الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَصُّهُ قَوْلُهُ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ: إنَّهُ مَجَازُ اعْتِزَالٍ وَضَلَالٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَحِيمٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ حَقِيقَةَ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَإِنَّمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ رِقَّةٌ وَتَغَيُّرٌ وَلِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ وَيَصْرِفُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إلَى الْأَفْعَالِ وَإِلَى إرَادَةٍ حَادِثَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّحْمَةَ لَيْسَتْ سِوَى إرَادَةِ الْخَيْرِ وَلَيْسَتْ الرِّقَّةَ وَإِنَّمَا الرِّقَّةُ صِفَةٌ أُخْرَى تَارَةً تُصَاحِبُ الْإِرَادَةَ وَتَارَةً لَا تُصَاحِبُ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ.
(قُلْت) كَلَامُ الصِّحَاحِ نَحْوُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَقَدْ تَبِعَ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ بِمَا ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ الْبَيْضَاوِيُّ وَالشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ بَلْ نَقَلَ الْأَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ الشَّيْخِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَجَازٍ لَهُ حَقِيقِيَّةٌ إلَّا هَذَا يَعْنِي: الرَّحْمَنَ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ الْعَطْفُ وَالتَّثَنِّي وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ وَتَقَرَّرَ عِنْدِي أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الرَّحْمَنُ فَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ انْتَهَى. وَكَلَامُ الْأَبِيِّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالِانْعِطَافِ الْجُسْمَانِيُّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا الْمُرَادُ الِانْعِطَافُ النَّفْسَانِيُّ
وَالرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنْ الرَّحِيمِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى غَالِبًا فَلِذَلِكَ يُقَالُ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ وَإِنَّمَا قُدِّمَ الرَّحْمَنُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي التَّرَقِّي لِتَقَدُّمِ رَحْمَةِ الدُّنْيَا وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْعَلَمِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ تَعَالَى بَلْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَمٌ وَهُوَ اسْمٌ مُقْتَضٍ لِإِيجَادِ الْخَلْقِ فَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ الْحَقِّ، وَمَنْ تَسَمَّى بِهِ هَلَكَ وَالرَّحِيمُ مُقْتَضٍ لِإِمْدَادِ الْخَلْقِ بِقِوَامِ وُجُودِهِمْ وَيَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَخْلُوقِ؛ لِأَنَّ الْإِمْدَادَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ وَلِذَلِكَ وَجَبَ شُكْرُهُمْ عَلَى مَا وَصَلَ مِنْهُمْ.
[فَائِدَتَانِ]
(فَائِدَتَانِ: الْأُولَى) حَيْثُ ذُكِرَ الِاشْتِقَاقُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ مَلْحُوظٌ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ وَإِلَّا فَشَرْطُ الْمُشْتَقِّ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْمُشْتَقِّ مِنْهُ.
وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَلَامِهِ حَتَّى أَنْكَرَ قَوْمٌ إطْلَاقَ الِاشْتِقَاقِ لِلْإِبْهَامِ وَقَالُوا: إنَّمَا يُقَالُ فِي مِثْلِ اسْمِهِ السَّلَامِ فِيهِ مَعْنَى السَّلَامَةِ وَفِي الرَّحْمَنِ فِيهِ مَعْنَى الرَّحْمَةِ.
قَالُوا وَالْأَشْيَاءُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْأَسْمَاءِ لِحَدِيثِ «هِيَ الرَّحِمُ وَأَنَا الرَّحْمَنُ اشْتَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي»
وَقَالَ حَسَّانٌ:
فَشَقَّ لَهُ مِنْ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ
…
فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَفِيهِ نَظَرٌ (الثَّانِيَةُ) نَقَلَ الدَّمَامِينِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَرَحِيمٍ وَغَفُورٍ كُلُّهَا مَجَازٌ إذْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ هِيَ أَنْ تُثْبِتَ لِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: وَهِيَ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ انْتَهَى.
[شَرْحُ خُطْبَةِ الْمُخْتَصَرِ]
ص (يَقُولُ الْفَقِيرُ الْمُضْطَرُّ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ الْمُنْكَسِرُ خَاطِرُهُ لِقِلَّةِ الْعَمَلِ وَالتَّقْوَى خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ)
ش: أَتْبَعَ الْمُصَنِّفُ الْبَسْمَلَةَ بِالتَّعْرِيفِ بِنَفْسِهِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ مَنْ يَقِفُ عَلَى كِتَابِهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا وَلِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَفِيهِ الْبُدَاءَةُ بِالْحَمْدِ وَالْفَقِيرُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ وَالْمُضْطَرُّ الشَّدِيدُ الْحَاجَةِ الَّذِي لَا يَرَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرَى شَيْئًا مِنْ الْأَسْبَابِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ كَالْغَرِيقِ فِي الْبَحْرِ وَالضَّالِّ فِي الْقَفْرِ لَا يَرَى لِإِغَاثَتِهِ إلَّا مَوْلَاهُ وَالْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ لَازِمَانِ لِلِاضْطِرَارِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِإِسْرَاعِ مَوَاهِبِ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّحْمَةِ.
وَالرَّبُّ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ وَهِيَ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إلَى كَمَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَا يَمْلِكُهُ وَيُرَبِّيهِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى إلَّا مُقَيَّدًا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مَتَى دَخَلَتْ اللَّامُ وَالْأَلِفُ عَلَى رَبٍّ اخْتَصَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لِلْعَهْدِ وَإِنْ حُذِفَتْ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ انْتَهَى وَالضَّمِيرُ فِي رَبِّهِ
عَائِدٌ إلَى اللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ لِأَنَّهَا مَوْصُولٌ. وَعَبَّرَ عَنْ الْمَسْكَنَةِ اللَّازِمَةِ لِلِاضْطِرَارِ بِقَوْلِهِ: الْمُنْكَسِرُ خَاطِرُهُ، وَالْخَاطِرُ مَا يَخْطِرُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرِ أَوَامِرَ وَنَحْوِهِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَحِلِّ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَعَلَّلَ انْكِسَارَ خَاطِرِهِ بِقِلَّةِ الْعَمَلِ وَالتَّقْوَى تَوَاضُعًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ لِأَنَّهُ لِشِدَّةِ مُرَاقَبَتِهِ لِنَفْسِهِ وَمُحَاسَبَتِهِ لَهَا لَمْ يَرْضَ عَنْهَا وَوَصَفَهَا بِمَا قَالَ كَمَا هُوَ حَالُ الْعَارِفِينَ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ.
وَالتَّقْوَى مِنْ الْوِقَايَةِ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ وَهِيَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يَقِي بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِمَّا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ مَرَاتِبَ الْأُولَى التَّوَقِّي عَنْ الْعَذَابِ الْمُخَلِّدِ بِالتَّبَرِّي عَنْ الشِّرْكِ وَالثَّانِيَةُ تَجَنُّبُ مَا يَقْتَضِي الْإِثْمَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ وَالثَّالِثَةُ تَجَنُّبُ مَا يَشْغَلُ السِّرَّ عَنْ الْحَقِّ تَعَالَى.
وَخَلِيلٌ فَعِيلٌ مِنْ الْخُلَّةِ وَهِيَ صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ ثُمَّ نُقِلَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَإِسْحَاقُ اسْمٌ عَجَمِيٌّ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَالْمَالِكِيُّ نِسْبَةً إلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْمُصَنِّفُ رحمه الله خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى كَذَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّهِ فِي آخِرِ نُسْخَةٍ مِنْ مَنَاسِكِهِ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى بِخَطِّهِ بَعْدَ مُوسَى بْنِ شُعَيْبٍ وَذَكَرَ ابْنُ غَازِيٍّ مَوْضِعَ مُوسَى يَعْقُوبَ وَيُوجَدُ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّهِ وَيُكَنَّى بِأَبِي الْمَوَدَّةِ وَأَبِي الضِّيَاءِ وَذَكَرَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الدُّرَرِ الْكَامِنَةِ أَنَّهُ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَيُلَقَّبُ بِضِيَاءِ الدِّينِ وَيُعْرَفُ بِالْجُنْدِيِّ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَجْنَادِ الْحَلَقَةِ الْمَنْصُورَةِ وَيَلْبَسُ زِيَّ الْجُنْدِ الْمُتَقَشِّفِينَ وَكَانَ عَالِمًا رَبَّانِيًّا صَدْرًا فِي عُلَمَاءِ الْقَاهِرَةِ مُجْمَعًا عَلَى فَضْلِهِ وَدِيَانَتِهِ ثَاقِبَ الذِّهْنِ أَصِيلَ الْبَحْثِ مُشَارِكًا فِي فُنُونِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالْفَرَائِضِ فَاضِلًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ صَحِيحَ النَّقْلِ تَخَرَّجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْفُضَلَاءِ انْتَهَى. وَكَانَ وَالِدُهُ حَنَفِيًّا لَكِنَّهُ كَانَ يُلَازِمُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْحَاجِّ صَاحِبَ الْمَدْخَلِ وَالشَّيْخَ عَبْدَ اللَّهِ الْمَنُوفِيَّ فَشَغَّلَ وَلَدَهُ مَالِكِيًّا وَلِلْمُصَنِّفِ رحمه الله كِتَابٌ جَمَعَ فِيهِ تَرْجَمَةَ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنُوفِيِّ. قَالَ فِيهِ: وَكَانَ الْوَالِدُ يَعْنِي وَالِدَهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْأَخْيَارِ وَذَكَرَ عَنْهُ مُكَاشِفَاتٍ وَتَخَرَّجَ الْمُصَنِّفُ بِالشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنُوفِيِّ وَأَخَذَ الْأُصُولَ وَالْعَرَبِيَّةَ عَنْ الْبُرْهَانِ الرَّشِيدِيِّ وَسَمِعَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْهَادِي وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْبَهَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيلٍ الْمَالِكِيِّ الْمُكَنَّى أَبَا دَاوُد التِّرْمِذِيَّ وَحَجَّ وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ وَشَرَعَ فِي الِاشْتِغَالِ بَعْدَ شَيْخِهِ وَدَرَسَ بالشَّيْخُونِيَّةِ وَأَقْبَلَ عَلَى نَشْرِ الْعِلْمِ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ شَيْخِهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ رَأَى شَيْخَهُ فِي الْمَنَامِ وَاقِفًا عِنْدَ قَبْرِهِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الِاشْتِغَالِ وَأَمَرَهُ بِهِ قَالَ: وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَصْحَابِ سَيِّدِي الشَّيْخِ رُؤْيَا تُشِيرُ إلَى ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ مُكَاشَفَةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ فِي حَيَاةِ الشَّيْخِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَشْغَلُ طَلَبَةَ الشَّيْخِ بَعْدَهُ قَالَ: فَقَوِيَتْ نَفْسِي فَجَلَسْت وَوَاللَّهِ لَا أَعْرِفُ الرِّسَالَةَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بِبَرَكَتِهِ وَهَانَ عَلَيَّ الْفِقْهُ، وَغَيْرُهُ وَلَمْ تَغِبْ عَلَيَّ مَسْأَلَةٌ أَصْلًا وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الرِّسَالَةَ لَعَلَّهُ يُرِيدُ الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ وَإِلَّا فَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ خَتَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ قِرَاءَةً عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنُوفِيِّ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا مَا نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْهُ فِي حَلِّ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي التَّرْجَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ صِغَرِهِ قَرَأَ سِيرَةَ الْبَطَّالِ ثُمَّ شَرَعَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْحِكَايَاتِ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ: يَا خَلِيلُ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ السَّهَرُ فِي الْخُرَافَاتِ قَالَ: فَعَلِمْت أَنَّ الشَّيْخَ عَلِمَ بِحَالِي وَانْتَهَيْت مِنْ ذَلِكَ فِي الْحِينِ، وَذَكَرَ ابْنُ غَازِيٍّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ أَقَامَ بِمِصْرَ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يَرَ النِّيلَ وَأَنَّهُ جَاءَ لِمَنْزِلِ بَعْضِ شُيُوخِهِ فَوَجَدَ الْكَنِيفَ مَفْتُوحًا وَلَمْ يَجِدْ الشَّيْخَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ شَوَّشَهُ هَذَا الْكَنِيفُ فَذَهَبَ لِيَأْتِيَ بِمَنْ يُنَقِّيه، فَقَالَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ: أَنَا أَوْلَى بِتَنْقِيَتِهِ، فَشَمَّرَ وَنَزَلَ وَجَاءَ الشَّيْخُ فَوَجَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَالنَّاسُ قَدْ حَلَّقُوا عَلَيْهِ
تَعَجُّبًا مِنْ فِعْلِهِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا قَالُوا: خَلِيلٌ فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَدَعَا لَهُ عَنْ قَرِيحَةٍ صَادِقَةٍ فَنَالَ بَرَكَةَ ذَلِكَ وَوَضَعَ اللَّهُ الْبَرَكَةَ فِي عُمْرِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ غَازِيٍّ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ وَأَنَّهُ مَرَّ بِطَبَّاخٍ يَبِيعُ لَحْمَ الْمَيْتَةِ فَكَاشَفَهُ وَزَجَرَهُ فَتَابَ عَلَى يَدَيْهِ وَأَنَّ بَعْضَ شُيُوخِ شُيُوخِهِ رَأَى الْمُصَنِّفَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْقِصَارَ قَالَ: وَأَظُنُّهُ أَنَّهُ قَالَ: وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ. (قُلْت) وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي تَرْجَمَةِ شَيْخِهِ أَنَّهُ مَرَّ بِشَوَّاءٍ فَاشْتَرَى مِنْهُ خَرُوفًا كَمَا خَرَجَ وَحَمَلَهُ عَلَى حَمَّالٍ وَخَرَجَ بِهِ إلَى الْكِيمَانِ وَطَرَحَهُ لِلْكِلَابِ فَتُعُجِّبَ مِنْ ذَلِكَ فَظَهَرَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَعَلَّ هَذِهِ الْحِكَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا ابْنُ غَازِيٍّ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ غَيْرُهَا. (وَأَلَّفَ رحمه الله) شَرْحَ ابْنِ الْحَاجِبِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْضِيحِ وَوَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَبُولَ وَاعْتَمَدَهُ النَّاسُ وَهُوَ أَكْثَرُ شُرُوحِهِ فُرُوعًا وَفَوَائِدَ (وَأَلَّفَ مَنْسَكًا لَطِيفًا مُتَوَسِّطًا اعْتَمَدَهُ النَّاسُ) وَعِنْدَنَا نُسْخَةٌ أَكْثَرُهَا بِخَطِّهِ (وَجَمَعَ التَّرْجَمَةَ الْمَذْكُورَةَ لِشَيْخِهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْأُصُولِ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَشَرَحَ أَلْفِيَّةَ ابْنِ مَالِكٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَأَلَّفَ هَذَا الْمُخْتَصَرَ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ وَأَقْبَلَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ عَلَيْهِ قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ الْفَاسِيُّ مُؤَرِّخُ مَكَّةَ وَشَرَحَ عَلَى بَعْضِهِ (وَمَنَاقِبُهُ) رحمه الله كَثِيرَةٌ (وَمَاتَ رحمه الله) فِي ثَالِثِ عَشَرَ رَبِيعِ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ حَجَرٍ وَذَكَرَ ابْنُ غَازِيٍّ أَنَّهَا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَهُمَا أَعْلَمُ مِنْ ابْنِ غَازِيٍّ بِذَلِكَ وَأَمَّا تَارِيخُ الْوَفَاةِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ فَإِنَّمَا هُوَ تَارِيخُ وَفَاةِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنُوفِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ بِالطَّاعُونِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي تَارِيخِ وَفَاةِ شَيْخِهِ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَالَ: فِي سَابِعِ رَمَضَانَ. وَوَهَمَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ فَظَنَّ أَنَّهَا لِلشَّيْخِ خَلِيلٍ وَاعْتَرَضَ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَقَالَ: إنَّهُ مَالِكِيٌّ، وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ فَهُوَ أَعْرَفُ بِوَفَاتِهِ وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْفَاسِيُّ وَذَكَرَ ابْنُ الْفُرَاتِ أَنَّ بَعْضَ الطَّلَبَةِ رَأَى الْمُصَنِّفَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ.
ص (الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي مَا تَزَايَدَ مِنْ النِّعَمِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى مَا أَوْلَانَا مِنْ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ)
ش: هَذَا مَقُولُ الْقَوْلِ وَأَتَى رحمه الله بِالْحَمْدَلَةِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَبِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْتِدَائِهِ بِالْحَمْدِ فِي جَمِيعِ خُطَبِهِ وَعَمَلًا بِجَمِيعِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَفِي رِوَايَةِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَفِي رِوَايَةٍ «بِحَمْدِ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَفِي رِوَايَةٍ «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ»
وَفِي رِوَايَةٍ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ» . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: رُوِّينَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيِّ قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ كَعْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَالْمَشْهُورَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَرُوِيَ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا وَرِوَايَةُ الْمَوْصُولِ إسْنَادُهَا جَيِّدٌ انْتَهَى وَفِي رِوَايَةٍ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَتَحُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ قَالَ أَقْطَعُ عَلَى التَّرَدُّدِ» وَلَا يُقَالُ: الْبُدَاءَةُ حَقِيقَةً إنَّمَا هِيَ بِالْبَسْمَلَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: الِابْتِدَاءُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُرْفِيِّ الَّذِي يُعْتَبَرُ مُمْتَدًّا مِنْ أَوَّلِ الْخُطْبَةِ إلَى حِينِ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ.
وَالْحَمْدُ لُغَةً الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ أَوْ لَا وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِنَا: الْوَصْفُ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْكَلَامِ فَمَوْرِدُهُ أَيْ مَحِلُّهُ خَاصٌّ وَمُتَعَلِّقُهُ عَامٌّ أَيْ السَّبَبُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ عَامٌّ وَالشُّكْرُ لُغَةً فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ إنْعَامِهِ عَلَى الشَّاكِرِ وَحَذَفَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَيْدَ وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْجَنَانِ
وَالْأَرْكَانِ، فَالشُّكْرُ بِاللِّسَانِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى الْمُنْعِمِ وَالشُّكْرُ بِالْقَلْبِ أَنْ يَعْتَقِدَ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ وَلَيُّ النِّعْمَةِ وَالشُّكْرُ بِالْجَوَارِحِ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَتِهِ فَمُتَعَلِّقُ الشُّكْرِ خَاصٌّ وَمَوْرِدُهُ عَامٌّ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْدِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَالْحَمْدُ عُرْفًا هُوَ الشُّكْرُ لُغَةً لَكِنْ بِحَذْفِ قَوْلِنَا: عَلَى الشَّاكِرِ، وَالشُّكْرُ عُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا لِمَا خُلِقَ لَهُ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ الشُّكْرَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ وَكَذَا بَيْنَ الشُّكْرِ الْعُرْفِيِّ وَالْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَبَيْنَ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ إنْ قُيِّدَتْ النِّعْمَةُ فِي الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ بِوُصُولِهَا إلَى الشَّاكِرِ كَمَا مَرَّ وَإِذَا لَمْ تُقَيَّدْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ وَأَلْ فِي الْحَمْدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَقِيلَ: لِلْجِنْسِ وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِي نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِابْنِ النَّحَّاسِ النَّحْوِيِّ: مَا تَقُولُ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي " الْحَمْدُ لِلَّهِ " أَجِنْسِيَّةٌ هِيَ أَمْ عَهْدِيَّةٌ؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي قَالُوا: إنَّهَا جِنْسِيَّةٌ. فَقُلْت لَهُ: الَّذِي أَقُولُ: إنَّهَا عَهْدِيَّةٌ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَلِمَ عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ كُنْهِ حَمْدِهِ حَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فِي الْأَزَلِ نِيَابَةً عَنْ خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدُوهُ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمَدُوهُ بِذَلِكَ الْحَمْدِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أُشْهِدُك أَنَّهَا عَهْدِيَّةٌ وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُفْتَتَحُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ فَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُ قَوْلَهُ مَا تَزَايَدَ مِنْ النِّعَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: حَمْدُ الْعِبَادِ حَادِثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ وَلَا يَجُوزُ قِيَامُ الْحَادِثِ بِالْقَدِيمِ فَمَا مَعْنَى حَمْدِ الْعِبَادِ لَهُ تَعَالَى؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ تَعَلُّقُ الْحَمْدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّعَلُّقِ الْقِيَامُ كَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَقَوْلُهُ: حَمْدًا مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ وَمَعْنَى يُوَافِي يُلَاقِي أَيْ كُلَّمَا زَادَتْ نِعْمَةٌ لَاقَاهَا حَمْدٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَعْنَاهُ يَفِي بِهَا وَيَقُومُ بِحَقِّهَا وَفِيهِ نَظَرٌ لِعَجْزِ الْمَخْلُوقِ عَنْ حَمْدٍ يَقُومُ بِحَقِّ الْخَالِقِ إلَّا إذَا جُعِلَتْ اللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَالنِّعَمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَهِيَ الْمِنَّةُ وَالصَّنِيعَةُ وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَتُطْلَقُ عَلَى الْإِنْعَامِ وَيَصِحُّ جَعْلُهَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى الْمُنْعَمِ بِهِ وَبِمَعْنَى الْإِنْعَامِ قِيلَ: وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ عَلَى الصِّفَاتِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا وَأَمَّا النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ فَهِيَ التَّنَعُّمُ وَبِالضَّمِّ السُّرُورُ وَأَعْظَمُ النِّعَمِ الْهِدَايَةُ لِلْإِسْلَامِ وَمَعْنَى أَوْلَانَا أَعْطَانَا وَالْفَضْلُ الزِّيَادَةُ وَيُقَالُ عَلَى الْإِعْطَاءِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ وَالْكَرَمُ الْجُودُ وَيُطْلَقُ عَلَى كَرَمِ الْأَصْلِ وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْحَمْدَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ لِيَكُونَ شُكْرًا مُوجِبًا لِلْمَزِيدِ إذْ مِنْ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ إلْهَامُهُ لِتَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ تَكْمِيلِهِ ثُمَّ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَعَطَفَ الشُّكْرَ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ بِالْجَنَانِ وَالْأَرْكَانِ أَيْضًا فَإِنَّ الْحَمْدَ إنَّمَا هُوَ بِاللِّسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(فَائِدَةٌ) : قَالَ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ السَّنُوسِيُّ حُكْمُ الْحَمْدِ الْوُجُوبُ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ كَالْحَجِّ وَكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى وَحُكْمُ الِابْتِدَاءِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْمُصَنَّفَاتِ وَأَوَّلِ الْإِقْرَاءِ وَالْقِرَاءَةِ الِاسْتِحْبَابُ كَمَا ذَكَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الرِّسَالَةِ قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِالْحَمْدِ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ وَدَارِسٍ وَمُدَرِّسٍ وَخَطِيبٍ وَخَاطِبٍ وَمُتَزَوِّجٍ وَمُزَوِّجٍ وَبَيْنَ يَدَيْ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: قُلْت وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ الزِّيَادَةَ عَلَى الْحَمْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ)
ش: لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا تَزَايَدَ مِنْ النِّعَمِ وَشَكَرَهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ امْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ وَإِلَّا فَلَيْسَ يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْهِ تَعَالَى أَحَدٌ وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَوْ أَتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ هَكَذَا لَكَانَ فِيهِ مَعَ مُوَافَقَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْتِفَاتٌ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ وَلِأَجْلِ السَّجْعِ فِي قَوْلِهِ رَمْسِهِ وَمَعْنَى لَا أُحْصِي: لَا أُطِيقُ أَنْ أُثْنِيَ عَلَيْك بِمَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُثْنَى عَلَيْك بِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَعْنَاهُ لَا أُحْصِي نِعَمَك فَأُثْنِي
عَلَيْك بِهَا ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْ الثَّنَاءِ تَفْصِيلًا وَرُدَّ ذَلِكَ إلَى الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ قَالَ الْأَبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ عَظَمَةَ اللَّهِ وَصِفَاتِ جَلَالِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَعُلُومَ الْبَشَرِ وَقُدَرَهُمْ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَا يَتَعَلَّقَانِ بِمَا لَا يَتَنَاهَى وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عِلْمُهُ تَعَالَى الَّذِي لَا يَتَنَاهَى وَتُحْصِيه قُدْرَتُهُ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى.
(فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: اُخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْفَاضِلِ مِنْ الْحَمْدِ فَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَقِيلَ: اللَّهُمَّ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ.
قَالَ: وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَحْمَدَنَّ اللَّهَ بِأَفْضَلِ مَحَامِدِهِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ فَلْيَحْمَدْهُ بِجَمِيعِهَا وَزَادَ غَيْرُهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَدَدَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ مَا عَلِمْت مِنْهُمْ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَلَفَ إنْسَانٌ لَيَحْمِدَنَّ اللَّهَ بِمَجَامِعِ الْحَمْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِأَجَلِّ التَّحَامِيدِ فَطَرِيقُهُ فِي الْبِرِّ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا: وَلَوْ حَلَفَ لَيُثْنِيَنَّ عَلَى اللَّهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ فَطَرِيقُ الْبِرِّ أَنْ يَقُولَ: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك وَزَادَ بَعْضُهُمْ فَلَكَ الْحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى وَصَوَّرَ أَبُو سَعِيدٍ التُّونِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَنْ حَلَفَ لَيُثْنِيَنَّ عَلَى اللَّهِ بِأَجَلِّ الثَّنَاءِ وَأَعْظَمِهِ وَزَادَ فِي أَوَّلِ الذِّكْرِ سُبْحَانَك. وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ قَالَ: «قَالَ: آدَم صلى الله عليه وسلم يَا رَبِّ شَغَلْتَنِي بِكَسْبِ يَدَيَّ فَعَلِّمْنِي شَيْئًا فِيهِ مَجَامِعُ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تبارك وتعالى إلَيْهِ يَا آدَم إذَا أَصْبَحْت فَقُلْ ثَلَاثًا وَإِذَا أَمْسَيْت فَقُلْ ثَلَاثًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ فَذَلِكَ مَجَامِعُ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ» وَقَوْلُهُ: يُكَافِئُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ أَيْ يُسَاوِي مَزِيدَ نِعَمِهِ وَمَعْنَاهُ يَقُومُ بِشُكْرِ مَا زَادَ مِنْ النِّعَمِ. وَالْإِحْصَاءُ الْعَدُّ قَالَهُ فِي الْأَذْكَارِ.
ص (وَأَسْأَلُهُ اللُّطْفَ وَالْإِعَانَةَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَحَالَ حُلُولِ الْإِنْسَانِ فِي رَمْسِهِ)
ش: لَمَّا اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ سَأَلَ مِنْ مَوْلَاهُ الْقَدِيرِ اللَّطِيفِ الْإِعَانَةَ وَاللُّطْفُ لُغَةً الرِّفْقُ وَعُرْفًا مَا يَقَعُ عِنْدَهُ صَلَاحُ الْعَبْدِ آخِرَةً بِأَنْ تَقَعَ مِنْهُ الطَّاعَةُ دُونَ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِعَانَةُ وَالْمَعُونَةُ وَالْعَوْنُ الْمُسَاعَدَةُ وَالْأَحْوَالُ جَمْعُ حَالٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَالْحُلُولُ النُّزُولُ وَالْإِنْسَانُ وَاحِدُ الْأَنَاسِيِّ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَلَا تَقُلْ إنْسَانَةٌ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُهُ وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْمَرْأَةُ إنْسَانٌ وَبِالْهَاءِ عَامِّيَّةٌ وَسُمِعَ فِي شِعْرٍ كَأَنَّهُ مُوَلَّدٌ
لَقَدْ كَسَتْنِي فِي الْهَوَى
…
مَلَابِسَ الصَّبِّ الْغَزَلْ
إنْسَانَةٌ فَتَّانَةٌ
…
بَدْرُ الدُّجَى مِنْهَا خَجَلْ
إذَا زَنَتْ عَيْنِي بِهَا
…
فَبِالدُّمُوعِ تَغْتَسِلْ
وَالرَّمْسُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: رَمَسْت عَلَيْهِ الْخَبَرَ كَتَمْتُهُ وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَبْرِ وَعَلَى تُرَابِهِ وَخَصَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ فِيهَا إلَى مَزِيدِ اللُّطْفِ وَالْإِعَانَةِ إذْ هِيَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّحْلَةَ الْأُولَى صَعْبَةٌ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ الْحَالُ هُنَا نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَأَنْ يُثَبِّتَنَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَأَسْنَدَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ لَا أُحْصِي إلَى ضَمِيرِ الْوَاحِدِ وَقَوْلَهُ وَنَسْأَلُهُ إلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ كَأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ أَيْضًا مَقَامُ اسْتِغْرَاقٍ وَنَفْيِ الْكَثْرَةِ وَالثَّانِي دُعَاءٌ وَالْمَطْلُوبُ فِيهِ مُشَارَكَةُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ قَالَ الرَّازِيّ إنَّ الدُّعَاءَ مَهْمَا كَانَ أَعَمَّ كَانَ إلَى الْإِجَابَةِ أَقْرَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الْمَبْعُوثِ لِسَائِرِ الْأُمَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَأُمَّتِهِ أَفْضَلِ الْأُمَمِ)
ش: أَتْبَعَ رحمه الله حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم -
أَدَاءً لِبَعْضِ مَا يَجِبُ لَهُ صلى الله عليه وسلم إذْ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعِبَادِ وَجَمِيعُ النِّعَمِ الْوَاصِلَةِ إلَيْهِمْ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْهِدَايَةُ لِلْإِسْلَامِ، إنَّمَا هِيَ بِبَرَكَتِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فَيُبْدَأُ بِهِ وَبِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ» أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَالْخَلِيلِيُّ وَالرَّهَاوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ فِي فَوَائِدِ ابْنِ مَنْدَهْ بِلَفْظِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ أَكْتَعُ» انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَاغْتِنَامًا لِلثَّوَابِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ» ذَكَرَهُ فِي الشِّفَاءِ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْإِحْيَاءِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَالْمُسْتَغْفِرِي فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ زَرُّوق: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُتُبُ الصَّلَاةِ وَهُوَ أَظْهَرُ أَوْ قِرَاءَةُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ أَوْسَعُ وَأَرْجَى انْتَهَى وَسَمِعْت بَعْضَ مَشَايِخِي يَذْكُرُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ الْمَذْكُورِ التَّلَفُّظُ بِالصَّلَاةِ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ بَلْ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْخَزْرَجِيِّ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَلْيُحَافِظْ الطَّالِبُ عَلَى كِتَابَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا كَتَبَهُ بِدُونِ رَمْزٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْكَسَالَى وَلَا يَسْأَمُ مِنْ تَكْرَارِهِ سَوَاءٌ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ أَمْ لَا، وَمَنْ أَغْفَلَ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ حُرِمَ أَجْرًا عَظِيمًا وَيُرْوَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ» وَيُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا مَعَ ذَلِكَ انْتَهَى.
فَظَاهِرُهُ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ كِتَابَتِهَا وَأَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا أَمْرٌ آخَرُ مُسْتَحَبٌّ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالصَّلَاةُ اسْمٌ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ بَلْ يُقَالُ: صَلَّيْت صَلَاةً، وَلَا يُقَالُ: تَصْلِيَةً كَمَا هُوَ قِيَاسُ مَصْدَرِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ الصَّلَاةِ التَّرَحُّمُ فَهِيَ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ رِقَّةٌ وَاسْتِدْعَاءٌ لِلرَّحْمَةِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقُشَيْرِيُّ الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ لِمَنْ دُونَ النَّبِيِّ رَحْمَةٌ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَشْرِيفٌ وَزِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الِاعْتِنَاءُ بِشَأْنِ الْمُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِرَادَةُ الْخَيْرِ لَهُ وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الْغَزَالِيُّ وَصَلَاةُ الْعِبَادِ الْمَأْمُورِ بِهَا الدُّعَاءُ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُمْ فَعَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ تَكُونُ الصَّلَاةُ مُرَادِفَةً لِلرَّحْمَةِ وَقَدْ بَحَثَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّرَادُفَ يَقْتَضِي جَوَازَ الدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ بِلَفْظِ الرَّحْمَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّشَهُّدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مُرَادَ الْمُبَرِّدِ بَيَانُ أَصْلِ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَلَّتْ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الرَّحْمَةِ، كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ تَفْسِيرُ الْقُشَيْرِيِّ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ، وَمِنْ الْآدَمِيِّينَ تَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ وَالسَّلَامُ التَّحِيَّةُ وَفِي مَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْهِ أَوْجُهٌ إمَّا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ لَك وَمَعَك أَوْ السَّلَامُ مَئُولٌ لَك فَيَكُونُ اسْمًا لَهُ تَعَالَى أَوْ بِمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ وَالصِّيغَةُ الْمَذْكُورَةُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهَا الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهَلْ يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى اسْتِحْضَارِ نِيَّةِ الطَّلَبِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَةِ الْخَبَرِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ إنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْمَنْقُولِ فِي الْعُرْفِ لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْأَقْرَبُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ.
(فَائِدَةٌ) حَذَّرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ التَّصْلِيَةِ بَدَلَ الصَّلَاةِ