَوَاقِيتِ مَا نَصُّهُ: " وَقَصْرُ الْأَلْفِ الثَّانِي مِنْ اسْمِ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا فِي الشِّعْرِ، وَالْإِسْرَافُ فِي مَدِّهِ مَكْرُوهٌ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الْمَدِّ انْتَهَى.
(الثَّانِيَةُ) : قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي " أَكْبَرَ " هَلْ مَعْنَاهُ كَبِيرٌ لِاسْتِحَالَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهِ فِي الْكِبْرِيَاءِ، وَصِيغَةُ أَفْعَلَ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ الشَّرِكَةِ أَوْ مَعْنَاهُ: أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُلُوكَ وَغَيْرَهُمْ فِي الْعَادَةِ يُوصَفُونَ
بِالْكِبْرِيَاءِ فَحَسُنَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ انْتَهَى. وَمَعْنَى " أَشْهَدُ " أَتَيَقَّنُ وَأَعْلَمُ، " وَالْإِلَهُ " الْمَعْبُودُ، قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْمَعْبُودِ كَيْفَ كَانَ، لِوُجُودِ الْمَعْبُودِينَ فِي الْوُجُودِ كَالْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ، بَلْ ثَمَّ صِفَةٌ مُضْمَرَةٌ تَقْدِيرُهَا " لَا مَعْبُودَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ إلَّا اللَّهُ "، وَمَنْ لَمْ يُضْمِرْ هَذِهِ الصِّفَةَ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ تَشَهُّدُهُ كَذِبًا، " وَحَيَّ " اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى: أَقْبِلْ يُقَالُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ تَقُولُ الْعَرَبُ: حَيَّ عَلَى الثَّرِيدِ، أَيْ: أَقْبِلْ، وَيُقَالُ: هَلًا عَلَى الثَّرِيدِ بِمَعْنَاهُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ:" حَيَّ هَلًا " بِالتَّنْوِينِ وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ بِتَسْكِينِ اللَّامِ، وَبِتَحْرِيكِهَا بِالْفَتْحِ مَعَ الْأَلْفِ، وَيُعَدَّى بِعَلَى كَمَا فِي الْأَذَانِ، وَبِإِلَى وَبِالْبَاءِ، قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلَا بِعُمَرَ» ، " وَالْفَلَاحُ " فِي اللُّغَةِ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، أَفْلَحَ الرَّجُلُ: إذَا أَصَابَ خَيْرًا انْتَهَى. وَقَالَ الْجُزُولِيُّ: الْفَلَاحُ الْبَقَاءُ فِي الْجَنَّةِ الزَّنَاتِيُّ: الْفَلَاحُ بِالْفَوْزِ بِالْمُنَى بَعْدَ النَّجَاةِ مِمَّا يُتَّقَى انْتَهَى. وَلَا بُدَّ مِنْ مُضَافٍ أَيْ عَلَى سَبَبِ الْفَوْزِ أَوْ سَبَبِ الْبَقَاءِ فِي الْجَنَّةِ أَوْ سَبَبِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ أَنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ حَدِيثٌ وَإِنَّمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَالْحَرِيرِيُّ فِي الْمُقَامَةِ التَّاسِعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثَةُ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: الْأَذَانُ عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَسَائِلِ الْعَقِيدَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْأَكْبَرِيَّةِ، وَهِيَ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَوُجُوبُهُ وَكَمَالُهُ ثُمَّ ثَنَّى بِالتَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ التَّشْرِيكِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ دَعَا مَنْ أَرَادَ مَنْ لِطَاعَتِهِ، ثُمَّ ضَمِنَ ذَلِكَ بِالْفَلَاحِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ فَأَشْعَرَ بِأَنَّ ثَمَّ جَزَاءً، فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْمُعَادِ، ثُمَّ أَعَادَ مَا أَعَادَ تَوْكِيدًا، وَنَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَأَصْلُهُ لِلْقَاضِيَّ عِيَاضٍ فِي الْإِكْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الرَّابِعَةُ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لَهُ جَعْلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي أَذَانِهِ لِمَالِكٍ وَالْأُمَّهَاتِ، وَأَلْحَقَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ الْإِقَامَةَ، وَقِيلَ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِلْمُؤَذِّنِ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ انْتَهَى. وَإِذَا اُسْتُحِبَّ فِي الْأَذَانِ اُسْتُحِبَّ فِي الْإِقَامَةِ كَمَا قَاسَ ابْنُ الْقَاسِمِ جَوَازَهُ فِيهَا عَلَى جَوَازِهِ فِي الْأَذَانِ، قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْإِقَامَةَ أَحَدُ الْأَذَانَيْنِ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ جَازَ فِي الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَوْضِعِهَا كَمَا لَا يُخِلُّ بِمَوْضِعِهِ انْتَهَى. وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِسْمَاعِ وَمَا حَكَاهُ ابْنُ نَاجِي عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ حَكَاهُ فِي النَّوَادِرِ وَلَمْ يَحْكِ صَاحِبُ الطِّرَازِ اسْتِحْبَابَهُ إلَّا عَنْ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَرْجَحُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَحْسِنِ لَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ بِهِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ انْتَهَى. وَنُقِلَ قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ: وَرَأَيْت الْمُؤَذِّنِينَ بِالْمَدِينَةِ لَا يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنَّهُ قَالَ وَرَأَيْت الْمُؤَذِّنِينَ بِالْمَدِينَةِ يَفْعَلُونَهُ وَتَبِعَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ " لَا "، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (مُرْتَفِعٌ)
ش: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي {بَابِ مَا جَاءَ فِي الْأَذَانِ فَوْقَ الْمَنَارَةِ} عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، قَالَتْ: كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ فَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ عَلَيْهِ الْفَجْرَ فَيَأْتِي بِسَحَرٍ، فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْظُرُ إلَى الْفَجْرِ، فَإِذَا رَآهُ تَمَطَّى، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَحْمَدُكَ وَأَسْتَعِينُك عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُقِيمُوا دِينَكَ، قَالَتْ: ثُمَّ يُؤَذِّنُ، قَالَتْ وَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُهُ كَانَ يَتْرُكُهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد فَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمَأْلُوفِ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ النَّوَّازِ أُمِّ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَتْ كَانَ بَيْتِي أَطْوَلَ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ فَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ فَوْقَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا أَذَّنَ إلَى أَنْ بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بَعْدَهُ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُفِعَ لَهُ شَيْءٌ فَوْقَ ظَهْرِهِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَمَنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى بَابِهِ وَكَانَ
الْمَنَارُ عِنْدَ السَّلَفِ بِنَاءً يَبْنُونَهُ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ كَهَيْئَتِهِ الْيَوْمَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا فِيهِ أَنَّهُمْ عَمِلُوهُ مُرَبَّعًا عَلَى أَرْكَانٍ أَرْبَعَةٍ، وَكَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ مُدَوَّرًا، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ خِلَافًا لِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْمَنَارِ، وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ:(أَحَدُهَا) : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ (الثَّانِي) : أَنْ يَكْشِفَ حَرِيمَ الْمُسْلِمِينَ (الثَّالِثُ) : أَنَّ صَوْتَهُ يَبْعُدُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَنِدَاؤُهُ إنَّمَا هُوَ لَهُمْ وَقَدْ بَنَى بَعْضُ مُلُوكِ الْعَرَبِ مَنَارًا زَادَ فِي عُلُوِّهِ فَبَقِيَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ مِنْ تَحْتِهِ صَوْتَهُ، وَهَذَا إذَا تَقَدَّمَ وُجُودُ الْمَنَارِ عَلَى بِنَاءِ الدُّورِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدُّورُ مَبْنِيَّةً ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ الْمَنَارَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَنَارِ وَالدُّورِ سِكَكٌ وَبُعْدٌ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا طَلَعَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ، وَيَرَى النَّاسَ فِي أَسْطِحَةِ بُيُوتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ الْمَنَارُ أَعْلَى مِنْ الْبُيُوتِ قَلِيلًا أَسْمَعَ النَّاسَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُرْتَفِعًا كَثِيرًا انْتَهَى.
وَالْمَنَارُ فِي اللُّغَةِ عَلَمُ الطَّرِيقِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْمَنَارَةُ: الَّتِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا، وَالْمَنَارَةُ أَيْضًا يُوضَعُ فَوْقَهَا السِّرَاجُ، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْجَمْعُ الْمَنَاوِرُ بِالْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النُّورِ، وَمَنْ قَالَ: مَنَائِرُ، وَهَمَزَ فَقَدْ شَبَّهَ الْأَصْلَ بِالزَّائِدِ انْتَهَى. وَهُوَ شَاذٌّ وَيُقَال لَهَا أَيْضًا: الْمِئْذَنَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، ثُمَّ هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ وَيَجُوزُ إبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ كُرَاعٍ أَنَّهُ يُقَالُ: مَأْذَنَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ آخِرِ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَنَارُ سَابِقًا عَلَى بِنَاءِ الدُّورِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ الصُّعُودِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ أَوَّلُ كَلَامِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْبَيَانِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الصُّعُودِ وَلَوْ كَانَ الْمَنَارُ قَدِيمًا، قَالَهُ فِي أَوَّلِ رَسْمٍ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ قِيلَ لِسَحْنُونٍ: فَالْمَسْجِدُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَنَارُ فَإِذَا صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ فِيهِ عَايَنَ مَا فِي الدُّورِ الَّتِي يُجَاوِرُهَا الْمَسْجِدُ فَيُرِيدُ أَهْلُ الدُّورِ مَنْعَهُ مِنْ الصُّعُودِ وَرُبَّمَا كَانَتْ بَعْضُ الدُّورِ عَلَى الْبُعْدِ مِنْ الْمَسْجِدِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ الْفِنَاءُ الْوَاسِعُ أَوْ السِّكَّةُ الْوَاسِعَةُ؟ قَالَ: يُمْنَعُ مِنْ الصُّعُودِ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ، قَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ رُشْدٍ: هَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْأَذَانِ فِي أَنَّ الِاطِّلَاعَ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَجِبُ الْقَضَاءُ بِقَطْعِهِ، وَكَذَا يَجِبُ عِنْدِي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي مِلْكِهِ اطِّلَاعًا عَلَى جَارِهِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِسَدِّهِ، وَيُقَالُ لِجَارِهِ اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْمَنَارَ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِلْمُؤَذِّنِ وَإِنَّمَا يَصْعَدُ عَلَيْهِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى حُرَمِ النَّاسِ مَحْظُورٌ، وَلَا يَحِلَّ الدُّخُولُ فِي نَافِلَةٍ بِمَعْصِيَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدُّورُ عَلَى الْقُرْبِ أَوْ عَلَى الْبُعْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبُعْدُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ مَعَهُ الْأَشْخَاصُ وَالْهَيْئَاتُ، وَلَا الذُّكْرَانُ مِنْ الْإِنَاثِ فَلَا يُعْتَبَرُ الِاطِّلَاعُ مَعَهُ انْتَهَى.
(الثَّانِي) قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَيَنْهَى الْإِمَامُ الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَذَانِ الشَّبَابِ عَلَى الْمَنَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوْصَافِ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَتْقَاهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الشَّبَابِ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ الَّذِي يَصْعَدُ عَلَى الْمَنَارِ أَنْ يَكُونَ مُتَزَوِّجًا؛ لِأَنَّهُ أَغَضُّ لِطَرَفِهِ، وَالْغَالِبُ فِي الشَّبَابِ عَدَمُ ذَلِكَ وَالْمَنَارُ لَا يَصْعَدُهُ إلَّا مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ يَصْحَبُ إمَامَ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُنَاكَ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدٌ حَسَنُ الصَّوْتِ فَطَلَبَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِوَلَدِهِ فِي الصُّعُودِ عَلَى الْمَنَارِ لِيُؤَذِّنَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ تَمْنَعُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْمَنَارَ لَا يَصْعَدُهُ عِنْدَنَا إلَّا مَنْ شَابَ ذِرَاعَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي السِّنِّ، وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَ الْفِتْنَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنَاتِ فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَنَارِ، وَأَمَّا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ عَلَى سَطْحِهِ إذَا كَانَ لَا يَكْشِفُ أَحَدًا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ: وَيَحِقُّ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الِاخْتِيَارِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُؤَذِّنِيهِمْ يَقْصِدُ بِذَلِكَ أَهْلَ الْفَضْلِ وَالسِّنِّ وَالرِّضَا؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُونُونَ
عَلَى أَوْقَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَادِ دِينِهِمْ، وَلَعَلَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إمَامَةِ بَعْضِهِمْ، فَيَكُونُ لِلْإِمَامَةِ أَهْلًا (الثَّالِثُ) : تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ أَذَانَ الْمُؤَذِّنِ إمَّا عَلَى الْمَنَارِ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ أَوْ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى بَابِهِ، وَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي بَابِ الْجَمْعِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ: لَمَّا ذَكَرَ مُقَابِلَ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يُؤَذَّنُ لِلْعِشَاءِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْأَذَانِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ انْتَهَى. وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ لَيْلَةُ الْجَمْعِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (قَائِمٌ)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ قَائِمًا اتِّبَاعًا لِمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُعِ وَأَبْلَغُ فِي الْإِسْمَاعِ، قَالَ فِي الْأُمِّ قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا أَذَّنَ قَاعِدًا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا، وَقَالَ: إلَّا مَنْ عُذِرَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مَرِيضًا انْتَهَى.
وَلَفْظُ الْبَرَاذِعِيِّ: وَلَا يُؤَذِّنُ قَاعِدًا إلَّا مَنْ عُذِرَ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مَرِيضًا، قَالَ ابْنُ نَاجِي: يُرِيدُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ كَمَا سَيَأْتِي الْآنَ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَذَانِ الْإِسْمَاعُ، وَهُوَ مِنْ الْقَائِمِ أَبْلَغُ وَفِي كِتَابِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ وَعَزَاهُ عِيَاضٌ لِأَبِي الْفَرَجِ كَالرِّوَايَةِ، قَالَ وَمِثْلُهُ لِأَبِي ثَوْرٍ، وَكُلُّ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ قَاعِدًا إلَّا لِمَرِيضٍ لِنَفْسِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَنَا الْمَشْهُورَ أَنَّ الْقِيَامَ سُنَّةٌ فَلَوْ أَذَّنَ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ صَحَّ أَذَانُهُ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَذَّنَ مُضْطَجِعًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ صَحَّ أَذَانُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِعْلَامُ وَقَدْ حَصَلَ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَيُرَدُّ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَكَلَامُ عِيَاضٍ إنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءً فَلَعَلَّهُ يَقُولُ: يُجْزِئُ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ عِيَاضٍ ذَكَرَهُ فِي الْإِكْمَالِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَكُرِهَ أَذَانُ الْقَاعِدِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ انْتَهَى. وَعَدَّ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَكَانَ مَالِكٌ يُنْكِرُ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ قَاعِدًا، وَيَقُولُ: لَنْ يَبْلُغَنِي عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِعْلُهُ فَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ عِلَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ الْقِيَامِ فَلْيَدَعْ الْأَذَانَ، وَمَنْ جَهِلَ فَأَذَّنَ قَاعِدًا مَضَى وَلَمْ يُعِدْ الْأَذَانَ انْتَهَى.
(تَنْبِيهٌ) يُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَائِمٌ إلَّا لِعُذْرٍ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ:" إلَّا مَنْ عُذِرَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مَرِيضًا ".
(فَرْعٌ) وَأَمَّا أَذَانُ الرَّاكِبِ فَجَائِزٌ، قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَائِمِ، قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: بَلْ هُوَ أَتَمُّ ارْتِفَاعًا وَأَكْثَرُ إسْمَاعًا لَا كَمَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ كَالْقَاعِدِ انْتَهَى.
وَقَدْ اعْتَرَضَهُ ابْنُ نَاجِي أَيْضًا، وَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا فَرْقَ فِي التَّحْقِيقِ بَيْنَ الْقَاعِدِ وَالرَّاكِبِ.
(قُلْتُ) بَلْ التَّحْقِيقُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّاكِبَ أَنْدَى صَوْتًا مِنْ الْقَاعِدِ، وَقَالَ قَبْلَهُ اخْتَصَرَ ابْنُ يُونُسَ الْمَسْأَلَةَ بِلَفْظِ:" وَيُؤَذِّنُ رَاكِبًا فِي السَّفَرِ " قَالَ: وَهُوَ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، وَلِذَلِكَ حَذَفَهُ الْبَرَاذِعِيُّ يَعْنِي قَوْلَهُ:" فِي السَّفَرِ "، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (مُسْتَقْبِلٌ إلَّا لِإِسْمَاعٍ)
ش: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَدُورُ فِي أَذَانِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِّ الْأَذَانِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُسْمِعَ النَّاسَ وَيُؤَذِّنَ كَيْفَ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ وَرَأَيْت الْمُؤَذِّنِينَ فِي الْمَدِينَةِ يَتَوَجَّهُونَ إلَى الْقِبْلَةِ فِي أَذَانِهِمْ، وَيُقِيمُونَ عَرْضًا وَذَلِكَ وَاسِعٌ يَصْنَعُ كَيْفَ شَاءَ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الِالْتِفَاتُ وَالدَّوَرَانُ لِقَصْدِ الْإِسْمَاعِ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إنْكَارُهُ كَالشَّافِعِيِّ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَلْتَفِتَ بِوَجْهِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَبَدَنُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَنَهَاهُ أَنْ يَدُورَ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ» ، وَظَاهِرُ الْكِتَابِ أَنَّ الدَّوَرَانَ يَجُوزُ فِي حَالَةِ الْأَذَانِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ أَصْحَابِنَا: اخْتَلَفَ الْأَشْيَاخُ هَلْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَوْ إنَّمَا يَدُورُ بَعْدَ فَرَاغِ الْكَلِمَةِ أَوْ إنْ لَمْ يُنْقِصْ مِنْ صَوْتِهِ، فَالْأَوَّلُ وَإِلَّا فَالثَّانِي، وَقَالَ ابْنُ الْحَارِثِ: إنَّهُ لَا يَدُورُ إلَّا عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ انْتَهَى. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: أَجَازَ مَالِكٌ الدَّوَرَانَ
وَالِالْتِفَاتَ عَنْ الْقِبْلَةِ لِقَصْدِ الْإِسْمَاعِ وَفِي الْوَاضِحَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَيْ اسْتِحْبَابًا، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَيْ وُجُوبًا وَعَلَى هَذَا فَمَا فِي الْكِتَابَيْنِ مُتَّفِقٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْخِلَافِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: الدَّوَرَانُ وَالِالْتِفَاتُ لِلْإِسْمَاعِ مَشْرُوعٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ، وَنَصُّهُ:" وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ فَأَمَّا دَوَرَانُهُ وَوَضْعُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِبْلَاغِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ " انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ لَفْظَ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَطْلُوبٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَشْرُوعِيَّةِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَوَّلِ بَابِ الْأَذَانِ، وَقَالَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ، وَقَالَ: إنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ لَا يَدُورُ وَلَا يَلْتَفِتُ فِي التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ: وَجَائِزٌ أَنْ يَبْتَدِئَ الْأَذَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ انْتَهَى. وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ
ص (وَحِكَايَتُهُ لِسَامِعِهِ لِمُنْتَهَى الشَّهَادَتَيْنِ مَثْنًى وَلَوْ مُتَنَفِّلًا لَا مُفْتَرِضًا)
ش يَعْنِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ حِكَايَةُ الْمُؤَذِّنِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ حُكْمَهَا الِاسْتِحْبَابُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَأَطْلَقَ ابْنُ زَرْقُونٍ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَلَا أَعْرِفُهُ، قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: هُوَ قُصُورٌ بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ لِنَقْلِ ابْنِ شَاسٍ فِي التَّهْذِيبِ، قَالَ: الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَسَمِعْنَا فِي الْمُذَكِّرَاتِ قَوْلَيْنِ: الْوُجُوبَ وَنَفْيَهُ وَهُمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَوَامِرِهِ عليه الصلاة والسلام هَلْ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْخِلَافَ ابْنُ رُشْدٍ، فَقَالَ: وَقِيلَ: وَاجِبٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوُجُوبُ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ عَنْهُ هِيَ تَبَعِيَّةُ قَوْلِ الْحَاكِي لِلْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي هُوَ الْأَذَانُ انْتَهَى، وَقَوْلُهُ: لِمُنْتَهَى الشَّهَادَتَيْنِ يَعْنِي أَنَّ الْحِكَايَةَ تَنْتَهِي إلَى قَوْلِهِ: " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَمَعْنَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقُلْ مِثْلَ مَا يَقُولُ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَقَعُ فِي قَلْبِي إلَى قَوْلِهِ:" وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " قَالَ فِي الطِّرَازِ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّشَهُّدَ لَفْظٌ هُوَ فِي عَيْنِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَمْجِيدٌ وَتَوْحِيدٌ وَالْحَيْعَلَةُ إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ وَالسَّامِعُ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَيْهَا وَقَدْ وَقَعَ تَصْدِيقُ مَا وَقَعَ بِقَلْبِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ إيمَاءِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام إلَى ذَلِكَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» فَلَمْ يَذْكُرْ عليه الصلاة والسلام إلَّا لَفْظَ التَّمْجِيدِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّشَهُّدِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنَا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا فَلَمَّا انْقَضَى التَّأْذِينُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ مِثْلَ مَا سَمِعْتُمْ مِنْ مَقَالَتِي» ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ، وَقَوْلِ مَالِكٍ يَقَعُ فِي قَلْبِي يُرِيدُ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَجْهَهُ انْتَهَى.
وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يُحَاكِيَهُ فِي جَمِيعِ الْأَذَانِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ شَعْبَانَ عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ فَيُبْدِلُ الْحَيْعَلَتَيْنِ بِالْحَوْقَلَةِ أَيْ يُعَوِّضُ عَنْ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ يَحْكِي مَا بَعْدَهُمَا هَكَذَا، قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي التَّوْضِيحِ أَنَّهُ إنَّمَا يُعَوِّضُ فِي قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَذَكَرَ
أَنَّهُ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
(قُلْتُ) وَلَمْ أَرَ زِيَادَةَ قَوْلِهِ: " الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ " فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُحَوْقِلُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَالْحِكْمَةُ فِي إبْدَالِ الْحَوْقَلَةِ مِنْ الْحَيْعَلَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمَازِرِيُّ، وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحَيْعَلَةَ دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْأَجْرُ فِيهِ بِالْإِسْمَاعِ فَأُمِرَ الْحَاكِي بِالْحَوْقَلَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لِقَائِلِهَا سَوَاءٌ أَعْلَنَهَا أَوْ أَخْفَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْأَذَانِ ذِكْرٌ، وَهِيَ تُفِيدُ الْحَاكِيَ بِخِلَافِ الْحَيْعَلَةِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا هَلُمُّوا إلَى الصَّلَاةِ هَلُمُّوا إلَى الْفَلَاحِ وَلَا يُفِيدُ الْحَاكِيَ قَوْلُهُمَا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَعُوِّضَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ كَلَامًا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ، وَيَكُونُ جَوَابًا لَهُ بِأَنْ تَبَرَّأَ مِنْ الْحَوْلِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى إتْيَانِ الصَّلَاةِ، وَالْفَلَاحِ إلَّا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: الْحَوْلُ مَعْنَاهُ الْمُحَاوَلَةُ وَالتَّحَيُّلُ وَالْقُوَّةُ مَعْنَاهَا الْقُدْرَةُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ لَا حِيلَةَ لَنَا وَلَا قُدْرَةَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ الدَّمِيرِيُّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» أَيْ: أَجْرُهَا مُدَّخَرٌ لِقَائِلِهَا كَمَا يُدَّخَرُ الْكَنْزُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: تَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيَّ، وَقَالَ: هَكَذَا أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام» انْتَهَى.
وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ إشَارَةٌ إلَى عَظِيمِ الثَّوَابِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهَا وَنَفَاسَتِهِ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الثَّوَابِ مُدَّخَرٌ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْحَوْلُ الْحَرَكَةُ أَيْ: لَا حَرَكَةَ وَلَا اسْتِطَاعَةَ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ وَآخَرُونَ وَقِيلَ: لَا حَوْلَ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةَ فِي تَحْصِيلِ خَيْرٍ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ حَكَى تَفْسِيرَ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ قَالَ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ لُغَةً غَرِيبَةً ضَعِيفَةً يُقَالُ: لَا حَيْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ بِالْيَاءِ، قَالَ: وَالْحَيْلُ وَالْحَوْلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. وَلَمْ يُضَعِّفْ الْجَوْهَرِيُّ اللُّغَةَ الْمَذْكُورَةَ بَلْ قَالَ: هِيَ لُغَةٌ، وَحَكَاهَا ابْنُ فَرْحُونٍ، وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ: أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَالَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ.
(الثَّانِي)، قَالَ الدَّمِيرِيُّ: الْحَاءُ وَالْعَيْنُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنْ تُؤَلَّفَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ كَالْحَيْعَلَةِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي الْمُعَلِّمِ: قَالَ فِي الْمُطَرَّزِ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ، وَغَيْرِهِ: إنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ أَسْمَائِهَا سَبْعَةٌ، وَهِيَ:" بَسْمَلَ " إذَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ " وَسَبْحَلَ " إذَا قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ " وَحَوْقَلَ " إذَا قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، " وَحَيْعَلَ " إذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ " الْحَيْصَلَةُ " إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ، " وَحَمْدَلَ " إذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، " وَهَيْلَلَ " إذَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، " وَجَعْفَلَ " إذَا قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ زَادَ الثَّعْلَبِيُّ " الطَّبْقَلَةُ " إذَا قَالَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، " وَالدَّمْعَزَةُ " إذَا قَالَ: أَدَامَ اللَّهُ عِزَّكَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ: قَوْلُهُ " الْحَيْصَلَةُ " عَلَى قِيَاسِ الْحَيْعَلَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ الْحَيْعَلَةُ تَنْطَلِقُ عَلَى " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ "، وَعَلَى " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " كُلُّهُ حَيْعَلَةٌ وَلَوْ كَانَ عَلَى قِيَاسِهِ فِي الْحَيْصَلَةِ لَقِيلَ فِي: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ الْحَيْفَلَةُ، وَهَذَا لَمْ يُقَلْ وَإِنَّمَا الْحَيْعَلَةُ مِنْ حَيَّ عَلَى كَذَا فَكَيْفَ وَهَذَا بَابٌ مَسْمُوعٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ:" جَعْفَلَ " فِي جُعِلْتُ فِدَاكَ لَوْ كَانَ عَلَى قِيَاسِ " الْحَيْعَلَةِ " لَكَانَ جَعْلَفَ إذْ اللَّامُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْفَاءِ وَكَذَلِكَ " الطَّبْقَلَةُ " تَكُونُ اللَّامُ عَلَى الْقِيَاسِ قَبْلَ الْبَاءِ وَالْقَافِ انْتَهَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُقَالُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ قَوْلِهِمْ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " الْحَوْقَلَةُ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ:" الْحَوْقَلَةُ " فَعَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْحَاءُ وَالْوَاوُ مِنْ الْحَوْلِ، وَالْقَافُ مِنْ الْقُوَّةِ، وَاللَّامُ مِنْ اسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى الثَّانِي الْحَاءُ وَاللَّامُ مِنْ الْحَوْلِ، وَالْقَافُ مِنْ الْقُوَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَ
الْحُرُوفِ وَمِثْلُ الْحَوْقَلَةِ الْحَيْعَلَةُ فِي " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى كَذَا "، وَالْبَسْمَلَةُ فِي " بِسْمِ اللَّهِ "، وَالْحَمْدَلَةُ فِي " الْحَمْدِ لِلَّهِ "، وَالْهَيْلَلَةُ فِي " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، وَالسَّبْحَلَةُ فِي " سُبْحَانَ اللَّهِ ".
(قُلْتُ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَسْبَلَةَ وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّاطِبِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ وَقَبِلَهَا شُرَّاحُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا مَسْمُوعَةٌ.
(الثَّالِثُ) : لَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا يَقُولُ الْحَاكِي فِي قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ إذَا أَذَّنَ الصُّبْحَ " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، فَقَالَ: وَيَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، وَقِيلَ: يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ، وَاقْتَصَرَ فِي مِنْهَاجِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ الدَّمِيرِيُّ وَادَّعَى ابْنُ الرِّفْعَةِ أَنَّ خَبَرًا وَرَدَ فِيهِ، وَلَا يُعْرَفُ مَا قَالَهُ " وَبَرِرْتُ " بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) سَمِعْتُ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ أَرْشَدَكَ اللَّهُ، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ.
(الرَّابِعُ) إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ أَنَّ مُنْتَهَى الْحِكَايَةِ إلَى مُنْتَهَى الشَّهَادَتَيْنِ فَهَلْ تَرْكُ الْحِكَايَةِ فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ أَوْلَى أَوْ جَائِزَةٌ؟ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِي يَقَعُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَحْكِيهِ إلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى وَهَذَا عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ سَحْنُونٌ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُمَا تَأَوَّلَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ، وَإِنْ أَتَمَّ الْأَذَانَ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا وَعَلَى ذَلِكَ اقْتَصَرَ الْبَرَاذِعِيُّ، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ وَالْبَاجِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ وَلَوْ فَعَلَ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِي، وَصَوَّبَهُ بَعْضُ شُيُوخِ عَبْدِ الْحَقِّ أَيْ: لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ وَأَمَّا إتْمَامُ الْأَذَانِ فَلَيْسَ مَذْكُورًا انْتَهَى. وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ قَالَ: لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا لَا يَلِيقُ أَنْ يُعَلَّقَ بِفِعْلِ مَا يَتَنَاوَلُ عُمُومَ اللَّفْظِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْقُولٌ مِنْ نَفْسِ الْعُمُومِ فَإِنَّمَا اللَّائِقُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ بَأْسٌ فِيمَا تَرَكَ، وَلَعَمْرِي أَيْضًا لَوْ حَكَى مَعَهُ جَمِيعَ الْأَذَانِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَكِنْ الْمُنَاقَشَةُ فِيمَا هُوَ قَصْدُ مَالِكٌ انْتَهَى.
(الْخَامِسُ) : قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: إذَا قُلْنَا لَا يَحْكِيهِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَهَلْ يَحْكِيهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ؟ خَيَّرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ انْتَهَى. يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَيَقُولُ مِثْلَهُ؟ قَالَ: هُوَ مِنْ ذَلِكَ فِي سَعَةٍ إنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: أَسْقَطَ الْبَرَاذِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَلَعَلَّهُ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ " وَإِنْ أَتَمَّ مَعَهُ الْأَذَانَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَائِدُ، مِنْهَا: أَنَّهُ مَا يَلْزَمُهُ تَكْرَارُ اللَّفْظَةِ وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الذِّكْرُ لَا غَيْرُ فَيَكْتَفِي بِقَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ عَنْ تَكْرِيرِ الشَّهَادَتَيْنِ كَمَا يَكْتَفِي بِذِكْرِ أَوَّلِهِ عَنْ ذِكْرِ آخِرِهِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا سَمِعَ مُؤَذِّنًا آخَرَ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَرْعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ مَعَهُ كَآخِرِ الْأَذَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَلْزَمُهُ بِخِلَافِ آخِرِ الْأَذَانِ، وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْأَصْلَ حُصُولُ الْوِفَاقِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ وَحْدَهُ يُنْدَبُ إلَى الْإِقَامَةِ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقِيمُ لَهَا وَاحِدٌ فَلَوْ كَانَ تَكْرَارُ الْأَذَانِ يُوجِبُ تَكْرَارَ الْحِكَايَةِ لِاسْتُحِبَّ لِكُلِّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يُقِيمَ الصَّلَاةَ إذَا أَقَامَهَا الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ مَا أَذَّنَ انْتَهَى.
(فَائِدَةٌ) قَالَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ: حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ الصَّدِيقُ الصَّدُوقُ الصَّالِحُ الْأَزْكَى الْعَالِمُ الْأَوْفَى الْمُجْتَهِدُ الْمُجَاوِرُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمُتَجَرِّدُ الْأَرْضَى صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَيِّدِنَا الصَّالِحِ بَهَاءِ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْفَاسِيِّ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَقِيتُ الشَّيْخَ الْعَالِمَ الْمُتَفَنِّنَ الْمُفَسِّرَ الْمُحَدِّثَ الْمَشْهُورَ الْفَضَائِلُ نُورَ الدِّينِ الْخُرَاسَانِيَّ بِمَدِينَةِ شِيرَازَ، وَكُنْتُ عِنْدَهُ فِي وَقْتِ الْأَذَانِ فَلَمَّا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَبَّلَ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ إبْهَامَيْ يَدَيْهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَمَسَحَ بِالظُّفْرَيْنِ أَجْفَانَ عَيْنَيْهِ عِنْدَ كُلِّ تَشَهُّدٍ مَرَّةً بَدَأَ بِالْمُوقِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَنْفِ، وَخَتَمَ بِاللَّحَاظِ مِنْ نَاحِيَةِ الصُّدْغِ، قَالَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنِّي كُنْتُ أَفْعَلُهُ مِنْ غَيْرِ
رِوَايَةِ حَدِيثٍ، ثُمَّ تَرَكْتُهُ فَمَرِضَتْ عَيْنَايَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي لِمَ تَرَكْتَ مَسْحَ عَيْنَيْكَ عِنْدَ ذِكْرِي فِي الْأَذَانِ إنْ أَرَدْتَ أَنْ تَبْرَأَ عَيْنَاكَ فَعُدْ إلَى الْمَسْحِ أَوْ كَمَا قَالَ فَاسْتَيْقَظْتَ وَمَسَحْتَ فَبَرِئَتْ عَيْنَايَ وَلَمْ يُعَاوِدْنِي مَرَضُهُمَا إلَى الْآنَ. وَرُوِيَ عَنْ الْخَضِرِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرْحَبًا بِحَبِيبِي وَقُرَّةِ عَيْنِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُقَبِّلُ إبْهَامَيْهِ، وَيَجْعَلُهُمَا عَلَى عَيْنَيْهِ لَمْ يَعْمَ، وَلَمْ يَرْمَدْ أَبَدًا، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَاللَّحَاظُ بِالْفَتْحِ مُؤَخَّرُ الْعَيْنِ انْتَهَى. زَادَ فِي مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْأَذَانِ، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُوقَ هُوَ جَانِبُ الْعَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْأَنْفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ مُثَنِّي يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْحَاكِيَ يُكَرِّرُ الشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَلَا يُرَجِّعُ كَمَا يُرَجِّعُ الْمُؤَذِّنُ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَفِي تَكْرِيرِ التَّشَهُّدِ قَوْلَانِ أَيْ فِي التَّرْجِيعِ، وَأَمَّا تَثْنِيَتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا كَالتَّكْبِيرِ وَحَاصِلُهُ هَلْ يَقُولُ الشَّهَادَتَيْنِ مِثْلَ الْمُؤَذِّنِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّكْرَارِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَالتَّكْرَارُ لِلدَّاوُدِيِّ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ لِابْنِ فَرْحُونٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالْأَوْلَى بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَشْهُورِ الِانْتِهَاءُ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ مَعَهُ أَرْفَعُ فَعِنْدَهُ تَكُونُ الْحِكَايَةُ أَظْهَرَ انْتَهَى.
وَالْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَرَافِيُّ عَنْ الْمَازِرِيِّ وَعَلَّلَ الْأَوَّلَ بِحُصُولِ الْمِثْلِيَّةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِثْلَ مَا يَقُولُ بِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَبِأَنَّ التَّرْجِيعَ إنَّمَا هُوَ لِلْإِسْمَاعِ وَالسَّامِعُ لَيْسَ بِمُسْمِعٍ، وَعَلَّلَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ نَظَرٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَثْنِيَةِ الشَّهَادَتَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كَلَامِهِ فِي التَّوْضِيحِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الَّذِي يَحْكِي فِيهِ الْمُؤَذِّنَ هَلْ إلَى التَّشَهُّدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَمْ الْآخَرَيْنِ أَمْ لِآخِرِ الْأَذَانِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَتُسْتَحَبُّ الْحِكَايَةُ وَفِي كَوْنِهَا لِآخِرِ التَّشَهُّدَيْنِ أَوْ آخِرِهِ مُعَوِّضًا الْحَيْعَلَةَ بِالْحَوْقَلَةِ قَوْلَانِ لَهَا، وَلِابْنِ حَبِيبٍ مَعَ رِوَايَةِ ابْنِ شَعْبَانَ وَعَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْلٍ: التَّشَهُّدُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَمُعَاوَدَتُهُ إذَا عَاوَدَهُ الْمُؤَذِّنُ مَعَهُ أَوْ قَبْلَهُ نَقْلًا، الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْقَاضِي انْتَهَى.
فَقَوْلُهُ: " مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ " قَدْ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ، هَلْ يَحْكِيهِ فِي التَّرْجِيعِ أَمْ لَا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْبَاجِيِّ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الْقَوْلَيْنِ؟ نَعَمْ كَلَامُ صَاحِبِ الطِّرَازِ الْمُتَقَدِّمُ يُوهِمُ أَنْ لَا يُكَرِّرَ الشَّهَادَةَ فَتَأَمَّلْهُ.
(الثَّانِي) مَنْ لَمْ يَسْمَعْ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْكِيهِ فِي التَّرْجِيعِ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ، وَفِي كَلَامِ اللَّخْمِيِّ فِي أَوَّلِ بَابِ الْأَذَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ.
(الثَّالِثُ) إذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا فَهَلْ يَحْكِيهِ فِي الْأَرْبَعِ أَوْ إنَّمَا يَحْكِيهِ فِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصَّا، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَحْكِيهِ فِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْكِهِ فِي التَّرْجِيعِ مَعَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَأَحْرَى فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ انْتَهَى.
(الرَّابِعُ) تَقَدَّمَ الْخِلَافُ بِتَكْرِيرِ الْحِكَايَةِ إذَا تَكَرَّرَ الْمُؤَذِّنُونَ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْمَازِرِيُّ، وَنَقَلَهُمَا عَنْهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ نَاجِي وَاخْتَارَ اللَّخْمِيُّ تَكْرَارَ الْحِكَايَةِ وَتَقَدَّمَ كَلَامُ صَاحِبِ الطِّرَازِ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَخَذَ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ عَدَمَ التَّكْرَارِ، وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ مَيْلٌ إلَيْهِ، وَصَرَّحَ الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بِأَنَّ الْمَشْهُورَ نَفْيُ التَّعَدُّدِ.
(الْخَامِسُ) قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ التَّادَلِيُّ: وَاخْتُلِفَ هَلْ يُحَاكِي الْمُؤَذِّنُ مُؤَذِّنًا غَيْرَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمْ صَاحِبُ الْحُلَلِ قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَلَا أَعْرِفُهُ لِغَيْرِهِ، نَعَمْ يَجْرِي الْخِلَافُ مِنْ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(السَّادِسُ) يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْأَذَانِ، وَأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تُبْتَغَيْ إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» ، وَقَوْلُهُ: مَقَامًا مَحْمُودًا كَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مُنَكَّرًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، وَرُوِيَ مَعْرُوفًا، وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِي وَعَدْتَهُ إنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَصَرَّحَ صَاحِبُ الطِّرَازِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْحِكَايَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّهُ يَحْكِيهِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَقَوْلَ سَحْنُونٍ: أَنَّهُ لَا يَحْكِيهِ فِيهِمَا، قَالَ فِي تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَتَعَلَّقَ ابْنُ حَبِيبٍ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَتَعَلَّقَ سَحْنُونٌ بِمَسَاقِهِ فَإِنَّ فِيهِ " ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ " وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ، قَالَ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يَعْنِي فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَسْكَرٍ فِي عُمْدَتِهِ وَيُسْتَحَبُّ لِسَامِعِي الْأَذَانِ حِكَايَتُهُ لِمُنْتَهَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَيُعَوِّضُ الْحَوْقَلَةَ عَنْ الْحَوْعَلَةِ، وَيَقُولُ إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْقَوَانِينِ: وَيَنْبَغِي لِسَامِعِ الْأَذَانِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَسْأَلَ مِنْ اللَّهِ لَهُ الْوَسِيلَةَ ثُمَّ يَدْعُوَ بِمَا شَاءَ انْتَهَى. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ لِلْمُؤَذِّنِ أَيْضًا وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الدُّعَاءُ عِنْدَ الْأَذَانِ وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ فِيمَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ سَمِعَ السَّامِعُونَ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَنِعْمَتِهِ اللَّهُمَّ أَفْضِلْ عَلَيْنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ، فَقَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ قَالَ رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْأَذَانَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ النَّافِعَةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَأَعْطِهِ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالشَّفَاعَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ إذَا سَمِعَتْ الْمُؤَذِّنَ، قَالَتْ: شَهِدْتُ وَآمَنْتُ وَأَيْقَنْتُ وَصَدَّقْتُ وَأَجَبْتُ دَاعِيَ اللَّهِ وَكَفَرْتُ مَنْ أَبَى أَنْ يُجِيبَهُ انْتَهَى.
(فَائِدَةٌ) قَالَ فِي الْإِكْمَالِ فِي قَوْلِهِ: " حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ "، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَخْصُوصًا لِمَنْ فَعَلَ مَا حَضَّ عليه الصلاة والسلام عَلَيْهِ وَأَتَى بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ وَفِي وَقْتِهِ بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقِ نِيَّةٍ، وَكَانَ بَعْضُ مَنْ رَأَيْنَاهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ يَقُولُ: هَذَا وَمِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا "، هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مُحْتَسِبًا مُخْلِصًا قَاضِيًا حَقَّهُ بِذَلِكَ إجْلَالًا لِمَكَانِهِ وَحُبًّا فِيهِ لَا لِمَنْ قَصَدَ بِذَلِكَ وَدَعَا بِهِ مُجَرَّدَ الثَّوَابِ وَرَجَاء أَوْ مُجَرَّدَ الْإِجَابَةِ لِدُعَائِهِ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ وَالْحَظَّ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى.
، وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ: وَالدُّعَاءُ حِينَئِذٍ تُرْجَى بَرَكَتُهُ، وَعِنْدَ الزَّحْفِ، وَنُزُولِ الْغَيْثِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ انْتَهَى.
(السَّابِعُ) مَا ذَكَرَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«مَنْ قَالَ حِينَ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ وَأَنَا أَشْهَدُ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ فِيهِ: «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» .
(قُلْتُ) وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ضَعِيفَةٌ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِالْجُزْءِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ {تَفْرِيحُ الْقُلُوبِ بِالْخِصَالِ
الْمُكَفِّرَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ الذُّنُوبِ} ، وَبَيَّنَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي الْأَذْكَارِ أَنَّهُ يَقُولُ: رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا. إلَخْ بَعْدَ قَوْلِهِ: " وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ "، وَقَوْلِهِ:" وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا " كَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِيهَا أَيْضًا تَقْدِيمُ قَوْلِهِ: وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، عَلَى قَوْلِهِ: وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ تَقْدِيمُ قَوْلِهِ:" وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا " وَقَالَ فِيهَا: " وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا " قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا: فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا رَسُولًا.
(قُلْتُ) وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الْأَذْكَارِ لَمَّا ذَكَرَ أَذْكَارَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، فَقَالَ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ: وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ:" نَبِيًّا "، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ الْإِنْسَانُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ:" نَبِيًّا وَرَسُولًا " وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَكَانَ عَامِلًا بِالْحَدِيثِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فِي مَرَّةٍ: " أَشْهَدُ " وَفِي مَرَّةٍ: " وَأَنَا أَشْهَدُ "؛ لِيَعْمَلَ بِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ.
(الثَّامِنُ) زَادَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ قَوْلِهِ: " وَالْفَضِيلَةَ "" وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ "، قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةَ: لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ، قَالَ وَكَانَ مَنْ زَادَهَا اغْتَرَّ بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشِّفَاءِ فِي الْحَدِيثِ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَكِنْ مَعَ زِيَادَتِهَا فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ عَلَّمَ عَلَيْهَا كَاتِبُهَا بِمَا يُشِيرُ إلَى الشَّكِّ فِيهَا، وَلَمْ أَرَهَا فِي سَائِرِ نُسَخِ الشِّفَاءِ، بَلْ عَقَدَ لَهَا فِي الشِّفَاءِ فَصْلًا فِي مَعَانٍ أُخَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَدِيثًا صَرِيحًا، وَهُوَ دَلِيلٌ لِغَلَطِهَا انْتَهَى.
(قُلْتُ) يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ: فَصْلٌ فِي تَفْضِيلِهِ فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ انْتَهَى.
وَقَالَ الدَّمِيرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَقَعَ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ، وَالْمُحَرَّرِ بَعْدَ " وَالْفَضِيلَةَ " زِيَادَةُ " وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ " وَلَا وُجُودَ لَهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
(التَّاسِعُ) الْمُرَادُ بِالدَّعْوَةِ التَّامَّةِ: الْأَذَانُ وُصِفَتْ الدَّعْوَةُ بِالتَّمَامِ؛ لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَيُدْعَى بِهَا إلَى عِبَادَتِهِ، وَقَوْلُهُ:" وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ " أَيْ: الصَّلَاةِ الَّتِي سَتُقَامُ وَتُفْعَلُ " وَالْوَسِيلَةَ " أَصْلُهَا مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الشَّيْءِ، وَقَدْ فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ: بِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرَ الدَّمِيرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ فَسَّرَهَا بِأَنَّهَا قُبَّتَانِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ إحْدَاهُمَا مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ يَسْكُنُهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَآلُهُ، وَالْأُخْرَى مِنْ يَاقُوتَةٍ صَفْرَاءَ يَسْكُنُهَا إبْرَاهِيمُ وَآلُهُ عليه الصلاة والسلام، وَالْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ، وَقَوْلُهُ:" الَّذِي وَعَدْتَهُ " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: " مَقَامًا مَحْمُودًا " لَا نَعْتٌ عَلَى رِوَايَةِ التَّنْكِيرِ، وَنَعْتٌ عَلَى رِوَايَةِ التَّعْرِيفِ، وَقَوْلُهُ: فِي الْحَدِيثِ " وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ صَاحِبُهُ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَزِيدُهُ بِكَثْرَةِ دُعَاءِ أُمَّتِهِ رِفْعَةً كَمَا زَادَهُ بِصَلَاتِهِمْ، ثُمَّ أَنَّهُ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ بِنَيْلِ الْأُجُورِ وَوُجُوبِ شَفَاعَتِهِ، وَقَوْلُهُ: فِي الْحَدِيثِ " حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ " قَالَ فِي الْإِكْمَالِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ يَعْنِي حَلَّتْ عَلَيْهِ: غَشِيَتْهُ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ " حَلَّتْ " بِمَعْنَى: وَجَبَتْ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: حَلَّ يَحِلُّ: وَجَبَ، وَحَلَّ يَحُلُّ: نَزَلَ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَحَلَّ الْعَذَابُ يَحِلُّ بِالْكَسْرِ أَيْ: وَجَبَ، وَيَحُلُّ بِالضَّمِّ نَزَلَ، وَقُرِئَ بِهِمَا:{فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] انْتَهَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فَكَأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَازِمَةٌ لَهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ:" حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ " كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْعَاشِرُ) قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى أَثَرِ أَذَانِهِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ وَقَدْ حَدَّثَنِي أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: الرَّكْعَتَانِ مِنْ سُنَّةِ الْأَذَانِ إلَّا عَلَى أَثَرِ أَذَانِ الْمَغْرِبِ قَالَ فَضْلٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا: يَقُولُ أَدْرَكْتُ بَعْضَ الشُّيُوخِ إذَا سَمِعَ مُؤَذِّنَ الْمَغْرِبِ قَامَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، قَالَ مَالِكٌ وَلَا يُعْجِبُنِي هَذَا مِنْ الْعَمَلِ، وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ الْمُخْتَصَرِ: وَالرُّكُوعُ بِأَثَرِ الْأَذَانِ وَاسِعٌ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْكَعَ أَثَرَ الْأَذَانِ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ، وَقَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ انْتَهَى. هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فَيُكْرَهُ لَهُ الرُّكُوعُ عِنْدَ الْأَذَانِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً، فَأَمَّا إنْ صَادَفَ ذَلِكَ
دُخُولَهُ الْمَسْجِدَ أَوْ تَنَفُّلَهُ فَلَا، قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ: وَيُكْرَهُ قِيَامُ النَّاسِ لِلرُّكُوعِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَغَيْرِهَا انْتَهَى. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ: وَتَنَفُّلُ إمَامٍ قَبْلَهَا أَوْ جَالِسٍ عِنْدَ الْأَذَانِ، وَقَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ: قَالَ الْأَصْحَابُ: وَإِنَّمَا قَالَ: وَالْمُرَادُ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ، كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ فِي الصَّغِيرِ، وَالْبِسَاطِيُّ وَالْأَقْفَهْسِيُّ، وَقَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ: وَإِنَّمَا كُرِهَ خَشْيَةَ أَنْ يُعْتَقَدَ فَرْضِيَّتُهُ فَلَوْ فَعَلَهُ إنْسَانٌ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ اسْتِنَانًا انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَيَنْهَى الْإِمَامُ النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرْكَعُ حِينَ دُخُولِهِ وَلَا يُزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصْعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَمِنْهُمْ: مَنْ كَانَ يَرْكَعُ وَيَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُمْنَعُ الرُّكُوعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَنْ أَرَادَهُ وَإِنَّمَا الْمَنْعُ فِي اتِّخَاذِ ذَلِكَ عَادَةً بَعْدَ الْأَذَانِ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَيَجُوزُ الْكَلَامُ وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهُ فَفِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ جَلَسْنَا نَتَحَدَّثُ فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ، وَقَامَ عُمَرُ يَخْطُبُ أَنْصَتْنَا فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَّا. وَقَوْلُهُ:" وَلَوْ مُتَنَفِّلًا لَا مُفْتَرِضًا " يَعْنِي أَنَّ الْحِكَايَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَوْ كَانَ الْحَاكِي مُتَنَفِّلًا وَأَمَّا الْمُفْتَرِضُ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْحِكَايَةُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ يُحَاكِيهِ فِيهِمَا، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ حَبِيبٍ، قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: لِأَنَّهُ تَهْلِيلٌ وَتَكْبِيرٌ وَذِكْرُ اللَّهِ، وَهَذَا جَائِزٌ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَلَا يَحْكِيهِ فِيهِمَا.
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) إذَا قُلْنَا يَحْكِيهِ فِي النَّافِلَةِ أَوْ فِيهِمَا فَإِنَّمَا يَحْكِيهِ إلَى التَّشَهُّدَيْنِ، وَلَوْ قُلْنَا إنَّ الْحِكَايَةَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِ الْأَذَانِ، قَالَ فِي الطِّرَازِ: إذَا قُلْنَا يُتِمُّ مَعَهُ الْأَذَانَ، وَيَحْكِيهِ فِي لَفْظِ " الْحَيْعَلَةِ " فَذَلِكَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَإِنْ حَكَاهُ فِي الصَّلَاةِ، فَهَلْ تَبْطُلُ؟ يُخْتَلَفُ فِيهِ فَقِيلَ: تَفْسُدُ، حَكَاهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي نُكَتِهِ، وَقَالَ الْأَصِيلِيُّ: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ، وَمُقْتَضَى أَصْلِ الْمَذْهَبِ بُطْلَانُ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهَا فِيمَا لَمْ يُشْرَعْ جِنْسُهُ فِيهَا وَمَا لَا يَعُودُ إلَى إصْلَاحِهَا وَلَا يَنْفَعُهُ جَهْلُهُ، وَالْجَاهِلُ وَالْعَامِدُ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ سِيَّانِ انْتَهَى.
فَإِنْ قِيلَ كَلَامُ صَاحِبِ الطِّرَازِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْهُ حِكَايَةَ " الْحَيْعَلَةِ " بِلَفْظِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ حَكَى الْبُطْلَانَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ قَالَ فِي صَلَاتِهِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّهَا ذِكْرٌ فَالْجَوَابُ: إنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي حِكَايَةِ لَفْظِ " الْحَيْعَلَةِ " عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلَهَا " بِالْحَوْقَلَةِ " وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ يَحْكِيهَا بِلَفْظِهَا، وَأَيْضًا فَكَلَامُ ابْنِ بَشِيرٍ وَصَاحِبِ الْجَوَاهِرِ وَالْقَرَافِيّ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ بَعْدَ أَنْ حَكَى الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ: وَإِذَا قُلْنَا يَحْكِيهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَبْلُغُ إلَى آخِرِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ:" حَيٌّ عَلَى الصَّلَاةِ " فَإِنَّهُ يُبْطِلُهَا وَهَذَا إذَا كَانَ عَمْدًا، وَأَمَّا النَّاسِي فَلَا يُبْطِلُهَا، وَالْجَاهِلُ يَجْرِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَهْلِ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَمْدِ أَوْ النِّسْيَانِ؟ وَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: ثُمَّ حَيْثُ قُلْنَا يَحْكِي فَلَا يُجَاوِزُ التَّشَهُّدَيْنِ وَلَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " فَقَالَ الْأَصِيلِيُّ: لَا تَبْطُلُ، وَحَكَى عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ الْقَرَوِيِّينَ: أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَأَنَّهُ كَالْمُتَكَلِّمِ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إذَا قُلْنَا يَحْكِيهِ فِي الْفَرْضِ أَوْ فِي النَّفْلِ فَقَطْ، وَلَا يَتَجَاوَزُ التَّشَهُّدَيْنِ فَلَوْ قَالَ:" حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " ثُمَّ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ بَشِيرٍ أَنَّ الْعَامِدَ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَنَّ النَّاسِيَ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَاهِلِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالْعَامِدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ.
(الثَّانِي) : إذَا قُلْنَا لَا يَحْكِيهِ فِي الْفَرِيضَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَهَلْ يَحْكِيهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْكِيهِ كَمَا يَرُدُّ الْمُؤَذِّنُ السَّلَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ
انْتَهَى. وَجَزَمَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ، فَقَالَ: قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: إذَا قُلْنَا لَا يَحْكِيهِ فِي الْفَرِيضَةِ حَكَاهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) عُورِضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَا فِي كِتَابِ الِاعْتِكَافِ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ، وَإِنْ انْتَهَى إلَيْهِ زِحَامُ الْمُصَلِّينَ، وَفَرَّقَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَلَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَحِكَايَةُ الْمُؤَذِّنِ تَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ فِي خَاصَّتِهِ وَبِأَنَّ الْحِكَايَةَ ذِكْرٌ، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ، وَصَلَاةَ الْجَنَائِزِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَا الْمُعْتَكِفُ فِيهِ وَبِأَنَّ الْحِكَايَةَ أَمْرٌ قَرِيبٌ يَسِيرٌ وَأَمْرُ الْجِنَازَةِ يَطُولُ الِاشْتِغَالُ فِيهِ انْتَهَى. بِالْمَعْنَى مِنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَعَارَضَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ أَيْضًا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا عَطَسَ لَا يَحْمَدُ اللَّهَ فَإِنْ فَعَلَ فَفِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: اُنْظُرْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ فَرْقًا فَتَأَمَّلْهُ.
(الرَّابِعُ)، قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: إذَا قُلْنَا يَحْكِي فِي الْفَرْضِ فَلَوْ كَانَ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقَدْ أُذِّنَ لَهَا، فَهَلْ يَشْرَعُ لَهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ أَوْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ لَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَذَّنَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَتَى بِالْأَكْمَلِ فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ الْعِوَضِ مِمَّنْ أَتَى بِالْمُعَوِّضِ، قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ (قُلْتُ) لَا خَفَاءَ فِي ضَعْفِ هَذَا التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَزَايَا الشَّرْعِيَّةَ لَا غَايَةَ لَهَا انْتَهَى.
(قُلْتُ) هَذَا يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ نَاجِي عَنْ التَّادَلِيِّ فِي الْمُؤَذِّنِ هَلْ يَحْكِي مُؤَذِّنًا غَيْرَهُ أَمْ لَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَأَذَانُ فَذٍّ إنْ سَافَرَ)
ش الْفَذُّ: الْمُنْفَرِدُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ، وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى بِأَرْضٍ فَلَاةٍ صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ أَوْ أَقَامَ صَلَّى وَرَاءَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ. (تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمُوَطَّإِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَعَزَا الْحَدِيثَ الثَّانِيَ لِلْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ فِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مُرْسَلًا وَأَسْنَدَهُ النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ. (الثَّانِي) : ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي سَعِيدٍ: إنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الْغَنَمَ. إلَخْ، وَتَعَقَّبَهُمْ ابْنُ الصَّلَاح، وَقَالَ هَذَا وَهْمٌ وَتَحْرِيفٌ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ لِلرَّاوِي عَنْهُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا النَّوَوِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا غَيَّرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمَازِرِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَجَعَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْقَائِلُ هَذَا الْكَلَامَ لِأَبِي سَعِيدٍ وَغَيَّرُوا لَفْظَهُ، وَالصَّوَابُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَالْمُوَطَّإِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ اللَّفْظَ السَّابِقَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَأَجَابَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ قَوْلَ أَبِي سَعِيدٍ: " سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " عَائِدٌ إلَى كُلِّ مَا ذُكِرَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَذُكِرَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ. (قُلْتُ) وَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ.
(الثَّالِثُ) قَوْلُهُ: مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَقْصُورٌ يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَهُوَ غَايَةُ الشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى لَا يَسْمَعُ غَايَةَ صَوْتِهِ. إلَخْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: غَايَةُ الصَّوْتِ تَكُونُ أَخْفَى مِنْ ابْتِدَائِهِ فَإِذَا شَهِدَ لَهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ، وَوَصَلَ إلَيْهِ
مُنْتَهَى صَوْتِهِ فَلَأَنْ يَشْهَدَ لَهُ مَنْ دَنَا مِنْهُ، وَسَمِعَ مُنَادَى صَوْتِهِ أَوْلَى انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: " شَهِدَ لَهُ " ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا عَلَى بَابِهَا وَرَأَيْت فِي حَاشِيَتِهِ نُسْخَةً مِنْ الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا بِمَعْنَى الشَّفَاعَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالسِّرُّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهَا تَقَعُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالشَّهَادَةِ أَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ جَرَتْ عَلَى نَعْتِ أَحْكَامِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا مِنْ تَوْجِيهِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ وَالشَّهَادَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ اشْتِهَارُ الْمَشْهُودِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْفَضْلِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْضَحُ بِالشَّهَادَةِ أَقْوَامًا فَكَذَلِكَ يُكْرِمُ بِالشَّهَادَةِ أَقْوَامًا آخَرِينَ انْتَهَى. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ، فَعَلَى رِوَايَةِ مَدَى صَوْتِهِ يَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ " مَدَّ صَوْتِهِ " يَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى النِّيَابَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذُنُوبَهُ لَوْ كَانَتْ أَجْسَامًا غُفِرَ لَهُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَمْلَأُ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُنْتَهَى صَوْتِهِ، وَقِيلَ تُمَدُّ لَهُ الرَّحْمَةُ بِقَدْرِ مَدِّ الْأَذَانِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَكْمِلُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اسْتَوْفَى وُسْعَهُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ فَيَبْلُغُ الْغَايَةَ فِي الْمَغْفِرَةِ إذَا بَلَغَ الْغَايَةَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ.
(الرَّابِعُ) قَوْلُهُ: " إنْ سَافَرَ " الْمُرَادُ كَوْنُهُ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا يُشْتَرَطُ السَّفَرُ حَقِيقَةً كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ الْآتِي فِي التَّنْبِيهِ الْخَامِسِ. وَقَوْلُهُ قَدْ يَقْتَضِي أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا الْأَذَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ تَرْتَجِي حُضُورَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهَا فَالْأَذَانُ فِي حَقِّهَا سُنَّةٌ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ لَا تَرْتَجِي فَالْأَذَانُ فِي حَقِّهَا مُسْتَحَبٌّ وَلَا تَكُونُ الْجَمَاعَةُ أَحَطَّ رُتْبَةٍ مِنْ الْفَذِّ فَإِنَّ أَصْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ لِلْجَمَاعَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ وَابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ شَاسٍ، قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ: وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ وَالْجَمَاعَةُ فَلَا يَفْتَقِرُونَ لِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ وَهُمْ بِالْحَضَرِ فَاخْتُلِفَ هَلْ يُسْتَحْسَنُ لَهُمْ الْأَذَانُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِيهِ إظْهَارُ شِعَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا يُسْتَحْسَنُ ذَلِكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَكْثَرَ فِي الْأَذَانِ الدُّعَاءُ إلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَدْعُونَ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا السَّفَرُ فَيُسْتَحْسَنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فَذًّا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: وَاسْتَحَبَّ مُتَأَخِّرُو أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْأَذَانَ لِلْمُسَافِرِ، وَإِنْ كَانَ فَذًّا وَذَكَرَ حَدِيثَيْ الْمُوَطَّإِ، وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَاسْتَحَبَّ الْمُتَأَخِّرُونَ لِلْمُسَافِرِ الْأَذَانَ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
(فَإِنْ قِيلَ:) لَعَلَّ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ شَاسٍ الْآتِيَةِ فِي أَنَّ الْفَذَّ وَالْجَمَاعَةَ الَّتِي لَا تَطْلُبُ غَيْرَهَا فِي الْحَضَرِ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْأَذَانُ.
(قُلْتُ) أَمَّا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فَلَا إشْكَالَ فِي اسْتِحْبَابِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي مَشَى عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا تَطْلُبُ غَيْرَهَا فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ، وَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي كَلَامِهِ مَيْلٌ إلَى عَدَمِ الْأَذَانِ إذَا لَمْ تَطْلُبْ الْجَمَاعَةُ غَيْرَهَا فِي الْحَضَرِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ قَرِيبًا مِنْهُمْ يُوَارِيهِ عَنْهُمْ جَبَلٌ أَوْ تَلٌّ أَوْ طَرِيقٌ فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَتَى إلَيْهِمْ، وَصَلَّى مَعَهُمْ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ شَامِلٌ لِلْجَمَاعَةِ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْفَذِّ مَوْجُودَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الْقَرَافِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الْفَذَّ فِي السَّفَرِ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ إظْهَارُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَشُرِعَ لَهُ إظْهَارُهَا، وَسَرَايَا الْمُسْلِمِينَ تَقْصِدُهُ فَيَحْتَاجُ لِلذَّبِّ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْحَاضِرِ فَإِنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي شَعَائِرِ غَيْرِهِ وَصِيَانَتِهِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ بَلْ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ أَوْكَدُ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَرَّ بِهِمْ شَخْصٌ مُنْفَرِدٌ فَيُخَافُ كَوْنُهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ:" إنْ سَافَرَ " أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَذَانُ فِي الْحَضَرِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: " لَا جَمَاعَةَ لَمْ تَطْلُبْ ".
(الْخَامِسُ) عَزَا ابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ اسْتِحْبَابَ ذَلِكَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَعَقَّبَهُمْ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ لِمَالِكٍ وَابْنِ حَبِيبٍ، وَنَصُّهُ: " وَاسْتَحَبَّ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَالِكٌ لِلْفَذِّ الْمُسَافِرِ، وَمَنْ بِفَلَاةٍ
لِمَا وَرَدَ فِيهِ فَعَزْوُ ابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ الْجَلَّابِ اسْتِحْبَابَهُ لَهُمَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ قُصُورٌ " انْتَهَى.
ص (لَا جَمَاعَةَ لَمْ تَطْلُبْ غَيْرَهَا عَلَى الْمُخْتَارِ)
ش قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: وَأَمَّا الْفَذُّ وَالْجَمَاعَاتُ الْمُجْتَمِعُونَ بِمَوْضِعٍ وَلَا يُرِيدُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِمْ إلَى الصَّلَاةِ فَوَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ لَفْظَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ إنْ أَذَّنُوا فَحَسَنٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُؤَذِّنُونَ، وَأَرَادَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ أَنْ يَجْعَلَ الْمَذْهَبَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يُؤْمَرُونَ بِالْأَذَانِ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْأَئِمَّةُ، وَفِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ فَإِنْ أَذَّنُوا فَهُوَ ذِكْرٌ وَالذِّكْرُ لَا يُنْهَى عَنْهُ مَنْ أَرَادَ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَشْرُوعِ انْتَهَى. وَنَصُّ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ الرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ الْفَذَّ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَالْجَمَاعَةَ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى إعْلَامِ غَيْرِهِمْ، فَقَالَ مَرَّةً:" الْأَذَانُ مُسْتَحَبٌّ " وَفِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ الْأَذَانَ لِمَنْ يُصَلِّي وَحْدَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا، وَقَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِيمَنْ صَلَّى فِي مَنْزِلِهِ أَوْ أَمَّ جَمَاعَةً فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، قَالَ فَلَا أَذَانَ لَهُمْ إلَّا الْمُسَافِرَ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ أَقَامَ فَحَسَنٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا جُعِلَ لِيُدْعَى بِهِ الْغَائِبُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَذَانِ الْفَذِّ وَجْهٌ وَحَسَنٌ فِي الْمُسَافِرِ لِمَا جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي خَلْفَهُ فَصَارَ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ انْتَهَى.
فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: " عَلَى الْمُخْتَارِ " وَآخِرُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ عَدَمَ الْأَذَانِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْفَذِّ، لَكِنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى مُسَاوَاةِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا تَطْلُبُ غَيْرَهَا لِلْفَذِّ، وَعَلَى ذَلِكَ فَهِمَهُ الشُّيُوخُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ ابْنُ حَبِيبٍ الْفَذُّ الْحَاضِرُ وَالْجَمَاعَةُ الْمُنْفَرِدَةُ لَا أَذَانَ عَلَيْهِمْ. مَالِكٌ: إذَا أَذَّنُوا فَحَسَنٌ، وَمَرَّةً لَا أُحِبُّهُ، فَقَالَ اللَّخْمِيُّ وَالْمَازِرِيُّ خِلَافٌ وَرَدَّهُ ابْنُ بَشِيرٍ بِحَمْلِ نَفْيِهِ عَلَى نَفْيِ تَأَكُّدِهِ كَالْجَمَاعَةِ لَا عَلَى نَفْيِ حُسْنِهِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَرَوَى أَبُو عُمَرَ: لَا أُحِبُّ لِفَذٍّ تَرْكَهُ انْتَهَى. قَالَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ تَحْضُرُهُ الصَّلَاةُ فِي مَنْزِلِهِ فِي حَضَرٍ كَانَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ فَالْإِقَامَةُ تُجْزِئُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَذَانُ إلَّا الْمُسَافِرَ أَوْ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ فِي الْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ لِنَفْسِهِ إذَا حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ فِي لَيْلٍ كَانَ أَوْ نَهَارٍ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْعِلْمِ انْتَهَى.
(تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: أَنَّ الْأَذَانَ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْفَذِّ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَلَا لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي لَمْ تَطْلُبْ غَيْرَهَا وَإِذَا قُلْنَا لَا يُسْتَحَبُّ فَهَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ؟ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ، قَالَ فِي الطِّرَازِ فِي شَرْحِ لَيْسَ الْأَذَانُ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَمَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فِيمَنْ صَلَّى فِي مَنْزِلِهِ أَوْ أَمَّ جَمَاعَةً فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَا أَذَانَ لَهُمْ إلَّا الْمُسَافِرَ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ: فَإِنْ أَقَامَ فَحَسَنٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَوَانِينِ: الْأَذَانُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقِيلَ: خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: وَاجِبٌ وَهُوَ أَذَانُ الْجُمُعَةِ، وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ لِسَائِرِ الْفَرَائِضِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَحَرَامٌ وَهُوَ أَذَانُ الْمَرْأَةِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُؤَذِّنَ النِّسَاءُ، وَمَكْرُوهٌ وَهُوَ الْأَذَانُ لِلنَّوَافِلِ، وَأَجَازَهُ لِلْفَوَائِتِ ابْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُبَاحٌ وَهُوَ أَذَانُ الْمُنْفَرِدِ، وَقِيلَ: مَنْدُوبٌ انْتَهَى
ص (وَجَازَ أَعْمَى)
ش: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَجَائِزٌ أَذَانُ الْأَعْمَى وَإِمَامَتُهُ وَلَفْظُ الْأُمِّ: " كَانَ مَالِكٌ لَا يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَى مُؤَذِّنًا " وَإِمَامًا قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ، قَالَ مَالِكٌ: وَكَانَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَى يُرِيدُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَا يُخْتَلَفُ فِي حِلِّ أَذَانِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْوَقْتِ إلَى مَا يَقَعُ فِي نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيَتَثَبَّتُ فِي أَمْرِهِ، قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: الْأَعْمَى جُوِّزَ أَذَانًا عِنْدِي، وَإِمَامَةً مِنْ الْعَبْدِ إذَا سَدَّدَ الْوَقْتَ وَالْقِبْلَةَ، ثُمَّ الْعَبْدُ إذَا كَانَ رَضًّا، ثُمَّ الْأَعْرَابِيُّ إذَا كَانَ رَضًّا، ثُمَّ وَلَدُ الزِّنَا وَكُلٌّ جَائِزٌ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَلَفْظُهُ: " وَفَضَّلَهُ أَشْهَبُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا سَدَّدَ الْوَقْتَ وَالْقِبْلَةَ وَفَضَّلَ الْعَبْدَ إذَا كَانَ رَضًّا عَلَى الْأَعْرَابِيِّ، وَالْأَعْرَابِيَّ إذَا كَانَ رَضًّا عَلَى وَلَدِ الزِّنَا، وَنَقَلَ صَاحِبُ النَّوَادِرِ كَلَامَ أَشْهَبَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَكُلٌّ جَائِزٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ مُؤَذِّنًا وَإِمَامًا انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي
شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمُرَادُ بِأَذَانِ الْأَعْمَى إذَا كَانَ تَبَعًا لِأَذَانِ غَيْرِهِ أَوْ مَعْرِفَةُ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ الْوَقْتَ حَضَرَ وَكَانَ شَيْخُنَا يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ بِجَامِعِ الْقَيْرَوَانِ صَاحِبُ الْوَقْتِ أَعْمَى، وَكَانَ لَا يُخْطِئُ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ يَشُمُّ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ رَائِحَةً انْتَهَى. وَسَمِعْتُ سَيِّدِي الْوَالِدَ يَذْكُرُ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ بِمَكَّةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ يَشُمُّ رَائِحَةَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَكُنْ أَعْمَى، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيَؤُمَّ الْأَعْمَى، وَالْأَقْطَعُ وَالْأَعْرَجُ، وَذُو الْعَيْبِ فِي جَسَدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ فِي دِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَتَعَدُّدُهُمْ)
ش: يَعْنِي أَنَّ تَعَدُّدَ الْمُؤَذِّنِينَ جَائِزٌ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْمُؤَذِّنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ لِمَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي حَضَرٍ أَوْ سَفَرٍ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ أَوْ فِي الْحَرَسِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: فِي الْكَلَامِ تَجَوُّزٌ وَمُسَامَحَةٌ إذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يَكُونُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: لَيْسَ فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ هُوَ الْمُعَدُّ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ مُتَأَتٍّ فِي كُلِّ مَا ذَكَرَ نَعَمْ قَوْلُهُ: وَفِي الْحَرَسِ يُوهِمُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ غَالِبَ عِبَارَةِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ كَعِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ تَعَدُّدَ الْمُؤَذِّنِينَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ لِذَلِكَ بِتَعَدُّدِ الْمُؤَذِّنِينَ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي زَمَانِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ خُصُوصًا كَلَامَ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ فَإِنَّهُ، قَالَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ: وَقَدْ رَتَّبَ الشَّارِعُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لِلصُّبْحِ أَذَانًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَذَانًا عِنْدَ طُلُوعِهِ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا مِنْ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) وَهَلْ لِتَعَدُّدِهِمْ حَدٌّ؟ ظَاهِرُ لَفْظِ التَّهْذِيبِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ وَاعْتَرَضَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ بِأَنَّ لَفْظَ الْأُمِّ قُلْتُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْت مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ اتَّخَذُوا لَهُ مُؤَذِّنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدِي.
(قُلْتُ) هَلْ تَحْفَظُهُ عَنْ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْقَوْمِ يَكُونُونَ فِي السَّفَرِ أَوْ مَسَاجِدِ الْحَرَسِ أَوْ فِي الرَّكْبِ فَيُؤَذِّنُ لَهُمْ مُؤَذِّنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، قَالَ فَهَذَا الَّذِي جَرَى ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَذَكَرَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي إشْرَافِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَرْبَعَةٌ وَهَذَا الَّذِي، قَالَهُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الزِّيَادَةِ بِأَيِّ عَدَدٍ كَانَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ اثْنَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ رَأَيْت بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُؤَذِّنًا، وَكَذَلِكَ بِمَكَّةَ يُؤَذِّنُونَ مَعًا فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَقْتَدِي بِأَذَانِ صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُرَاعُونَ الْعَدَدَ الْيَسِيرَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى.
وَلَفْظُهُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ النَّفَرُ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ وَقَدْ أَذَّنَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالٌ وَأَبُو مَحْذُورَةَ وَسَعْدُ الْقَرَظِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَقَدْ رَأَيْت مُؤَذِّنِي الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَرَأَيْتُهُمْ يُؤَذِّنُونَ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ رُكْنٍ مُؤَذِّنٌ يَنْدَفِعُونَ فِي الْأَذَانِ مَعًا إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَذَانِ نَفْسِهِ وَأَمَّا أَذَانُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِثْلُ مَا عِنْدَنَا بِبَلَدِنَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْخَمْسَةُ إلَى الْعَشَرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا وَاسِعٌ، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوُ الثَّلَاثَةِ إلَى الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا لَيْسَ بِوَاسِعٍ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَا يُؤَذِّنُ لَهَا إلَّا وَاحِدٌ لِضِيقِ وَقْتِهَا انْتَهَى. وَذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ كَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ، فَقَالَ: وَمَا وَقْتُهُ وَاسِعٌ كَالظُّهْرِ وَالصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فَجَائِزٌ أَنْ يُؤَذِّنَ فِيهِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ مِثْلُ الْخَمْسَةِ وَالْعَشَرَةِ وَفِي الْعَصْرِ مِثْلُ الثَّلَاثَةِ إلَى الْخَمْسَةِ، وَلَا يُؤَذِّنُ فِي الْمَغْرِبِ إلَّا وَاحِدٌ يُرِيدُ أَوْ جَمَاعَةٌ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ انْتَهَى.
وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمَدْخَلِ مُخَالَفَةُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَتَرَتُّبُهُمْ إلَّا الْمَغْرِبَ وَجَمْعُهُمْ كُلٌّ عَلَى أَذَانِهِ)
ش يَعْنِي أَنَّهُ إذَا تَعَدَّدَ الْمُؤَذِّنُونَ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَرَتَّبُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ كَمَا تَقَدَّمَ
وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأَذَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ تَرَتُّبَهُمْ وَجَمْعَهُمْ سَوَاءٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ: السُّنَّةُ التَّرْتِيبُ، وَنَصُّهُ: " وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْأَذَانِ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً فَيُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَوْقَاتُهَا مُمْتَدَّةٌ، فَيُؤَذِّنُونَ فِي الظُّهْرِ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْعَصْرِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْخَمْسَةِ، وَفِي الْعِشَاءِ كَذَلِكَ وَفِي الصُّبْحِ يُؤَذَّنُ لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ سُدُسِ اللَّيْلِ الْآخِرِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَالْمَغْرِبُ لَا يُؤَذِّنُ لَهَا إلَّا وَاحِدٌ لَيْسَ إلَّا فَإِنْ كَثُرَ الْمُؤَذِّنُونَ فَزَادُوا عَلَى عَدَدِ مَا ذُكِرَ وَكَانُوا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الثَّوَابَ وَخَافُوا أَنْ يَفُوتَهُمْ الْوَقْتُ، وَلَمْ يَسَعْهُمْ الْجَمِيعَ إنْ أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ سَبَقَ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى فَإِنْ اسْتَوَوْا فِيهِ فَإِنَّهُمْ يُؤَذِّنُونَ الْجَمِيعُ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ كَلَامَ الرَّوْضَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَذَانُهُمْ جَمَاعَةٌ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُخَالِفَةِ لِسُنَّةِ الْمَاضِينَ، وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَذَانِ وَغَيْرِهِ مُتَعَيَّنٌ، وَفِي الْأَذَانِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ أَعْلَامِ الدِّينِ، وَفِي الْأَذَانِ الْجَمَاعَةِ مَفَاسِدُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ
وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْأَذَانِ خَفِيَ أَمْرُهُ فَلَا يَسْمَعُ وَلَا يَفْهَمُ السَّامِعُ مَا يَقُولُونَ وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْأَذَانِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَفَّسَ فَيَجِدُ غَيْرَهُ قَدْ سَبَقَهُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَيَتْرُكَ مَا فَاتَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ جَمَاعَةً هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي الْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَيْفَ عَمَّتْ بَرَكَتُهُ لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ حَكَاهُ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا فَاتَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ كَثِيرًا مِنْ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَكُونُ قَاعِدًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ مَشْغُولًا أَوْ فِي أَكْلِهِ أَوْ فِي شُرْبِهِ أَوْ فِي نَوْمِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ وَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةٌ يُؤَذِّنُونَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ لَفَاتَتْهُمْ حِكَايَتُهُ فَإِذَا أَذَّنُوا عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ فَمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ حِكَايَةِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَ الثَّانِيَ، وَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى عِلْمٍ مِنْ الْوَقْتِ إذَا عَلِمُوا الْمُؤَذِّنَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إلَى آخِرِ الَّذِي يُصَلِّي عِنْدَ آخِرِ أَذَانِهِ انْتَهَى.
وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ التَّخْيِيرُ كَمَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُمْ إذَا تَعَدَّدُوا، وَتَنَازَعُوا قُدِّمَ مَنْ سَبَقَ هَذَا عِنْدَ تَسَاوِيهِمْ وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ الْأَفْضَلُ، قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: فَإِنْ تَشَاحَّ الْمُؤَذِّنُونَ قُدِّمَ الْأَوْلَى فَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ انْتَهَى.
مُجَمَّعًا مِنْ مَوَاضِعَ، وَبَعْضُهَا بِاخْتِصَارٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ تَعَدُّدَ الْمُؤَذِّنِينَ وَتَرَتُّبَهُمْ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدٍ، وَمِنْ جَمْعِهِمْ فِي أَذَانٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مَا وَعَدْنَا بِهِ انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَتَرَتَّبُونَ فِي الْمَغْرِبِ وَكَذَلِكَ إذَا خَافُوا خُرُوجَ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَالشَّامِلِ وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ.
(الثَّانِي) قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْمَغْرِبِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ قُلْنَا: إنَّ وَقْتَهَا يَمْتَدُّ احْتِيَاطًا.
(الثَّالِثُ) قَالَ فِي الطِّرَازِ وَهَلْ يُفْصَلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ أَمَّا مَا عَدَا الْمَغْرِبَ، فَالْأَذَانُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ وَيُخْتَلَفُ فِي الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبُهُ: يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ وَنَظَّرُوهُ بِالْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَثَ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ أَذَانِهِ لِلْمَغْرِبِ شَيْئًا يَسِيرًا، وَإِنْ تَمَهَّلَ فِي نُزُولِهِ وَمَشْيِهِ إلَى الْإِقَامَةِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ انْتَهَى. قَالَ فِي النَّوَادِرِ: وَمَنْ الْمَجْمُوعَةِ، قَالَ أَشْهَبُ: وَأَحَبُّ إلَيَّ فِي الْمَغْرِبِ أَنْ يَصِلَ الْإِقَامَةَ بِالْأَذَانِ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا وَاحِدٌ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُمْ وَلْيُؤَخِّرْ الْإِقَامَةَ فِي غَيْرِهَا لِانْتِظَارِ النَّاسِ
ص (وَإِقَامَةُ غَيْرِ مَنْ أَذَّنَ)
ش: نَحْوُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ
عِنْدَنَا لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ» وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا «أَنَّ زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ بِضَمِّ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالْمَدِّ، قَالَ أَمَرَنِي عليه الصلاة والسلام أَنْ أُؤَذِّنَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَأَذَّنْتُ فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام إنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» وَصُدَاءٌ حَيٌّ بِالْيَمَنِ وَجَوَابُهُ أَنَّ حَدِيثَ الْحَارِثِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَحَسَنٌ وَأَيْضًا فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ حَدِيثَ الصُّدَائِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْإِمَامِ مَنْ يَرَاهُ؛ لِأَنَّ الصُّدَائِيَّ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ فَأَرَادَ عليه الصلاة والسلام تَأْلِيفَهُ.
ص (وَحِكَايَتُهُ قَبْلَهُ)
ش: هَكَذَا، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّ عَجَّلَ قَبْلَهُ بِالْحِكَايَةِ فَلَا بَأْسَ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ تِلَاوَةٍ أَوْ شُغْلٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ رَوَى عَلِيٌّ أَحَبُّ إلَى بَعْدَهُ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنْ كَانَ فِي ذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ بَطِيئًا فَلَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَبْلَهُ لِيَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَالْأَحْسَنُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ الْحِكَايَةِ انْتَهَى.
وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ بِاخْتِصَارٍ، قَالَ وَفِيهَا إنْ عَجَّلَ قَبْلَهُ فَلَا بَأْسَ رَوَى عَلِيٌّ " أَحَبُّ إلَى بَعْدَهُ " الْبَاجِيُّ إنْ كَانَ فِي ذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ فَالْأَوَّلُ وَإِلَّا فَالثَّانِي انْتَهَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ الطِّرَازِ رِوَايَةَ عَلِيٍّ ثُمَّ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَفْقَهُ، وَوَجْهُهُ بَيِّنٌ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَعْقُولٌ، وَهُوَ الذِّكْرُ وَالتَّمْجِيدُ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ وَالْعَمَلُ يُقَوِّيهِ انْتَهَى.
(فَرْعٌ) فَإِنْ لَمْ يَحْكِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ، قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ فَلَهُ حِكَايَتُهُ إنْ شَاءَ، قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهُوَ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ قَالَ: إذَا قُلْنَا لَا يَحْكِيهِ فِي الْفَرِيضَةِ حَكَاهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا انْتَهَى. هُوَ أَقْوَى مِنْ كَلَامِ الْأَقْفَهْسِيِّ؛ لِأَنَّهُ جَزْمٌ بِطَلَبِ الْحِكَايَةِ، وَكَلَامُ الْأَقْفَهْسِيِّ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ وَأَيْضًا فَتَعْلِيلُ صَاحِبِ الطِّرَازِ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ الذِّكْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَحْكِيَ الْأَذَانَ إذَا فَاتَ وَلَوْ طَالَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ يُعْطَى حُكْمَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَأُجْرَةٌ عَلَيْهِ أَوْ مَعَ صَلَاةٍ وَكُرِهَ عَلَيْهَا)
ش: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي {بَابِ الْأَذَانِ} وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى الْأَذَانِ وَعَلَى الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَكَرِهَ مَالِكٌ الْإِجَارَةَ فِي الْحَجِّ وَعَلَى الْإِمَامَةِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُؤَذِّنَ لَهُمْ وَيُقِيمَ وَيُصَلِّي بِهِمْ جَازَ وَكَانَ الْأَجْرُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْقِيَامِ بِالْمَسْجِدِ لَا عَلَى الصَّلَاةِ انْتَهَى.
وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى الْأَذَانِ وَعَلَى الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيهِمَا فَيَتَحَصَّلُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَذَانِ قَوْلَانِ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ وَفِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ: أَقْوَالٍ بِالْجَوَازِ، وَالْمَنْعِ، وَالثَّالِثُ يَجُوزُ إنْ كَانَتْ تَبَعًا، وَيُكْرَهُ عَلَى الْإِمَامَةِ بِانْفِرَادِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ الْمَنْعَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ وَذَكَرَ بَعْدَهَا عَنْ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ، قَالَ بَكْرٌ الْقَاضِي رَوَى عَنْ عَلِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهَا عَلَى الْفَرْضِ لَا النَّفْلِ، ابْنُ رُشْدٍ لِعَدَمِ لُزُومِهِ وَلُزُومِ الْفَرْضِ زَادَ ابْنُ نَاجِي، فَقَالَ فَكَانَ الْعِوَضُ لَيْسَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَنَقَلَ شَيْخُنَا عَنْ الْمَازِرِيَّ أَنَّهُ حَكَى قَوْلًا بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ لِمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ لَا لِمَنْ قَرُبَتْ، وَمَا ذَكَرَهُ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ بَشِيرٍ هُوَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ خِلَافٌ فِي حَالٍ فَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّفُ فِي مُلَازَمَةِ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَالْقَصْدُ إلَيْهِ يَشُقُّ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا مَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، وَيَأْتِي لِعَبْدِ الْحَقِّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ لِابْنِ حَبِيبٍ فَيَتَحَصَّلُ فِي حُكْمِهَا فِي الْفَرْضِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالتَّحْرِيمُ، وَقَوْلُ التَّهْذِيبِ يَعْنِي تَجُوزُ تَبَعًا، وَرِوَايَةُ عَلِيٍّ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ، وَفِي النَّفْلِ الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ كَرَاهَةُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكُرِهَ عَلَيْهَا عَلَى عُمُومِهِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لَكِنْ قَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِ
الْإِجَارَةِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ عِنْدِي فِي الْمَكْتُوبَةِ أَشَدُّ كَرَاهَةٍ انْتَهَى. وَعَزَاهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي رَسْمِ الصَّلَاةِ الثَّانِي مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ لِلْمُدَوَّنَةِ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْفَرِيضَةَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلْزَمُهُ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُرَاعَاةِ أَوْقَاتِهَا وَحُدُودِهَا مَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَوْلَا الْأُجْرَةُ لَقَصَّرَ فِي بَعْضِهَا، وَالنَّافِلَةُ لَا تَلْزَمُهُ أَصْلًا فَكَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا أَخَفَّ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَلْزَمُ الْأَجِيرَ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ قُرْبَةٌ أَصْلُ ذَلِكَ الْأَذَانُ وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ ابْنُ فَتُّوحٍ رَوَى أَشْهَبُ: الِاسْتِئْجَارُ لِقِيَامِ رَمَضَانَ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ بَأْسٌ فَعَلَى الْإِمَامِ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: مَكْرُوهٌ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ.
(قُلْتُ) وَمُقْتَضَاهُ الْحُكْمُ بِالْإِجَارَةِ إنْ فَاتَ الْعَمَلُ وَأُخْبِرْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ فَلَمْ يَحْكُمْ لِلْإِمَامِ بِشَيْءٍ انْتَهَى. وَنَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ بِلَفْظِ " وَمُقْتَضَاهُ الْحُكْمُ بِالْإِجَارَةِ " وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَاعْتَلَّ بِأَنَّ الْمَكْرُوهَ لَا يَحْكُمُ بِهِ الْقَاضِي انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى الْحَجِّ مَكْرُوهَةٌ فَإِذَا وَقَعَتْ صَحَّتْ وَحُكِمَ بِهَا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ عَبْدِ الْحَقِّ أَنَّهُ إذَا عُقِدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْإِمَامَةِ كُرِهَ ذَلِكَ وَصَحَّ.
(الثَّانِي) فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَقَدِّمِ جَوَازُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ كَلَامَ الْمُدَوَّنَةِ السَّابِقَ: فَجَوَازُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ يُضْعِفُ مَنْعَ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَوَاتِ انْتَهَى.
(الثَّالِثُ) إذَا جَوَّزْنَا الْإِجَارَةَ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ مَعًا فِي قَوْلِ مَالِكٍ فَتَخَلَّفَ الْمُؤَذِّنُ عَنْ الصَّلَاةِ خَاصَّةً مِنْ سَلَسِ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: اخْتَلَفَ فُقَهَاؤُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ فَقِيلَ: لَا يَسْقُطُ مِنْ الْإِجَارَةِ حِصَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعُ كَمَالِ الْعَبْدِ، وَثَمَرَةُ النَّخْلِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الِانْفِرَادِ وَيَجُوزُ إذَا جُمِعَ وَقِيلَ: بَلْ تَسْقُطُ حِصَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى الصَّلَاةِ إنَّمَا هِيَ مَكْرُوهَةٌ فَإِذَا نَزَلَتْ مَضَتْ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ يُجِيزُ الْإِجَارَةَ عَلَيْهَا، وَمَالُ الْعَبْدِ وَثَمَرَةُ النَّخْلِ لَا يَجُوزُ إذَا انْفَرَدَ بِإِجْمَاعٍ انْتَهَى. وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ الْقَوْلَيْنِ وَعَزَا الْأَوَّلَ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا لَهُ مَالٌ أَوْ شَجَرًا مُثْمِرًا فَاسْتَحَقَّ مَالَ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ وَأُجِيحَتْ الثَّمَرَةُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ حَطًّا مِنْ الثَّمَنِ، وَعَزَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِعَبْدِ الْحَقِّ وَابْنِ مُحْرِزٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ إذَا كَانَتْ تَبَعًا لَهُ وَخِلْفَةَ الزَّرْعِ الْقَصِيلِ الْمُشْتَرَطَةَ تَبَعًا لَهُ فَاسْتُحِقَّتْ الْحِلْيَةُ أَوْ نَقَصَ بَعْضُ الْخِلْفَةِ أَوْ تَخَلَّفَ فَإِنَّهُ يَحُطُّ لَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ وَأَجَابُوا عَنْ الْأَوَّلَيْنِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ مَالِ الْعَبْدِ لَهُ لَا لِلْمُبْتَاعِ، فَالْمُعَاوَضَةُ وَقَعَتْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ مَالَ الْعَبْدِ بِيَدِهِ، وَهَذَا قَدْ فَعَلَهُ الْبَائِعُ وَلَمْ يَبْطُلْ وَأَمَّا الثَّمَرَةُ فَلِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقَبْضِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيٌ فَصَارَ ذَلِكَ كَبَيْعِهَا يَابِسَةً، فَلِذَلِكَ سَقَطَتْ بِهِ الْجَائِحَةُ لَا لِلتَّبَعِيَّةِ، وَاحْتَجَّ عَبْدُ الْحَقِّ بِأَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَى الْإِمَامَةِ مُفْرَدَةً صَحَّ، وَذَكَرَهُ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا انْتَهَى. بِالْمَعْنَى مَبْسُوطًا وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ جَمِيعَ ذَلِكَ وَزَادَ فِي مَسْأَلَةِ مَالِ الْعَبْدِ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَحْسَنُ الْحَطِيطَةُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَادَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمَرْأَةِ شَوَارُهَا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الصَّدَاقِ قَدْرَ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجَ زَادَهُ لِأَجْلِهِ مَعَ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الِاتِّبَاعِ مَقْصُودَةً بِالْأَعْرَاضِ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ، بَلْ نَقُولُ التَّبَعُ قَدْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ لَهُ مُنْفَرِدًا كَحِلْيَةِ السَّيْفِ التَّابِعَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً بِجِنْسِهَا، وَيَجُوزُ تَبَعًا انْتَهَى.
(الرَّابِعُ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَالَ ابْنُ شَاسٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْأَذَانِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَاخْتَلَفُوا فِي إجَارَةِ غَيْرِهِ، وَقَالَ سَنَدٌ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الرِّزْقِ، وَفَعَلَهُ عُمَرُ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أَرْزَاقُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ مِنْ الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ لَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ خِلَافُ قَوْلِ ابْنُ حَبِيبٍ تُمْنَعُ الْإِجَارَةُ عَلَى الْأَذَانِ إنَّمَا كَانَ إعْطَاءُ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ اللَّهِ كَإِجْرَائِهِ لِلْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ
رِزْقًا وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ مِنْ مَالِ مَنْ حَكَمُوا لَهُ بِالْحَقِّ انْتَهَى.
(قُلْتُ) الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ لِكَوْنِهِ أُخِذَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ: وَمَا يَأْخُذهُ الْقُضَاةُ وَالْمُؤَذِّنُونَ، وَصَاحِبُ السُّوقِ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ فَيُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ انْتَهَى. فَتَأَمَّلْهُ مُنْصِفًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْخَامِسُ) إذَا لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْمِصْرِ مَنْ يُؤَذِّنُ إلَّا بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهُمْ يَسْتَأْجِرُونَ مَنْ يُؤَذِّنُ لَهُمْ، قَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: وَتَكُونُ أُجْرَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْمَوْضِعِ كُلِّهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْهُ وَلَهُ رِبَاعٌ أَوْ عَقَارٌ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهَذَا بِخِلَافِ إجَارَةِ التَّعْلِيمِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ صَبِيٌّ انْتَهَى.
(السَّادِسُ) اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْبَاسِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُصَلِّي فَقِيلَ: إنَّهَا إجَارَةٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَقْوَالِ الْمُوَثَّقِينَ، وَقِيلَ: إنَّهَا إعَانَةٌ وَلَا يَدْخُلُهَا الْخِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ شُيُوخِ شُيُوخِنَا، ثُمَّ رَدَّ عَلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: قُلْتُ إنَّمَا أَقْوَالُ الْمُوَثَّقِينَ فِي اسْتِئْجَارِ النَّاظِرِ فِي أَحْبَاسِ الْمَسَاجِدِ مَنْ يُؤَذِّنُ وَيَؤُمُّ وَيَقُومُ بِمُؤْنَةِ الْمَسْجِدِ فَلَعَلَّهُ فِيمَا حَبَسَ لِيَسْتَأْجِرَ مِنْ غَلَّتِهِ لِذَلِكَ، وَأَحْبَاسُ زَمَانِنَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ إنَّمَا هِيَ عَطِيَّةٌ لِمَنْ قَامَ بِتِلْكَ الْمُؤْنَةِ، وَهَذَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي امْرَأَةِ إمَامِ مَسْجِدٍ لَهُ دَارٌ حَبَسَتْ عَلَيْهِ مَاتَ إمَامُهُ، فَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُوَثَّقِينَ لِجِيرَانِ الْمَسْجِدِ: إخْرَاجُهَا قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ الْمُتَيْطِيُّ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ، وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجَةِ الْأَمِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا لَوْ كَانَتْ أَحْبَاسُ الْمَسَاجِدِ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ لَافْتَقَرَتْ لِضَرْبِ الْأَجَلِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لِلْمُخَالِفِ نَفْيُ مَنْعِ اللُّزُومِ انْتَهَى. كَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ بَعْدَهُ: وَاسْتَمَرَّتْ الْفَتْوَى مِنْ كُلِّ أَشْيَاخِي الْقَرَوِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ بِجَوَازِ أَخْذِ مَنْ يُصَلِّي أَوْ يُؤَذِّنُ مِنْ الْأَحْبَاسِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهَا إعَانَةٌ أَوْ لِضَرُورَةِ الْأَخْذِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَعَطَّلَتْ الْمَسَاجِدُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّكَّالِيُّ عَلَى تُونِسَ فَلَمْ يُصَلِّ خَلْفَ بَعْضِ شُيُوخِنَا وَلَا الْجُمُعَةَ، يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ قَالَ وَكَانَ إمَامًا بِجَامِعِ الزَّيْتُونِ وَلَا خَلْفَ غَيْرِهِ لِأَخْذِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَرَأَى وُجُودَ الْخِلَافِ شُبْهَةً، وَكَانَ كُلُّ بَلَدٍ يَرِدُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِهِ لِلْمَشْرِقِ لَا يُصَلِّي إلَّا خَلْفَ مَنْ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا إنْ وَجَدَ نَفَعَنَا اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ آمِينَ وَذَكَرَ الْبُرْزُلِيُّ أَنَّهُ لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ ابْنِ عَرَفَةَ أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ وَعَرَّضَ بِهِ فِي أَبْيَاتٍ، قَالَ: وَقُلْتُ لَهُ: نَجْتَمِعُ بِهِ وَنُنَاظِرُهُ فَمَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ: ثُمَّ اجْتَمَعَتْ بِهِ لَمَّا حُجِجْتُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا أَخَذْتُ مُرَتَّبَ الْإِمَامَةِ وَمُرَتَّبَ التَّدْرِيسِ وَأَعْتَقِدُ أَنَّهُ حِلٌّ لِي مِنْ أَخْذِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إذَا كَانَ عَلَى وَضْعِهِ مِنْ دُخُولِ الْحَلَالِ فِيهِ لِأَنِّي لَا أَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا لِكَوْنِي مُسْلِمًا فَيُدْرِكُنِي الْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ لِكَوْنِي وَاحِدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَتَى كَثُرَتْ أَفْرَادُ الْعَامِ ضَعُفَ الظَّاهِرُ، وَأَخْذُ مُرَتَّبِ الْإِمَامَةِ وَالتَّدْرِيسِ مُبَاحٌ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ النَّصِّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ مِنْ وَاضِعِهِ، وَهُوَ إعَانَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ لَا عَلَى مَعْنَى الْأَجْرِ، وَقَدْ أَجْرَى السَّلَفُ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ وَلَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ هَذَا حَسَنٌ لَكِنْ لَا يَزِيدُ لَكَ هَذِهِ الشَّخْشَخَةَ انْتَهَى. وَالْأَبْيَاتُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْبُرْزُلِيُّ ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى أَخْذِهِ الْأُجْرَةَ عَلَى الْفَتْوَى اسْتَطْرَدَ إلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّهُ شَنَّعَ عَلَى الدَّكَّالِيِّ حِينَ وَرَدَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَجَرَى عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حَتَّى ذَكَرَ فِيهَا أَبْيَاتًا أَنْشَدَنِيهَا حِينَ اجْتَمَعْنَا بِهِ بصفاقص وَخَرَجْنَا لِلْغَايَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبْيَاتَ وَرَأَيْت بِخَطِّ بَعْضِهِمْ أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ ابْنَ عَرَفَةَ بَعَثَ بِالْأَبْيَاتِ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي حُدُودِ التِّسْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَهِيَ هَذِهِ
يَا أَهْلَ مِصْرَ وَمَنْ فِي الدِّينِ شَارَكَهُمْ
…
تَنَبَّهُوا لِسُؤَالٍ مُعْضِلٍ نَزَلَا
لُزُومُ فِسْقِكُمْ أَوْ فِسْقِ مَنْ زَعَمَتْ
…
أَقْوَالُهُ أَنَّهُ بِالْحَقِّ قَدْ عَدَلَا
فِي تَرْكِهِ الْجُمَعَ وَالْجُمُعَاتِ خَلْفَكُمْ
…
وَشَرْطُ إيجَابِ حُكْمِ الْكُلِّ قَدْ حَصَلَا
إنْ كَانَ شَأْنُكُمْ التَّقْوَى فَغَيْرُكُمْ
…
قَدْ بَاءَ بِالْفِسْقِ حَقًّا عَنْهُ مَا عَدَلَا
وَإِنْ يَكُنْ عَكْسُهُ فَالْأَمْرُ مُنْعَكِسٌ
…
فَاحْكُمْ بِحَقٍّ وَكُنْ بِالْحَقِّ مُعْتَدِلَا
وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ الْبُرْزُلِيِّ
وَكُنْ بِالْهَدْيِ مُعْتَدِلَا
فَأَجَابَ بَعْضُ الْمِصْرِيِّينَ
مَا كَانَ مِنْ شِيَمِ الْأَبْرَارِ أَنْ يَسِمُوا
…
بِالْفِسْقِ شَيْخًا عَلَى الْخَيْرَاتِ قَدْ جُبِلَا
لَا لَا وَلَكِنْ إذَا مَا أَبْصَرُوا خَلَلًا
…
كَسَوْهُ مِنْ حُسْنِ تَأْوِيلَاتِهِمْ حُلَلًا
أَلَيْسَ قَدْ قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ صَاحِبُهُ
…
يَسُوغُ ذَاكَ لِمَنْ قَدْ يَخْتَشِي خَلَلَا
كَذَا الْفَقِيهُ أَبُو عِمْرَانَ سَوَّغَهُ
…
لِمَنْ تَخَيَّلَ خَوْفًا وَاقْتَنَى عَمَلَا
وَقَالَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ إذَا ثَبَتَتْ
…
عَدَالَةُ الْمَرْءِ فَلْيُتْرَكْ وَمَا عَمِلَا
وَقَدْ رَوَيْتُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعُتَقِيِّ
…
فِيمَا اخْتَصَرْت كَلَامًا أَوْضَحَ السُّبَلَا
مَا إنْ تُرَدَّ شَهَادَاتٌ لِتَارِكِهَا
…
إنْ كَانَ بِالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى قَدْ احْتَفَلَا
نَعَمْ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَعْلَيْنَ مَنْزِلَةً
…
مَنْ جَانَبَ الْجَمْعَ وَالْجَمَعَاتِ مُعْتَزِلَا
كَمَالِكَ غَيْرُ مُبْدٍ فِيهِ مَعْذِرَةً
…
إلَى الْمَمَاتِ وَلَمْ يَثْلَمْ وَمَا عَمِلَا
هَذَا وَإِنَّ الَّذِي أَبْدَاهُ مُتَّضِحٌ
…
أَخَذَ الْأَئِمَّةُ أَجْرًا مَنْعُهُ نَقْلَا
وَهَبْكَ أَنَّكَ رَاءٍ حِلَّهُ نَظَرًا
…
فَمَا اجْتِهَادُكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ وَلَا
انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ: وَعِنْدِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَكَمَ بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ فَإِنَّ الدَّكَّالِيَّ كَانَ بَعِيدًا مِنْ الدُّنْيَا وَزَاهِدًا فِيهَا فَالْمُتَلَبِّسُ بِهَا عِنْدَهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ الْآخِرَةِ وَكَانَ شَيْخُنَا يَرَى أَنَّ الدُّنْيَا مَطِيَّةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ فَاكْتَسَبَ مِنْهَا جُمْلَةً كَثِيرَةً، وَأَخْرَجَ جُلَّهَا لِلْأَخِرَةِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
(السَّابِعُ) الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ عَلَى الْإِمَامَةِ جَائِزَةٌ، قَالَ فِي رَسْمِ الصَّلَاةِ الثَّانِي مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ: وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِقِيَامِ رَمَضَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ بِذَلِكَ بَأْسٌ إنْ كَانَ بَأْسٌ فَعَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِقِيَامِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَيْسَتْ عَلَيْهِ حَرَامًا فَتَكُونُ جُرْحَةً فِيهِ تَقْدَحُ فِي إمَامَتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ لَهُ مَكْرُوهَةٌ فَتَرْكُهَا أَفْضَلُ، وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ مَنْ فَعَلَ مَا تَرْكُهُ أَفْضَلُ، كَمَا لَا يُكْرَهُ إمَامَةُ مَنْ تَرَكَ مَا فِعْلُهُ أَفْضَلُ مِنْ النَّوَافِلِ.
ص (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ كَمُلَبٍّ)
ش: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْمُلَبِّي، قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَكَذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ، قَالَهُ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ نَاجِي، وَقَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ فَالْمَذْهَبُ مَنْعُهُ، وَقَالَ التُّونُسِيُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَرُدُّ إشَارَةً: يَجُوزُ السَّلَامُ عَلَيْهِ كَالْمُصَلِّي انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْمَنْعُ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ فِي جَوَازِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي وَكَرَاهَتِهِ عَلَى الْمُؤَذِّنِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرُدَّ إشَارَةً جَازَ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْمُلَبِّي لَا يَرُدَّانِ إشَارَةً فَكُرِهَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا أُجِيزَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرُدَّ إشَارَةً، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُلَبِّي؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ عِبَادَةٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي النُّفُوسِ وَقْعٌ كَالصَّلَاةِ فَلَوْ أُجِيزَ فِيهَا إشَارَةً لَتَطَرَّقَ إلَى الْكَلَامِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لِعِظَمِهَا فِي النُّفُوسِ لَا يَتَطَرَّقُ فِيهَا مِنْ جَوَازِ الْإِشَارَةِ إلَى الْكَلَامِ وَالْمُلَبِّي كَذَلِكَ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ يُونُسَ: لَمَّا كَانَ
الْأَذَانُ لَا يُبْطِلُهُ الْكَلَامُ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَكَانَ رَدُّ السَّلَامِ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ إلَّا كَلَامًا فَصَارَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ أَدْخَلَهُ بِسَلَامِهِ فِي الْكَرَاهَةِ فَنُهِيَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَإِذَا عَصَى وَسَلَّمَ عَلَيْهِ عُوقِبَ بِأَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ كَمَنْعِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ لِاسْتِعْجَالِهِ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَ شَأْنُهَا يَطُولُ جُعِلَتْ الْإِشَارَةُ لِلْمُصَلِّي عِوَضًا مِنْ الْكَلَامِ، وَالْأَذَانُ وَالتَّلْبِيَةُ لَا يَطُولَانِ فَيَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمَنْ كَانَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ الْأَذَانُ وَالصَّلَاةُ: إنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِهِمْ أَنْ لَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرُدُّونَ عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ لِلْعَمَلِ الَّذِي هُمْ فِيهِ فَخَصَّتْ السُّنَّةُ جَوَازَ الرَّدِّ بِالْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَبَقِيَ الْأَذَانُ عَلَى أَصْلِهِ انْتَهَى.
(فَائِدَةٌ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ وَاَلَّذِي يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ خَمْسَةٌ: الْمُلَبِّي، وَالْمُؤَذِّنُ، وَقَاضِي الْحَاجَةِ، وَالْآكِلُ، وَالشَّارِبُ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةٌ لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا: الْآكِلُ، وَالْجَالِسُ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَالْمُؤَذِّنُ، وَالْمُلَبِّي، وَزَادَ بَعْضُهُمْ قَارِئَ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ آدَابِ الْأَكْلِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي عَوْرَةِ النِّسَاءِ: وَلَا يُسَلَّمُ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَهُوَ كَاشِفٌ الْعَوْرَةَ أَوْ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا دَخَلَ لَهُ الْحَمَّامَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: لَمْ نَقِفْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْآكِلِ انْتَهَى. وَنَقَلَ فِي بَابِ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ عَنْ التَّادَلِيِّ مَا نَصُّهُ: " قَالَ وَلَا يُسَلَّمُ عَلَى الشَّابَّةِ، وَالْآكِلِ، وَقَاضِي الْحَاجَةِ، وَالْمُلَبِّي، وَالْمُؤَذِّنِ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ، وَالْكَافِرِ، وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ السَّلَامِ عَلَى الْآكِلِ لَا أَعْرِفُهُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو مَهْدِيٍّ لَمَّا سَأَلْتُهُ هَلْ تَعْرِفُهُ أَمْ لَا؟ انْتَهَى.
(قُلْتُ) تَقَدَّمَ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ وَصَاحِبِ الْمَدْخَلِ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْمُقِيمَ صَرَّحَ بِهِ الشَّبِيبِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ: وَلَا يُسَلَّمُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ، وَالْمُقِيمِ، وَلَا يَرُدَّانِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: يَرُدَّانِ إشَارَةً، وَقِيلَ: يَرُدَّانِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَقِيلَ: يَرُدَّانِ كَلَامًا، قَالَهُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَابْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يَرُدُّ بَعْدَ فَرَاغِهِ انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ الثَّالِثُ خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ بِإِشَارَةٍ لِكَسَلَامٍ، وَقَالَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ: يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْآكِلِ، وَعَلَى الْمُلَبِّي، وَعَلَى الْمُؤَذِّنِ، وَعَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ، وَعَلَى الْمُصَلِّي، وَعَلَى الْبِدْعِيِّ، وَعَلَى الشَّابَّةِ، وَعَلَى الْيَهُودِ، وَعَلَى النَّصَارَى، وَعَلَى الْقَارِئِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَعَلَى أَهْلِ اللَّهْوِ حَالَ تَلَبُّسِهِمْ بِهِ، وَعَلَى لَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَرَاهَةِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي خِلَافُ مَا شَهَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي السَّهْوِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَرَاهَةِ السَّلَامِ عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَأَهْلِ الْبِدَعِ صَرَّحَ بِهِ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الرِّسَالَةِ: وَلَا يُبْتَدَأُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، قَالَ الْجُزُولِيُّ وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ الظَّلَمَةُ وَأَهْلُ الْمَعَاصِي اُخْتُلِفَ فِي السَّلَامِ عَلَيْهِمْ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي السَّلَامُ عَلَيْهِمْ زَجْرًا لَهُمْ، ثُمَّ اُعْتُرِضَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ فِيمَنْ يَلْعَبُ الشِّطْرَنْجَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَيُرِيدُ فِي غَيْرِ حَالِ لِعْبِهِمْ بِهَا، وَقِيلَ: يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: يُرِيدُ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ وَفَرَاغِهِمْ مِنْ اللَّعِبِ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ اللَّعِبِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِمَعْصِيَةٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ.
(قُلْتُ) وَهَذَا إذَا لَمْ يُقَامِرُوا عَلَيْهَا وَلَمْ يَلْتَهُوا بِهَا عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَأَمَّا إذَا قَامَرُوا عَلَيْهَا أَوْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ لِأَجْلِهَا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي فَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ فِي الرِّسَالَةِ فَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ إلَى مَنْ يَلْعَبُ بِهَا وَالنَّظَرُ إلَيْهِمْ، فَقَالَ ابْنُ نَاجِي: الْكَرَاهَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ الْجُزُولِيُّ وَفِي كَلَامِهِ مَيْلٌ إلَى حَمْلِ الْكَرَاهَةِ عَلَى بَابِهَا، وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الشَّابَّةِ، فَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِي بَابِ
اللِّبَاسِ: وَلَا يُسَلَّمُ عَلَى الشَّابَّةِ بِخِلَافِ الْمُتَجَالَّةِ انْتَهَى. وَصَرَّحَ الْجُزُولِيُّ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الشَّابَّةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّابِّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمُتَجَالَّةِ وَلِلْمُتَجَالَّةِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى الشَّابِّ وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ نَاجِي عَنْ التَّادَلِيِّ.
(فَائِدَةٌ)، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ انْتَهَى.
وَقَالَ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَفِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْجُزُولِيُّ: بِأَنَّ الرَّدَّ غَيْرُ وَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ فِي الْإِكْمَالِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي إرْسَالِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهم يَسْأَلُهُ عَنْ الْغُسْلِ، قَالَ الرَّسُولُ فَجِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَغْتَسِلُ، قَالَ عِيَاضٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّلَامِ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ، وَالْمُتَوَضِّئِ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَدَثِ، وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُهُ مَعَهُ، وَهُوَ بِتِلْكَ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَسْتُورًا بِثَوْبِهِ انْتَهَى.
(تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ يُونُسَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْمُؤَذِّنُ السَّلَامَ لَمْ يَبْطُلْ أَذَانُهُ وَلَكِنَّهُ فَعَلَ مَكْرُوهًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَإِقَامَةُ رَاكِبٍ)
ش: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُؤَذِّنُ رَاكِبًا وَلَا يُقِيمُ إلَّا نَازِلًا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَذَانِ رَاكِبًا، قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَمَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ إلَّا نَازِلًا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ الْجَوَازَ قَائِلًا؛ لِأَنَّ النُّزُولَ عَمَلٌ يَسِيرٌ فَلَمْ يَكُنْ فَاصِلًا كَأَخْذِ الثَّوْبِ، وَبَسْطِ الْحَصِيرِ انْتَهَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ الطِّرَازِ الرِّوَايَتَيْنِ وَصَوَّبَ الْأُولَى، ثُمَّ قَالَ: فَيَنْزِلُ عَنْ دَابَّتِهِ وَيَعْقِلُهَا وَيَتَحَفَّظُ فِي قُمَاشِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَقَامَ رَاكِبًا، ثُمَّ نَزَلَ وَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ شُغْلٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ.
ص (أَوْ مُعِيدٌ لِصَلَاتِهِ كَأَذَانِهِ)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُكْرَهُ إقَامَةُ الْمُعِيدِ لِصَلَاتِهِ وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ أَذَانُ الْمُعِيدِ لِصَلَاتِهِ وَالْمُرَادُ مَنْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ سَوَاءٌ كَانَ أَذَّنَ لَهَا أَوْ لَمْ يُؤَذِّنْ وَسَوَاءٌ أَرَادَ إعَادَتَهَا أَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَا يُؤَذِّنُ، وَلَا يُقِيمُ مَنْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ نَحْوُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ اللَّخْمِيِّ عَنْ أَشْهَبَ، وَنَصَّهُ اللَّخْمِيّ عَنْ أَشْهَبَ: لَا يُؤَذِّنُ لِصَلَاةٍ مَنْ صَلَّاهَا وَيُعِيدُونَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ مَا لَمْ يُصَلُّوا، وَنَقَلَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالتُّونُسِيُّ وَابْنُ يُونُسَ لَا يُؤَذِّنُ لِصَلَاةٍ مَنْ صَلَّاهَا وَأَذَّنَ لَهَا، رَوَى ابْنُ وَهْبٍ جَوَازَ مَنْ أَذَّنَ بِمَوْضِعٍ وَلَمْ يُصَلِّ فِي آخَرَ، فَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَنْعَهُ عَنْ أَشْهَبَ، وَجَوَازَهُ لِبَعْضِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ، وَهْمٌ وَقُصُورٌ لِمَفْهُومِ نَقْلِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ ابْنُ غَازِيٍّ يَعْنِي أَنَّ الْوَهْمَ فِي نِسْبَةِ الْمَنْعِ لِأَشْهَبَ وَإِنَّمَا مَفْهُومُ نَقْلِ الْأَشْيَاخِ الثَّلَاثَةِ الْجَوَازَ وَالْقُصُورَ عَلَى عَدَمِ الْوَقْفِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ حَتَّى أَخَذَ الْجَوَازَ مِنْ يَدِ بَعْضِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهِ، فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ أَذَّنَ لَهَا وَصَلَّاهَا، الثَّانِي: صَلَّاهَا وَلَمْ يُؤَذِّنْ لَهَا، وَقَدْ تَنَاوَلَهُمَا كَلَامُ الْمُصَنِّف لِإِطْلَاقِ اللَّخْمِيِّ، الثَّالِثُ: أَذَّنَ لَهَا وَلَمْ يُصَلِّهَا، وَحَمْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِاتِّفَاقِ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَمَفْهُومُ نَقْلِ الثَّلَاثَةِ عَنْ أَشْهَبَ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ عَلَى جَوَازِ أَذَانِهِ لَهَا ثَانِيًا وَلَمْ يُعْلَمْ لَهَا مُخَالِفٌ فَتَدَبَّرْهُ، انْتَهَى.
وَنَصُّ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ: " أَجَازَ مَالِكٌ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ لِمَنْ أَذَّنَ فِي مَسْجِدِهِ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى مَسْجِدٍ فَيُصَلِّيَ فِيهِ.
(قُلْتُ) وَكَلَامُ صَاحِبِ الطِّرَازِ مُوَافِقٌ لِإِطْلَاقِ اللَّخْمِيِّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَنْعَ مُرَتَّبًا عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا مَنْ أَذَّنَ لِلصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّهَا فَتَبِعَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الطِّرَازِ فَذَكَرَ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ بِالْجَوَازِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهَا لَكِنَّهُ قَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ يُؤَذِّنَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أَذَّنَ فِيهِ أَوَّلًا فَهَذَا يَجُوزُ إنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُؤَذِّنُ فِيهِ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ أَهْلَهُ، وَحَصَلَ لَهُ فَضْلُ ذَلِكَ وَالْأَذَانُ مَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يُشْرَعْ تَجْدِيدُهُ لِلصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَالْجَمَاعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَنَظِيرُهُ الْوُضُوءُ وَلَمَّا كَانَ لَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ لَمْ يُشْرَعْ تَجْدِيدُهُ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَانْظُرْ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ وَاسِعًا وَأَذَّنَ فِي بَعْضِ جِهَاتِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ
يُؤَذِّنَ فِي جِهَةٍ أُخْرَى لِإِعْلَامِ أَهْلِ الْجِهَةِ، هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ يُكْرَهُ؟ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ: قَالَ أَشْهَبُ فِيمَنْ أَذَّنَ لِقَوْمٍ وَصَلَّى مَعَهُمْ: فَلَا يُؤَذِّنُ لِآخَرِينَ وَلَا يُقِيمُ فَإِنْ فَعَلَ وَلَمْ يُعِيدُوا حَتَّى صَلَّوْا أَجْزَأَهُمْ انْتَهَى.
ص (وَتُسَنُّ إقَامَةٌ مُفْرَدَةٌ وَثَنْيُ تَكْبِيرِهَا لِفَرْضٍ وَإِنْ قَضَاءً)
ش يَعْنِي أَنَّ الْإِقَامَةَ سُنَّةٌ وَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ، وَإِنْ وَقَعَ الِاسْتِغْفَارُ لِتَارِكِهَا، وَوَقَعَ فِيهَا وَفِي الْأَذَانِ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: رُوِيَ عِنْدَنَا إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِمَنْ تَرَكَهَا عَمْدًا فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَاسْتَوَى فِيهِ الْعَمْدُ، وَالنِّسْيَانُ وَكَافَّةُ شُيُوخِنَا قَالُوا: إنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِالسُّنَنِ وَتَرْكَهَا عَمْدًا مُؤْثَرٌ فِي الصَّلَاةِ انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حُكْمُ الرَّجُلِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ إقَامَةِ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى صَاحِبُ الطِّرَازِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ مُسْتَحَبَّةٌ فَإِنَّهُ، قَالَ فِي تَوْجِيهِ عَدَمِ إعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَهَا عَمْدًا: وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي الْوَاضِحَةِ فِي الْمُنْفَرِدِ إنْ أَقَامَ فَحَسَنٌ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ: لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْإِقَامَةَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِكُلِّ مُصَلٍّ صَلَاةَ فَرْضٍ وَقْتِيَّةً أَوْ فَائِتَةً، لَكِنَّ حُكْمَهَا فِي الْجَمَاعَاتِ آكَدُ مِنْهُ فِي الِانْفِرَادِ، وَحُكْمَهَا عَلَى الرِّجَالِ آكَدُ مِنْهُ عَلَى النِّسَاءِ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي فِي التَّنْبِيهِ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي آخِرِ الْبَابِ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي إقَامَةِ الْمُنْفَرِدِ، وَصَرَّحَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ بِالْخِلَافِ فِي إقَامَةِ الْمُنْفَرِدِ، وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(الثَّانِي) قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ: وَالْإِقَامَةُ آكَدُ مِنْ الْأَذَانِ؛ لِأَنَّهَا أُهْبَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ خُوطِبَ بِهَا الْمُنْفَرِدُ وَالْجَمَاعَةُ، وَالْأَذَانُ لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ إلَّا الْجَمَاعَةُ، وَمَا عَمَّ الْخِطَابَ هَهُنَا أَوْكَدُ مِمَّا خَصَّ انْتَهَى. بِلَفْظِهِ.
(قُلْتُ) وَلَا إشْكَالَ أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَوْكَدُ، وَأَيْضًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ تَارِكِهَا عَمْدًا كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا أَعْلَمُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَ الْأَذَانَ خِلَافًا، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَذَانَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، وَيَجِبُ فِي الْمِصْرِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ فَهُوَ أَوْكَدُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: " مُفْرَدَةٌ وَثَنْيُ تَكْبِيرِهَا " يَعْنِي أَنَّ أَلْفَاظَ الْإِقَامَةِ كُلَّهَا مُفْرَدَةٌ حَتَّى قَوْلِهِ " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " إلَّا التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فَإِنَّهُ مُثَنَّى، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَرَوَى الْمِصْرِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَشْفَعُ " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ".
(فَرْعٌ) وَلَوْ شَفَعَ الْإِقَامَةَ غَلَطًا فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْإِجْزَاءَ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ نَاجِي وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) مِنْ صِفَاتِ الْإِقَامَةِ أَنْ تَكُونَ مُعْرَبَةً، قَالَ الشَّبِيبِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: مَبْنِيَّةً انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: " لِفَرْضٍ وَإِنْ قَضَاءً " يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ سُنَّةٌ لِكُلِّ فَرْضٍ أَدَاءً كَانَ أَوْ قَضَاءً يُرِيدُ مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ بِالْإِقَامَةِ، قَالَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَشْهَبَ: لَوْ ذَكَرُوا الظُّهْرَ مُفَاوِتِينَ لِوَقْتِهَا فَخَافُوا إنْ أَذَّنُوا فَوَّتُوهَا فَلْيُقِيمُوا، وَيَجْمَعُوا قِيلَ: فَإِنْ خَافُوا فَوَاتَهَا بِالْإِقَامَةِ، قَالَ: الْإِقَامَةُ أَخَفُّ، وَإِنْ كَانَ هَكَذَا فَصَلَاتُهُمْ إيَّاهَا فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِ إقَامَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَوْتِهَا، وَيُقِيمُوا انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ فِي الطِّرَازِ قَالَ وَوَجْهُهُ بَيِّنٌ فَإِنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْتِ فَرْضٌ وَالْإِقَامَةَ فَضْلٌ انْتَهَى مُخْتَصَرًا
ص (وَصَحَّتْ وَلَوْ تُرِكَتْ عَمْدًا) ش قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ إقَامَةٍ عَامِدًا أَجْزَأَهُ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ الْعَامِدُ انْتَهَى. وَأَشَارَ بِأَوْ إلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ، وَاخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِي نَقْلِهِ، فَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ إقَامَةٍ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا أَجْزَأَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَامِدُ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ زِيَادٍ، وَابْنُ نَافِعٍ: مَنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ فَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ فَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ لَا تَفْسُدُ بِفَسَادِهَا الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْسُدَ بِتَرْكِهَا، وَوَجْهُ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ كَاَلَّتِي مِنْ صُلْبِ الصَّلَاةِ فَتَرْكُهَا عَمْدًا لَعِبٌ بِالصَّلَاةِ
فَوَجَبَ أَنْ لَا تُجْزِئَهُ انْتَهَى. وَلَمْ يَعْزُهُ اللَّخْمِيُّ إلَّا لِابْنِ كِنَانَةَ، وَنَصُّهُ: " وَمَنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: يُعِيدُ الصَّلَاةَ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي وَعَزَاهُ ابْنُ هَارُونَ لِرِوَايَةِ جَمِيعِ مَنْ ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ وَلِرِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَلَمْ يَعْزُهُ فِي النَّوَادِرِ إلَّا لِابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ، وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِالْأَذَانِ فَتَرَكَهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَأَمَّا مَنْ أُمِرَ بِالْإِقَامَةِ فَتَرَكَهَا سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَأَمَّا الْعَامِدُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ، وَالشَّاذُّ: أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَارِكِ السُّنَنِ مُتَعَمِّدًا، هَلْ يُعَدُّ عَابِثًا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا يُعَدُّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْثُومٍ فِي التَّرْكِ فَلَا تَبْطُلُ؟ انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ أَبَدًا، وَكَلَامُ ابْنِ يُونُسَ كَالصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ، وَكَلَامُ ابْنِ بَشِيرٍ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ وَعَزَا صَاحِبُ الطِّرَازِ هَذَا الْقَوْلَ لِابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ، وَقَالَ: أَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَنَصُّهُ:" قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَأَلْتُ مَالِكًا عَمَّنْ يُصَلِّي بِغَيْرِ إقَامَةٍ نَاسِيًا، فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قُلْتُ: فَلَوْ تَعَمَّدَ، قَالَ: فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ فِي الْعَامِدِ: أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ إنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي الْوَاضِحَةِ فِي الْمُنْفَرِدِ إنْ أَقَامَ فَحَسَنٌ وَجَوَّزَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ لِلْفَذِّ تَرْكَ الْإِقَامَةِ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ حَنْبَلٍ وَلِأَنَّ مَا لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَلَا إعَادَةً لَا يُوجِبُ عَمْدُهُ الْإِعَادَةَ كَالتَّسْبِيحِ وَاعْتِبَارًا بِالْأَذَانِ وَاعْتِبَارًا بِالْمَرْأَةِ، وَنَقَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَقَبِلَهُ وَلَمْ يَحْكِهِ غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الصَّغِيرِ مُقَابِلَ الْمَشْهُورِ وَعَزَاهُ فِي الشَّامِلِ لِابْنِ كِنَانَةَ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْإِعَادَةَ هَلْ هِيَ فِي الْوَقْتِ أَوْ أَبَدًا وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عَرَفَةَ غَيْرَ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ غَرِيبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ نَقْلَ الْخِلَافِ خُصُوصًا الَّذِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ عَلَى تَرْكِ الْإِقَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: " وَالْإِقَامَةُ سُنَّةٌ " لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافَ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ وَقَعَ إطْلَاقُ الِاسْتِغْفَارِ لِتَارِكِهَا، وَوَقَعَ فِيهَا وَفِي الْأَذَانِ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: " وَلَا أَعْرِفُهُ إلَّا لِنَقْلِ ابْنِ رَاشِدٍ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ فِي الْإِقَامَةِ فَقَطْ " انْتَهَى.
(قُلْتُ) قَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَالْقَرَافِيُّ فِي ذَخِيرَتِهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) تَحَصَّلَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ طَرِيقَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا لِابْنِ يُونُسَ وَاللَّخْمِيِّ وَابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ يُونُسَ وَابْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الْإِعَادَةَ أَبَدًا، الثَّانِيَةُ لِصَاحِبِ الطِّرَازِ وَالْقَرَافِيِّ وَابْنِ رَاشِدٍ: أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ الشَّبِيبِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ: يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَقِيلَ: أَبَدًا.
(الثَّانِي) عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ التَّارِكِ لَهَا سَهْوًا لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيْرِهِ.
(الثَّالِثُ) تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَابْنِ بَشِيرٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْأَذَانَ عَامِدًا لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ حِكَايَةِ الْقَوْلِ الشَّاذِّ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ نَاجِي نَعَمْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ الطَّبَرِيَّ رَوَى عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ أَهْلُ مِصْرٍ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، وَأَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ مُسَافِرٌ عَمْدًا أَعَادَ صَلَاتَهُ وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) قَوْلُهُ: فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: كَيْفَ يُطْلِقُ لَفْظَ الِاسْتِغْفَارِ الْمُخْتَصِّ بِالذُّنُوبِ فِي تَرْكِ السُّنَنِ، وَتَرْكُهَا لَيْسَ بِذَنْبٍ، وَأَجَابَ: بِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَحْرِمُ الْعَبْدَ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، وَالْفَرَائِضِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيُعِينُهُ عَلَى التَّقَرُّبِ بِسَبَبِ طَاعَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وَقَوْلُهُ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الْآيَةَ، فَإِذَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذُنُوبِهِ غُفِرَتْ لَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ، وَأَمِنَ حِينَئِذٍ مِنْ الِابْتِلَاءِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِالْحِرْمَانِ
وَنَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ، وَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ شَيْخِي الْقَرَافِيِّ قَالَ ابْنُ نَاجِي وَكَانَ شَيْخُنَا يَعْنِي الْبُرْزُلِيَّ يَذْهَبُ إلَى هَذَا دُونَ اسْتِدْلَالٍ وَنَسَبَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ أَيْضًا لِتَهَاوُنِهِ بِالسُّنَّةِ كَقَوْلِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: إنَّ تَرْكَ السُّنَنِ فِسْقٌ، وَإِنْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدٍ عُوقِبُوا انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَانُّوغِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ: " جَوَابُ الْقَرَافِيِّ هُنَا ضَعِيفٌ "، قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ لَيْسَ هُوَ بِضَعِيفٍ كَمَا زَعَمَ وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ الْقَرَافِيِّ
(الْخَامِسُ) تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا سَهْوًا لَا يَسْجُدُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ فِي الطِّرَازِ فَلَوْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَنَقْصٌ يُؤَثِّرُ فَسَجَدَ لَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَسُجُودُهُ لَغْوٌ، وَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ، فَفِي مُخْتَصَرِ الطُّلَيْطِلِيّ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي صُلْبِ صَلَاتِهِ سُجُودًا لَيْسَ مِنْهَا وَرَآهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْجَهْلِ انْتَهَى. وَذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ وَأَسْقَطَ بَعْضَهُ فَصَارَ مُشْكِلًا فَإِنَّهُ، قَالَ: إذَا سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ (وَقَالَ) فِي مُخْتَصَرِ الطُّلَيْطِلِيِّ يُعِيدُ فَكَلَامُهُ أَوْهَمَ أَنَّ كَلَامَ الطُّلَيْطِلِيِّ فِيمَا إذَا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ نَصَّ الْهَوَّارِيُّ فِي مَسَائِلِ السَّهْوِ عَلَى أَنَّهُ إذَا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ، فَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الطُّلَيْطِلِيِّ يُعِيدُ الصَّلَاةَ انْتَهَى. بِالْمَعْنَى، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْح الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ سَجَدَ لِتَرْكِ الْإِقَامَةِ قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، قَالَ الطُّلَيْطِلِيّ وَقَبِلَهُ ابْنُ رَاشِدٍ، وَهُوَ وَاضِحٌ انْتَهَى.
(السَّادِسُ) إذَا تَذَكَّرَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَرَكَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَقْطَعْ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا، قَالَ فِي النَّوَادِرِ: وَمِنْ الْمَجْمُوعَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: وَمَنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ جَهْلًا حَتَّى أَحْرَمَ فَلَا يَقْطَعُ وَلَوْ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ أَقَامَ وَصَلَّى فَقَدْ أَسَاءَ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ يُرِيدُ أَنَّهُ إذَا أَقَامَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ بِنِيَّتِهِ وَبِكَلَامِهِ الْمُنَافِي لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُنَافِي الصَّلَاةَ حَتَّى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَحْكِي فِيهِ الْمُؤَذِّنَ وَلَوْ أَنَّ هَذَا لَمَّا أَحْرَمَ أَقَامَ بَعْدَ إحْرَامِهِ وَتَمَادَى عَلَى حُكْمِ إحْرَامِهِ الْأَوَّلِ لَأَعَادَ الصَّلَاةَ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ
ص (وَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ سِرًّا فَحَسَنٌ)
ش يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ صَلَّتْ وَحْدَهَا فَإِنَّ الْإِقَامَةَ فِي حَقِّهَا حَسَنَةٌ يَعْنِي مُسْتَحَبَّةً، وَلَيْسَتْ سُنَّةً كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَأَمَّا إذَا صَلَّتْ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَتَكْتَفِي بِإِقَامَتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَيْضًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُقِيمَةُ لِلْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ، وَلَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ بِإِقَامَتِهَا كَمَا لَا تَحْصُلُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِأَذَانِهَا، قَالَ فِي الطِّرَازِ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ الْآتِي: يُرِيدُ إنَّهَا أَقَامَتْ لِنَفْسِهَا لَا أَنَّهَا تُقِيمُ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَةِ، وَإِذَا أَقَامَتْ لِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تُقِيمُ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّ الْمُنْفَرِدَ مِنْ الرِّجَالِ يُسِرُّ الْإِقَامَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَوْنِ الْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ حَسَنَةً أَيْ: مُسْتَحَبَّةً هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ فِيهَا: وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، وَإِنْ أَقَامَتْ فَحَسَنٌ، قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: الْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ إقَامَتَهَا حَسَنَةٌ كَمَا قَالَ، وَرَوَى الطِّرَازُ عَدَمَ اسْتِحْبَابِهَا إذْ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُنَّ كُنَّ يُقِمْنَ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
(قَالَ) ابْنُ هَارُونَ هُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهَا لِلرَّجُلِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلِلنِّسَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ فَلَا يَسْتَوِيَانِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي الْمَرْأَةِ حَسَنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ: هَذَا أَشْبَهُ مِمَّا فِي الْأَصْلِ وَوِفَاقٌ لِمَذْهَبِ الْكِتَابِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَعَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ شَرْحُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفِ فِي التَّوْضِيحِ لَكِنْ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ حَسَنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ فِي الْجَلَّابِ: وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ أَقَمْنَ فَحَسَنٌ، وَلِأَشْهَبَ ثَالِثٌ بِالْكَرَاهَةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) لَمْ يَحْكِ صَاحِبُ الطِّرَازِ عَنْ أَشْهَبَ الْكَرَاهَةَ وَإِنَّمَا فُهِمَ كَلَامُهُ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ، قَالَ فِي الطِّرَازِ: اخْتَلَفَ
قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْإِقَامَةِ فَمَرَّةً اسْتَحْسَنَهَا، وَمَرَّةً لَمْ يَسْتَحْسِنْهَا، قَالَ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ قَالَ أَفَأَحَبُّ إلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ، قَالَ مَا آمُرُهَا بِذَلِكَ انْتَهَى. وَرَأَيْتُ الشَّبِيبِيَّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ حَكَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَعَزَا الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ لِسَمَاعِ أَشْهَبَ، وَبَحَثَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ فِي جَعْلِ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ثَالِثًا، وَقَالَ: هُوَ رَاجِعٌ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَى اللُّزُومَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الِاسْتِحْبَابِ فَلَا يَكُونُ ثَالِثًا انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ وَعَلَى ذَلِكَ فَهِمَهُ ابْنُ عَرَفَةَ لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مُقَابِلَ الْمَشْهُورِ الْكَرَاهَةَ وَإِنَّمَا جَعَلَ مُقَابِلَهُ عَدَمَ الِاسْتِحْبَابِ، وَنَصُّهُ: " وَفِيهَا لَا أَذَانَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا إقَامَةَ، وَإِنْ أَقَامَتْ فَحَسَنٌ، وَهُوَ فِي الْجَلَّابِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَرُوِيَ فِي الطِّرَازِ عَدَمُ اسْتِحْسَانِهَا إذْ لَمْ تُرْوَ عَنْ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.
(قُلْتُ) كَلَامُ الشَّارِحِ، وَابْنِ عَرَفَةَ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مُتَّحِدَانِ وَكَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ كَمَا نَقَلَ فِي التَّوْضِيحِ لَكِنْ يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَى أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ أَشْهَبَ وَلَيْسَ ثَالِثًا انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ حَيْثُ لَمْ يُطْلَبْ الْأَذَانُ مِنْ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَالْحُضُورِ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِقَامَةُ شُرِعَتْ لِإِعْلَامِ النَّفْسِ بِالتَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّ الْأَذَانُ بِمَنْ ذُكِرَ، وَشُرِعَتْ الْإِقَامَةُ لِلْجَمِيعِ (الثَّانِي) : إذَا صَلَّى الصُّبْحَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِقَامَةِ فِي النَّوَادِرِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَإِنْ صَلَّى الصُّبْحَ لِنَفْسِهِ فَلْيُقِمْ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ.
(الثَّالِثُ) قَوْلُهُ: " سِرًّا " لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِتَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ بِالسِّرِّ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي إقَامَةِ الْمُنْفَرِدِ أَنْ يَكُونَ سِرًّا فِي الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ: وَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُسِرَّ الْإِقَامَةَ فِي نَفْسِهِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي، قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُوجَدْ لِمَالِكٍ خِلَافٌ، وَقَبِلَهُ ابْنُ هَارُونَ، قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: وَظَاهِرُ الْكِتَابِ أَنَّ الْإِسْرَارَ مَطْلُوبٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عِمْرَانَ قَائِلًا:" مَخَافَةَ أَنْ يُشَوِّشَ عَلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ يُصَلِّي هُنَاكَ "، وَاخْتَصَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسِرَّ الْإِقَامَةَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ لَا بَأْسَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ وِفَاقًا لِاخْتِصَارِ الْبَرَاذِعِيِّ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَإِسْرَارُ الْمُنْفَرِدِ حَسَنٌ، قَالَ ابْنُ هَارُونَ: هَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ وَغَيْرُ الْإِسْرَارِ، وَهُوَ الْجَهْرُ أَحْسَنُ لِقَوْلِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَشْهَبَ: أَحَبُّ إلَيَّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِقَامَةِ وَلَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، بَلْ قَالَ: لَوْ اُخْتِيرَ فِيهَا رَفْعُ الصَّوْتِ لَكَانَ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ التَّثْوِيبَ أَدْبَرَ، وَمُبَاعَدَةُ الشَّيْطَانِ مَطْلُوبَةٌ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ أَشْهَبَ يُخَالِفُ فِي إقَامَةِ الْمُنْفَرِدِ وَيَرَى الْجَهْرَ بِهَا أَوْلَى وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ إلَّا مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ: يُسِرُّهَا الْمُنْفَرِدُ فِي نَفْسِهِ الشَّيْخُ عَنْ أَشْهَبَ أَحَبُّ إلَيَّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِقَامَةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْ أَشْهَبَ إنَّمَا هُوَ فِي الْجَمَاعَةِ. قِيلَ: لِأَشْهَبَ: أَيُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ أَوْ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْأَذَانِ أَسْمَعُهُ لِلْقَوْمِ، وَأَحَبُّ إلَيَّ فِي الْإِقَامَةِ أَنْ تَكُونَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقُرْبَ الْإِمَامِ، وَكُلِّ وَاسِعٍ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ انْتَهَى. وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الطِّرَازِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُدَوَّنَةِ فِيهِ ذَلِكَ خِلَافًا بَلْ، قَالَ: إنَّ الْإِقَامَةَ شُرِعَتْ أُهْبَةً لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهَا تَفْخِيمًا لَهَا كَغُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ فَحَسَنٌ أَنْ يُقَالَ فِيهَا: مَنْ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَا صَلَّى أَهْلُهُ لَا يَجْهَرُ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ اللِّبْسَةِ وَالدُّلْسَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ مِرَارًا يَظُنُّ بِهِ الْخُرُوجَ عَنْ رَأْيِ الْإِمَامِ وَعَمَّا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ، وَأَنَّهُ يَتَعَمَّدُ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ انْتَهَى. فَتَأَمَّلْهُ.
وَقَالَ الشَّبِيبِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَفِي صِفَةِ الْإِقَامَةِ أَنْ تَكُونَ جَهْرًا لِلْجَمَاعَةِ سِرًّا لِلْفَذِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) ، قَالَ
اللَّخْمِيُّ: مِنْ شَرْطِ الْإِقَامَةِ أَنْ تَعْقُبَهَا الصَّلَاةُ فَإِنْ تَرَاخَى مَا بَيْنَهُمَا أَعَادَ الْإِقَامَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم التَّوْسِعَةُ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْخِلَافِ فِي إقَامَةِ الرَّاكِبِ وَصَوَّبَ مَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُقِيمُ رَاكِبًا، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِاتِّصَالِ الْإِقَامَةِ بِالصَّلَاةِ فَإِنْ أَقَامَ رَاكِبًا، ثُمَّ نَزَلَ وَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ شُغْلٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:(فَرْعٌ) إذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ إيصَالَ الْإِقَامَةِ بِالصَّلَاةِ فَهَلْ يَبْعُدُ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ عَنْ الْإِمَامِ مِثْلَ الْجَامِعِ الْوَاسِعِ يَخْرُجُ الْمُؤَذِّنُ إلَى بَابِهِ أَوْ يَصْعَدُ عَلَى سَطْحِهِ فَيُقِيمُ، قَالَ أَشْهَبُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقُرْبَ الْإِمَامِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَخْرُجَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ لِيُسْمِعَ مَنْ حَوْلَهُ أَوْ قُرْبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ، قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْمَنَارِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ خَارِجَهُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِيَخُصَّ رَجُلًا لِيُسْمِعَهُ فَدَاخِلُ الْمَسْجِدِ أَحَبُّ إلَيَّ. وَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ، وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِقَامَةَ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَانَتْ لَمَا سُمِعَتْ مِنْ الْبَقِيعِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْعُتْبِيَّةِ نَحْوَهُ فِي نَوَازِلِ سَحْنُونٍ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى مَسْأَلَةِ إقَامَةِ الرَّاكِبِ: لِأَنَّ السُّنَّةَ اتِّصَالُ الْإِقَامَةِ بِالصَّلَاةِ، وَالنُّزُولُ عَنْ الدَّابَّةِ وَعَقْلُهَا، وَإِصْلَاحُ الْمَتَاعِ طُولٌ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ فِي الطِّرَازِ: إذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ اتِّصَالَ الْإِقَامَةِ بِالصَّلَاةِ يَقْتَضِي أَنَّ اتِّصَالَ الْإِقَامَةِ بِالصَّلَاةِ مُسْتَحَبٌّ لَا شَرْطٌ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ اللَّخْمِيِّ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى الْفَصْلِ الْيَسِيرِ، فَهُوَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ، وَأَمَّا إنْ طَالَ الْفَصْلُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْإِقَامَةَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَقَامَ رَاكِبًا، ثُمَّ نَزَلَ وَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرِ شُغْلٍ فَيَكُونُ مُوَافِقًا، لِكَلَامِ اللَّخْمِيِّ وَكَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْقَرَافِيِّ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ بَعُدَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ الْإِقَامَةِ أُعِيدَتْ وَفِي إعَادَتِهَا لِبُطْلَانِ صَلَاتِهَا، وَإِنْ طَالَ، نَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ ظَاهِرِهَا، وَبَعْضُهُمْ، وَعَزَا الْمَازِرِيُّ الْأَوَّلَ: لِبَعْضِهِمْ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهَا: مَنْ رَأَى نَجَاسَةً فِي ثَوْبِهِ قَطَعَ وَابْتَدَأَ بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يَحْكِ الثَّانِيَ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ ابْنِ نَاجِي أَنَّهُ قَالَ: ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِإِقَامَةٍ طَالَ أَمْ لَا، وَعَلَيْهِ حَمَلَهَا بَعْضُهُمْ قَائِلًا: إنَّ الْإِقَامَةَ الْأُولَى كَانَتْ صَلَاةً فَاسِدَةً فَبَطَلَتْ بِبُطْلَانِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الطُّولِ، وَأَمَّا الْقُرْبُ فَلَا يَفْتَقِرُ لِإِقَامَةٍ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ، وَمِنْ الْمَجْمُوعَةِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: وَمُؤَذِّنٌ أَقَامَ الصَّلَاةَ فَأَخَّرَهُ الْإِمَامُ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا كَفَتْهُمْ تِلْكَ الْإِقَامَةُ، وَإِنْ بَعُدَ أَعَادَ الْإِقَامَةَ، وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَإِذَا أَقَامَ فَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ قَلِيلًا أَجْزَأَهُ، فَإِنْ تَبَاعَدَ أَعَادَ الْإِقَامَةَ انْتَهَى. فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا: أَنَّ اتِّصَالَ الْإِقَامَةِ بِالصَّلَاةِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ الْفَصْلَ الْيَسِيرَ لَا يَضُرُّ، وَالْكَثِيرَ يُبْطِلُ الْإِقَامَةَ، وَسَيَأْتِي فِي التَّنْبِيهِ الثَّامِنَ عَشَرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْتَظِرَ بِالْإِحْرَامِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ قَدْرَ مَا تُسَوَّى الصُّفُوفُ فَهَذَا الْفَصْلُ مُسْتَحَبٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّأْخِيرُ الْيَسِيرُ الْمُغْتَفَرُ فَوْقَهُ، وَسَيَأْتِي فِي التَّنْبِيهِ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي الرَّجُلَ طَوِيلًا بَعْدَ الْإِقَامَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(الْخَامِسُ) قَالَ فِي رَسْمِ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ أَيُقِيمُ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهِ؟ قَالَ: لَا قِيلَ لَهُ: فَإِنْ فَعَلَ، قَالَ: هَذَا مُخَالِفٌ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ قَوْلُهُ:" هَذَا مُخَالِفٌ " أَيْ لِلسُّنَّةِ أَيْ: لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُقِيمَ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ دُونَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ، وَحَانَتْ الصَّلَاةُ جَاءَ الْمُؤَذِّنُ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ؟ فَأُقِيمَ، قَالَ: نَعَمْ» وَإِنَّمَا الَّذِي يَجِبُ لِلنَّاسِ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ أَنْ يَدْعُوَ؛ لِأَنَّهَا سَاعَةُ الدُّعَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَاعَتَانِ تُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ دَعْوَتُهُ: حَضْرَةُ النِّدَاءِ، وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَذَكَرَ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَخَذَ خِلَافَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ كَرَاهَةَ إقَامَةِ الْمُعْتَكِفِ مَعَ الْمُؤَذِّنِينَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَعْنِي؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ الْكَرَاهَةُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ يَقْتَضِي: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ، وَرَدَّ ابْنُ عَرَفَةَ هَذَا الْأَخْذَ، فَقَالَ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِقَامَةِ الْكُلِّيَّةُ لَا الْجُزْئِيَّةُ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ إقَامَةَ الْمُعْتَكِفِ مَعَ الْمُؤَذِّنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الرِّوَايَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنْ يُقِيمَ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْهُ.
(السَّادِسُ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ كَرَاهَةَ إقَامَةِ الْإِمَامِ لِنَفْسِهِ لَا أَعْرِفُهُ وَفِي أَخْذِهِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ نَظَرٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ) كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ إنَّمَا هُوَ إذَا أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ فَلَا يُقِيمُ الْإِمَامُ وَلَا يُقِيمُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ مَعَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ السُّنَّةُ أَنْ يُقِيمَ الْمُؤَذِّنُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي أَكْثَرِ عِبَارَاتِهِمْ كَمَا فِي عِبَارَةِ الْمُدَوَّنَةِ الْآتِيَةِ فِي التَّنْبِيهِ السَّابِعَ عَشَرَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُؤْخَذُ جَوَازُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ فِي التَّنْبِيهِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إقَامَةَ الْمُؤَذِّنِ أَحْسَنُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم إلَى زَمَانِنَا، وَإِقَامَةَ الْإِمَامِ مُجْزِئَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ مِنْ اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ حِينَئِذٍ وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ النِّدَاءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَذَانُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَدْخُلَ الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ.
(السَّابِعُ)، قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَرَأَيْت الْمُؤَذِّنِينَ فِي الْمَدِينَةِ يَتَوَجَّهُونَ إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا فِي أَذَانِهِمْ وَيُقِيمُونَ عَرْضًا، وَذَلِكَ وَاسِعٌ يَصْنَعُ كَيْفَ شَاءَ، قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ أَصْحَابِنَا: أُخِذَ مِنْهَا أَنَّ الْمُقِيمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا يُرِيدُ فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْيَسِيرِ فَلَا يَضُرُّ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَالْأَخْذُ مِنْ قَوْلِهِ: " وَيُقِيمُونَ عَرْضًا " كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي التَّنْبِيهِ الثَّامِنِ وَقَوْلُهُ: " يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا " يَقْتَضِي أَنَّهُ إنْ أَقَامَ قَاعِدًا لَمْ يُجْزِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ ابْتِدَاءً فَإِنْ أَقَامَ جَالِسًا أَجْزَأَهُ، وَعَدَّ الشَّبِيبِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْإِقَامَةَ لِلرِّجَالِ وَالْقِيَامَ لَهَا، وَقَالَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَصِفَةُ الْمُقِيمِ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِمَّنْ يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاةَ قَائِمًا.
(الثَّامِنُ) ، قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، قَالَ ابْنُ عَاتٍ: وَيُسْتَحَبُّ التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ فِي الْإِقَامَةِ عِنْدَنَا، قَالَ ابْنُ هَارُونَ: وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ انْتَهَى.
(قُلْت) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: " عَرْضًا "، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ فِي الْأُمَّهَاتِ: يَخْرُجُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُمْ يُقِيمُونَ الشَّيْخُ إمَّا؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِمَامِ فِي شَرْقِ الْمَسْجِدِ أَوْ غَرْبِهِ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ: " يَخْرُجُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُمْ يُقِيمُونَ " تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: " يُقِيمُونَ عَرْضًا " وَلَفْظُ الْأُمِّ " وَيُقِيمُونَ عَرْضًا " يَخْرُجُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُمْ يُقِيمُونَ، وَقَالَ الْوَانُّوغِيُّ ابْنُ عَاتٍ يُسْتَحَبُّ الِاسْتِقْبَالُ فِي الْإِقَامَةِ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ:" عَرْضًا " عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَخْرُجُ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ فَيَخْرُجُ الْمُؤَذِّنُ فَيُقِيمُ عَرْضًا انْتَهَى. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قِبْلَةَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ إلَى جِهَةِ الْجَنُوبِ، وَالْمَغْرِبَ عَلَى يَمِينِهِ، وَالْمَشْرِقَ عَنْ شِمَالِهِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ وَإِنَّ مَا وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِمْ يَخْرُجُونَ مَعَ الْإِمَامِ فَتَأَمَّلْهُ.
(التَّاسِعُ) قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَيُؤْخَذُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَعَدُّدُ الْمُقِيمِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَخْذًا مِنْ كِتَابِ الِاعْتِكَافِ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ لِلْوَانُّوغِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
(الْعَاشِرُ)، قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ: وَالدُّعَاءُ عِنْدَهَا مُسْتَحَبٌّ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي التَّنْبِيهِ الرَّابِعِ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الْوَغْلِيسِيَّةِ وَلَا يَحْكِي الْإِقَامَةَ. (قُلْتُ) قَدْ يُفْهَمُ هَذَا أَيْضًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ الْمَذْكُورِ لَكِنْ وَقَعَ فِي الطِّرَازِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَحْكِي الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ، قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ انْتَظَرَ الْإِمَامُ قَدْرَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ يُحْرِمُ عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " ثُمَّ أَخَذَ يُوَجِّهُ قَوْلَ مَالِكٍ، فَقَالَ: وَلِأَنَّ فِي جَوَاب الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةً وَفِي حُضُورِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَضِيلَةً فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِالِانْتِظَارِ يُجَاوِبُ الْإِمَامُ الْمُؤَذِّنَ، وَيُدْرِكُ الْمُؤَذِّنُ التَّكْبِيرَ انْتَهَى. فَتَأَمَّلْهُ.
(الثَّانِيَ عَشَرَ) قَالَ فِي رَسْمِ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَدْخُلَانِ الْمَسْجِدَ وَهُمَا فِي مُؤَخَّرِهِ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ وَهُمَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مُقْبِلَانِ إلَى الْإِمَامِ فَيُحْرِمُ الْإِمَامُ، وَهُمَا يَتَحَدَّثَانِ، قَالَ: أَرَى أَنْ يَتْرُكَا الْكَلَامَ إذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ تَحَدُّثَهُمَا، وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ وَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ مُقْبِلَانِ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْبَيِّنِ؛ لِأَنَّهُ لَهْوٌ عَمَّا يُقْصَدُ أَنَّهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَإِعْرَاضٌ عَنْهُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ تَحَدُّثُهُمَا وَهُمَا وَاقِفَانِ فِي الصَّفِّ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ الْإِمَامُ بَلْ قَدْ يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ تَشْوِيشٌ عَلَى مَنْ إلَى جَانِبِهِمَا مِنْ الْمُصَلِّينَ وَلَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ، قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: إذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ انْتَهَى.
(الثَّالِثَ عَشَرَ)، قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي الرَّجُلَ طَوِيلًا قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ وَإِنَّمَا جَعَلَ الْعُودَ الَّذِي فِي الْقِبْلَةِ لِكَيْ يَتَوَكَّأَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا مَا لَمْ يُطِلْ كَمَا تَقَدَّمَ.
(الرَّابِعَ عَشَرَ) قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: قَالَ مَالِكٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ بَعْدَ الْإِقَامَةِ وَقَبْلَ التَّكْبِيرِ انْتَهَى.
(الْخَامِسَ عَشَرَ) قَالَ فِي الْبَيَانِ فِي رَسْمِ نَذْرِ سُنَّةٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ، قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي إنَّ رَجُلًا قَدِمَ حَاجًّا، وَأَنَّهُ جَلَسَ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَاسْتَبْطَأَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَا تَخْرُجُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ الْمُؤَذِّنِ خُرُوجًا لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ أَصَابَهُ أَمْرُ سُوءٍ، قَالَ: فَقَعَدَ الرَّجُلُ، ثُمَّ إنَّهُ اسْتَبْطَأَ الْإِقَامَةَ، فَقَالَ: مَا أُرَاهُ إلَّا قَدْ حَبَسَنِي فَخَرَجَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَصُرِعَ فَكُسِرَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الْمُسَيِّبِ، فَقَالَ: قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُصِيبُهُ مَا يَكْرَهُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ " بَلَغَنِي " مَعْنَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ بِالرَّأْيِ، وَهِيَ عُقُوبَةٌ مُعَجَّلَةٌ لِلْخَارِجِ بَعْدَ الْأَذَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ لِإِيثَارِهِ تَعْجِيلَ حَوَائِجِ دُنْيَاهُ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي أُذِّنَ لَهَا وَحَضَرَ وَقْتُهَا، وَأَمَّا إذَا خَرَجَ رَاغِبًا عَنْهَا آبِيًا مِنْ فِعْلِهَا فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ:" بَلَغَنِي أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ إلَّا أَحَدٌ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ إلَّا مُنَافِقٌ " انْتَهَى. وَذَكَرَ فِي التَّمْهِيدِ فِي بَلَاغَاتِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجْتَازُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَخْرُجُ بَعْدَ الْأَذَانِ، فَقَالَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ، وَكَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَكَذَا إنْ كَانَ قَدْ صَلَّى وَحْدَهُ إلَّا مَا لَا يُعَادُ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بِإِجْمَاعٍ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ لِلْوُضُوءِ وَيَنْوِي الرُّجُوعَ انْتَهَى.
(قُلْتُ) قَوْلُهُ: " لَا يَحِلُّ " أَيْ: يُكْرَهُ لَهُ الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ لَيْسَ بِحَلَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ الْمُبَاحُ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ التَّحْرِيمُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ " وَلَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ بِالْإِقَامَةِ وَأَمَّا قَبْلَهَا فَيَجُوزُ كَمَا سَيَأْتِي فِي فَصْلِ الْجَمَاعَةِ.
(السَّادِسَ عَشَرَ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ صَلَّى أَهْلُهُ فَلْيَبْتَدِئْ الْإِقَامَةَ لِنَفْسِهِ انْتَهَى. وَنَقَلَهَا سَنَدٌ بِلَفْظِ، قَالَ مَالِكٌ: لَا تُجْزِئُهُ إقَامَتُهُمْ، قَالَ وَقَوْلُهُ:" لَا تُجْزِئُهُ إقَامَتُهُمْ " يَقْتَضِي أَنَّهَا مُتَأَكَّدَةٌ فِي حَقِّهِ، وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: يُقِيمُ لِنَفْسِهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ إقَامَةٍ فَجَعَلَهُ مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ فِي الْوَاضِحَةِ فِي الْفَذِّ فَإِنْ أَقَامَ فَحَسَنٌ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَامَةَ شُرِعَتْ أُهْبَةً لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ حَتَّى شُرِعَتْ فِي الْفَوَائِتِ فَوَجَبَ مُلَازَمَتُهَا لَهَا وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي حُكْمِ الدُّعَاءِ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ دُعَاءً لِلْغَيْرِ وَاعْتِبَارًا بِالْأَذَانِ انْتَهَى.
وَنَحْوُهُ لِابْنِ نَاجِي، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ: اخْتَلَفَ
النَّاسُ فِي إقَامَةِ الْمُنْفَرِدِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُخَاطِبُ بِهَا، وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَنَّ الْإِقَامَةَ لِلْمُنْفَرِدِ إنَّمَا هِيَ لِجَوَازِ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ لِمَذْهَبِ الْمُخَالِفِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهَا لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَفِيهَا مَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا صَلَّى أَهْلُهُ لَمْ تُجْزِهِ إقَامَتُهُمْ، وَلِمَالِكٍ فِي الْمَبْسُوطِ: يُقِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ. اللَّخْمِيُّ اسْتَحَبَّهُ وَلَمْ يَرَهُ سُنَّةً وَلِابْنِ مَسْلَمَةَ إنَّمَا الْإِقَامَةُ لِمَنْ يَؤُمُّ يُقِيمُ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ فَمَنْ دَخَلَ بَعْدَهُ كَانَ أَقَامَ لَهُ.
الْمَازِرِيُّ هَذَا إشَارَةٌ لِقَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ: لَا يَفْتَقِرُ لَهَا لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ: وَمَنْ دَخَلَ بِتَكْبِيرَةٍ فِي آخِرِ جُلُوسِ الْإِمَامِ فَلَا يُقِيمُ فَإِنْ لَمْ يُكَبِّرْ أَقَامَ انْتَهَى. وَقَالَ فِي رَسْمِ الصَّلَاةِ الثَّانِي مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ فِيمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ الْجُمُعَةِ: " يُقِيمُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُجْزِئُهُ إقَامَةُ النَّاسِ "، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ مَعَ الْإِمَامِ وَلَوْ أَحْرَمَ مَعَهُ لَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَأَجْزَأَتْهُ إقَامَةُ النَّاسِ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ إلَّا أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفَهَا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَخْطَأَ إذْ لَا اخْتِلَافَ أَنَّهُ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى إحْرَامِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ الَّذِي يَجِدُ الْإِمَامَ سَاجِدًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَيُحْرِمُ مَعَهُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ عَلَيْهَا فِي رَسْمِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) ذَكَرَ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى إحْرَامِهِ أَرْبَعًا، وَاسْتَحَبَّ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا آخَرَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، قَالَ: وَيَأْتِي عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ وَرِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ فِيمَنْ رَعَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ عَقْدِ رَكْعَةٍ أَنَّهُ لَا يَبْنِي عَلَى إحْرَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ انْتَهَى. وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي فَصْلِ الْجُمُعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(السَّابِعَ عَشَرَ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ لَمْ تُجْزِهِ إقَامَةُ أَهْلِ الْمِصْرِ، قَالَ سَنَدٌ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلَا الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ فِي الْجَدِيدِ مِثْلَهُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: أَمَّا الرَّجُلُ يُصَلِّي وَحْدَهُ فَأَذَانُ الْمُؤَذِّنِينَ وَإِقَامَتُهُمْ كَافِيَةٌ لَهُ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ قَدْ أَدَّى فِيهِ حَقَّ الْإِقَامَةِ لِلظُّهْرِ فَلَا يَتَعَدَّدُ ذَلِكَ بِتَعْدَادِ الظُّهْرِ كَمَا فِي حَقِّ آحَادِ الْجَمَاعَةِ، وَاعْتِبَارًا بِالْآذَانِ الَّذِي أَدَّى فِيهِ حَقَّهُ فَإِنَّ مَنْ أَتَى بَعْدَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي صَلَاةٍ لَمْ تُجْزِهِ إقَامَتُهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّامِنَ عَشَرَ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيَنْتَظِرُ الْإِمَامُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ قَلِيلًا قَدْرَ مَا تَسْتَوِي الصُّفُوفُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَبْتَدِئُ الْقِرَاءَةَ وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ شَيْءٌ وَكَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُوَكِّلَانِ رَجُلًا بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا أَنْ قَدْ اسْتَوَتْ كَبَّرَ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ نَاجِي مَا ذَكَرَهُ مُسْتَحَبٌّ وَوَجْهُهُ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فَاتَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَمَنْ فَاتَتْهُ أُمُّ الْقُرْآنِ فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَإِنْ اشْتَغَلُوا بِالتَّكْبِيرِ فَاتَهُمْ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ: يَحْرُمُ إذَا قَالَ الْمُقِيمُ: " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَخَيَّرَ فِي الْوَجْهَيْنِ أَبُو عُمَرَ، وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْبَابِ تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، وَوَهِمَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْزُهُ لِابْنِ عُمَرَ إنَّمَا عَزَاهُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقَطْ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ نَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي عَنْ ابْنِ يُونُسَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْأُمِّ.
(التَّاسِعَ عَشَرَ) ذَكَر ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: " وَلَا يَرْفَعُ أَحَدٌ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ " أَنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا فِقْهُ الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْطِفَ إحْرَامَهُ، وَسَلَامَهُ أَيْ: يُسْرِعُ فِيهِمَا لِئَلَّا يُشَارِكَهُ الْمَأْمُومُ فِيهَا فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُ، وَالثَّانِيَةُ: تَقْصِيرُ الْجَلْسَةِ الْوُسْطَى، وَالثَّالِثَةُ: دُخُولُ الْمِحْرَابِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْعِشْرُونَ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْأَذَانَ فِي الْجَمْعِ اكْتِفَاءً بِمَا سَيَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَفِي الْأَذَانِ فِي الْجَمْعِ مَشْهُورُهَا: يُؤَذِّنُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَعْنِي سَوَاءً كَانَ الْجَمْعُ سُنَّةً كَعَرَفَةَ، أَوْ رُخْصَةً كَلَيْلَةِ الْمَطَرِ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ أَيْ فِي الْجَمْعِ مُطْلَقًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: