الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَا قَالَهُ سَنَدٌ وَنَقَلَهُ عَنْ التُّونُسِيِّ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْمَبْسُوطِ عَدَمُ الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهَا وَصَرَّحَ ابْنُ هَارُونَ بِأَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُمَا كَالدَّمِ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الدَّمِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ فَرْحُونٍ.
[تَنْبِيهَاتٌ الْبَوْلِ هَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ]
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ يَسِيرَ مَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَكَثِيرَهُ سَوَاءٌ وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إلَّا فِي الْبَوْلِ فَاخْتُلِفَ هَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: قَالَ ابْنُ الْإِمَامِ: وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَفِي الْإِكْمَالِ فِي حَدِيثِ شَقِّ الْعَسِيبِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ، فِيهِ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْكَثِيرَ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ إلَّا مَا خَفَّفُوهُ فِي الدَّمِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ كَانُوا يُرَخِّصُونَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْبَوْلِ وَرَخَّصَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي مِثْلِ رُءُوسِ الْإِبَرِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ يُغْسَلُ وَحَكَى الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ أَنَّ غَسْلَ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ وَالتَّنَزُّهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ انْتَهَى بِلَفْظِهِ.
وَعَبَّرَ عَنْهُ فِي التَّوْضِيحِ بِقَوْلِهِ: وَحُكِيَ فِي الْإِكْمَالِ عَنْ مَالِكٍ اغْتِفَارُ مَا تَطَايَرَ مِنْ الْبَوْلِ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ ثُمَّ اغْتِفَارُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًا فِي كُلِّ يَسِيرٍ مِنْ الْبَوْلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الضَّرُورَةِ لِتَكَرُّرِهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إلَى آخِرِهِ أَصْلُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَلَامُ ابْنِ فَرْحُونٍ يُوهِمُ أَنَّ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ غَيْرُ مَا فِي الْإِكْمَالِ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَهْمٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ ابْنُ الْإِمَامِ ظَاهِرُ نَقْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ عَنْ الْقَاضِي الْعَفْوُ عَنْ رُءُوسِ الْإِبَرِ مُطْلَقًا لَا بِقَيْدِ التَّطَايُرِ، وَظَاهِرُ نَقْلِ ابْنِ بَطَّالٍ عَنْهُ أَنَّهُ فِيمَا تَطَايَرَ وَهُوَ أَقْرَبُ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمَشْهُورَ: وَالْأَقْرَبُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْعَفْوُ وَالْأَقْرَبُ مِنْ احْتِمَالِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الدَّمِ الْعَفْوُ عُمُومًا فَكَذَلِكَ الْبَوْلُ، وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْأَحْدَاثِ الْمُسْتَنْكِحَةِ أَلْحَقَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بِهَذَا الْقَبِيلِ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ الْبَوْلِ الْمُتَطَايِرِ مِنْ الطُّرُقَاتِ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكِنَّهُ كَثِيرٌ مُتَكَرِّرٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُجُودُهُ وَتَكَرُّرُهُ وَكَثْرَتُهُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ ثَوْبٍ، وَلَا خُفٍّ، وَلَا جَسَدٍ إذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَابْنُ عَرَفَةَ وَنَصَّهُ. وَالْبَاجِيُّ وَعَمَّا تَطَايَرَ مِنْ نَجَاسَةِ الطَّرِيقِ وَخَفِيَتْ عَيْنُهُ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ وَقَبِلَهُ الْمَازِرِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الطُّرُقَاتِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُجُودُ الْبَوْلِ وَتَطَايُرُهُ فِيهَا فَإِذَا وَطِئَ بِرِجْلِهِ، أَوْ خُفِّهِ أَوْ وَقَعَ ثَوْبُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الطَّرِيقِ فَلَا يَغْسِلُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَبْلُولًا، وَفِي مَسَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ الْبُرْزُلِيِّ مَسْأَلَةُ مَنْ تَوَضَّأَ وَخَرَجَ بِالْقَبْقَابِ فَنَزَلَتْ رِجْلُهُ وَهِيَ مَبْلُولَةٌ فَأَخَذَتْ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ فَصَلَّى بِهِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: لِأَنَّ غُبَارَ الطَّرِيقِ الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ انْتَهَى.
(الثَّانِي) قَالَ فِي الْإِرْشَادِ: وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ كُلِّ نَجَاسَةٍ مَا عَدَا الْأَخْبَثَيْنِ وَهُوَ قَدْرُ الدِّرْهَمِ فَدُونَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق يَعْنِي أَنَّ كُلَّ نَجَسٍ خَارِجٍ مِنْ الْجَسَدِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ إلَّا الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الدَّمَ وَتَوَابِعَهُ مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ انْتَهَى.
وَعُمُومُ كَلَامِ الْإِرْشَادِ مُشْكِلٌ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْبَوْلُ وَالرَّجِيعُ وَالْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَخَرْءُ الطَّيْرِ الَّتِي تَصِلُ إلَى النَّتْنِ وَزِبْلُ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالُهَا قَلِيلَةً وَكَثِيرَةً سَوَاءٌ يُغْسَلُ وَتُقْطَعُ مِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِ الشَّارِحِ: " الدَّمَ وَتَوَابِعَهُ " مَا يَسِيلُ مِنْ الْجِرَاحِ مِنْ مَائِيَّةٍ، أَوْ مِنْ نَفْطِ النَّارِ وَمَا يُنْفَطُ أَيَّامَ الْحَرِّ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ نَجَاسَةَ ذَلِكَ وَاضِحٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَيَكُونُ مَا خَرَجَ مِنْ تِلْكَ النَّفَّاطَاتِ مِنْ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الدُّمَّلِ مِنْ غَيْرِ نَكْءٍ
يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ وَقَلِيلِهِ.
(الثَّالِثُ) إذَا اتَّصَلَ الْيَسِيرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِمَّا تَقَدَّمَ بِمَائِعٍ فَهَلْ الْعَفْوُ بَاقٍ أَمْ لَا لَمْ أَرَ نَصًّا صَرِيحًا فِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَفْوَ بَاقٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَفُرُوعُ الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرُ الْمَعْفُوِّ إنْ بَقِيَ طَعْمُهُ لَمْ يَضُرَّ يَعْنِي أَنَّ الْمَعْفُوَّ لَا يَلْزَمُ إزَالَتُهُ فَإِنْ أُزِيلَ وَبَقِيَ طَعْمُهُ أَوْ غَيْرُهُ عُفِيَ عَنْهُ إذْ الْعَفْوُ عَنْ الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَفْوَ عَنْ الْجُزْءِ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْعَارِضَةِ فِيمَنْ دَمِيَ فَمُهُ ثُمَّ مَجَّ رِيقَهُ حَتَّى ذَهَبَ فَهَلْ يُطَهِّرُهُ ذَلِكَ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ طَهَارَتُهُ بِالْمَاءِ إنْ كَانَ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، وَلَا يُطَهِّرُ الرِّيقُ شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَلَا يَكْفِي مَجُّ الرِّيقِ فَيَنْقَطِعُ الدَّمُ عَلَى الْأَصَحِّ وَلَا يَمُصُّهُ بِفِيهِ وَيَمُجُّهُ وَالْيَسِيرُ عَفْوٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَعْنِي لَا يَأْخُذُ مِنْ الثَّوْبِ بِفِيهِ، وَقَوْلُهُ وَالْيَسِيرُ أَشَارَ بِهِ لِقَوْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ يَعْنِي لَوْ مَصَّ الْيَسِيرَ بِفِيهِ حَتَّى زَالَ اكْتَفَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ.
وَذَكَرَ الْبُرْزُلِيُّ فِي مُصَلٍّ أَخَذَ نُخَامَةً بِكُمِّهِ ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دَمًا لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِيَسَارَتِهِ، وَلَوْ وَجَدَهَا فِي الصَّلَاةِ، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَعْفُوَّاتِ، وَلَوْ عَرِقَ مِنْ الْمُسْتَجْمِرِ مَوْضِعُ الِاسْتِجْمَارِ فَقَوْلَانِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَيَعْنِي عَرِقَ فَانْتَشَرَ حَتَّى أَصَابَ الثَّوْبَ وَالْجَسَدَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي فَصْلِ آدَابِ الْحَدَثِ وَعَرَقُ الْمَحَلِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ مَعْفُوٌّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ تَجَفَّفَ بَعْدَ غَسْلِهِ بِثَوْبٍ فِيهِ دَمٌ إنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَخْرُجُ بِالتَّجْفِيفِ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا فِي جَسَدِهِ فَكُلُّ هَذِهِ النُّقُولِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عُفِيَ عَنْهُ مِنْ دَمٍ وَغَيْرِهِ لَا يَضُرُّهُ اتِّصَالُهُ بِمَائِعٍ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ يَصِيرُ كَالْمَائِعِ الطَّاهِرِ. وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَبَوْلُ فَرَسٍ لِغَازٍ بِأَرْضِ حَرْبٍ)
ش: ذَكَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمَعْفُوِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ قُيُودٍ: كَوْنُهُ مِنْ فَرَسٍ وَكَوْنُهُ لِغَازٍ وَكَوْنُهُ بِأَرْضِ حَرْبٍ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ قَيْدٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُمْسِكُهُ لَهُ وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى قَيْدٌ مِنْ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُعْفَى عَنْهُ وَالْمَسْأَلَةُ فِي رَسْمِ مَنْ صَلَّى نَهَارًا مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ الْفَرَسِ فِي مِثْلِ الْغَزْوِ وَالْأَسْفَارِ يَكُونُ صَاحِبُهُ يَمْسِكُهُ فَيَبُولُ فَيُصِيبُهُ، فَقَالَ أَمَّا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُمْسِكُهُ. وَأَمَّا فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ فَلْيَتَّقِهِ مَا اسْتَطَاعَ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ. ابْنُ رُشْدٍ هَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُسَافِرُ التَّوَقِّيَ مِنْهُ لَا سِيَّمَا الْغَازِي فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَهُوَ مَوْضِعُ تَخْفِيفٍ لِلضَّرُورَةِ كَمَا خُفِّفَ مَسْحُ الْخُفِّ مِنْ الرَّوْثِ الرَّطْبِ وَجُوِّزَ لِلْمُرْضِعِ الصَّلَاةُ بِثَوْبِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا غَيْرُهُ مَعَ دَرْئِهَا الْبَوْلَ جُهْدَهَا، وَقَالَ سَنَدٌ قَالَ الْبَاجِيُّ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ - إنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوَقِّي - أَنَّ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فِي مَعِيشَةِ السَّفَرِ بِالدَّوَابِّ انْتَهَى.
وَالْمَفْهُومُ مِنْ الرِّوَايَةِ وَكَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَالْبَاجِيِّ وَسَنَدٍ أَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ مَعَ الْقُيُودِ الْأَرْبَعَةِ فَلِذَلِكَ جَزَمَ الْمُصَنِّفُ بِالْعَفْوِ حِينَئِذٍ فَإِنْ فُقِدَ شَيْءٌ مِنْ الْقُيُودِ أُمِرَ بِالتَّوَقِّي جُهْدَهُ فَمَا أَصَابَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ كَثَوْبِ الْمُرْضِعِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْإِمَامِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ الْبَاجِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ سَفَرٍ مُبَاحٍ يَضْطَرُّ الْمُسَافِرُ فِيهِ إلَى مُلَابَسَةِ دَابَّتِهِ فَرَسًا كَانَتْ، أَوْ غَيْرَهَا يُعْفَى عَنْهُ لِمَشَقَّةِ التَّحَفُّظِ وَمَا كَانَ مِنْ السَّفَرِ وَاجِبًا، أَوْ مَنْدُوبًا فَهُوَ أَوْلَى وَمَا كَانَ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْبَاجِيِّ فِي دَوَابِّ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى السَّفَرِ فِي مَعِيشَتِهِ فَأَظْهَرُ لِتَكَرُّرِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَاجُّ لِطُولِهِ وَشِدَّةِ اضْطِرَارِهِ إلَى مُلَابَسَةِ دَابَّتِهِ وَخُصُوصًا حَاجُّ الْمَغْرِبِ وَنَحْوِهِ فِي الْبُعْدِ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) تَقَدَّمَ عَنْ الْجَوَاهِرِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ بَوْلِ فَرَسِ الْغَازِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ إلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ فَيُؤْمَرَ بِغَسْلِهِ وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
(تَنْبِيهٌ) ذَكَرَ ابْنُ نَاجِي فِي الْكَلَامِ عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ ثَمَانِيَةَ أَثْوَابٍ لَا يُؤْمَرُ بِغَسْلِهَا
إلَّا عِنْدَ التَّفَاحُشِ وَعَدَّ مِنْهَا ثَوْبَ الْغَازِي بِأَرْضِ الْحَرْبِ يَمْسِكُ فَرَسَهُ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ عِنْدَ التَّفَاحُشِ وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَذَكَرَ فِي التَّوْضِيحِ وَالشَّامِلِ هُنَا الْعَفْوَ عَنْ بَوْلِ الدَّوَابِّ فِي الزَّرْعِ حِينَ دَرْسِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَيُنَجِّسُ كَثِيرَ طَعَامٍ مَائِعٍ إلَخْ.
ص (وَأَثَرُ ذُبَابٍ مِنْ عَذِرَةٍ)
ش: لَا مَفْهُومَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْعَذِرَةِ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهُ إذَا عُفِيَ عَنْ الْعَذِرَةِ مَعَ إمْكَانِ ظُهُورِ مَا أَصَابَ مِنْهَا فَغَيْرُهَا مِمَّا لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ كَالْبَوْلِ، أَوْ مِمَّا نَجَاسَتُهُ مُحَقَّقَةٌ كَالدَّمِ وَالْقَيْحِ إمَّا مِثْلُهَا، أَوْ أَوْلَى وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ التَّعْبِيرُ بِالنَّجَاسَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا كَانَ كَالذُّبَابِ فِي عَدَمِ إمْكَانِ التَّحَفُّظِ مِنْهُ كَالْبَعُوضِ وَالنَّمْلِ وَنَحْوِهِ فَحُكْمُهُ كَالذُّبَابِ. وَأَمَّا بَنَاتُ وَرْدَانِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ إلْحَاقِهَا بِذَلِكَ لِإِمْكَانِ التَّحَفُّظِ مِنْهَا فَإِنْ أَصَابَ مِنْ أَثَرِهَا شَيْءٌ غُسِلَ وَلَمْ أَرَهُ مَنْصُوصًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ) وَرَدَ فِي حَدِيثِ الذُّبَابِ أَنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً، وَفِي الْآخَرِ دَاءً، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ يَتَّقِي بِاَلَّذِي فِيهِ الدَّاءُ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي بَعْضِهِ السُّمَّ قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّرُقِ تَعْيِينُ الْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ تَأَمَّلَهُ فَوَجَدَهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الْأَيْسَرِ فَعَلِمَ أَنَّ الْأَيْمَنَ هُوَ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاءُ وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «عُمُرُ الذُّبَابِ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً وَالذُّبَابُ كُلُّهُ فِي النَّارِ إلَّا النَّحْلَ» وَمُسْنَدُهُ لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ الْحَافِظُ كَوْنُهُ فِي النَّارِ لَيْسَ تَعْذِيبًا لَهُ بَلْ لِيُعَذَّبَ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ الْعُفُونَةِ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّ رَجِيعَهُ يَقَعُ عَلَى الثَّوْبِ الْأَسْوَدِ أَبْيَضَ وَبِالْعَكْسِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي أَمَاكِنِ الْعُفُونَةِ وَيُبْتَدَأُ خَلْقُهُ مِنْهَا ثُمَّ مِنْ التَّوَالُدِ وَهُوَ أَكْثَرُ الطُّيُورِ سِفَادًا، أَوْ رُبَّمَا بَقِيَ عَامَّةَ الْيَوْمِ عَلَى الْأُنْثَى وَيُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ لِأَيِّ شَيْءٍ خُلِقَ الذُّبَابُ، فَقَالَ: مَذَلَّةً لِلْمُلُوكِ، وَكَانَتْ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ ذُبَابَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ سَأَلَنِي وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابٌ فَاسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ مِنْ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ، رَحْمَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ.
ص (وَمَوْضِعُ حِجَامَةٍ مُسِحَ)
ش: أَيْ وَلَا يُعْفَى عَنْهُ قَبْلَ الْمَسْحِ فَإِذَا بَرِئَ الْمَاسِحُ غَسَلَ وَحُكْمُ الْفِصَادَةِ كَذَلِكَ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
ص (وَإِلَّا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ وَأُوِّلَ بِالنِّسْيَانِ) . ش هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَابْنِ يُونُسَ وَتَأَوَّلَا الْمُدَوَّنَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ وَمُقَابِلُهُ تَأْوِيلُ أَبِي عِمْرَانَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَبِالْإِطْلَاقِ.
ص (وَكَطِينِ مَطَرٍ، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ الْعَذِرَةُ بِالْمُصِيبِ)
ش: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَا بَأْسَ بِطِينٍ الْمَطَرِ الْمُسْتَنْقِعِ فِي السِّكَكِ وَالطُّرُقِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، أَوْ الْخُفَّ أَوْ النَّعْلَ، أَوْ الْجَسَدَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْعَذِرَةُ وَسَائِرُ النَّجَاسَاتِ وَمَا زَالَتْ الطُّرُقُ وَهَذَا فِيهَا وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ يَخُوضُونَ فِي طِينِ الْمَطَرِ وَيُصَلُّونَ وَلَا يَغْسِلُونَهُ قَالَ عِيَاضٌ وَالْمُسْتَنْقِعُ بِكَسْرِ الْقَافِ قَالَ سَنَدٌ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَوَّلِ مَطْرَةٍ وَغَيْرِهَا، وَلَا بَيْنَ مَا أَصَابَ حِينَ نُزُولِ الْمَطَرِ، أَوْ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْمُسْتَنْقِعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ فِي الْجُمْلَةِ وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَأَتَى بِالْكَافِ لِيَدْخُلَ فِي ذَلِكَ مَاءُ الرَّشِّ الَّذِي فِي الطُّرُقَاتِ كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ شَيْخِهِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنُوفِيِّ، وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَنَحْوُ الْمُسْتَنْقِعِ مِنْ فَضَلَاتِ النِّيلِ فِي الطُّرُقَاتِ.
ص (إلَّا إنْ غَلَبَتْ) . ش أَيْ لَا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ غَالِبَةً عَلَى الطِّينِ وَهَذَا مَعْنَى مَا قَيَّدَ بِهِ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ كَلَامَ الْمُدَوَّنَةِ، فَقَالَ يُرِيدُ مَا لَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ غَالِبَةً، أَوْ عَيْنًا قَائِمَةً وَقَبِلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالْبَاجِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ وَقَيَّدَ بِهِ الْمُدَوَّنَةِ وَقَالَ سَنَدٌ قَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا النَّجَاسَاتُ يُرِيدُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ النَّجَاسَاتِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ النَّجَاسَةَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ فَيُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ طِينُ مِرْحَاضٍ فِي مَوْضِعٍ وَقَدْ اخْتَلَطَتْ بِطِينِ الْمَطَرِ وَهَذَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي غَسْلِ مِثْلِ هَذَا بِخِلَافِ غَسْلِ مَا يَكُونُ مِنْ الطِّينِ انْتَهَى.
وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا
حَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ هَارُونَ كَلَامَ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَذَكَرَهُ عَنْهُ فِي التَّوْضِيحِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ هَارُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَتَسَاوَى الِاحْتِمَالَانِ فِي وُجُودِ النَّجَاسَةِ وَعَدَمِهَا فَهَذَا يُصَلِّي بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِتَرْجِيحِ الطَّهَارَةِ بِالْأَصْلِ. الثَّانِي أَنْ يَتَرَجَّحَ احْتِمَالُ وُجُودِهَا فَهَذَا يُصَلِّي بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ وَيَغْسِلُهُ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُحَمَّدٍ تَرْجِيحًا لِلْغَالِبِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَتَحَقَّقَ وُجُودَهَا وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ لِاخْتِلَاطِهَا بِالطِّينِ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِ وَيَغْسِلُهُ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَحْسَنُ لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ، وَنَحْوُهُ لِلْبَاجِيِّ. الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ فَهُنَا يَجِبُ غَسْلُهَا انْتَهَى.
فَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَإِنْ كَانَ فِيهَا الْعَذِرَةُ يُحْمَلُ عَلَى الصُّورَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ، وَفِي عَيْنِ النَّجَاسَةِ قَوْلَانِ يُحْمَلُ عَلَى الثَّالِثَةِ. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ فَلَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ وَيَبْعُدُ وُجُودُهُ، وَكَذَا كَانَ شَيْخُنَا يَقُولُ. انْتَهَى كَلَامُهُ فِي التَّوْضِيحِ.
(قُلْتُ:) فَحَمْلُ قَوْلِ أَبِي مُحَمَّدٍ: " غَالِبَةً " عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْغَالِبَ وُجُودُهَا وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ وُجُودَ النَّجَاسَةِ مُحَقَّقٌ فَالظَّاهِرُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَا لَمْ تَكُنْ غَالِبَةً أَيْ مَا لَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ غَالِبَةً عَلَى الطِّينِ، أَوْ تَكُونُ عَيْنًا كَمَا تَقَدَّمَ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَظَاهِرُهَا الْعَفْوُ إلَى مَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ بَشِيرٍ أَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ أَبْقَى الْمُدَوَّنَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا لَكِنْ ذَكَرَ بِالتَّوْضِيحِ عَنْ ابْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ بَقَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا إذَا تَسَاوَتْ الطُّرُقُ فِي وُجُودِ ذَلِكَ فِيهَا وَكَانَ لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خِلَافًا انْتَهَى.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَا إنْ أَصَابَ عَيْنَهَا إلَى أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَمَّنْ أَصَابَتْهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَوْ كَانَ فِي الطِّينِ نَجَاسَةٌ فَطَارَتْ عَلَى ثَوْبِهِ ثُمَّ تَطَايَرَ عَلَيْهَا الطِّينُ فَأَخْفَى أَثَرَهَا لَوَجَبَ غَسْلُهَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْبِسَاطِيُّ الْعَفْوُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ الَّتِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا حَتَّى قَالُوا لَوْ كَانَتْ إحْدَى الطَّرِيقِينَ أَخَفُّ نَجَاسَةٍ مِنْ الْأُخْرَى لَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ مِنْ الْأَكْثَرِ نَجَاسَةً انْتَهَى.
وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ غَالِبَةً، أَوْ عَيْنًا قَائِمَةً كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ أَرَ مَنْ اشْتَرَطَهُ مُطْلَقًا، وَقَالَ أَيْضًا قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا صَادَفَ الْمَطَرُ النَّجَاسَةَ، وَإِنْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بَعْدَ نُزُولِهِ فَإِنَّهُ كَغَيْرِهِ، وَلَا يَظْهَرُ لِهَذَا كَبِيرُ مَعْنًى انْتَهَى.
وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: خَصَّ الْمَغْرِبِيُّ قَوْلَهُ: " يَخُوضُونَ فِي طِينِ الْمَطَرِ وَيُصَلُّونَ، وَلَا يَغْسِلُونَهُ " بِالْمَسْجِدِ الْمُحَصَّبِ كَمَسْجِدِهِمْ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحَصَّبِ الْمَفْرُوشُ بِالْحُصْرِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ يُلَوِّثُ الْحُصْرَ وَبِهِ الْفَتْوَى عِنْدَنَا بِأَفْرِيقِيَّةِ.
(فَرْعٌ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِهِ: لَا نَصَّ فِي طِينِ الْمَطَرِ يَبْقَى فِي الثَّوْبِ لِلصَّيْفِ وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ كَثَوْبِ صَاحِبِ السَّلَسِ بَعْدَ بُرْئِهِ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ أَشَدُّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ لَعَلَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْعَطَّارِ إنَّمَا يُعْفَى عَنْ مَاءِ الْمَطَرِ فِي الطُّرُقِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ نُزُولِهِ وَرَآهُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَانْظُرْ إذَا جَفَّ هَلْ يُغْسَلُ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَمْ لَا انْتَهَى.
قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ الَّذِي كَانَ يُفْتِي بِهِ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ غَسْلُ الثَّوْبِ إذَا ارْتَفَعَ الْمَطَرُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَذَكَرَ نَاجِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَرَّجَ غَسْلَ الثِّيَابِ مِنْهُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ مَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ بَعْدَ الْبُرْءِ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) لَا شَكَّ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ طَهَارَةَ الطِّينِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَكَذَا مَعَ الشَّكِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ إصَابَتُهُ بَعْدَ تَكَرُّرِ الْمَطَرِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي كَانَتْ بِهَا النَّجَاسَةُ حَتَّى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ زَوَالُهَا وَأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُجُودُ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَيَمْضِي زَمَنُ وُقُوعِ الْمَطَرِ وَتَكَرُّرِهِ وَيَجِفُ الطِّينُ وَالظَّاهِرُ حِينَئِذٍ وُجُوبُ الْغَسْلِ هَذَا حُكْمُ طِينِ الْمَطَرِ.
وَأَمَّا طِينُ الْمَاءِ الْمُسْتَنْقِعِ
فِي الطُّرُقَاتِ وَمَاءُ الرَّشِّ الَّذِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ الطُّرُقُ غَالِبًا فَهَذَا يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ مِنْهُ دَائِمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الطُّرُقُ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ) ذَكَرَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَالْمُدَوَّنَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ أَنَّ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ تُحْمَلُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَهِيَ طِينُ الْمَطَرِ وَأَبْوَابُ الدُّورِ وَحَبْلُ الْبِئْرِ وَالذُّبَابُ يَقَعُ عَلَى النَّجَاسَةِ وَقَطْرُ سَقْفِ الْحَمَّامِ وَمِيزَابُ السُّطُوحِ وَذَيْلُ الْمَرْأَةِ وَمَا نَسَجَهُ الْمُشْرِكُونَ انْتَهَى. وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَذَيْلُ امْرَأَةٍ مُطَالٍ لِلسَّتْرِ)
ش: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا أَنْ تُطِيلَ ذَيْلَهَا مَا لَيْسَ لِلرَّجُلِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ رِجْلَيْهَا وَلَهَا أَنْ تَبْلُغَ بِالْإِطَالَةِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا عَلَى مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا قَصَدَتْ بِالْإِطَالَةِ السَّتْرَ ثُمَّ مَشَتْ فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ يَابِسَةً فَمَعْفُوٌّ عَنْ الذَّيْلِ الْوَاصِلِ إلَيْهَا، وَفِي الرَّطْبَةِ قَوْلَانِ الْمَشْهُورُ لَا يُعْفَى وَالثَّانِي أَنَّهُ يُعْفَى انْتَهَى.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَعْنَاهُ فِي الْقِشْبِ الْيَابِسِ وَالْقِشْبِ بِسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الرَّجِيعُ الْيَابِسُ أَصْلُهُ الْخَلْطُ بِمَا يُفْسِدُهُ قَالَهُ عِيَاضٌ. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ الْقَشَبُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَجَاءَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الشِّينِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: إنَّ النَّجَاسَاتِ فِي الطُّرُقَاتِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا مَعَ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فَخُفِّفَ أَمْرُهَا إذَا خَفِيَ عَيْنُهَا وَلَمْ تُتَيَقَّنْ النَّجَاسَاتُ، فَإِذَا مَرَّتْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ أَخْفَى عَيْنَ النَّجَاسَةِ سَقَطَ حُكْمُهَا، وَلَوْ لَمْ تَمُرَّ عَلَى الْمَوْضِعِ الطَّاهِرِ حَتَّى زَالَتْ النَّجَاسَةُ لَوَجَبَ عَلَيْهَا غَسْلُهَا وَإِنَّمَا يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ وَخَافَتْ أَنْ تَكُونَ أَصَابَتْ ثَوْبَهَا وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا فِي الطُّرُقَاتِ مِنْ الطِّينِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ الْعَذِرَةِ وَالْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الطِّينُ وَأَخْفَى عَيْنَهَا لَمْ يَجِبْ غَسْلُ الثَّوْبِ مِنْهَا، وَلَوْ ظَهَرَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ لَوَجَبَ غَسْلُهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إذَا شَكَّتْ فِي إصَابَةِ النَّجَاسَةِ لَهَا، أَوْ فِي نَجَاسَةِ مَا أَصَابَهَا وَلَا يَلْزَمُهَا غَسْلُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ بَلْ النَّضْحُ فِي الْأُولَى فَقَطْ. وَقَالَ التُّونُسِيُّ الْأَشْبَهُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَا تَنْفَكُّ مِنْهُ الطُّرُقَاتُ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَجِّسُ ذَيْلَهَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْخُفِّ قَالَ سَنَدٌ: وَلَعَمْرِي إنَّ تَخْرِيجَ ذَلِكَ عَلَى الْخُفِّ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الثَّوْبِ كُلَّ وَقْتٍ فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ رُبَّمَا كَانَتْ فَوْقَ مَشَقَّةِ غَسْلِ الْخُفِّ فَإِنَّ الْخُفَّ بِغَسْلِهِ وَبِنَزْعِهِ يَنْشَفُ، وَالثَّوْبُ إنْ تَرَكَهُ عَلَيْهِ مَبْلُولًا فَمَشَقَّةٌ إلَى مَشَقَّةٍ، وَإِنْ نَزَعَهُ فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَجِدُ ثَوْبًا آخَرَ يَلْبَسُهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَمَا قَالَاهُ ظَاهِرٌ لَكِنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ وَخِلَافُ الْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي عَزَاهُ الدَّاوُدِيُّ لِبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ. وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّادِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا تَأْوِيلُ ذَلِكَ إذَا سَحَبَتْ ذَيْلَهَا فِي أَرْضٍ نَدِيَةٍ نَجِسَةٍ ثُمَّ جَرَّتْهُ عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَشْهُورِ أَيْضًا فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ النَّضْحُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّضْحِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اُعْتُرِضَ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالْقِشْبِ الْيَابِسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَقُ بِالثَّوْبِ، وَأَيُّ شَيْءٍ يَبْقَى حَتَّى يُطَهِّرَهُ مَا بَعْدَهُ وَالِاعْتِرَاضُ لِلْبَاجِيِّ ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْقِشْبُ غُبَارًا يَعْلَقُ بِالثَّوْبِ فَإِذَا مَرَّ عَلَى مَا بَعْدَهُ طَهَّرَهُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ الذَّيْلَ يَابِسٌ. وَجَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله فِي آخِرِ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ اسْتَطْرَدَ إلَى ذِكْرِ مَسْأَلَةِ الرِّجْلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَمَا كَانَ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْمَشْهُورِ فِي ذَيْلِ الْمَرْأَةِ أَنَّ الذَّيْلَ يُلْبَسُ وَالْمَكَانُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ شِبْرًا، أَوْ ذِرَاعًا ظَاهِرُهُ الشَّكُّ، وَفِي آخِرِ الْمُوَطَّإِ إنَّهُ
قَالَ «عليه الصلاة والسلام تُرْخِيهِ شِبْرًا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إذًا يَنْكَشِفُ قَالَ فَذِرَاعًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ» . وَقَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْكَمَالُ بْنُ أَبِي شَرِيفٍ الشَّافِعِيُّ فِي تَأْلِيفٍ لَهُ فِي الْعِمَامَةِ: وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَجُوزُ لَهُنَّ الْإِسْبَالُ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْيَدِ وَهُوَ شِبْرَانِ كَمَا أَفَادَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد انْتَهَى.
قَالَ الْبَاجِيُّ وَهَذَا أَمْرٌ وَارِدٌ بَعْدَ الْحَصْرِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتْرُكَ مَا تَسْتَتِرُ بِهِ، وَقَالَ قَبْلَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ نِسَاءَ الْعَرَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ خُفٌّ وَلَا جَوْرَبٌ كُنَّ يَلْبَسْنَ الْخُفَّ وَيَمْشِينَ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ نِسَاءُ الْعَرَبِ يَلْبَسْنَ الْخُفَّ فَكُنَّ يُطِلْنَ الذَّيْلَ انْتَهَى.
فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَبِسَتْ الْخُفَّ، أَوْ الْجَوْرَبَ لَا تُؤْمَرُ بِإِطَالَةِ الذَّيْلِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِتَسْتَتِرَ مَفْهُومُهُ أَنَّهَا لَوْ لَبِسَتْهُ لَا لِقَصْدِ السَّتْرِ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ الْجُزُولِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَجُرَّهُ لِلْخُيَلَاءِ كَالرَّجُلِ.
(الثَّالِثُ) عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَيْلَ الْمَرْأَةِ الْمُطَالَ لِلسَّتْرِ يُصِيبُهُ رَطْبُ النَّجَاسَةِ لَا يَطْهُرُ بِمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى صُورَةِ الْمُخَالِفِ لِلْحَدِيثِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَرِجْلٌ بُلَّتْ يَمُرَّانِ بِنَجَسٍ يَبَسٍ يَطْهُرَانِ بِمَا بَعْدَهُ)
ش: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَيْلِ الْمَرْأَةِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرِّجْلِ فَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذْ بَلَّ رِجْلَهُ ثُمَّ مَرَّ بِهَا عَلَى نَجِسٍ يَابِسٍ ثُمَّ مَرَّ بِهَا عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِالْمُرُورِ الثَّانِي أَيْ يُعْفَى عَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا وَلِذَا أَدْخَلَهَا فِي الْمَعْفُوَّاتِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الْوُضُوءِ. قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَطَأُ الْمَوْضِعَ الْقَذِرَ الْجَافَّ قَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ ثُمَّ تَلَا {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] . قَالَ ابْنُ رُشْدٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْضِعُ قَذَرٍ لَا يُوقَنُ بِنَجَاسَتِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ مِثْلِ هَذَا يَضُرُّ فَهُوَ مِنْ الْحَرَجِ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ، وَلَوْ أَيْقَنَ بِنَجَاسَتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَعْلَقُ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا مِنْ أَجْلِ بَلَلِهِمَا انْتَهَى.
وَحَمَلَ غَيْرُ ابْنِ رُشْدٍ الرِّوَايَةَ عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ نَجِسٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ ابْنُ اللَّبَّادِ مَعْنَاهُ إذَا مَشَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ كَمَسْأَلَةِ الذَّيْلِ. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الرِّوَايَةَ قَالَ ابْنُ اللَّبَّادِ ذَلِكَ إذَا مَشَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الدِّرْعَ يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي أَرَادَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الرِّجْلَ إذَا رَفَعَهَا بِالْخَضِرَةِ لَمْ يَنْمَاعَ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَةِ إلَّا شَيْءٌ لَا قَدْرَ لَهُ انْتَهَى.
وَفِي كَلَامِ سَنَدٍ مَيْلٌ لِكَلَامِ ابْنِ اللَّبَّادِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ اللَّبَّادِ وَاللَّخْمِيِّ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي ابْنَ اللَّبَّادِ رَأَى أَنَّ رِجْلَيْهِ لَمَّا كَانَتَا لَا تَسْلَمُ أَنْ يَعْلَقَ بِهِمَا أَجْزَاءٌ نَجِسَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مَسْحِهِمَا فَإِذَا مَشَى عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ امْتَسَحَتْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الرُّخْصَةُ أَنْ يَجْتَزِئَ بِمَسْحِ الْأَرْضِ عَنْ غَسْلِ الْمَاءِ كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ انْتَهَى.
وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَاءَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُنَجِّسُهُ إلَّا مَا غَيَّرَهُ، وَلَا يَتَحَلَّلُ مِنْ النَّجَاسَةِ مَا يُغَيِّرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ الْبَاقِي فِي رِجْلَيْهِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخُ كُلُّهُمْ عَلَى حَمْلِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَذِرِ النَّجِسُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ تَبِعَهُمْ الْمُصَنِّفُ وَاقْتَصَرَ عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ اللَّبَّادِ لِاقْتِصَارِ ابْنِ يُونُسَ وَجَمَاعَةٍ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَأْوِيلِ غَيْرِهِ مَا عَدَا ابْنَ رُشْدٍ إذْ فِيهِ زِيَادَةُ اشْتِرَاطِ أَنْ يَمْشِيَ بِهَا عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ إلَّا أَنَّ فِي قِيَاسِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الذَّيْلِ نَظَرًا؛ لِأَنَّ الرِّجْلَ مَبْلُولَةٌ وَالذَّيْلَ يَابِسٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا رُخْصَةٌ وَتَخْفِيفٌ كَمَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ يَبِسٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً فَيُنَوَّنُ.
ص (وَخُفٌّ وَنَعْلٌ مِنْ رَوْثِ دَوَابَّ وَبَوْلِهَا إنْ دَلْكًا لَا غَيْرَهُ)
ش: الرَّوْثُ عِبَارَةٌ عَنْ رَجِيعِ غَيْرِ ابْنِ آدَمَ يَعْنِي أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِ مَا يُصِيبُ الْخُفَّ وَعَمَّا يُصِيبُ النَّعْلَ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، وَلَوْ كَانَتْ
رَطْبَةً كَمَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِشَرْطِ أَنْ يُدَلِّكَ ذَلِكَ فَإِذَا دَلَّكَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ الْمَشَقَّةُ وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لَا لِكَوْنِ الْأَرْوَاثِ مُخْتَلِفًا فِي نَجَاسَتِهَا وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ بِعَدَمِ الْعَفْوِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْعَفْوِ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِابْنِ حَبِيبٍ ثَالِثٌ بِالْعَفْوِ عَنْ الْخُفِّ دُونَ النَّعْلِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ نَصَّ سَحْنُونٌ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ خَاصٌّ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الدَّوَابُّ. وَأَمَّا مَا لَا يَكْثُرُ فِيهِ الدَّوَابُّ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ وَلَمْ يُنَبِّهْ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا الْقَيْدِ وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ إشَارَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لِلْمَشَقَّةِ وَالْمَشَقَّةُ إنَّمَا هِيَ مَعَ ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا هُوَ بِمَا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ.
(الثَّانِي) الدَّلْكُ هُوَ الْمَسْحُ بِالتُّرَابِ، أَوْ غَيْرِهِ قَالَ ابْنُ الْإِمَامِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى التُّرَابِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الْأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ وَيَجُوزُ بِالْخِرَقِ وَنَحْوِهَا كَالِاسْتِجْمَارِ قَالَ سَنَدٌ: وَيَمْسَحُ حَتَّى لَا يُخْرِجَ الْمَسْحُ شَيْئًا كَمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ زَوَالُ الرِّيحِ كَمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ إنَّمَا هُوَ مَسْحُهُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ، انْتَهَى بِالْمَعْنَى مُخْتَصَرًا.
(الثَّالِثُ) إذَا عُفِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْخُفِّ وَالنَّعْلِ وَقُلْنَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا فَيَجُوزُ إدْخَالُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَشْيُ بِهِمَا فِيهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِمَا فِيهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى قَالَهُ ابْنُ الْإِمَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْإِمَامِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ مُحَصَّرًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْذِرُهُ وَيُفْسِدُ حُصْرَهُ فَيُمْنَعُ مِنْ الْمَشْيِ بِهِمَا فِيهِ، انْتَهَى بِالْمَعْنَى وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلِ وَإِدْخَالِهِمَا الْمَسْجِدَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) كُلُّ مَا يُمْشَى بِهِ كَالْإِقْرَافِ وَالسَّمْسَكِينِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلِ وَالْخُفِّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْإِمَامِ وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ.
وَقَوْلُهُ لَا غَيْرُهُ يَعْنِي أَنَّ غَيْرَ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا إذَا أَصَابَ الْخُفَّ، أَوْ النَّعْلَ لَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَالدَّمِ وَالْعَذِرَةِ وَبَوْلِ بَنِي آدَمَ وَخُرْءِ الْكِلَابِ وَمَا أَشْبَهَهَا قَالَهُ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ قَالَ سَنَدٌ وَمِثْلُهَا الدَّجَاجُ الْمُخَلَّاةُ.
(قُلْتُ:) وَمِثْلُ ذَلِكَ رَوْثُ الْهِرَّةِ وَبَوْلُهَا وَالْعِلَّةُ نُدُورُ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَارِضَةِ إذَا وَطِئَ عَلَى دَمٍ، أَوْ عَذِرَةٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ نَادِرٌ فَإِنْ كَثُرَ صَارَ كَرَوْثِ الدَّوَابِّ انْتَهَى.
وَالرَّوْثُ عِبَارَةٌ عَنْ رَجِيعِ غَيْرِ ابْنِ آدَمَ قَالَهُ فِي الْعَارِضَةِ لَا يَصِحُّ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي غَيْرِهِ إلَى الْخُفِّ وَالنَّعْلِ فَلَا يُعْفَى عَنْ غَيْرِ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْأَبْدَانِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ فَيَخْلَعُهُ الْمَاسِحُ لَا مَاءَ مَعَهُ وَيَتَيَمَّمُ إلَى آخِرِهِ فَتَأَمَّلْهُ.
(فَائِدَةٌ) ذَكَرَ ابْنُ نَاجِي عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ يُجْزِي فِيهَا زَوَالُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ وَهِيَ النَّعْلُ وَالْخُفُّ وَالْقَدَمُ وَالْمَخْرَجَانِ وَمَوْضِعُ الْحِجَامَةِ وَالسَّيْفُ الصَّقِيلُ وَالثَّوْبُ وَالْجَسَدُ انْتَهَى.
وَسَيَأْتِي أَنَّ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ لَا يُجْزِي مَسْحُهُمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّيْفِ الصَّقِيلِ.
ص (فَيَخْلَعُهُ الْمَاسِحُ لَا مَاءَ مَعَهُ وَيَتَيَمَّمُ)
ش: أَيْ فَلِأَجْلِ أَنَّ مَا عَدَا أَرْوَاثَ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالَهَا لَا يُعْفَى عَنْهُ وَيَجِبُ غَسْلُ مَا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْهُ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ إذَا كَانَ عَلَى وُضُوءٍ وَأَصَابَ خُفَّهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَغْسِلُ بِهِ أَنْ يَخْلَعَ الْخُفَّ وَيَتَيَمَّمَ، وَلَا يُصَلِّيَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا لِإِبْطَالِ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ وَالِانْتِقَالِ إلَى الطَّهَارَةِ التُّرَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَهُ بَدَلٌ وَغَسْلُ النَّجَاسَةِ لَا بَدَلَ لَهُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) أَخَذَ مِنْهُ الْمَازِرِيُّ تَقَدُّمَ غَسْلِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ الْمَاءِ إلَّا مَا يَكْفِيهِ لِأَحَدِ الطَّهَارَتَيْنِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَظُنُّ أَنِّي وَقَفْتُ لِأَبِي عِمْرَانَ عَلَى أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ وَكَانَ بَعْضُ أَشْيَاخِي يَنْقُلُهُ عَنْهُ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ طَهَارَةَ الْخَبَثِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا وَذَكَرَ ابْنُ هَارُونَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: يُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ وَيَتَوَضَّأُ، وَقِيلَ: يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ وَيَتَيَمَّمُ وَجَزَمَ ابْنُ رُشْدٍ فِي رَسْمٍ سَلَفَ
مِنْ سَمَاعِ عِيسَى مِنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ بِأَنَّهُ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ وَيَتَيَمَّمُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ ذَكَرَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُؤْرِ مَا لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ.
(الثَّانِي) هَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ جَمْعُ الْمَاءِ مِنْ أَعْضَائِهِ طَهُورًا.
وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ جَمْعُهُ طَهُورًا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَجْمَعُهُ وَيَغْسِلُ بِهِ النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ عَلَى الْمَشْهُورِ بَلْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ زَرُّوق فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ: قَوْلُهُ الْمَاسِحُ مُشْكِلٌ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخُصُّهُ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ حُكْمُهُ الْمَسْحُ، وَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ أَلْبَتَّةَ فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَيْهِ مَجَازٌ اهـ.
(قُلْتُ:) هَذَا الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إطْلَاقِ الْمُشْتَقِّ عَلَى مَحَلِّهِ حَقِيقَةُ بَقَاءِ مَعْنَى ذَلِكَ الْمُشْتَقِّ فِي الْمَحَلِّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً حَالَ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ فَالضَّارِبُ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِيمَنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالضَّرْبِ وَالْقَائِمُ إنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ تَلَبَّسَ بِالْقِيَامِ وَإِنَّ إطْلَاقَ الْمُشْتَقِّ عَلَى الْمَحَلِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَجَازٌ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْمَاسِحُ حَقِيقَةً مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْمَسْحِ وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْمَسْحُ، أَوْ مَنْ يَمْسَحُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازٌ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى مِنْ الثَّانِي، وَقِيلَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ وَالثَّانِي مَجَازٌ بِلَا خِلَافٍ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِيمَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْمَسْحُ وَإِلَّا، فَمَنْ لَمْ يَمْسَحْ يَنْزِعُ الْخُفَّ وَيُصَلِّي بِوُضُوئِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَيَمُّمٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَاخْتَارَ إلْحَاقَ رِجْلِ الْفَقِيرِ، وَفِي غَيْرِهِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَانِ) .
ش يَعْنِي أَنَّ اللَّخْمِيَّ اخْتَارَ إلْحَاقَ رِجْلَ الْفَقِيرِ فِي أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِ مَا يُصِيبُهَا مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا إذَا دُلِكَتْ، وَفِي رِجْلِ غَيْرِ الْفَقِيرِ قَوْلَانِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّجْلَ لَا نَصَّ فِيهَا لِلْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا ذُكِرَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ الْبَاجِيّ وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَفُرِّقَ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَارِضَةِ وَاخْتَارَ التُّونُسِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ فِي رَسْمِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ إلْحَاقَهَا بِالْخُفِّ وَالنَّعْلِ مُطْلَقًا وَحَكَى ابْنُ شَاسٍ وَالْقَرَافِيُّ قَوْلًا بِعَدَمِ الْإِلْحَاقِ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ اللَّخْمِيَّ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي غَيْرِ رِجْلِ الْفَقِيرِ وَلَيْسَ هَذَا مُرَادُهُ وَلَكِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ اخْتِيَارُ اللَّخْمِيِّ فِي رِجْلِ الْفَقِيرِ بِمُوَافَقَتِهِ لِاخْتِيَارِ التُّونُسِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَمَّا لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ اخْتِيَارُهُ فِي مُقَابِلِهِ لِمُعَارَضَتِهِ لِاخْتِيَارِ التُّونُسِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ إنْ تَيَسَّرَ لَهُ الْغَسْلُ وَوَجَدَ الْمَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَإِلَّا فَلْيُصَلِّ بِهَا إذَا مَسَحَ رِجْلَيْهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالنَّعْلِ اهـ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ص (وَوَاقِعٌ عَلَى مَارٍّ، وَإِنْ سَأَلَ صَدَّقَ الْمُسْلِمَ)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا وَقَعَ عَلَى الْمَارِّ تَحْتَ سَقِيفَةٍ وَشِبْهِهَا وَظَاهِرُ كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ نَجَسٌ يُعْفَى عَنْهُ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَعْفُوَّاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ النَّجَاسَةَ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ بُيُوتِ النَّصَارَى فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى النَّجَاسَةِ، الْمَسْأَلَةُ فِي رَسْمِ حَلْفٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَلَيْسَتْ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَنَصُّهَا وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَمُرُّ تَحْتَ سَقِيفَةٍ فَيَقَعُ عَلَيْهِ مَاؤُهَا قَالَ أَرَاهُ فِي سَعَةٍ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ نَجَاسَةً زَادَ فِي أَوَّلِ رَسْمٍ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى، وَإِنْ سَأَلَهُمْ فَقَالُوا هُوَ طَاهِرٌ فَإِنَّهُ يُصَدِّقُهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا نَصَارَى فَلَا أَرَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ إنَّمَا قَالَ يُصَدِّقُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ النَّجَاسَةَ فَسُؤَالُهُمْ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَلَوْ قَالُوا لَهُ لَمَّا سَأَلَهُمْ: هُوَ نَجَسٌ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ انْتَهَى.
وَعَزَا الشَّارِحُ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ لِسَمَاعِ أَصْبَغَ وَلَيْسَتْ فِيهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَا إذَا تَيَقَّنَ النَّجَاسَةَ إمَّا بِرَائِحَةٍ، أَوْ بِعَلَامَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، أَوْ يَكُونُ الْوَاقِعُ مِنْ بُيُوتِ النَّصَارَى فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّجَاسَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ.
(الثَّانِي) لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ سُؤَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.
(الثَّالِثُ) مَفْهُومُ قَوْلِهِ صَدَّقَ الْمُسْلِمَ أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ الْكَافِرَ وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا الْحُكْمُ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا مَا يَسِيلُ مِنْ بُيُوتِ النَّصَارَى فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَلَا يُصَدَّقُونَ إنْ قَالُوا إنَّهُ طَاهِرٌ زَادَ فِي سَمَاعِ عِيسَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَاعِدًا عِنْدَهُمْ فَيُصَدَّقُ إنْ كَانَ عَدْلًا انْتَهَى. وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَتَكَرَّرَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي رَسْمِ حَلْفٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ ابْنُ رُشْدٍ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ.
ص (وَكَسَيْفٍ صَقِيلٍ لِإِفْسَادِهِ مِنْ دَمٍ مُبَاحٍ)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ السَّيْفَ الصَّقِيلَ: وَشِبْهَهُ وَدَخَلَ تَحْتَ الْكَافِي فِي قَوْلِهِ وَكَسَيْفٍ مَا كَانَ صَقِيلًا وَفِيهِ صَلَابَةٌ كَالْمُدْيَةِ وَالْمِرْآةِ وَالزُّجَاجِ وَخَرَجَ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ صَقِيلًا كَالثَّوْبِ الصَّقِيلِ وَالْبَدَنِ وَالظُّفُرِ وَبِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلَيْ ابْنِ الْحَاجِبِ وَعَنْ السَّيْفِ الصَّقِيلِ وَشِبْهِهِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَوْلُهُ: لِإِفْسَادِهِ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي تَعْلِيلِ الْعَفْوِ هُوَ الْإِفْسَادُ بِالْغَسْلِ لِانْتِقَالِ النَّجَاسَةِ مِنْهُ بِالْمَسْحِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْعَفْوِ الْمَسْحَ وَخَرَجَ بِذَلِكَ الزُّجَاجُ فَإِنَّهُ، وَإِنْ شَابَهُ السَّيْفَ فِي الصَّقَالَةِ وَالصَّلَابَةِ لَكِنَّهُ لَا يُفْسِدُهُ الْغَسْلُ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ دَمٍ مُبَاحٍ أَنَّ الْعَفْوَ خَاصٌّ بِالدَّمِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ أَكْثَرِ عِبَارَاتِهِمْ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ عَدَمُ التَّخْصِيصِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَسْحُهَا أَيْ النَّجَاسَةِ مِنْ صَقِيلٍ كَافٍ لِإِفْسَادِ غَسْلِهِ، وَقِيلَ: لِانْتِقَالِهَا، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَأَكْثَرُ مَثَلِهِمْ فِي السَّيْفِ إنَّمَا هُوَ فِي الدَّمِ فَيَحْتَمِلَ أَنْ لَا يُقْصَرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ الْقَصْرَ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْوَاصِلَةِ إلَيْهِ انْتَهَى، وَأَصْلُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
وَقَوْلُهُ مُبَاحٌ ذَكَرَ فِي التَّوْضِيحِ هَذَا الْقَيْدَ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَقَالَ وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُبَاحًا كَمَا فِي الْجِهَادِ وَالْقِصَاصِ، وَلَا يُعْفَى عَنْ دَمِ الْعُدْوَانِ انْتَهَى.
وَنَحْوُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَزَادَ فَقَالَ وَهَذَا يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَاصِي هَلْ يَتَرَخَّصُ أَمْ لَا؟ (قُلْتُ:) وَالْقَيْدُ الْمَذْكُورُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ النَّوَادِرِ الْآتِي ذِكْرُهُ وَلِذَا اعْتَمَدَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَيَدْخُلُ فِي الْمُبَاحِ مَا كَانَ مِنْ ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَخْرُجُ مَا كَانَ عَنْ ذَكَاةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُصَنِّفُ فِي الْعَفْوِ مَسْحَ الدَّمِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَلَفْظُهُ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا بَأْسَ بِالسَّيْفِ فِي الْغَزْوِ وَفِيهِ دَمٌ أَنْ لَا يُغْسَلَ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَيُصَلِّي بِهِ قَالَ عِيسَى فِي رِوَايَتِهِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مَسَحَهُ مِنْ الدَّمِ، أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ، قَالَ عِيسَى: يُرِيدُ فِي الْجِهَادِ، أَوْ فِي الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ عَيْشُهُ، انْتَهَى كَلَامُ التَّوْضِيحِ.
(قُلْتُ:) وَنَحْوُهُ فِي رَسْمِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَقَبِلَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُ، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَبْلَ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَمَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ شَاسٍ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ السَّيْفِ إلَّا بَعْدَ الْمَسْحِ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُمَا وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ مَالِكٍ. ابْنُ رَاشِدٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ. وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ، وَابْنِ شَاسٍ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ انْتَهَى. وَاَللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَأَثَرُ دُمَّلٍ لَمْ يُنْكَأْ)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الثَّوْبَ وَالْجَسَدَ مِنْ أَثَرِ الدُّمَّلِ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ إذَا لَمْ يُنْكَأْ وَإِنَّمَا سَالَتْ بِنَفْسِهَا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكُلُّ قُرْحَةٍ إنْ تَرَكَهَا صَاحِبُهَا لَمْ تَسِلْ، وَإِنْ نَكَأَهَا سَالَتْ فَمَا خَرَجَ مِنْ هَذِهِ مِنْ دَمٍ أَوْ غَيْرِهِ وَأَصَابَ ثَوْبَهُ، أَوْ جَسَدَهُ غَسَلَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ قَطَعَهَا وَلَا يَبْنِي إلَّا فِي الرُّعَافِ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ فَيَفْتِلُهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُكَفُّ وَتُمْصَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنْكَأَ فَلْيُصَلِّ وَلْيَدْرَأْهَا بِخِرْقَةٍ، وَلَا يَقْطَعُ لِذَلِكَ
وَلَا يَغْسِلُ مِنْهُ الثَّوْبَ إذَا أَصَابَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ إلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُهُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ مِثْلُ الدُّمَّلِ، وَقَوْلُهُ نَكَأَهَا بِالْهَمْزِ أَيْ قَشَّرَهَا قَالَهُ عِيَاضٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا لَمْ تُنْكَأْ عِنْدَ خُرُوجِ الدَّمِ وَنَحْوِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَتَّتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَالِهَا عِنْدَ خُرُوجِ الْمَادَّةِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَسِيلُ مِنْهَا بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَشَّرَ فَيُعْفَى عَنْهَا وَإِلَّا فَلَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَاوَوْا بَيْنَ أَثَرِ الدُّمَّلِ وَأَثَرِ الْجُرْحِ وَالْجُرْحُ إنَّمَا يَكُونُ بِشَقِّ الْجِلْدِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِي الدُّمَّلِ الْوَاحِدَةِ. وَأَمَّا إذَا كَثُرَتْ كَالْجَرَبِ فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى نَكْئِهَا انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَقَبِلَهُ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَمَا زَالَ شَيْخُنَا يَقُولُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ عِيَاضٍ وَلَمْ أَجِدْهُ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَنَصُّهُ الْحَكَّةُ وَمَا يَكُونُ مِنْ الدَّمَامِلِ وَالْقُرُوحِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْحَةِ الَّتِي لَا تُكَفُّ، وَإِنْ كَانَ دَمُ ذَلِكَ إنَّمَا يَسِيلُ بِالْحَكِّ لَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَنْ بِهِ ذَلِكَ تَرْكُ الْحَكِّ وَتَرْكُهُ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ انْتَهَى.
(تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ) ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الدُّمَّلَ إذَا لَمْ تُنْكَأْ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُتَّصِلًا، أَوْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ أَمْ لَا. وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ الشَّارِحُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَعُفِيَ عَمَّا يَعْسُرُ كَالْجُرْحِ يُمْصَلُ وَالدُّمَّلِ فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ بِخِلَافِ مَا يُنْكَأُ فَإِنَّهُ يُغْسَلُ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ ثَانِيًا قَبْلَ الْكَلَامِ عَلَى الرُّعَافِ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهَا إذَا لَمْ تُنْكَأْ قَالَ: وَلَوْ سَالَتْ قُرْحَتُهُ أَوْ نَكَأَهَا تَمَادَى إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إلَّا أَنْ تُمْصَلَ بِنَفْسِهَا، وَلَا تَكُفَّ فَيَدْرَؤُهَا بِخِرْقَةٍ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَتَمَادَى إذَا مَصَلَتْ بِنَفْسِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَكُفَّ.
وَأَمَّا لَوْ رَجَا الْكَفَّ لِقَطْعٍ، وَإِنْ سَالَتْ بِنَفْسِهَا وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَذَكَرَ لَفْظَهَا الْمُتَقَدِّمَ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ الْجُرْحِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ فَعَلَى الْمَجْرُوحِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَالَتِهِ، وَلَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُهُ التَّوَقِّي مِنْهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُهَا إلَّا إذَا كَثُرَتْ وَتَفَاحَشَتْ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُهَا وَالثَّانِي أَنْ لَا يَتَّصِلَ خُرُوجُهُ وَأَمْكَنَ التَّوَقِّي مِنْ نَجَاسَتِهِ وَدَمِهِ فَإِنْ انْبَعَثَتْ فِي الصَّلَاةِ بِفِعْلِ الْمُصَلِّي، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ لِنَجَاسَةِ جِسْمِهِ وَثَوْبِهِ فَلْيَغْسِلْ مَا بِهِ الدَّمُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْهَا لِلصَّلَاةِ انْتَهَى.
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَعُفِيَ عَمَّا يَشُقُّ. وَفِيهَا لَا يُغْسَلُ دَمُ قُرْحَةٍ تَسِيلُ دُونَ إنْكَاءٍ وَمُتَفَاحِشَهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ. الْبَاجِيُّ إنْ لَمْ يَتَّصِلْ سَيْلُهُ وَأَمْكَنَ التَّوَقِّي مِنْهُ قَطَعَ لَهُ الصَّلَاةَ، وَلَوْ سَالَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَادَى إلَّا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْكَفَّ. وَأَمَّا لَوْ كَانَ كَثِيرًا وَرَجَا الْكَفَّ لِقَطْعٍ، وَإِنْ سَالَتْ بِنَفْسِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ انْتَهَى.
فَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْمُصَنِّفِ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فَيُحْمَلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا إذَا عَسِرَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ سَوَاءٌ اتَّصَلَ، أَوْ كَانَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ وَلَمْ يَنْضَبِطْ وَتَكَرَّرَ وَشَقَّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَبِهِ يُفَسَّرُ قَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا تُكَفُّ وَتَمْصُلُ. وَقَوْلُ الْبَاجِيِّ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ مُتَّصِلًا أَيْ مُتَكَرِّرًا بِحَيْثُ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الْبَاجِيِّ الثَّانِي أَنْ لَا يَتَّصِلَ خُرُوجُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ خُرُوجُ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ تَكَرَّرَ وَلَمْ يَشُقَّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَمَا لَوْ خَرَجَ بَعْدَ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ مَرَّةً، وَيُرْشِدُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ وَأَمْكَنَ التَّوَقِّي مِنْ نَجَاسَتِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحَادِيَةَ عَشَرَ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي الدُّمَّلِ يَنْفَقِعُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: إنَّهُ إنْ كَانَ يَسِيرًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيَنْصَرِفْ وَقَبِلَهُ ابْنُ رُشْدٍ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الْبَاجِيِّ قِسْمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ خُرُوجُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ التَّوَقِّي مِنْهُ لِتَكَرُّرِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ مَرَّتَيْنِ
فِي الْيَوْمِ خُصُوصًا إذَا لَمْ يَنْضَبِطْ وَقْتُ خُرُوجِهِ فَيَتَعَارَضُ فِيهِ مَفْهُومَا كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لَكِنْ يَتَرَجَّحُ الْعَمَلُ بِالْمَفْهُومِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَابِ أَنَّ كُلَّ مَا شَقَّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ يُعْفَى عَنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ صَاحِبَ السَّلَسِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ مِنْهُ اُخْتُلِفَ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ فَرْجِهِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ سَحْنُونٍ إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ فَرْجِهِ أَنَّ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ النَّجَاسَاتِ السَّائِلَةِ كَالْقُرُوحِ وَشِبْهِهَا لَا تُغْسَلُ إلَّا أَنْ تَتَفَاحَشَ، وَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ النَّجَاسَاتِ مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَتَفَاحَشَ جِدًّا فَيُؤْمَرُ بِهَا وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا، أَوْ يُمْكِنَ لِمَشَقَّةٍ كُبْرَى كَالْجُرْحِ يَمْصُلُ وَالدَّمِ يَسِيلُ وَالْمَرْأَةِ تُرْضِعُ وَالْأَحْدَاثِ تُسْتَنْكَحُ وَالْغَازِي يُضْطَرُّ إلَى إمْسَاكِ فَرَسِهِ، وَخَصَّ مَالِكٌ هَذَا بِبَلَدِ الْحَرْبِ وَيُرَجَّحُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ انْتَهَى.
وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ مُنْصِفًا.
(الثَّانِي) قَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلْيَدْرَأْهَا بِخِرْقَةٍ قَالَ ابْنُ نَاجِي اسْتِحْبَابًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَنُدِبَ إنْ تَفَاحَشَ كَدَمِ بَرَاغِيثَ إلَّا فِي صَلَاةٍ) . ش يَعْنِي أَنَّ الدُّمَّلَ وَالْجُرْحَ إذَا كَانَا يَمْصُلَانِ بِأَنْفُسِهِمَا يُعْفَى عَمَّا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إلَّا إذَا تَفَاحَشَ فَيُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ كَمَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ إذَا تَفَاحَشَ إلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ أَثَرُ الدُّمَّلِ وَالْجُرْحِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَقْطَعُهَا، أَوْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ إلَّا فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُهَا، وَكَذَلِكَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ لَا تُقْطَعُ لَهُ الصَّلَاةُ وَحَكَى صَاحِبُ الْعُمْدَةِ قَوْلَيْنِ إذَا تَفَاحَشَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ بِالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ ابْنُ نَاجِي اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ التَّفَاحُشِ فَقِيلَ: مَا يُسْتَحْيَا بِهِ فِي الْمَجَالِسِ مِنْ النَّاسِ، وَقِيلَ: مَا لَهُ رَائِحَةٌ، نَقَلَهُمَا التَّادَلِيُّ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ صَاحِبُ الطِّرَازِ خِلَافًا وَنَصُّهُ: وَمَا حَدُّ التَّفَاحُشِ؟ قَالَ رَبِيعَةُ: فِي الشَّيْءِ الْمُلَازِمِ مِثْلُ الْجُرْحِ يَمْصُلُ وَأَثَرِ الْبَرَاغِيثِ إذَا تَفَاحَشَ مَنْظَرُ ذَلِكَ، أَوْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ فَاغْسِلْهُ وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَارَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُقْبَلُ صَاحِبُهُ، وَلَا يُقْرَبُ إلَّا بِتَقَذُّرٍ وَتَكَرُّهٍ انْتَهَى.
(الثَّانِي) قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: أَلْحَقَ صَاحِبُ الْحُلَلِ بِدَمِ الْبَرَاغِيثِ دَمَ الْبَقِّ وَالْقُمَّلِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ مِنْهُمَا تُتَقَذَّرُ انْتَهَى.
(الثَّالِثُ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ مَتَى تَفَاحَشَ يُغْسَلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَادِرًا بَلْ فِي زَمَنِ هَيَجَانِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَعَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ غَيْرِ الْمُتَفَاحَشِ النَّادِرِ وَمِثْلُهُ لِابْنِ شَاسٍ فَجَعَلَا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي زَمَنِ هَيَجَانِهِ مَعْفُوٌّ، وَإِنْ تَفَاحَشَ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) وَقَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي التَّوْضِيحِ: أَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَذْكُرُوا الْقَيْدَ الْأَخِيرَ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَالْمُدَوَّنَةِ: ثَمَانِيَةُ أَثْوَابٍ لَا يُؤْمَرُ بِغَسْلِهَا إلَّا مَعَ التَّفَاحُشِ: ثَوْبُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْمُرْضِعِ وَصَاحِبِ السَّلَسِ وَصَاحِبِ الْبَوَاسِيرِ وَالْجُرْحِ السَّائِلِ وَالْقُرْحَةِ وَثَوْبُ الْغَازِي الَّذِي يَمْسِكُ فَرَسَهُ فِي الْجِهَادِ وَثَوْبُ الْمُتَعَيِّشِ فِي سَفَرِهِ بِالدَّوَابِّ نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ انْتَهَى.
ص (وَيَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَسِ بِلَا نِيَّةٍ بِغَسْلِهِ)
ش: لَمَّا قَدَّمَ حُكْمَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَمَا يُعْفَى عَنْهُ وَمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ تَكَلَّمَ الْآنَ فِي كَيْفِيَّةِ إزَالَةِ مَا لَا يُعْفَى عَنْهُ، وَبِمَاذَا تَكُونُ؟ وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ كَانَ بَدَنًا، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ أَرْضًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ إذَا أُرِيدَ تَطْهِيرُهُ إنَّمَا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ، وَلَا يَطْهُرُ بِغَيْرِ الْغَسْلِ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخُفِّ وَالنَّعْلِ وَالرَّحْلِ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا وَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ مِنْ الدَّمِ وَمَوْضِعِ الْحِجَامَةِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِجْمَارُ فِي الْمَخْرَجَيْنِ وَالثَّوْبِ الصَّقِيلِ عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْعَفْوِ عَنْ مَحَلِّهِ وَإِلَّا فَالْمَحَلُّ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ بَعْدَهَا، وَلَا يَطْهُرُ إلَّا بِغَسْلِهِ، وَالْغَسْلُ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ بِحَسَبِهَا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَارِضَةِ:
النَّجَاسَةُ إمَّا حُكْمِيَّةٌ، أَوْ عَيْنِيَّةٌ فَالْحُكْمِيَّةُ يَكْفِي فِيهَا وُرُودُ الْمَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ وَالْعَيْنِيَّةُ لَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ عَيْنِهَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: النَّجَاسَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ نَجَاسَةٌ كَلَوْنِ الْمَاءِ وَهِيَ الْبَوْلُ وَالْمَذْيُ وَنَحْوُهُمَا فَيَجِبُ أَنْ يُكَاثِرَ بِالْمَاءِ خَاصَّةً إذْ لَيْسَ لَهَا عَيْنٌ تُزَالُ فَكَفَى مِنْ مَاءٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَكْثَرُ مِنْ نُقْطَةٍ مِنْ مَذْيٍ، وَنَجَاسَةٌ تُخَالِفُ لَوْنَ الْمَاءِ فَيَلْزَمُ صَبُّ الْمَاءِ حَتَّى تَذْهَبَ عَيْنُهَا، وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَقَوْلُهُ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ أَيْ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَأَتْبِعْهُ الْمَاءَ وَإِنَّمَا سَقَطَ الْعَرْكُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ الْكَبِيرَ لَوْ بَالَ عَلَى ثَوْبِهِ وَأَتْبَعَهُ مَاءً لَكَانَ ذَلِكَ تَطْهِيرًا لِلْمَحَلِّ كَامِلًا، وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ إذَا اسْتَقَرَّتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الْأَرْضِ صُبَّ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَغْمُرُهَا، وَيُسْتَهْلَكُ الْبَوْلُ فِيهَا بِذَهَابِ رَائِحَتِهِ وَلَوْنِهِ وَتَطْهُرُ الْأَرْضُ النَّجِسَةُ بِذَلِكَ قَالَ الْهَرَوِيُّ لَا تَطْهُرُ إلَّا بِأَنْ تُحْفَرَ وَيُجْعَلَ عَلَى ظَاهِرِهَا تُرَابٌ طَاهِرٌ وَلَيْسَ الذَّنُوبُ تَقْدِيرًا وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ غَلَبَةِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ لِلنَّجَاسَةِ وَاسْتِهْلَاكِهَا فِيهِ وَإِذَا بَالَ رَجُلَانِ فِي مَوْضِعٍ كَفَى ذَنُوبٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ لِكُلِّ رَجُلٍ ذَنُوبٌ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ أُهْرِيقَ عَلَى الْمَوْضِعِ مَاءٌ، أَوْ جَاءَ عَلَيْهِ مَطَرٌ طَهُرَ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ لَا تَفْتَقِرُ لِنِيَّةٍ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ نَصَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ يَكْفِي فِي تَطْهِيرِهَا صَبُّ الْمَاءِ عَلَيْهَا فَقَطْ، وَالْبَوْلُ وَغَيْرُهُ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مُتَتَابِعًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ زَوَالُ النَّجَاسَةِ إنَّهُ يَطْهُرُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى عَرْكٍ، وَلَا عَصْرٍ، وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي الزَّاهِي: وَطَهُورُ الْأَرْضِ مِنْ الْبَوْلِ صَبُّ دَلْوٍ مِنْ مَاءٍ عَلَيْهَا، وَمَنْ أَصَابَهُ نَجَسٌ وَهَطَلَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ فَاغْتَسَلَ بِهِ طَهَّرَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ جُنُبًا انْتَهَى.
وَقَالَ الْأَبِيُّ عَنْ الْمَازِرِيِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فَدَعَا بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّ عَلَيْهِ: فِيهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْمَائِعَةَ دُونَ لُزُوجَةٍ يَكْفِي فِي تَطْهِيرِهَا صَبُّ الْمَاءِ وَإِتْبَاعُهُ دُونَ دَلْكٍ، وَكَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّلْكُ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يُغْسَلُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ بَلْ مَا يُغْمَرُ النَّجَاسَةَ وَيَغْلِبُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذَهَابُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَإِذَا زَالَتْ بِصَبِّ الْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى الدَّلْكِ وَهَذَا فِيمَا لَا يَظْهَرُ لَهُ عَيْنٌ بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ كَالْبَوْلِ، وَحَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ سَبْعَةَ أَمْثَالِ الْبَوْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَاءِ أَنْ يَقْطُرَ بَعْدَ صَبِّهِ عَلَيْهَا إلَى الْأَرْضِ بَلْ إذَا صُبَّ الْمَاءُ وَغَمَرَ النَّجَاسَةَ اُسْتُهْلِكَتْ وَذَهَبَ حُكْمُهَا فَإِنْ انْدَفَعَتْ الْغُسَالَةُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ أَرْضٍ، أَوْ بَدَنٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ الْحَصِيرِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهَا فَيُشْتَرَطُ فِي طَهَارَةِ مَا انْدَفَعَتْ إلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْغُسَالَةُ الْمُنْدَفِعَةُ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَةَ نَجِسَةٌ فَإِنْ انْدَفَعَتْ مُتَغَيِّرَةً صُبَّ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْدَفِعَ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ انْتَهَى.
وَقَالَ سَنَدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي غَسْلِ ثَوْبِ الْمُحْرِمِ: فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى حَتٍّ وَعَرْكٍ كَالْبَوْلِ وَالْمَاءِ النَّجِسِ فَإِنَّهُ يُوَاصِلُ صَبَّ الْمَاءِ وَيَتَوَاصَلُ وَيَتَلَطَّفُ فِي غَسْلِ ذَلِكَ انْتَهَى.
وَذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونٍ عَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْعَيْنِيَّةَ لَا يَكْفِي إجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ مُحَاوِلَةِ إزَالَةِ أَوْصَافِهَا الثَّلَاثَةِ الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ، أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهَا انْتَهَى.
فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْحُكْمِيَّةَ هِيَ الَّتِي لَا طَعْمَ لَهَا، وَلَا لَوْنَ، وَلَا رِيحَ كَالْبَوْلِ إذَا جَفَّ وَطَالَ أَمْرُهُ، وَالْعَيْنِيَّةُ نَقِيضُ الْحُكْمِيَّةِ وَبِهَذَا فَسَّرَهُمَا الشَّافِعِيَّةُ.
(وَالْحَاصِلُ) مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَاَلَّتِي يُمْكِنُ زَوَالُهَا بِالْمَاءِ كَالْبَوْلِ وَالْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ أَوْ بِمُكَاثَرَةِ صَبِّ الْمَاءِ كَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ لَا يَحْتَاجُ إلَى عَرْكٍ وَدَلْكٍ وَمَا لَا يُزَالُ إلَّا بِالْعَرْكِ وَالدَّلْكِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْجَوَاهِرِ، وَلَا يَكْفِي مُرُورُ الْمَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهَا عَنْهُ بِإِذْهَابِ الْعَيْنِ وَالْأَثَرِ انْتَهَى. لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مُرُورَ الْمَاءِ لَا يَكْفِي فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ إزَالَةُ عَيْنِهَا وَأَثَرِهَا فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ فِي النَّضْحِ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ حُكْمَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وُرُودُ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ بِلَا نِيَّةٍ يَعْنِي بِهِ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ قَوْلًا بِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ لِلنِّيَّةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ بَلْ حَكَى ابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ افْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ وَابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَوْلَهُمْ لَا تَفْتَقِرُ لِنِيَّةٍ مَعَ قَوْلِهِمْ لَا تُزَالُ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى وَالثَّانِيَ عَلَى أَنَّهَا تَعَبُّدٌ فَهُوَ تَنَاقُضٌ.
قَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ وَأَوْرَدْتُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ دُرُوسِ أَشْيَاخِي فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ جَوَابٌ إلَّا مَا لَا يَصْلُحُ.
(قُلْتُ:) مِمَّا أَجَابَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا مِنْ بَابِ التُّرُوكِ وَلَيْسَ فِي التَّرْكِ نِيَّةٌ فَتَأَمَّلْهُ، وَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ فِي النَّضْحِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ التَّعَبُّدَ فِيمَا تَقَعُ بِهِ الْإِزَالَةُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلنِّيَّةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(فَائِدَةٌ) الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ اسْمُهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، وَالذَّنُوبُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الدَّلْوُ الْعَظِيمُ، وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى ذَنُوبًا إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ وَيُطْلَقُ الذَّنُوبُ عَلَى النَّصِيبِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} [الذاريات: 59] أَيْ نَصِيبًا مِنْ الْعَذَابِ وَقِيلَ إنَّهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ الذَّنُوبِ الَّذِي هُوَ الدَّلْوُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقُونَ وَيَجْعَلُونَ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ ذَنُوبًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَقَالَ سَنَدٌ السَّجْلُ دَلْوٌ أَصْغَرُ مِنْ الذَّنُوبِ وَالذَّنُوبُ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ وَهِيَ دُونَ الْغَرْبِ وَفَوْقَ السَّجْلِ.
ص (إنْ عَرَفَ وَإِلَّا فَبِجَمِيعِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ كَكُمَّيْهِ بِخِلَافِ ثَوْبِهِ فَيَتَحَرَّى)
ش: يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَحَقَّقَ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ لِمَحَلٍّ فَإِنْ عَرَفَ مَوْضِعَهَا مِنْهُ غَسَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ مَعَ تَحَقُّقِهِ الْإِصَابَةَ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ جَمِيعَ مَا شَكَّ فِي إصَابَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَقَّقَ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ غَسْلُهَا وَلَمَّا لَمْ يَتَمَيَّزْ مَوْضِعُهَا تَعَيَّنَ غَسْلُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ زَوَالُهَا إلَّا بِذَلِكَ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّ نَجَاسَةً أَصَابَتْ ثَوْبَهُ لَا يَدْرِي مَوْضِعَهَا غَسَلَهُ كُلَّهُ، وَإِنْ عَلِمَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ غَسَلَهَا قَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مِنْ الْمَاءِ مَا يَعُمُّ بِهِ الثَّوْبَ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى مَوْضِعَهَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) وَأَصْلُهُ لِصَاحِبِ الطِّرَازِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ كَكُمَّيْهِ يَعْنِي أَنَّ الثَّوْبَ الْمُتَّصِلَ إذَا تَحَقَّقَتْ إصَابَةُ النَّجَاسَةِ لَهُ وَشَكَّ فِي مَحَلِّهَا فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ جَمِيعِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَلَوْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي جِهَتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ كَالْكُمَّيْنِ، وَلَا يَجْتَهِدُ فِي أَحَدِ الْجِهَتَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ قَالَهُ سَنَدٌ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَجْتَهِدُ فَمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ النَّجِسُ غَسَلَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الثَّوْبَيْنِ، وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْكُمَّيْنِ مُتَّصِلَانِ بِالثَّوْبِ وَالثَّوْبَيْنِ مُنْفَصِلَانِ، وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ ثَوْبَيْهِ فَيَتَحَرَّى يَعْنِي أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ لِأَحَدِ ثَوْبَيْهِ وَطَهَارَةَ الْآخَرِ فَاشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى أَيْ يَجْتَهِدَ بِعَلَامَةٍ تُمَيِّزُ لَهُ الطَّاهِرَ مِنْهُمَا مِنْ النَّجِسِ فَمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ صَلَّى بِهِ وَمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّهُ نَجِسٌ تَرَكَهُ حَتَّى يَغْسِلَهُ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ ثَوْبٍ كَالْأَوَانِي، وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَكْثُرْ، هَذَا تَحْصِيلُ ابْنِ عَرَفَةَ، وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ يَتَحَرَّى فِي الثِّيَابِ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الضَّرُورَةِ وَكَلَامُهُ فِي الْجَوَاهِرِ قَرِيبٌ مِنْهُ وَنَصَّ سَنَدٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَرَّى فِي الثَّوْبَيْنِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يَغْسِلُ بِهِ الثَّوْبَيْنِ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) وَهَكَذَا نَقْلُ صَاحِبِ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ هَارُونَ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَرَّى إذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا طَاهِرًا، أَوْ مَا يُطَهِّرُ بِهِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ وَنَقَلَهُ عَنْ سَنَدٍ أَيْضًا، قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ شَاسٍ وَغَيْرِهِ الْإِطْلَاقُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِضَرُورَةٍ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ
مُضْطَرًّا فَقَدْ أَدْخَلَ احْتِمَالَ الْخَلَلِ فِي صَلَاتِهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ انْتَهَى وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّكِّ فِي الثَّوْبَيْنِ، أَوْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا مَعَ الضَّرُورَةِ فَيَتَحَرَّى فِي الثَّوْبَيْنِ. وَأَمَّا الثَّوْبُ الْوَاحِدُ فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّحَرِّي فِيهِ إلَّا فِي الصُّورَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَنْ التَّوْضِيحِ وَهِيَ مَا إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ الْمَاءِ مَا يَغْمُرُ بِهِ الثَّوْبَ وَضَاقَ الْوَقْتُ، وَهَكَذَا قَالَ سَنَدٌ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الثَّوْبَيْنِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ بِأَنَّهُ إذَا تَحَرَّى فِي الثَّوْبَيْنِ صَلَّى بِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ. وَأَمَّا الثَّوْبُ الْوَاحِدُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْغَسْلِ وَالشَّكِّ فِي جَمِيعِ الثَّوْبِ فَيَغْسِلَ جَمِيعَهُ. قَالَ: وَفِي التَّحْقِيقِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ غَازِيٍّ: وَقَدْ أَغْفَلُوا كُلُّهُمْ مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَذَكَرَ عَنْهُ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ مَالِكٍ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إنْ وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا كَمَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَالثَّانِي عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ كَقَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ فِي الْآخَرِ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّهُ يَرَى إذَا صَلَّى بِأَحَدِهِمَا ثُمَّ أَعَادَ فِي الْآخَرِ مَكَانَهُ فَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّ إحْدَى صَلَاتَيْهِ قَدْ وَقَعَتْ بِثَوْبٍ طَاهِرٍ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى بِأَحَدِهِمَا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يَعْزِمْ فِي صَلَاتِهِ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا فَرْضُهُ إذَا صَلَّى بِنِيَّةِ الْإِعَادَةِ فَحَصَلَتْ النِّيَّةُ غَيْرُ مُخْلَصَةٍ لِلْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعَادَهَا لَمْ يُخْلِصْ نِيَّتَهُ فِي إعَادَتِهِ لِلْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَنَّهَا صَلَاتُهُ إنْ كَانَ هَذَا الثَّوْبُ هُوَ الطَّاهِرَ.
وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا عَلَى أَنَّهَا فَرْضُهُ فَيَتَحَرَّى صَلَاتَهُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَصَلَّى بِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِنَجَاسَتِهِ لَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ثُمَّ إنْ وَجَدَ فِي الْوَقْتِ ثَوْبًا طَاهِرًا أَعَادَ اسْتِحْبَابًا انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّظَرِ فِيمَا إذَا صَلَّى بِأَحَدِهِمَا ثُمَّ أَعَادَ فِي الْآخَرِ يَأْتِي نَحْوُهُ لِابْنِ رُشْدٍ فِي اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي وَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ غَازِيٍّ عَنْ سَمَاعِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ حَسَنٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ يُصَلِّي بِأَحَدِهِمَا أَيْ بَعْدَ أَنْ يَتَحَرَّى وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يُجِيزُ لَهُ الصَّلَاةَ فِي أَحَدِهِمَا بِلَا تَحَرٍّ مَعَ إمْكَانِ التَّحَرِّي اللَّهُمَّ إلَّا إذَا تَحَرَّى أَيْ اجْتَهَدَ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْقَوْلِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ إنْ وَجَدَ ثَوْبًا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ غَازِيٍّ إذْ هُوَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُرَجِّحُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنِ هَارُونَ أَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا هُوَ مَعَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّوْبَيْنِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِفُرُوقٍ ضَعِيفَةٍ أَحْسَنُهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَأَصْلُهُ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ الطَّهَارَةُ عَلَى انْفِرَادِهِ فَيَسْتَنِدُ إلَى أَصْلٍ، وَلَا كَذَلِكَ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ قَدْ بَطَلَ لِتَحَقُّقِ حُصُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هَكَذَا قَالُوا وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَلَوْ فَصَلَ هَذَا الثَّوْبَ نِصْفَيْنِ بَقِيَ وُجُوبُ الْغَسْلِ عَلَى مَا كَانَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقَسْمُ فِي مَحَلِّ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَجِسًا وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُمَّيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي فِيهِمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ: وَلَوْ فَصَلَهُمَا جَازَ لَهُ التَّحَرِّي إجْمَاعًا يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي فِي الثَّوْبَيْنِ انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ فِيمَا إذَا قَسَمَ الثَّوْبَ: فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَسَمَ فِي مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَجَاسَةٌ بَلْ النَّجَاسَةُ بَعِيدَةٌ مِنْهُ لَكَانَ مِثْلَ أَحَدِ الْكُمَّيْنِ انْتَهَى.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّحَرِّي فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لِثُبُوتِ النَّضْحِ فِيمَا شَكَّ فِي وُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَالْيَقِينُ وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ غَيْرُ مَوْجُودَيْنِ فِي الثَّوْبَيْنِ.
(قُلْتُ:) وَإِذَا مَشَيْنَا عَلَى مَا قَالَهُ سَنَدٌ وَغَيْرُهُ لَمْ يَحْتَجْ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَصَدَّرَ صَاحِبُ الشَّامِلِ بِالْقَوْلِ
بِالتَّحَرِّي ثُمَّ قَالَ وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) إذَا قُلْنَا لَا يَتَحَرَّى إلَّا مَعَ الضَّرُورَةِ فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُتَيَمِّمِ فَالْآيِسُ يَتَحَرَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالرَّاجِي فِي آخِرِهِ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي وَسَطِهِ أَوْ يُقَالُ لَا يُصَلِّي بِالتَّحَرِّي إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ. تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الْجَمْعِ، وَفِي كَلَامِهِ مَيْلٌ إلَى الثَّانِي قَالَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ بَدَلٌ عَنْ طَهَارَةٍ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ لَا بَدَلَ لَهَا فَيُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ ثُمَّ قَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَلٍّ بِالنَّجَاسَةِ بَلْ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا انْتَهَى.
(قُلْتُ:) الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَحَرَّى إلَّا مَعَ الضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ سَنَدٌ وَغَيْرُهُ وَأَنَّهُ يَفْصِلُ فِيهِ كَالتَّيَمُّمِ وَأَنَّهُ إنْ وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا، أَوْ مَا يَغْسِلُ بِهِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ كَمَا قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) إذَا قُلْنَا بِالتَّحَرِّي مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا غَسْلُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا حَكَمَ اجْتِهَادُهُ بِأَنَّهُ نَجِسٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا إذَا لَبِسَهُمَا وَصَلَّى بِهِمَا قَالَ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَهُوَ الَّذِي غَسَلَهُ، وَالْآخَرَ طَاهِرٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كَثَوْبٍ وَاحِدٍ بَعْضُهُ نَجِسٌ وَبَعْضُهُ طَاهِرٌ، قَالَ: وَهَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ لَا يَكُونُ الثَّوْبَانِ ثَوْبًا، وَلَا الثَّوْبُ ثَوْبَيْنِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) لَا اعْتِبَارَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْعَدَدِ عِنْدَنَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي عَيْنِهَا إزَالَةُ الْعَيْنِ، وَفِي حُكْمِهَا إصَابَةُ الْمَاءِ الْمَحَلَّ وَاسْتَحَبَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ثَلَاثَ غَسَلَاتٍ لِحَدِيثِ الْقَائِمِ مِنْ النَّوْمِ وَأَوْجَبَ ابْنُ حَنْبَلٍ التَّسْبِيعَ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ إلَّا الْأَرْضَ فَوَاحِدَةٌ لِحَدِيثِ بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ.
ص (بِطَهُورٍ مُنْفَصِلٍ كَذَلِكَ)
ش: هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَغْسِلُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَحَلَّ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ بِشَرْطِ أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَاءُ عَنْ الْمَحَلِّ طَهُورًا بَاقِيًا عَلَى صِفَتِهِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الْحَدَثَ وَحُكْمَ الْخَبَثِ يُرْفَعَانِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ الطَّهُورُ فَلِمَ أَعَادَهُ فَالْجَوَابُ إنَّمَا أَعَادَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ انْفِصَالُهُ كَذَلِكَ أَيْ طَهُورًا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ يُرْفَعُ الْحَدَثُ وَحُكْمُ الْخَبَثِ أَنَّ سِيَاقَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ؛ لِأَنَّهُ كَالْحَدِّ لِمَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ وَحُكْمُ الْخَبَثِ، وَكَذَا يُقَالُ هُنَا وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَعْنِي أَنَّ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْمَاءِ الطَّهُورِ وَذَكَرَ ابْنُ بَشِيرٍ وَتَابِعُوهُ قَوْلًا أَنَّهَا تُزَالُ بِكُلِّ قُلَاعٍ كَالْخَلِّ وَإِنَّمَا حُكِيَ فِي النَّوَادِرِ الْخِلَافُ فِي الْمَاءِ الْمُضَافِ قَالَ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو الْفَرَجِ: اُخْتُلِفَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الْمُضَافِ فَقِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا يُطَهِّرُهُ إلَّا الْمَاءُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الصَّوَابُ وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ اللَّخْمِيَّ ذَكَرَ خِلَافًا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ قَالَ وَأَرَاهُ إنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ إذَا بَصَقَ دَمًا ثُمَّ بَصَقَ حَتَّى زَالَ إنَّهُ يَطْهُرُ وَرُدَّ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ حَبِيبٍ إنَّمَا اغْتَفَرَهُ لِيَسَارَتِهِ لِاشْتِرَاطِهِ عَدَمَ تَفَاحُشِهِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ قُلْتُ: بَلْ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي فِي مَسْحِ السَّيْفِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ لَوْ جَفَّفَتْ الشَّمْسُ مَوْضِعَ بَوْلٍ لَمْ يَطْهُرْ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَا يَكْفِي فَرْكُ الْمَنِيِّ قَالَ فِي النَّوَادِرِ وَالْفَرْكُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ النَّارُ لَا تُطَهِّرُ عَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ انْفَصَلَ الْمَاءُ مُتَغَيِّرًا فَالْمَحَلُّ نَجِسٌ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَغُسَالَتُهَا أَيْ النَّجَاسَةِ مُتَغَيِّرَةٌ نَجِسَةٌ ابْنُ الْعَرَبِيِّ كَمَغْسُولِهَا، وَغَيْرُ مُتَغَيِّرَةٍ قَالُوا: طَاهِرَةٌ كَمَغْسُولِهَا اهـ.
ثُمَّ بَحَثَ فِي كَوْنِ الْغُسَالَةِ إذَا لَمْ تَتَغَيَّرْ طَاهِرَةً وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ هَارُونَ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ نَجِسَةٌ وَغَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ طَاهِرَةٌ: وَلَا يَضُرُّ بَلَلُهَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْمُنْفَصِلِ يَعْنِي مَا غُسِلَ بِهِ لِنَجَاسَةٍ إذَا انْفَصَلَ مُتَغَيِّرًا فَهُوَ وَالْمَحَلُّ نَجِسَانِ وَإِنْ انْفَصَلَ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ فَهُمَا طَاهِرَانِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ اُسْتُدِلَّ بِالتَّغَيُّرِ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ جُزْءُ الْبَاقِي فِي الثَّوْبِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّرَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ وَعُلِمَ أَنَّ الثَّوْبَ لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرُ مُتَغَيِّرَةٍ وَعُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ انْفَصَلَتْ عَنْ الثَّوْبِ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ قَدْ يَكُونُ التَّغَيُّرُ
مِنْ أَوْسَاخٍ فِي الثَّوْبِ مُتَكَاثِفَةٍ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْحَالِ فَتَأَمَّلْهُ. قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ قُلْتُ: الصَّوَابُ التَّنْجِيسُ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَهَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ بَقَاءِ الْمَحَلِّ إذْ يَبْعُدُ أَنْ تَخْرُجَ النَّجَاسَةُ وَيَبْقَى الْوَسَخُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ صَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَلَا يَخْرُجُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِخُرُوجِ الْآخَرِ اهـ.
(قُلْتُ:) مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ غَيْرُ ظَاهِرٍ إذَا زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ وَطَعْمُهَا وَلَوْنُهَا وَرِيحُهَا، أَوْ زَالَ الطَّعْمُ وَعَسُرَ اللَّوْنُ وَالرِّيحُ وَتَحَقَّقَ أَنَّ التَّغَيُّرَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَوْسَاخِ أَمَّا إنْ كَانَ التَّغَيُّرُ مِنْ صِبَاغٍ الثَّوْبِ كَالْمَصْبُوغِ بِالنِّيلِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِ الصَّبْغِ، وَقَدْ قَالَ الْأَبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: إنَّ الْمَصْبُوغَ بِالنِّيلِ الْمُتَنَجِّسِ يَطْهُرُ بَعْدَ غَسْلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي غَسْلِهِ أَنْ يَنْقَطِعَ النِّيلُ اهـ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الشَّيْخُ رَوَى مُحَمَّدٌ إنْ طَهُرَ مَا صُبِغَ بِبَوْلٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. ابْنُ الْقَاسِمِ تَرْكُ الصَّبْغُ بِهِ أَحَبُّ إلَيَّ اهـ. وَمُرَادُهُ بِمَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ مَا جُعِلَ الْبَوْلُ فِي صِبَاغِهِ وَلَيْسَ الْبَوْلُ نَفْسُهُ صَبْغًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْإِكْمَالِ عَنْ مَالِكٍ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ خِلَافًا فَرُوِيَ عَنْهُ تُغْسَلُ وَتُسْتَعْمَلُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا طُبِخَ فِيهَا الْمَاءُ وَغُسِلَتْ طَهُرَتْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا تُكْسَرُ وَتُشَقُّ الظُّرُوفُ فَقِيلَ: عُقُوبَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ وَقِيلَ إنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّهَا تَغُوصُ فِيهَا قَالَ الْأَبِيُّ: وَاخْتَارَ شَيْخُنَا يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ لِلْغَوْصِ وَالْتَزَمَ عَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صُبِغَ بِهِ ثَوْبٌ لَمْ يَطْهُرْ فَعُورِضَ بِمَا صُبِغَ بِالْوَرْجَلَةِ. فَأَجَابَ بِأَنَّ الْوَرْجَلَةَ مُتَنَجِّسَةٌ لَا نَجِسَةُ الْعَيْنِ قَالَ الْأَبِيُّ وَالظَّاهِرُ طَهَارَةُ إنَاءِ الْخَمْرِ إذَا غُسِلَ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ بَقَاءَ اللَّوْنِ لَا يَضُرُّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَصِلُ إلَى مَا يَصِلُ إلَيْهِ الْخَمْرُ، وَكَذَا أَفْتَى الشَّيْخُ يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ بِأَنَّ أَلْوَاحَ الْبَتَّاتِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْقَفَ بِهَا الْمَسْجِدَ قَالَ. وَأَمَّا الْأَقْبَابُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْهَا فَمَاؤُهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ اهـ.
ص (وَلَا يَلْزَمُ عَصْرُهُ)
ش: يَعْنِي أَنَّ مَحَلَّ النَّجَسِ إذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ وَانْفَصَلَ الْمَاءُ عَنْ الْمَحَلِّ طَهُورًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَصْرُهُ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ انْفَصَلَ طَهُورًا، وَالْمَاءُ الْبَاقِي فِي الْمَحَلِّ كَالْمُنْفَصِلِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالُوا لَا يَطْهُرُ الثَّوْبُ حَتَّى يُعْصَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (مَعَ زَوَالِ طَعْمِهِ لَا لَوْنٍ وَرِيحٍ عَسِرَا)
ش: قَوْلُهُ مَعَ مُتَعَلِّقٌ بِيَطْهُرُ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، وَأَجَازَ الْبِسَاطِيُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَلْزَمُ عَصْرُهُ وَهُوَ بَعِيدٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَحَلَّ النَّجَسِ يَطْهُرُ بِكَذَا مَعَ زَوَالِ طَعْمِ النَّجَسِ فَإِنْ بَقِيَ طَعْمُ النَّجَسِ لَمْ يَطْهُرْ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ الطَّعْمِ، وَإِنْ عَسِرَ، وَقَوْلُهُ:" لَا لَوْنٍ وَرِيحٍ " مَعْطُوفَانِ عَلَى زَوَالٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ، لَا زَوَالَ لَوْنٍ وَرِيحٍ عَسِرَ زَوَالُهُمَا أَيْ يَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَسِ بِكَذَا بِشَرْطِ زَوَالِ طَعْمِ النَّجَسِ لَا بِشَرْطِ زَوَالِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ إذَا عَسِرَ، أَوْ إنْ لَمْ يَعْسُرْ زَوَالُهُمَا لَمْ يَطْهُرْ الْمَحَلُّ مَعَ بَقَاءِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبَقَاءُ اللَّوْنِ أَشَدُّ مِنْ بَقَاءِ الرِّيحِ قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ لَوْ بَقِيَ الطَّعْمُ بَعْدَ زَوَالِ الْجُرْمِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ فَالْمَحَلُّ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ دَلِيلٌ عَلَى بَقَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ اللَّوْنُ، أَوْ الرِّيحُ وَقَلْعُهُ مُتَيَسِّرٌ بِالْمَاءِ فَإِنْ تَعَسَّرَ قَلْعُهُ عُفِيَ عَنْهُ وَكَانَ الْمَحَلُّ طَاهِرًا وَنَقَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَزَادَ كَمَا يُعْفَى عَنْ الرَّائِحَةِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ إذَا عَسِرَ زَوَالُهَا مِنْ الْيَدِ أَوْ الْمَحَلِّ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) إنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ بَقَاءِ الطَّعْمِ فَإِنَّ ذَوْقَ النَّجَاسَةِ لَا يَجُوزُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْوُقُوعِ أَيْ لَوْ ذَاقَ فَوَجَدَ الطَّعْمَ لَمْ يَطْهُرْ وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً فِيمَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْفَمِ أَوْ دَمِيَتْ اللِّثَةُ قَالَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ زَادَ الْبُلْقِينِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّة، وَكَذَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ زَوَالُ الطَّعْمِ فَيَجُوزُ لَهُ ذَوْقُ الْمَحَلِّ اسْتِظْهَارًا وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) الْمُعْتَبَرُ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ هُوَ الْإِزَالَةُ بِالْمَاءِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْجَوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ: " وَقَلْعُهُ تَيَسَّرَ بِالْمَاءِ " فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ زَوَالُ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ بِغَيْرِ الْمَاءِ لَمْ يَجِبْ وَهُوَ كَذَلِكَ وَنَحْوُهُ فِي
كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَلَوْ أَمْكَنَ زَوَالُ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ بِأُشْنَانٍ، أَوْ صَابُونٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَفِي حَدِيثِ خَوْلَةَ بِنْتِ يَسَارٍ فِي الدَّمِ الْعَسِرِ الزَّوَالِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «يَكْفِيكَ الْمَاءُ، وَلَا يَضُرُّكَ أَثَرُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقِيسَ الرِّيحُ عَلَى اللَّوْنِ بِجَامِعِ الْمَشَقَّةِ.
(الثَّالِثُ) لَوْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَالرِّيحُ مَعًا فَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ذَلِكَ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
(الرَّابِعُ) إذَا عُسِرَ زَوَالُ اللَّوْنِ، أَوْ الرِّيحِ فَالْمَحَلُّ طَاهِرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ وَكَمَا فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ نَجَسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
(الْخَامِسُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَنْبَغِي عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ بِاغْتِفَارِهِ الرَّائِحَةَ فِي الْمَاءِ أَنْ يَغْتَفِرَهَا فِي الْإِزَالَةِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَعْسُرْ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّ دَلَالَةَ الشَّيْءِ عَلَى حُدُوثِ أَمْرٍ أَضْعَفُ مِنْهَا عَلَى بَقَائِهِ لِقُوَّتِهِ بِالِاسْتِصْحَابِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ.
ص (وَالْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ نَجِسَةٌ) . ش الْغُسَالَةُ هِيَ الْمَاءُ الَّذِي غُسِلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا إذَا كَانَتْ مُتَغَيِّرَةً وَسَوَاءٌ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالطَّعْمِ، أَوْ اللَّوْنِ أَوْ الرِّيحِ. ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَلَيْسَتْ كَحُكْمِ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِوَسَخٍ فِي الثَّوْبِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ تَغَيُّرُهَا بِصَبْغٍ فِي الثَّوْبِ وَبُولِغَ فِي غَسْلِ النَّجَاسَةِ حَتَّى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ التَّغَيُّرَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الصَّبْغِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِطَهَارَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّرَةً كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الثَّوْبِ حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُضَافًا بِغَيْرِ شَيْءٍ طَاهِرٍ وَغُسِلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ حَتَّى زَالَ عَيْنُهَا وَأَثَرُهَا وَخَرَجَ الْمَاءُ كَهَيْئَتِهِ الْأُولَى فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِطَهَارَةِ الْغُسَالَةِ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَرْعِ الْآتِي أَعْنِي قَوْلَهُ: وَلَوْ زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَتَنَجَّسْ أَصْلًا فِي مَحَلِّهَا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَحْكُمُوا بِنَجَاسَةِ الْبَلَلِ الَّذِي فِي الثَّوْبِ فَكَذَلِكَ الْبَلَلُ الْمُنْفَصِلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ انْفَصَلَ بَعْضُهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ وَإِلَّا كَانَ هَذَا مُعَارِضًا لِلْفَرْعِ الْآتِي فَتَأَمَّلْهُ.
وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْغُسَالَةَ الَّتِي لَمْ تَتَغَيَّرْ طَاهِرَةٌ وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَلَا شَكَّ فِي طَهَارَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً فَقَالُوا كَذَلِكَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ وُرُودِهَا عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ فَيُشَكِّلُ مَذْهَبَهُ مِنْ جُلِّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ قَالُوا طَاهِرَةً كَمَغْسُولِهَا.
(قُلْتُ:) يُرَدُّ بِانْتِقَالِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ لَهَا وَبِظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا مَا تَوَضَّأَ بِهِ لَا يُنَجِّسُ ثَوْبًا أَصَابَهُ إنْ كَانَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ طَاهِرًا وَعَلَى قَوْلِهِمْ الْتَزَمَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ لَوْ غُسِلَتْ قَطْرَةٌ مِنْ بَوْلٍ فِي بَعْضِ جَسَدٍ، أَوْ ثَوْبٍ وَشَاعَتْ غُسَالَتُهَا غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ لَمْ تَنْفَصِلْ عَنْهُ كَانَ طَاهِرًا اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْأَبِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَيَطْهُرُ مَحَلُّ النَّجَسِ.
(قُلْتُ:) اسْتِشْكَالُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنِ عَرَفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ لِلْغُسَالَةِ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ وَرَدَّهُ بَعْضُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ بِمَنْعِ انْتِقَالِهَا بَلْ نَقُولُ: الْمَاءُ قَهَرَهَا وَغَلَبَهَا فَكَأَنَّهُ أَعْدَمَهَا فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ هَارُونَ وَهَلْ يَجُوزُ رَفْعُ الْحَدَثِ وَزَوَالُ النَّجَاسَةِ بِهَذِهِ الْغُسَالَةِ؟ أَجْرَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى الْمَاءِ الْيَسِيرِ تَحُلُّهُ نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيلُ النَّجَسَ، وَلَا يُنَجِّسُ ثَوْبًا أَصَابَهُ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ اهـ.
(قُلْتُ:) ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِيهِ نَظَرٌ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الْغُسَالَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا خِلَافًا فِيمَا رَأَيْنَاهُ اهـ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ هَارُونَ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَفِيهِ نَظَرٌ اهـ.
(قُلْتُ:) قَالَ سَنَدٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُؤْرِ مَا لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مُحْدِثٌ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَيَتَيَمَّمُ لِطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ إذَا غَسَلَ
النَّجَاسَةَ رَجَعَ فَاسْتَعْمَلَ غُسَالَتَهَا فِي طَهَارَتِهِ اهـ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ تَغَيُّرِ أَحَدِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ لَا سِيَّمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ نَجِسَةً إذَا كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالنَّجَاسَةِ لَا بِالْأَوْسَاخِ.
ص (وَلَوْ زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَتَنَجَّسْ مُلَاقِي مَحَلِّهَا) . ش يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أُزِيلَتْ النَّجَاسَةُ بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إمَّا بِمَاءٍ مُضَافٍ، أَوْ بِشَيْءٍ قُلَاعٍ غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ وَقُلْنَا إنَّ ذَلِكَ لَا يُطَهِّرُ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ وَإِنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِهَا، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ ثُمَّ لَاقَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَهُوَ مَبْلُولٌ شَيْئًا، أَوْ لَاقَاهُ شَيْءٌ مَبْلُولٌ بَعْدَ أَنْ جَفَّ، أَوْ فِي حَالِ بَلَلِهِ فَهَلْ يَتَنَجَّسُ مَا لَاقَاهُ، أَوْ لَا يَتَنَجَّسُ قَوْلَانِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُمَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى عَدَمِ التَّنْجِيسِ زَادَ الْمُصَنِّفُ إذْ الْأَعْرَاضُ لَا تَنْتَقِلُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ اخْتَلَفَ الشَّيْخَانِ الْقَابِسِيُّ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ إذَا دَهَنَ الدَّلْوَ الْجَدِيدَ بِالزَّيْتِ وَاسْتَنْجَى مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ قَالَ الْقَابِسِيُّ وَيَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الثِّيَابِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ يُعِيدُ الِاسْتِنْجَاءَ دُونَ غَسْلِ ثِيَابِهِ اهـ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ زَوَالِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ بِمَاءٍ مُضَافٍ، أَوْ بِشَيْءٍ قُلَاعٍ قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَنَصُّهُ لَوْ زَالَ عَيْنُهَا بِمُضَافٍ أَوْ قُلَاعٍ فِي تَنْجِيسِ رَطْبٍ بِمَحَلِّهَا نَقْلًا عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَابِسِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ مُجَهِّلًا لِمُخَالِفِهِ وَالتُّونُسِيُّ مَعَ عَبْدِ الْحَقِّ وَمَعْرُوفٌ قَوْلُ الْقَابِسِيِّ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ وَابْنِ رُشْدٍ قَائِلًا اتِّفَاقًا فَعُزِيَ الْقَوْلُ بِالتَّنْجِيسِ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَابِسِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ وَعَزَا الْقَوْلَ بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ التُّونُسِيِّ وَلِلشَّيْخِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَلِابْنِ رُشْدٍ قَائِلًا اتِّفَاقًا وَلِعَبْدِ الْحَقِّ وَالْقَابِسِيِّ أَيْضًا فَيَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ مَعْرُوفُهُمَا الثَّانِي عَلَى مَا قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ: إنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَيْضًا وَمَا عَزَاهُ لِابْنِ رُشْدٍ اُنْظُرْهُ فِي سَمَاعِ مُوسَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ: وَمِثْلُ هَذَا مَا إذَا اسْتَجْمَرَ بِالْأَحْجَارِ ثُمَّ عَرِقَ الْمَحَلُّ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ الثِّيَابَ وَيُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ مَعْفُوٌّ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: لَا يُعْفَى عَنْهُ.
(قُلْتُ:) مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَفْوِ صَحِيحٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَعْفُوَّاتِ فِيمَا إذَا اتَّصَلَ بِالْمَعْفُوِّ مَائِعٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ هُنَا بَاقِيَةٌ، وَالْمَحَلُّ الَّذِي تُصِيبُهُ نَجِسٌ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَإِنْ شَكَّ فِي إصَابَتِهَا الثَّوْبَ وَجَبَ نَضْحُهُ)
ش: لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حُكْمِ مَا إذَا تَحَقَّقَ النَّجَاسَةَ وَتَحَقَّقَ إصَابَتَهَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى مَا إذَا شَكَّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يَشُكَّ فِي الْإِصَابَةِ أَيْ هَلْ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ أَمْ لَا.
وَالثَّانِي أَنْ يَتَحَقَّقَ الْإِصَابَةَ وَيَشُكَّ فِي الْمُصِيبِ هَلْ هُوَ نَجِسٌ أَمْ لَا.
وَالثَّالِثُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِمَا أَيْ فِي الْإِصَابَةِ، وَفِي نَجَاسَةِ الْمُصِيبِ وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَقْسَامِ الشَّكِّ قِسْمًا آخَرَ وَهُوَ إذَا تَحَقَّقَ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ وَشَكَّ فِي الْإِزَالَةِ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ مُتَيَقَّنَةٌ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهَا إلَّا بِيَقِينٍ وَبَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِالْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَالضَّمِيرُ فِي إصَابَتِهَا لِلنَّجَاسَةِ يَعْنِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا تَحَقَّقَ نَجَاسَةَ شَيْءٍ وَشَكَّ هَلْ أَصَابَ ذَلِكَ الشَّيْءُ النَّجَسُ ثَوْبَهُ، أَوْ لَمْ يُصِبْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْضَحَهُ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ النَّضْحِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَّفَقٌ فِيهِ عَلَى النَّضْحِ وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: يَلْزَمُ النَّضْحُ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ.
(قُلْتُ:) حَكَى ابْنُ رُشْدٍ فِي رَسْمِ الْبَزِّ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ابْنَ لُبَابَةَ ذَهَبَ إلَى غَسْلِ مَا شَكَّ فِيهِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَلَمْ يَرَ النَّضْحَ إلَّا مَعَ الْغَسْلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ يَعْنِي قَوْلَهُ اغْسِلْ ذَكَرَك وَأُنْثَيَيْك وَانْضَحْ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبِ وَلَعَلَّ ابْنَ بَشِيرٍ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلِهَذَا جَزَمَ بِنَفْيِ الْخِلَافِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ يَلْزَمُ النَّضْحُ بِلَا خِلَافٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ النَّضْحِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَقَدْ قَالَ سَنَدٌ: اُخْتُلِفَ فِي النَّضْحِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ
أَوْ مُسْتَحَبٌّ قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ شَيْئًا وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَتَحَصَّلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وُجُوبُ النَّضْحِ وَاسْتِحْبَابُهُ وَوُجُوبُ الْغَسْلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَشَى الْمُصَنِّفُ لِقَوْلِ سَنَدٍ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَدَلِيلُهُ أَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ بِنَضْحِ الْحَصِيرِ الَّذِي اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِثَ وَذَلِكَ لِحُصُولِ الشَّكِّ فِيهِ، وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ شَكَّ فِي ثَوْبِهِ هَلْ أَصَابَهُ مَنِيٌّ: اغْسِلْ مَا رَأَيْت وَانْضَحْ مَا لَمْ تَرَ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ مُسْتَدِلًّا عَلَى ثُبُوتِ النَّضْحِ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ.
فَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْجَمْعِ أَنَّ ابْنَ لُبَابَةَ يَقُولُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْغَسْلِ وَالنَّضْحِ فِيمَا شَكَّ فِيهِ فَإِنَّهُ قَالَ وَخَالَفَنَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَوَافَقَهُمَا ابْنُ لُبَابَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّضْحِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ فَالنَّضْحُ يَنْشُرُهَا اهـ. إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ ابْنَ لُبَابَةَ يُوَافِقُهُمَا فِي الْقَوْلِ بِعَدَمِ النَّضْحِ، وَإِنْ خَالَفَهُمَا فِي وُجُوبِ غَسْلِ مَا شَكَّ فِيهِ، وَتَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ الْمَسْأَلَةَ بِالثَّوْبِ احْتِرَازٌ مِنْ الْجَسَدِ فَإِنَّهُ سَيَذْكُرُ حُكْمَهُ، وَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَاكَ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَمَثَّلَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا شَكَّ الْجُنُبُ، أَوْ الْحَائِضُ هَلْ أَصَابَ ثَوْبَهُمَا شَيْءٌ أَمْ لَا؟ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَهَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا يَخْفَى أَثَرُ الدَّمِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ فَلَا أَثَرَ لِلِاحْتِمَالِ وَهُوَ وَهْمٌ قَالَ مَعْنَاهُ فِي الْجَلَّابِ اهـ.
وَنَحْوُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ فِيمَنْ تَرَكَ النَّضْحَ، وَكَذَا لَوْ نَامَ فِي ثَوْبِهِ وَرَأَى فِي جِهَةٍ مِنْهُ بَلَلًا وَشَكَّ فِي الْأُخْرَى هَلْ أَصَابَهَا شَيْءٌ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَغْسِلُ مَا رَأَى وَيَنْضَحُ مَا لَمْ يَرَ.
(تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي التَّوْضِيحِ أَنَّ النَّضْحَ إنَّمَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ، وَالشَّكُّ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فَأَمَّا الْوَهْمُ فَلَا أَثَرَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ. وَأَمَّا الظَّنُّ فَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ إلَّا صَاحِبَ النَّوَادِرِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ النَّضْحَ لِلشَّكِّ، وَكَذَلِكَ إنْ ظَنَّ أَنَّ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً فَلْيَرُشَّهُ اهـ.
(قُلْتُ:) وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَوِّلْ فِي أَمْرِ النَّجَاسَةِ إلَّا عَلَى الْمُحَقَّقِ فَأَجَازَ الصَّلَاةَ بِالنِّعَالِ الَّتِي يُمْشَى بِهَا فِي الطُّرُقَاتِ، وَفِي مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ وَقَبِلَهُ ابْنُ رَاشِدٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ. وَالْمُزِيلُ لِلْوَسْوَاسِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ خُلِقَتْ طَاهِرَةً بِيَقِينٍ فَمَا لَا يُشَاهَدُ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَلَا يَعْلَمُهَا يَقِينًا يُصَلِّي بِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَصَّلَ بِالِاشْتِبَاهِ إلَى تَقْدِيرِ النَّجَاسَاتِ اهـ. فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مُنَاطَةٌ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَفِي رَسْمِ نَذْرٍ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى وَسَأَلْتُهُ عَنْ جِدَارِ الْمِرْحَاضِ يَكُونُ نَدِيًّا يُلْصِقُ بِهِ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ قَالَ أَمَّا إنْ كَانَ نَدَاهُ شَبِيهًا بِالْغُبَارِ فَلْيَرُشَّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَلَلًا أَوْ شَبِيهًا بِهِ فَلْيَغْسِلْهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ إذَا كَانَ شَبِيهًا بِالْغُبَارِ فَلَا يُوقَنُ بِتَعَلُّقِهِ بِثَوْبِهِ فَكَذَلِكَ قَالَ يَنْضَحُهُ؛ لِأَنَّ النَّضْحَ طُهُورٌ لِمَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ مِنْ الثِّيَابِ وَإِنْ كَانَ بَلَلًا، أَوْ شَبِيهًا بِالْبَلَلِ فَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِثَوْبِهِ اهـ. وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُ النَّجَاسَةِ لِلثَّوْبِ وَجَبَ الْغَسْلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ نَدَاوَةُ الْجِدَارِ شَبِيهَةً بِالْبَلَلِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُهَا لِلثَّوْبِ، وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ أَيْضًا قَالَ عَلِيٌّ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ بَالَ فِي رِيحٍ فَظَنَّ أَنَّ الرِّيحَ رَدَّتْ عَلَيْهِ مِنْ بَوْلِهِ فَلْيَغْسِلْهُ إنْ أَيْقَنَ بِذَلِكَ وَلَا يَنْضَحْهُ اهـ. فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَإِنْ تَرَكَ أَعَادَ الصَّلَاةَ كَالْغَسْلِ) . ش يَعْنِي إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ النَّضْحِ فَتَرَكَهُ وَصَلَّى فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ كَمَا يُعِيدُهَا مَنْ تَرَكَ غَسْلَ النَّجَاسَةِ الْمُحَقَّقَةِ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا، أَوْ جَاهِلًا أَعَادَ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، أَوْ عَاجِزًا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ فِي الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ، وَفِي الْعِشَاءَيْنِ لِلْفَجْرِ، وَفِي الصُّبْحِ لِلطُّلُوعِ وَعَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ هَذَا الْقَوْلُ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ وَعَزَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ لِابْنِ الْقَاسِمِ فَقَطْ وَعَزَاهُ ابْنُ مُعَلَّى لِابْنِ الْقَاسِمِ وَعِيسَى وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنِ عَرَفَةَ
أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لِابْنِ حَبِيبٍ وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا وَبِهِ صَدَّرَ فِي الشَّامِلِ وَعَزَاهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَعَزَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَلَعَلَّ ابْنِ الْقَاسِمِ لَهُ قَوْلَانِ، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا إعَادَةَ أَصْلًا وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ بِأَنَّ النَّضْحَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمْ انْتَهَى.
وَرَدَّهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ النَّضْحَ وَاجِبٌ وَلَكِنَّهُ فَرْضٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَيْسَ إلَّا لِلصَّلَاةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِيهَا كَالْغَسْلِ بَلْ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: تَنْبِيهٌ: قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ الْمُتَقَدِّمُ يُعِيدُ الْجَاهِلُ وَالْعَامِدُ أَبَدًا بِخِلَافِ النَّاسِي مُقَيَّدٌ فِي الْوَاضِحَةِ بِمَا إذَا شَكَّ هَلْ أَصَابَ ثَوْبَهُ شَيْءٌ مِنْ جَنَابَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا مَنْ وَجَدَ أَثَرَ الِاحْتِلَامِ فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ مَا رَأَى وَجَهِلَ أَنْ يَنْضَحَ مَا لَمْ يَرَ وَصَلَّى فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا صَلَّى وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْضَحَهُ لِمَا يَسْتَقْبِلُ قَالَ وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ انْتَهَى.
فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَابْنِ الْحَاجِبِ مُنَاقَشَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ ثُمَّ إنَّ ابْنَ حَبِيبٍ قَيَّدَهُ، وَالْمُصَنِّفُ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَطْلَقَاهُ فَتَأَمَّلْهُ.
(الثَّانِي) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنُ فَرْحُونٍ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ بِنَفْيِ الْإِعَادَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَا إذَا احْتَلَمَ وَغَسَلَ مَا رَأَى وَلَمْ يَنْضَحْ مَا لَمْ يَرَهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ الْمَازِرِيِّ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْإِعَادَةِ بِتَرْكِ النَّجَاسَةِ وَأَنَّ فِي الْمَذْهَبِ قَوْلًا بِالْإِعَادَةِ أَبَدًا مَعَ النِّسْيَانِ وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي النَّضْحِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِانْخِفَاضِ رُتْبَتِهِ عَنْ الْغَسْلِ.
(الرَّابِعُ) لَوْ تَرَكَ النَّضْحَ وَغَسَلَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَالَ ابْنُ هَارُونَ وَيَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ أُمِرَ بِمَسْحِ رَأْسِهِ، أَوْ خُفَّيْهِ فَغَسَلَ ذَلِكَ وَالْأَقْيَسُ الْإِجْزَاءُ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّخْرِيجِ نَظَرٌ قَالَ الْبِسَاطِيُّ، وَلَا أَظُنُّهُمْ يَخْتَلِفُونَ هُنَا فِي الْإِجْزَاءِ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ لِلْبَاجِيِّ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ.
(قُلْتُ:) ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الطِّرَازِ بِالْإِجْزَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي بَابِ تَقْلِيمِ ظُفُرِ الْمُحْرِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(الْخَامِسُ) إذَا تَرَكَ نَضْحَ الْجَسَدِ وَصَلَّى فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الثَّوْبِ ذَكَرَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِهِ.
ص (وَهُوَ رَشٌّ بِالْيَدِ)
ش: يَعْنِي أَنَّ النَّضْحَ هُوَ الرَّشُّ بِالْيَدِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ هُوَ غَمْرُ الْمَحَلِّ بِالْمَاءِ قَالَ الْبَاجِيُّ وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَيَتَعَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا بِالْقَرِينَةِ فَفِي مَحَلِّ الشَّكِّ يُحْمَلُ عَلَى الرَّشِّ وَفِي التَّحْقِيقِ عَلَى الصَّبِّ فَيَرُشُّ الْجِهَةَ الَّتِي شَكَّ فِيهَا، وَلَا يَرُشُّ جِهَتَيْ الثَّوْبِ إلَّا أَنْ يَشُكَّ فِيهِمَا مَعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ، وَفِي صِفَتِهِ طُرُقٌ عِيسَى بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ ابْنِ سَحْنُونٍ رَشُّ ظَاهِرِ مَا شَكَّ فِيهِ وَبَاطِنَهُ. عِيَاضٌ هَذَا فِيمَا شَكَّ فِي نَاحِيَتِهِ وَإِلَّا فَاَلَّتِي شَكَّ فِي نَيْلِهَا فَقَطْ. الْقَابِسِيُّ رَشُّ مَوْضِعِ الشَّكِّ بِيَدِهِ رَشَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يَعُمَّهُ، وَإِنْ رَشَّهُ بِفِيهِ أَجْزَأَهُ. عِيَاضٌ لَعَلَّهُ بَعْدَ غَسْلِ فِيهِ مِنْ بُصَاقِهِ وَإِلَّا كَانَ مُضَافًا انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا قَالَهُ عِيَاضٌ فِي رَشِّ الْجِهَتَيْنِ، وَفِي الرَّشِّ بِالْفَمِ تَفْسِيرٌ لَا خِلَافٌ، وَكَذَا مَا قَالَهُ الْقَابِسِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْمِيمُ الْمَحَلِّ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ الْآتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ فِي النَّضْحِ وَأَنَّهُ إنْ رَشَّهُ بِفِيهِ بَعْدَ تَنْظِيفِهِ مِنْ الْبُصَاقِ أَجْزَأَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَالشَّارِحُ فِي شَرْحِهِ وَشَامِلِهِ الْقَوْلَ بِالرَّشِّ بِالْفَمِ وَلَمْ يُقَيِّدَاهُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ عِيَاضٌ وَجَعَلَاهُ خِلَافَ الْمَشْهُورِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ص (بِلَا نِيَّةٍ)
ش: يَعْنِي أَنَّ النَّضْحَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ فَلَوْ رَشَّ الْمَحَلَّ مَطَرٌ وَنَحْوُهُ كَفَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجَاسَةٌ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ عَرَفَةَ عَلَى قَوْلِهِ إنْ كَانَتْ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ
النَّضْحِ تَعَبُّدًا قَالَ: لِأَنَّ حُكْمَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ غَلَبَةُ الْمَاءِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِمْ الْغُسَالَةُ الْغَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةُ طَاهِرَةٌ وَمَاءُ النَّضْحِ غَالِبٌ لِقِلَّةِ النَّجَاسَةِ إنْ كَانَتْ.
قَالَ فَإِنْ رَدَّ بِأَنَّ الرَّشَّ غَيْرُ مَلْزُومٍ لِوُصُولِ الْمَاءِ النَّجَاسَةَ لِكَوْنِهِ رَشًّا لَا يَعُمُّ سَطْحَ الْمَحَلِّ الْمَشْكُوكِ فِيهِ بِلَا غَلَبَةٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ كَثْرَةَ نُقَطِ الْمَاءِ عَلَى سَطْحِهِ فَقَطْ مَظِنَّةٌ لِنَيْلِ نَجَاسَتِهِ إنْ كَانَتْ وَالظَّنُّ كَافٍ انْتَهَى.
وَقِيلَ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ لِظُهُورِ التَّعَبُّدِ فِيهِ إذْ هُوَ تَكْثِيرٌ لِلنَّجَاسَةِ لَا إزَالَةٌ لَهَا، وَتَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَقَدْ يُقَالُ إنَّ التَّعَبُّدَ فِيمَا تَقَعُ بِهِ الْإِزَالَةُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلنِّيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَصَرُوا الْإِزَالَةَ عَلَى الْمَاءِ فِي الْمَشْهُورِ؟ وَذَلِكَ تَعَبُّدٌ لَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ مَعَهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ فَكَمَا لَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي الْغُسْلِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهِ فَكَذَلِكَ فِي النَّضْحِ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ شَاسٍ: وَالْقَوْلَانِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ، وَعَزَا ابْنُ عَرَفَةَ الْأَوَّلَ لِابْنِ مُحْرِزٍ وَالثَّانِي لِبَعْضِهِمْ، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَالَ فِي اللُّبَابِ: وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَدَمُ افْتِقَارِهِ لِلنِّيَّةِ.
(تَنْبِيهٌ) إذَا قُلْنَا فِي الْجَسَدِ إنَّهُ يُنْضَحُ، أَوْ فِي الْأَرْضِ كَمَا سَيَأْتِي فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (لَا إنْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمُصِيبِ)
ش: هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهِ الشَّكِّ وَهُوَ مَا إذَا تَحَقَّقَ الْإِصَابَةَ وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ النَّضْحِ، وَقَالَ الْبَاجِيّ إنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ: فِيهِ النَّضْحُ رَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ وَعَزَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاسْتَظْهَرَهُ بَعْضُهُمْ قِيَاسًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِجَامِعِ حُصُولِ الشَّكِّ وَأَيْضًا فَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ طَهُورٌ لِكُلِّ مَا شَكَّ فِيهِ وَاسْتَضْعَفَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ النَّضْحَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ هُنَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّ أَكْثَرَ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَغَيْرِهَا طَاهِرَةٌ فَإِلْحَاقُ هَذَا الْمُصِيبِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ أَوْلَى وَلِأَنَّ هَذَا الْمُصِيبَ إنْ رُجِعَ فِيهِ إلَى الْأَصْلِ فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ، وَإِنْ رُجِعَ إلَى الْغَالِبِ فَالْغَالِبُ كَذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ لَا إنْ شَكَّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَإِنْ شَكَّ، وَقَالَ الْبِسَاطِيُّ مَعْطُوفٌ عَلَى وَجَبَ مُقَدَّرٌ بِشَرْطِهِ أَيْ، وَلَا يَجِبُ نَضْحُهُ إنْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمُصِيبِ ثُمَّ قَالَ (فَإِنْ قُلْتَ:) مَا مَعْنَى مُقَدَّرٌ بِشَرْطِهِ (قُلْتُ:) لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ جَعْلُ الْمُتَأَخِّرِ شَرْطًا (فَإِنْ قُلْتَ:) عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ.
(قُلْتُ:) نَعَمْ حَالَ التَّلَفُّظِ بِهِ وَلَيْسَ كُلُّ مُقَدَّرٍ يَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا إنْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمُصِيبِ أَيْ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَةُ الْمُصِيبِ أَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ وَشَكَّ هَلْ أُزِيلَتْ عَنْهُ النَّجَاسَةُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْ لَا كَالثَّوْبِ مَثَلًا، أَوْ الْجَسَدِ الَّذِي تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ وَشَكَّ فِي إزَالَتِهَا عَنْهُ ثُمَّ أَصَابَ غَيْرَهُ وَهُوَ رَطْبٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِمْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمُصِيبِ وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ شَكَّ فِي إصَابَتِهَا لِثَوْبٍ وَجَبَ نَضْحُهُ، فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (أَوْ فِيهِمَا)
ش: هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَشُكَّ فِي الْإِصَابَةِ، وَفِي نَجَاسَةِ الْمُصِيبِ وَالنَّضْحُ سَاقِطٌ هُنَا اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَمَّا تَرَكَّبَ مِنْ وَجْهَيْنِ ضَعُفَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله هَذَا الْفَرْعَ تَتْمِيمًا لِلْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَاسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا قَبْلَهُ.
ص (وَهَلْ الْجَسَدُ كَالثَّوْبِ أَوْ يَجِبُ غَسْلُهُ خِلَافٌ) .
ش يَعْنِي أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الْجَسَدِ هَلْ هُوَ كَالثَّوْبِ فَإِذَا شَكَّ هَلْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ أَمْ لَا وَجَبَ نَضْحُهُ، أَوْ لَيْسَ هُوَ كَالثَّوْبِ بَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَ ابْنُ شَاسٍ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ هُوَ الْأَصَحُّ وَأُخِذَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ طَهُورٌ لِكُلِّ مَا شَكَّ فِيهِ وَعَزَاهُ ابْنُ رُشْدٍ لِابْنِ شَعْبَانَ وَضَعَّفَهُ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ مُقْتَضَى مَا فِي الْعُتْبِيَّةِ وَاخْتِصَارِ الْبَرَاذِعِيِّ وَعَزَاهُ عَبْدُ الْحَقِّ لِأَبِي عِمْرَانَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْمَذْهَبِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَجَعَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْمَذْهَبَ وَعَزَا مُقَابِلَهُ لِابْنِ شَعْبَانَ وَضَعَّفَهُ وَأُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَا يَغْسِلُ أُنْثَيَيْهِ مِنْ
الْمَذْيِ إلَّا أَنْ يَخْشَى إصَابَتَهُ إيَّاهُمَا، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ مُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي الْبَيَانِ أَنَّ الْمَذْهَبَ وُجُوبُ غَسْلِ الْجَسَدِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَأَصْلُ مَالِكٍ أَنَّ مَا شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ مِنْ الْأَبْدَانِ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ بِخِلَافِ الثِّيَابِ، وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ لِلشَّكِّ فِي نَجَاسَتِهَا، وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ أَنَّهُ يَنْضَحُ مَا شَكَّ فِيهِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْأَبْدَانِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) مَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ هُوَ فِي رَسْمِ الْبَزِّ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَزَادَ بَعْدَمَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ شَعْبَانَ: " وَهَذَا شُذُوذٌ " وَلَعَلَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ سَقَطَتْ مِنْ نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ وَإِلَّا لَذَكَرَهَا فَإِنَّهَا أَبْيَنُ فِي تَضْعِيفِ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ مِمَّا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَلِذَا عَزَا ابْنُ عَرَفَةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِنَقْلِ ابْنِ رُشْدٍ عَنْ شَاذِّ قَوْلِ ابْنِ شَعْبَانَ وَكَلَامُ الْعُتْبِيَّةِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ نَاجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هَذَا شَرْحُهَا: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ نَضْحِ الثَّوْبِ فَقَالَ: تَخْفِيفٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اغْسِلْ ذَكَرَكَ وَأُنْثَيَيْكَ وَانْضَحْ» وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْضَحُ وَهُوَ حَسَنٌ وَتَخْفِيفٌ يُرِيدُ تَخْفِيفًا لِمَا شُكَّ فِيهِ فَإِنَّ ظَاهِرَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِي النَّضْحَ فِي الْجَسَدِ، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَغْسِلُ أُنْثَيَيْهِ مِنْ الْمَذْيِ إلَّا أَنْ يَخْشَى إصَابَتَهُ إيَّاهُمَا فَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ إذَا خَشَى إصَابَتَهُمَا يَغْسِلُهُمَا وَرَدَّ الْمَازِرِيُّ الْأَخْذَ بِأَنَّهُ تَعَلُّقٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ وَضَعَّفَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ الْأَخْذَ لِجَوَازِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا أَيْ لَكِنْ إنْ خَشِيَ إصَابَتَهُمَا وَجَبَ النَّضْحُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى إلَّا أَنْ يَخْشَى إصَابَتَهُمَا إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ إصَابَتَهُمَا، قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَلَا أَعْرِفُهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَسَنَدٌ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ الْغَسْلُ فِي الْجَسَدِ مَعَ الشَّكِّ وَفَرَّقَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّوْبِ بِأَنَّ النَّضْحَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَصِيرِ، وَفِي الثَّوْبِ وَلِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي غَسْلِ الْجَسَدِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ جَفَافُهُ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَإِنَّمَا قَالَا ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى خُصُوصِ الْجَسَدِ أَمَرَ بِالْغَسْلِ وَإِنَّمَا أُخِذَ النَّضْحُ فِيهِ مِنْ تَعْمِيمِهِ بِقَوْلِهِ هُوَ طَهُورٌ لِكُلِّ مَا شُكَّ فِيهِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْصِيصِ انْتَهَى.
بَلْ الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْخَاصَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ عَلَى ابْنِ شَاسٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ مُسَاوَاةُ الْجَسَدِ لِلثَّوْبِ بِمَا قَالَهُ سَنَدٌ وَعَبْدُ الْحَقِّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْلَ بِغَسْلِ الْجَسَدِ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ بِنَضْحِهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَذْيِ هُوَ الَّذِي فِي الْأُمَّهَاتِ وَاخْتَصَرَهَا الْبَرَاذِعِيُّ بِلَفْظِ إلَّا أَنْ يُصِيبَهَا مِنْهُ، وَاعْتَرَضَهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَقْتَضِي الْغَسْلَ مَعَ الشَّكِّ بِخِلَافِ لَفْظِ الْأُمَّهَاتِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ نَاجِي بِقَوْلِهِ: هُوَ مُقْتَضَى مَا فِي الْعُتْبِيَّةِ وَاخْتِصَارِ الْبَرَاذِعِيِّ.
(الثَّانِي) ذَكَرَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ ابْنَ شَعْبَانَ قَالَ يَغْسِلُ الْجَسَدَ وَهُوَ غَرِيبٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَهْمٌ.
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ نَاجِي اُخْتُلِفَ فِي الْبُقْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ لَا يَكْفِي النَّضْحُ فِيهَا بِاتِّفَاقٍ لِيُسْرِ الِانْتِقَالِ إلَى الْمُحَقَّقِ وَنَحْوُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّطِّيُّ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ ثُبُوتُ النَّضْحِ فِيهَا قَالَ وَمِثْلُهُ فِي قَوَاعِدِ عِيَاضٍ وَزَعَمَ التَّادَلِيُّ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ هُوَ ظَاهِرُ اسْتِدْلَالِ ابْنِ يُونُسَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّضْحِ بِنَضْحِهِ عليه الصلاة والسلام الْحَصِيرَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَصِيرُ كَالثَّوْبِ لِمَشَقَّةِ غَسْلِهَا انْتَهَى.
وَأَصْلُهُ لِابْنِ عَرَفَة فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا: وَالْبُقْعَةُ تُغْسَلُ اتِّفَاقًا لِيُسْرِ الِانْتِقَالِ إلَى مُحَقَّقٍ وَبَعْضُ شُيُوخِنَا الْفَاسِيِّينَ كَالْجَسَدِ وَنَقَلَهُ عَنْ قَوَاعِدِ عِيَاضٍ فَبَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِهِ هُوَ ابْنُ جَمَاعَةَ وَبَعْضُ شُيُوخِهِ هُوَ السَّطِّيُّ وَنَقَلَهُ الْمَشَذَّالِيُّ وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ نَاجِي ذَكَرَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَسَدِ وَنَقَلَ ابْنُ غَازِيٍّ عَنْ الشَّارْمَسَاحِيِّ أَنَّهَا تُغْسَلُ اتِّفَاقًا.
(قُلْتُ:) وَجَزَمَ الشَّيْبِيُّ فِي
شَرْحِ الرِّسَالَةِ بِمَا قَالَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ فَقَالَ: وَلَا يُجْزِئُ النَّضْحُ فِي الْأَرْضِ بِحَالٍ وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ الْبُقْعَةَ كَالْجَسَدِ وَأَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ قَوَاعِدِ عِيَاضٍ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهَا كَالْجَسَدِ أَنَّهَا تُنْضَحُ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى النَّضْحَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ فِي الْقَوَاعِدِ جَعَلَهَا مُخَالِفَةً لِلْجَسَدِ فَإِنَّهُ حَكَى فِي الْجَسَدِ الْخِلَافَ وَلَمْ يَحْكِ فِيهَا خِلَافًا، وَإِنْ أَرَادَ بِكَوْنِهَا كَالْجَسَدِ أَنَّ فِيهَا الْخِلَافَ كَمَا فِيهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقَوَاعِدِ، وَنَصُّهَا: الْمُزَالُ عَنْهُ النَّجَاسَةُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ جَسَدُ الْمُصَلِّي وَمَا هُوَ حَامِلٌ لَهُ مِنْ لِبَاسٍ وَخُفٍّ وَسَيْفٍ وَشِبْهِهِ وَمَا هُوَ مُصَلٍّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضٍ، أَوْ غَيْرِهَا فَالنَّضْحُ يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَا شَكَّ فِيهِ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَةٌ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا الْجَسَدَ فَقِيلَ: يُنْضَحُ، وَقِيلَ: يُغْسَلُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ انْتَهَى.
وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ وَنَحْوَهُمَا يُنْضَحَانِ إذَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِمَا وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ، وَقَالَ الْمَشَذَّالِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ عَنْ الْوَانُّوغِيِّ فِي قَوْلِهِ " وَهُوَ طَهُورٌ لِكُلِّ مَا شُكَّ فِيهِ ": لَا خَفَاءَ فِي عَدَمِ صِدْقِ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ لِمَنْ شَذَّا طَرَفًا مِنْ التَّحْصِيلِ لِنَقْضِهَا بِالْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ، قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ: أَمَّا الْأَرْضُ فَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمَطْعُومَاتُ فَقَدْ تَرَدَّدَ فِيهَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ شُيُوخِ شُيُوخِنَا انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ.
(قُلْتُ:) وَلَا شَكَّ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّا لَوْ تَحَقَّقْنَا الْإِصَابَةَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ، وَلَا لَوْنُهُ، وَلَا رِيحُهُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا كَآنِيَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ هَذَا مَعَ التَّحْقِيقِ وَالظَّاهِرُ انْتِفَاءُ الْكَرَاهَةِ مَعَ الشَّكِّ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا: إنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِذَلِكَ الْمَاءُ، وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى ذَلِكَ بِكَرَاهَةِ سُؤْرِ مَا لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَتِنَا إلَّا الشَّكُّ إذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ وَشُكَّ فِي مُغَيِّرِهِ هَلْ يَضُرُّ أَمْ لَا فَإِنَّهُ طَهُورٌ. وَأَمَّا الْمَطْعُومَاتُ فَالْأَمْرُ فِيهَا أَظْهَرُ، وَقَدْ قَالُوا فِي سُؤْرِ مَا لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ مِنْ الطَّعَامِ إنَّهُ لَا يُطْرَحُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ الشَّكُّ وَالطَّعَامُ لَا يُطْرَحُ بِالشَّكِّ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) إذَا تَحَقَّقَتْ الْإِصَابَةُ لِلْجَسَدِ وَشُكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمُصِيبِ لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصَّا صَرِيحًا وَالظَّاهِرُ أَنَّا إنْ قُلْنَا إنَّهُ كَالثَّوْبِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ قُلْنَا حُكْمُهُ الْغَسْلُ فَإِنْ مَشَيْنَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ نَضْحٌ فَكَذَلِكَ الْجَسَدُ، وَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ النَّضْحُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ غَسْلُ الْجَسَدِ، فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَإِنْ اشْتَبَهَ طَهُورٌ بِمُتَنَجِّسٍ، أَوْ نَجِسٍ صَلَّى بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ إنَاءٍ)
ش: هَذِهِ مَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي وَالْخِلَافُ فِيهَا شَهِيرٌ كَثِيرٌ وَالْأَوَانِي جَمْعُ آنِيَةٍ وَآنِيَةٌ جَمْعُ إنَاءٍ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ صُورَتَيْنِ: الْأُولَى: إنْ اشْتَبَهَ الطَّهُورُ بِالْمُتَنَجِّسِ وَذَلِكَ عَلَى أَوْجُهٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَوَانِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ تُغَيِّرُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ تَغَيُّرَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْأَوَانِي جَمِيعِهَا بِقَرَارِهِ، أَوْ بِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، أَوْ تَكُونُ الْأَوَانِي مُتَغَيِّرَةً تَغَيُّرًا وَاحِدًا بَعْضُهَا بِشَيْءٍ طَاهِرٍ لَمْ يَسْلُبْهُ التَّطْهِيرَ وَبَعْضُهَا بِشَيْءِ نَجِسٍ كَانَ مُتَغَيِّرًا، أَحَدُهُمَا بِتُرَابٍ طَاهِرٍ طُرِحَ فِيهِ وَالْآخَرُ بِتُرَابٍ نَجِسٍ طُرِحَ فِيهِ، أَوْ يَكُونَ الْمَاءُ يَسِيرًا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَبِهَ الطَّهُورُ بِالنَّجِسِ كَمَا إذَا اشْتَبَهَ الْمَاءُ بِالْبَوْلِ الْمَقْطُوعِ الرَّائِحَةِ الْمُوَافِقِ لِصِفَةِ الْمَاءِ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا تَعَدُّدَ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ لَمْ يَتَعَرَّضْ ابْنُ الْحَاجِبِ لِكَيْفِيَّةِ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ إذْ لَا يَلْزَمُ الْعَالِمَ أَنْ يُبَيِّنَ صُورَةَ مَسْأَلَةٍ فِي جُزْئِيَّةٍ إلَّا بِحَسَبِ التَّبَرُّعِ وَتَقْرِيبِ الْبَيَانِ لَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْأَوَانِي يَنْبَغِي أَنْ لَا تُهْمَلَ مِنْ فَرْضِهَا فِي جُزْئِيَّةٍ، أَوْ أَكْثَرَ إنْ أَمْكَنَ لِاعْتِقَادِ بَعْضِهِمْ صِحَّةَ فَرْضِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ فَرْضُهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ أَنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ مَنْصُوصٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَخَرَّجَهَا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَلَى الْأُولَى وَرَأَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُنَا وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْ الْمَذْهَبِ اشْتِبَاهُ إنَاءِ بَوْلٍ كَمُتَنَجِّسٍ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الصُّورَتَيْنِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ إنَاءٍ يَعْنِي أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ يُصَلِّي ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْ آخَرَ وَيُصَلِّي يَفْعَلُ ذَلِكَ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَتْ الْأَوَانِي خَمْسَةً وَالنَّجِسُ مِنْهَا اثْنَانِ فَيَتَوَضَّأُ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا وَيُصَلِّي بِكُلِّ وُضُوءٍ صَلَاةً، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ ثَلَاثَةً تَوَضَّأَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْهَا وَصَلَّى بِكُلِّ وُضُوءٍ صَلَاةً، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ أَرْبَعَةً تَوَضَّأَ مِنْهَا جَمِيعَهَا وَصَلَّى، كَذَلِكَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ.
(وَحَاصِلُ) مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا عَلِمْتَ: الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَزَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ لِسَحْنُونٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ.
(الثَّانِي) كَالْأَوَّلِ بِزِيَادَةِ وَيَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَاءِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ الثَّانِي ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ قَالَ الْأَصْحَابُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ زَادَ فِي التَّوْضِيحِ فِي نَقْلِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ لَمْ يَغْسِلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ.
(الثَّالِثُ) يَتَحَرَّى أَحَدَهُمَا وَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَيُصَلِّي وَتَحَرِّيهِ كَمَا يَتَحَرَّى فِي الْقِبْلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ سَحْنُونٍ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الرَّابِعُ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ إنْ قَلَّتْ الْأَوَانِي وَكَقَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ سَحْنُونٍ إنْ كَثُرَتْ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَصَّارِ.
(الْخَامِسُ) يَتْرُكُ الْجَمِيعَ وَيَتَيَمَّمُ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ الثَّانِي، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُرِيقَهَا قَبْلَ تَيَمُّمِهِ قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُرِيقُهَا وَيَتَيَمَّمُ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الْمَاءِ وَسَحْنُونٌ جَعَلَ وُجُودَهَا كَالْعَدَمِ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ عَزْوُ الْبَاجِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُ: التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْقَوْلِ الرَّابِعِ لِابْنِ الْقَصَّارِ يَقْتَضِي أَنَّ ابْنَ مَسْلَمَةَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ إنَاءٍ وَيَغْسِلُ أَعْضَاءَهُ مِمَّا سَبَقَ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ مُقَيِّدًا، فَقَالَ إلَّا أَنْ تَكْثُرَ الْمِيَاهُ فَلَا يَغْتَسِلُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً اهـ. وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ.
(الثَّانِي) ذَكَرَ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ قَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي حَتَّى يَفْرُغَ فَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّهُ يَتَطَهَّرُ بِالْجَمِيعِ ثُمَّ اعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِعَدَدِ النَّجَسِ وَزِيَادَةِ إنَاءٍ مِثْلُ مَا قِيلَ: فِي الثِّيَابِ وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعَهُ الْوُصُولُ إلَى تَعْيِينِ الطَّهَارَةِ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ عَرَفَةَ عَلَى ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَا قَالَهُ وَهْمٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِظَاهِرٍ فَاسِدٍ وَقَبِلَهُ مَعَ يَسِيرِ تَقْيِيدِهِ إذْ لَا يَقُولُ أَحَدٌ فِي أَوَانٍ ثَلَاثٍ أَحَدُهَا نَجِسٌ: إنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بِعَدَدِهَا اهـ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا فِي التَّوْضِيحِ، فَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ الْخِلَافُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ أَوَانٍ فِيهَا وَاحِدٌ نَجِسٌ فَمَا وَجْهُ التَّيَمُّمِ وَمَعَهُ مَاءٌ مُحَقَّقُ الطَّهَارَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَمَا وَجْهُ مَنْ يَقُولُ يُسْتَعْمَلُ الْجَمِيعُ وَنَحْنُ نَقْطَعُ إذَا اسْتَعْمَلَ إنَاءَيْنِ تَبْرَأُ ذِمَّتَهُ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْأَقْوَالِ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمُ النَّجِسِ مِنْ الطَّاهِرِ، أَوْ تَعَدَّدَ النَّجِسُ وَاتَّحَدَ الطَّاهِرُ اهـ.
(الثَّالِثُ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَاءِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ كَابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ هَارُونَ أَنَّهُ قَالَ: عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَسْلَمَةَ يَغْسِلُ أَعْضَاءَهُ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ الْمَاءِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ الَّذِي بَعْدَهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ سَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا، وَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ غَسْلَ الْوُضُوءِ كَافِيًا فِي زَوَالِ النَّجَاسَةِ مِمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى أَعْضَاءٍ طَاهِرَةٍ كَابْنِ الْجَلَّابِ، قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: وَالظَّاهِرُ مِنْ نَقْلِ الشُّيُوخِ أَنَّهُمَا مُخَالِفَانِ لِابْنِ مَسْلَمَةَ وَإِنَّمَا تَرَكَ الْغَسْلَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ نَجَاسَةِ مَا تَطْهُرُ بِهِ وَلِأَنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُ التَّنْجِيسِ اهـ.
(قُلْتُ:) مَا ذَكَرَهُ أَخِيرًا هُوَ الظَّاهِرُ فِي تَوْجِيهِ تَرْكِ الْغَسْلِ إلَّا أَنَّ غَسْلَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِلْوُضُوءِ ثَانِيَةً يُجْزِي عَنْ غَسْلِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِذَلِكَ فَيُشْكِلُ بِمَسْحِ الرَّأْسِ وَبِمَا أَصَابَ غَيْرَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ ابْنَ مَسْلَمَةَ قَالَ يَغْسِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَتَأَمَّلْهُ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَرَافِيُّ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ قَوْلَ ابْنِ مَسْلَمَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِثْلَهُ إلَّا الْغَسْلَ مِنْ الْإِنَاءِ الثَّانِي لِعَدَمِ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعِبَارَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَمَّا حَكَيْنَا قَوْلَ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَهِيَ عِبَارَةُ النَّوَادِرِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَيَغْسِلُ أَعْضَاءَهُ مِمَّا قَبْلَهُ لِإِيهَامِهَا أَنَّ الْغَسْلَ مَقْصُورٌ عَلَى أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ فَرْحُونٍ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) قَوْلُهُ بِمُتَنَجِّسٍ، أَوْ نَجِسٍ احْتَرَزَ بِهِ مِمَّا لَوْ اشْتَبَهَ طَهُورٌ بِطَاهِرٍ فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا وَيُصَلِّي صَلَاةً وَاحِدَةً قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ.
(الْخَامِسُ) قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِعَدَدِ النَّجِسِ هُوَ حَيْثُ يَعْلَمُ عَدَدَ النَّجِسِ وَعَدَدَ الطَّاهِرِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بِعَدَدِ الْجَمِيعِ أَيْ يُصَلِّي بِكُلِّ وُضُوءٍ صَلَاةً كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ التَّوْضِيحِ.
(السَّادِسُ) تَقَدَّمَ أَنَّ أَحَدَ أَوْجُهِ الصُّورَةِ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ يَسِيرًا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَأَمَّا عَلَى الْمَشْهُورِ فَحُكْمُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْجَلَّابِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِأَحَدِهِمَا وَيُصَلِّيَ ثُمَّ يَتَوَضَّأَ بِالثَّانِي وَيُصَلِّيَ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ.
(السَّابِعُ) قَالَ ابْنُ شَاسٍ: مِنْ شَرْطِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْيَقِينِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ، أَوْ كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ امْتَنَعَ الِاجْتِهَادُ اهـ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَاءً طَاهِرًا مُحَقَّقَ الطَّهَارَةِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّحَرِّي، وَلَا يَمْتَنِعُ التَّوَضِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ إنَّمَا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ الطَّهُورِ وَنَصُّهُ إنْ اشْتَبَهَ طَهُورٌ عَلَى فَاقِدِهِ بِنَجَسٍ فَفِي تَيَمُّمِهِ وَتَعَدُّدِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ بِعَدَدِهِ وَوَاحِدٌ إلَى آخِرِهِ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ شَاسٍ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ امْتَنَعَ الِاجْتِهَادُ يَعْنِي التَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ الظَّنُّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِالْجَمِيعِ، أَوْ بِعَدَدِ النَّجِسِ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ التَّطْهِيرَ بِمُتَحَقِّقِ الطَّهَارَةِ يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ الصَّلَاةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَخِلَافِ مَا رُوِيَ فَتَرْكُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ اهـ.
وَقَدْ فَهِمَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ كَلَامَ الْجَوَاهِرِ عَلَى هَذَا فَقَالَ: وَفِي الْجَوَاهِرِ إنْ وَجَدَ مَاءً تَيَقَّنَ طَهُورِيَّتَهُ لَمْ يَجْتَهِدْ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلِلْأَصْحَابِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَذَكَرَهَا فَجَعَلَ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ مَعَ عَدَمِ الْوُجُودِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى اسْتِعْمَالِ مَاءٍ مَشْكُوكٍ فِي نَجَاسَتِهِ فِي أَعْضَائِهِ وَثِيَابِهِ.
(الثَّامِنُ) إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا عَمِلَ عَلَيْهِ إنْ بَيَّنَ وَجْهَ النَّجَاسَةِ، أَوْ كَانَ مَذْهَبُهُ كَمَذْهَبِهِ وَإِلَّا فَلَا، نَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ أُخْبِرَ بِطَهَارَةِ أَحَدِهَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ هَارُونَ أَنَّهُ قَالَ لَا نَصَّ وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَجْرِي عَلَى مَا قَالُوا فِي النَّجَاسَةِ فَلَا يَقْبَلْهُ إلَّا بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ خَبَرُ الْعَدْلِ فَيَسْتَعْمِلُهُ.
(قُلْتُ:) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَاءِ مَا يَقْتَضِي نَجَاسَتَهُ، أَوْ عَدَمَ طَهُورِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَبِلَ خَبَرَ الْوَاحِدِ.
(التَّاسِعُ) الْأَعْمَى كَالْبَصِيرِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ كَالْبَصِيرِ، أَوْ لَا، قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الذَّخِيرَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاجْتِهَادُ.
(الْعَاشِرُ) إذَا أُهْرِيقَتْ الْأَوَانِي وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الْمَازِرِيِّ لَا نَصَّ وَيَتَيَمَّمُ عَلَى قَوْلِ سَحْنُونٍ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ زَادَ عَنْهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْبُدَاءَةِ بِهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَاءِ الْمَشْكُوكِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي يَعْمَلُ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَإِنْ غَلَبَ
عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَتُهُ تَرَكَهُ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي فِي تَحْدِيدِ قَوْلِ الْمَازِرِيِّ وَنَقَلَهُ ابْنُ شَاسٍ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الِاشْتِبَاهُ الِالْتِبَاسُ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي فَلَا بُدَّ هُنَاكَ مِنْ أَمَارَةٍ، أَوْ دَلِيلٍ فَلَيْسَ الِالْتِبَاسُ بِحَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَمَارَاتِ.
(قُلْتُ:) وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ شَاسٍ عَنْ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ سَحْنُونٍ الْقَائِلَيْنِ بِالتَّحَرِّي، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ أَحَدِ الْأَوَانِي إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَطَلَبِ عَلَامَةٍ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الطَّهَارَةَ اهـ. فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ عَلَامَةٌ فَالظَّاهِرُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنَّهُ يَتْرُكُ الْجَمِيعَ وَيَتَيَمَّمُ وَنَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ الْغَزَالِيِّ مُتَمِّمًا بِهِ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلَ ابْنِ الْقَصَّارِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الثَّانِي عَشَرَ) عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي لَوْ صَلَّى بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِنْ كَانَ إلَى الْيَقِينِ فِي اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَإِنْ تَغَيَّرَ إلَى الظَّنِّ فَيَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي نَقْضِ الظَّنِّ بِالظَّنِّ كَالْمُصَلِّي إلَى الْقِبْلَةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ أَخْطَأَ قَالَهُ فِي الْجَوَاهِرِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الْمَازِرِيِّ، فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: عَلَى التَّحَرِّي، إنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بِعِلْمٍ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَبِظَنٍّ قَوْلَانِ كَنَقْضِ ظَنِّ الْحَاكِمِ بِظَنِّهِ، وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: وَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بِعِلْمٍ عَمِلَ عَلَيْهِ لَا بِظَنٍّ عَلَى الْأَظْهَرِ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ) فِي تَوْجِيهِ الْأَقْوَالِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ هَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ لَهَا مَأْخَذٌ مِنْ نَصٍّ يَمَسُّهَا أَوْ يُقَارِبُهَا وَإِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِعُمُومَاتٍ بَعِيدَةٍ، مِثْلُ مَا اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ التَّحَرِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ، وَأَصْحَابُ التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» اهـ. وَقَدْ وَجَّهَهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ بِوُجُوهٍ نَذْكُرُ بَعْضَهَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ فَلِأَنَّ الشَّخْصَ مَعَهُ مَاءٌ مُحَقَّقُ الطَّهَارَةِ قَادِرٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَيَقُّنِ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ إلَّا بِذَلِكَ وَلَمْ تُغْسَلْ الْأَعْضَاءُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهَا.
وَهُوَ وَجْهُ الثَّانِي إلَّا أَنَّهُ رَأَى الْغَسْلَ أَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِلطَّهَارَةِ لِتَيَقُّنِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الْوُضُوءِ الثَّانِي.
وَوَجْهُ الثَّالِثِ الْقِيَاسُ عَلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ.
وَوَجْهُ الرَّابِعِ أَنَّ الْغَالِبَ مَعَ الْكَثْرَةِ إصَابَةُ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْقِلَّةِ وَلِأَنَّهُ مَعَ الْكَثْرَةِ يَشُقُّ اسْتِعْمَالُهَا. وَأَمَّا مَعَ الْقِلَّةِ فَيَخِفُّ أَمْرُهَا.
وَوَجْهُ الْخَامِسِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ الطَّهُورِ وَهُوَ هُنَا عَادِمٌ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ، وَإِلْزَامُ وُضُوءَيْنِ وَصَلَاتَيْنِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالتَّحَرِّي لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ بِيَقِينٍ.
(الرَّابِعَ عَشَرَ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَانِي وَالثِّيَابِ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيهِمَا خِفَّةُ أَمْرِ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي إزَالَتِهَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمَاءُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي اشْتِرَاطِ الْمُطْلَقِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، قَالَ: وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هُنَا فَانْظُرْهُ. يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَيَتَحَرَّى فِي الثِّيَابِ إنْ كَانَ الْقَائِلُ هُنَا بِالتَّحَرِّي يَقُولُ فِي الْأَوَانِي بِهِ فَحَسَنٌ وَإِلَّا فَمُشْكِلٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(الْخَامِسَ عَشَرَ) عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَنَّهُ يُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ وَاحِدٍ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ غَيْرَ جَازِمَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِمَا صَلَّى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ إنْ نَوَى بِهَا الْفَرْضَ كَانَ ذَلِكَ رَفْضًا لِلْأُولَى، وَإِنْ نَوَى بِهَا النَّفَلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، وَإِنْ نَوَى التَّفْوِيضَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ نِيَّةٍ جَازِمَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِمَا صَلَّى لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ وَاحِدٍ فَلَا يَكْتَفِي بِدُونِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَنِيَّتُهُ جَازِمَةٌ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُهُ وَهُوَ لَازِمٌ فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ لَا يَدْرِي عَيْنَهَا وَهَذَا وَهْمٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَبِهَذَا يَسْقُطُ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الثَّانِيَةَ إنْ نَوَى بِهَا الْفَرْضَ كَانَ ذَلِكَ رَفْضًا لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَجْمُوعِ فَرْضُهُ، وَبِهِ يَسْقُطُ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّفْوِيضِ اهـ.
وَالْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ
صَاحِبُ الْجَمْعِ بِهِ يُجَابُ عَنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَةِ الشَّكِّ فِي الثِّيَابِ.
(السَّادِسَ عَشَرَ) إذَا اشْتَبَهَتْ الْأَوَانِي عَلَى رَجُلَيْنِ فَأَكْثَرَ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ لَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ فَيَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْأَوَانِي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَيُصَلُّونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي فَإِنْ اتَّفَقَ تَحَرِّيهِمْ عَلَى إنَاءٍ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ فَتَحَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ خِلَافَ مَا تَحَرَّاهُ الْآخَرُ قَالَ الْمَازِرِيُّ لَمْ يَأْتَمَّ أَحَدُهُمْ بِصَاحِبِهِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَطَهَّرَ لَهَا بِالْمَاءِ الَّذِي خَالَفَهُ فِيهِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ كَثُرَتْ الْأَوَانِي وَكَثُرَ الْمُجْتَهِدُونَ وَاخْتَلَفُوا فَكُلُّ مَنْ ائْتَمَّ مِنْهُمْ بِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ انْتَهَى.
وَنَقَلَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ هَارُونَ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ الْمَازِرِيِّ مَا نَصُّهُ: عَدَمُ الِائْتِمَامِ عِنْدِي مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ الطَّاهِرُ مِنْهَا وَاحِدًا. وَأَمَّا لَوْ كَانَ الطَّاهِرُ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَجَازَ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ إذْ لَا يَجْزِمُ بِخَطَأِ إمَامِهِ هَذَا إنْ كَانَ مَذْهَبُهُ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الصَّوَابَ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ إيمَاءٌ إلَى أَنَّهُ إنْ كَثُرَتْ الْأَوَانِي فَلَا يَمْتَنِعُ الِائْتِمَامُ إلَّا بِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَطَهَّرَ بِالنَّجِسِ، وَقَدْ بَحَثَ صَاحِبُ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَطَالَ.
(السَّابِعَ عَشَرَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: ذَكَرَ فِي الْجَوَاهِرِ فَرْعًا مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ لَوْ كَانَ مَعَهُ إنَاءَانِ فَتَوَضَّأَ مِنْهُمَا وَصَلَّى عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ حَضَرَتْ صَلَاةٌ أُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ طَهَارَتُهُ بَاقِيَةً وَهُوَ يَعْلَمُ الْإِنَاءَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ آخِرًا صَلَّى صَلَاةً بِالطَّهَارَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ غَسَلَ أَعْضَاءَهُ مِنْ الْإِنَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ أَوَّلًا وَصَلَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَهَارَةٍ، أَوْ كَانَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْإِنَاءَ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْهُ آخِرًا تَوَضَّأَ بِالْإِنَاءَيْنِ كَمَا فَعَلَ أَوَّلًا قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بَعْدَ أَنْ يَغْسِلَ أَعْضَاءَهُ مِنْ الْإِنَاءِ الَّذِي يَبْتَدِئُ الْآنَ مِنْهُ الطَّهَارَةَ.
(قُلْتُ:) مَا ذَكَرَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي النَّوَادِرِ عَنْ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَنَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ عَرَفَ الْآخَرَ وَانْتَقَضَ وُضُوءُهُ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَلَا يَغْسِلُ أَعْضَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ فَرْحُونٍ كَلَامَ النَّوَادِرِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ شَاسٍ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ إجْرَاءٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ نَصٌّ عَنْ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَتَفَرَّعُ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ نَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ وَنَصَّ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْفَرْعِ: " غَسَلَ أَعْضَاءَهُ مِنْ الْإِنَاءِ الثَّانِي ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ " وَرَأَى أَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ مَعَ بَقَاءِ الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ ثُمَّ يَغْسِلَ أَعْضَاءَهُ خَاصَّةً ثُمَّ يُصَلِّيَ وَرَوَى بَعْضُ أَشْيَاخِي أَنَّ هَذَا الْفَرْعَ جَرَى عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَمَذْهَبُهُ صِحَّةُ رَفْضِ الطَّهَارَةِ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ رَفَضَ الطَّهَارَةَ الْأُولَى، قَالَ: وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ تَحْقِيقٍ يَطُولُ الْكَلَامُ مِنْ أَجْلِهَا انْتَهَى.
وَلَعَلَّ بَعْضَ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَمْعِ ذَكَرَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْإِشْكَالَ فَحَكَى لَهُ أَنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ أَوْرَدَهُ عَلَى ابْنِ جَمَاعَةَ التُّونُسِيّ حِينَ وَصَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةِ وَأَنَّ ابْنَ جَمَاعَةَ جَاوَبَهُ بِالْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ثُمَّ بَحَثَ فِي الْجَوَابِ وَأَطَالَ. وَمِمَّا يَرُدُّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورِ أَنَّ سَحْنُونًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ ذَكَرَاهُ أَيْضًا وَلَيْسَ مَذْهَبُهُمَا الرَّفْضَ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَالْجَوَابُ لَمَّا كَانَ الْوُضُوءُ الثَّانِي مَلْزُومًا لِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ الْتَزَمَ رَفْضَ الْأَوَّلِ نِيَّةً وَفِعْلًا فَتَأَمَّلْهُ، وَذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونٍ عَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ: أَنَّهُ قَدْ يُؤَوَّلُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ أَحْدَثَ بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ص (وَنُدِبَ غَسْلُ إنَاءِ مَاءٍ وَيُرَاقُ لَا طَعَامٌ وَحَوْضٌ سَبْعًا)
ش: لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ النَّجَاسَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَبَيَّنَ مَا يُعْفَى عَنْهُ وَمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ
وَحُكْمَ الشَّكِّ تَعَرَّضَ هُنَا لِحُكْمِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ إذْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ وَتَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ وَهَلْ هُوَ لِلنَّجَاسَةِ، أَوْ تَعَبُّدٌ فَحَسُنَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ذِكْرُهُ بِأَثَرِ الْكَلَامِ عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهَا بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَفِي الْمُوَطَّإِ وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَالَ: إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» هَذَا لَفْظُ الْمُوَطَّإِ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ سَبْعًا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ» ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» ، وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ السَّابِعَةَ بِالتُّرَابِ» وَرُوِيَ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ وَاخْتُلِفَ هَلْ الْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، أَوْ النَّدْبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، أَوْ النَّدْبِ، أَوْ نَقُولُ: هُوَ لِلْوُجُوبِ وَلَكِنْ هُنَا قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ لِلْأَمْرِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَهِيَ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ، قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ النَّدْبُ، أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ وَلَغَ الْكَلْبُ فِي لَبَنٍ، أَوْ طَعَامٍ أُكِلَ وَلَا يُغْسَلُ مِنْهُ الْإِنَاءُ، وَإِنْ كَانَ يُغْسَلُ سَبْعًا لِلْحَدِيثِ فَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ وَكَانَ يُضَعِّفُهُ، وَقَالَ قَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ وَكَانَ يَرَى الْكَلْبَ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ السِّبَاعِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَعْنَى يُضَعِّفُ الْوُجُوبَ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: قَالَ عِيَاضٌ: تُنُوزِعَ كَثِيرًا فِي الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ يُضَعِّفُهُ فَقِيلَ: أَرَادَ تَضْعِيفَ الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَعَارَضَ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، وَقِيلَ: أَرَادَ تَضْعِيفَ الْوُجُوبَ، وَقِيلَ: تَوْقِيتَ الْعَدَدِ وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ الْوُجُوبَ كَمَا نَحَا إلَيْهِ الْقَابِسِيُّ انْتَهَى.
وَمَا اخْتَارَهُ عِيَاضٌ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: هُوَ الْأَشْهَرُ وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَمُعَارَضَةُ الْآيَةِ مُنْتَفِيَةٌ لِإِمْكَانِ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ بَعْدَ غَسْلِ الصَّيْدِ، أَوْ تَقْيِيدِ الْحَدِيثِ بِالْمَاءِ فَقَطْ انْتَهَى بِالْمَعْنَى.
وَفَهِمَ سَنَدٌ الِاسْتِحْبَابَ إنْ كَانَ نَفْيُ الْمَاءِ وَحْدَهُ قَالَ: فَإِنَّهُ يُقِيمُ مِنْهُ التَّرْخِيصَ وَعَدَمَ التَّحَتُّمِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ وَالْوُجُوبَ رِوَايَتَانِ، قَالَ: وَفِي وُجُوبِهِ وَنَدْبِهِ رِوَايَتَانِ، قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُمَا مُسْتَنْبَطَانِ فَالِاسْتِحْبَابُ مِمَّا تَقَدَّمَ وَالْوُجُوبُ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ كَابْنِ الْحَاجِبِ قَالَ: وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ لِوُلُوغِ الْكَلْبِ مِنْ مَائِهِ سَبْعًا نَدْبًا وَرُوِيَ وُجُوبًا وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ التَّلْقِينِ عَلَى الْقَوْلِ بِالنَّدْبِ وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الْوَافِي، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ إنَاءُ مَاءٍ يَعْنِي أَنَّ اسْتِحْبَابَ الْغَسْلِ مُخْتَصٌّ بِمَا إذَا وَلَغَ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ. وَأَمَّا إذَا وَلَغَ فِي إنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ، أَوْ مَا لَيْسَ فِي إنَاءٍ بَلْ فِي حَوْضٍ، أَوْ بِرْكَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُنْدَبُ غَسْلُ إنَاءِ الطَّعَامِ، وَلَا الْحَوْضِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ يُغْسَلُ إنَاءُ الطَّعَامِ أَيْضًا قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: بَنَى الْمَازِرِيُّ الْخِلَافَ عَلَى خِلَافِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ إذْ الْغَالِبُ عِنْدَهُمْ وُجُودُ الْمَاءِ لَا الطَّعَامِ قَالَ ابْنُ هَارُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَنَّ الْوُلُوغَ هَلْ يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ، أَوْ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ وَجَزَمَ ابْنُ رُشْدٍ بِبِنَائِهِ عَلَى الثَّانِي وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الثَّانِيَ وَذَكَرَ الْبُرْزُلِيُّ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ وَوَجَّهَ سَنَدٌ الْمَشْهُورَ بِأَنَّ الْغَسْلَ تَعَبُّدٌ؛ لِأَنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ طَاهِرٌ فَيَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: «إذَا وَلَغَ
الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ» إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْأَغْلَبِ وَالْأَغْلَبُ أَنَّ الْأَوَانِيَ الَّتِي تَبْتَذِلُهَا الْكِلَابُ هِيَ أَوَانِي الْمَاءِ لَا أَوَانِي الزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَشِبْهِهِ مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهَا مُصَانَةٌ فِي الْعَادَةِ.
(فَرْعٌ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَعَلَى غَسْلِ إنَاءِ الطَّعَامِ فِي طَرْحِهِ ثَالِثُهَا إنْ قَلَّ لِابْنِ رُشْدٍ عَنْ رِوَايَتَيْ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَالْمَازِرِيِّ مَعَ اللَّخْمِيِّ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَا يُطْرَحُ، وَلَوْ عُجِنَ بِمَائِهِ طُرِحَ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ أَدْخَلَهَا الْمُكَلَّفُ.
(فَرْعٌ) قَالَ سَنَدٌ: إذَا قُلْنَا بِغَسْلِ إنَاءِ الطَّعَامِ فَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ جَامِدًا فَلَحِسَ مِنْهُ الْكَلْبُ هَلْ يُغْسَلُ اعْتِبَارًا بِالْمَائِعِ، أَوْ لَا يُغْسَلُ كَمَا لَوْ خَطَفَ سَهْمَ لَحْمٍ مِنْ الْجِيفَةِ، أَوْ طَائِرًا وَقَعَ فِي إنَاءٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُغْسَلُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ وُلُوغًا بِخِلَافِ مَا خَطِفَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِغَسْلِ جَمِيعِ ذَلِكَ انْتَهَى.
وَالْخِلَافُ فِي إنَاءِ الطَّعَامِ. وَأَمَّا الْحَوْضُ فَلَمْ أَرَ فِيهِ خِلَافًا قَالَ فِي التَّوْضِيحِ الْغَسْلُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنَاءِ فَلَوْ وَلَغَ فِي حَوْضٍ لَمْ يُغْسَلْ؛ لِأَنَّهُ تَعَبُّدٌ قَالَ ابْنُ نَاجِي وَمَا ذَكَرَهُ لَا أَعْرِفُهُ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِنَاءَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ الْأَعَمُّ الْأَغْلَبُ وَقَالَهُ شَيْخُنَا أَبُو مَهْدِيٍّ.
(قُلْتُ:) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ قَدْ وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ قَالَ عَنْهُ عَلِيٌّ: وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَلِمَ فِي الْوَقْتِ قَالَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَابْنُ وَهْبٍ: وَلَا يُعْجِبُنِي ابْتِدَاءُ الْوُضُوءِ بِهِ إنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْكَثِيرِ كَالْحَوْضِ وَنَحْوِهِ، وَفِي آخِرِ سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْحِيَاضِ وَإِنْ كَانَتْ الْكِلَابُ تَشْرَبُ مِنْهَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ لِقَوْلِ عُمَرَ لَا تَضُرُّنَا فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابًا وَطَهُورًا» وَالْكَلْبُ أَيْسَرُ مُؤْنَةً مِنْ السِّبَاعِ إذْ قِيلَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ حَتَّى يُوقَنَ أَنَّ فِيهِ نَجَاسَةً ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْجَلَّابِ أَنَّ سُؤْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ مَكْرُوهَانِ مِنْ الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي خَطْمِهِمَا نَجَاسَةٌ وَمَعْنَاهُ إذَا شَرِبَ مِنْ الْمَاءِ الْيَسِيرِ. وَأَمَّا إذَا شَرِبَ مِنْ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَمِنْ الْحَوْضِ فَلَا وَجْهُ لِلْكَرَاهَةِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ قَصْرُ الْغَسْلِ عَلَى إنَاءِ الْمَاءِ صَوَابٌ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَبُّدِ ثُمَّ قَالَ: فَلَوْ وَلَغَ فِي حَوْضٍ، أَوْ نَهْرٍ لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَبُّدٌ، أَوْ لِكَثْرَتِهِ فَيَضْعُفُ الْخِلَافُ أَوْ لِلْحَمْلِ عَلَى الْغَالِبِ انْتَهَى.
فَكَلَامُ الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِرَاقَةَ وَكَرَاهَةَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَغَسْلَ الْإِنَاءِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي إنَاءِ الْمَاءِ لَا فِي الْحَوْضِ وَكَلَامُ صَاحِبِ الْجَمْعِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:" وَيُرَاقُ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْإِنَاءِ بَعْدَ أَنْ يُرَاقَ الْمَاءُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاقَ الْمَاءُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَلَا يُرَاقُ الطَّعَامُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ بِاسْتِجَازَةِ طَرْحِ الْمَاءِ قَالَ وَأَرَاهُ عَظِيمًا أَنْ يُعْمَدَ إلَى رِزْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيُلْقَى لِكَلْبٍ وَلَغَ فِيهِ، وَقِيلَ: يُرَاقُ الْمَاءُ وَالطَّعَامُ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ بِنَاءً عَلَى التَّعْلِيلِ بِالنَّجَاسَةِ، وَقِيلَ: لَا يُرَاقَانِ لِلتَّعَبُّدِ وَنُسِبَ لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَقِيلَ: سُؤْرُ الْمَأْذُونِ طَاهِرٌ وَسُؤْرُ غَيْرِهِ نَجِسٌ، وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْبَدْوِيِّ فَيُحْمَلُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْحَضَرِيِّ فَيُحْمَلُ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَقِيلَ: يَسِيرُ الْمَاءِ كَالطَّعَامِ وَلَا يُرَاقُ الْحَوْضُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ وَلَمْ أَرَ فِيهِ خِلَافًا.
(فَرْعٌ) قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: وَهَلْ يُشْرِبُ ذَلِكَ الْمَاءُ وَيُؤْكَلُ مَا عُجِنَ بِهِ؟ إنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْغَسْلَ تَعَبُّدٌ، أَوْ لِتَشْدِيدِ النَّهْيِ جَازَ، وَإِنْ قُلْنَا لِلنَّجَاسَةِ، أَوْ لِلْقَذَارَةِ، أَوْ مَخَافَةَ الْكَلْبِ مُنِعَ انْتَهَى.
وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُغْسَلُ سَبْعًا تَعَبُّدًا يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَلَا يَنْبَغِي الْوُضُوءُ بِهِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ لِلْخِلَافِ فِي نَجَاسَتِهِ وَعَلَى أَنَّ لِلنَّجَاسَةِ لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ.
(فَرْعٌ) وَهَلْ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ بِالْمَاءِ الْمَوْلُوغِ فِيهِ؟ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: قَالَ الْقَزْوِينِيُّ: لَا أَعْلَمُ لِأَصْحَابِنَا نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْقَزْوِينِيُّ وَغَيْرُهُ لَا يُجْزِي لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُغْسَلُ لِلنَّجَاسَةِ
لَا يَجُوزُ غَسْلُ الْإِنَاءِ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّعَبُّدِ لَا يَنْبَغِي غَسْلُ الْإِنَاءِ بِهِ إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ فَقِيلَ إنَّهُ يَغْسِلُ الْإِنَاءَ بِهِ كَمَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ الْإِنَاءَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِيهِ أَنْ يُغْسَلَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ هَذَا أَنْ يُغْسَلَ مِنْ مَاءٍ غَيْرِهِ قَدْ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ سَنَدٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ الْإِنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ فَإِنْ غَسَلَهُ بِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ بِهِ يُجْزِيهِ فَمَا يَصِحُّ بِهِ طَهَارَةُ الْوُضُوءِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ بِهِ غَسْلُ الْإِنَاءِ، وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ نَجِسٌ يَقُولُ إنَّهُ لَا يُجْزِيهِ انْتَهَى.
وَفِي التَّوْضِيحِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ بِهِ لِمَا فِي مُسْلِمٍ فَلْيُرِقْهُ وَيَغْسِلْهُ سَبْعًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ تَعَبُّدًا إلَّا لِلنَّجَاسَةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) فَارَقَ سُؤْرُ الْكَلْبِ سُؤْرَ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْهُ سَبْعًا وَفِي إرَاقَتِهِ وَكَرَاهَةِ الْوُضُوءِ بِهِ وَإِنْ عُلِمَتْ طَهَارَتُهُ. وَأَمَّا غَيْرُهُ إنْ تُيُقِّنَتْ طَهَارَةُ فَمِهِ فَلَا يُرَاقُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَتَقَدَّمَ أَنَّ سُؤْرَهُ أَخَفُّ مِنْ سُؤْرِ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِهِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ.
ص (تَعَبُّدًا)
ش: يَعْنِي أَنَّ الْغَسْلَ الْمَذْكُورَ تَعَبُّدٌ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ لِطَهَارَةِ الْكَلْبِ وَقِيلَ لِقَذَارَتِهِ، وَقِيلَ: لِنَجَاسَتِهِ وَعَلَيْهِمَا فَكَوْنُهُ سَبْعًا قِيلَ: تَعَبُّدًا وَقِيلَ لِتَشْدِيدِ الْمَنْعِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ نُهُوا فَلَمْ يَنْتَهُوا قَبْلَهُ وَهَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِالصَّحَابَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْإِسْلَامُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَشْدِيدِ الْمَنْعِ وَكَوْنِهِمْ نُهُوا فَلَمْ يَنْتَهُوا أَنَّ الْأَوَّلَ تَشْدِيدُ ابْتِدَاءٍ وَالثَّانِيَ تَشْدِيدٌ بَعْدَ تَسْهِيلٍ وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ كَوْنَ الْمَنْعِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ كَلْبًا فَيَكُونَ قَدْ دَاخَلَ مِنْ لُعَابِهِ الْمَاءَ مَا يُشْبِهُ السُّمَّ قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ تَحْدِيدُهُ بِالسَّبْعِ؛ لِأَنَّ السَّبْعَ مِنْ الْعَدَدِ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّدَاوِي لَا سِيَّمَا فِيمَا يُتَوَقَّى مِنْهُ السُّمُّ، وَقَدْ قَالَ فِي مَرَضِهِ صلى الله عليه وسلم:«هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ» ، وَقَالَ:«مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ، وَلَا سِحْرٌ» ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَرُدَّ عَلَيْهِ بِنَقْلِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ الْكَلْبَ يَمْتَنِعُ مِنْ وُلُوغِ الْمَاءِ، وَأَجَابَ حَفِيدُهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَمَّا فِي أَوَائِلِهِ فَلَا.
(فَائِدَةٌ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّعَبُّدَ وَمَعْنَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا مَعَ أَنَّا نَجْزِمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حِكْمَتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَا عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَدْنَاهُ جَالِبًا لِلْمَصَالِحِ دَارِئًا لِلْمَفَاسِدِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: إذَا سَمِعْت نِدَاءَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَهُوَ إنَّمَا يَدْعُوكَ لِخَيْرٍ أَوْ يَصْرِفُكَ عَنْ شَرٍّ كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ لِسَدِّ الْخَلَّاتِ وَأَرْشِ جَبْرِ الْجِنَايَاتِ الْمُتْلِفَاتِ وَتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ صَوْنًا لِلنُّفُوسِ وَالْأَنْسَابِ وَالْعُقُولِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ عَنْ الْمُفْسِدَاتِ وَيُقَرِّبُ لَك مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِثَالٌ فِي الْخَارِجِ: إذَا رَأَيْنَا مَلِكًا عَادَتُهُ يُكْرِمُ الْعُلَمَاءَ وَيُهِينُ الْجُهَّالَ ثُمَّ أَكْرَمَ شَخْصًا غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّهُ عَالِمٌ فَاَللَّهُ سبحانه وتعالى إذَا شَرَعَ حُكْمًا عَلِمْنَا أَنَّهُ شَرَعَهُ لِحِكْمَةِ ثُمَّ إنْ ظَهَرَتْ لَنَا فَنَقُولُ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فَنَقُولُ هُوَ تَعَبُّدٌ انْتَهَى.
ص (بِوُلُوغِ كَلْبٍ مُطْلَقًا لَا غَيْرِهِ) . ش يَعْنِي أَنَّ الْغَسْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ سَبَبُ وُلُوغِ الْكَلْبِ فَقَطْ فَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ أَوْ رِجْلَهُ لَمْ يُغْسَلْ خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ عِنْدَنَا تَعَبُّدٌ وَعِنْدَهُ لِلنَّجَاسَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ ابْنِ هَارُونَ غَالِبُ ظَنِّي أَنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ قَالَ سَنَدٌ: لَا يَتَنَزَّلُ إدْخَالُ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مَنْزِلَةَ الْوُلُوغِ، وَفِي ابْنِ عَاتٍ يَتَنَزَّلُ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ، أَوْ رِجْلَهُ لَمْ يَغْسِلْهُ وَنَقَلَهُ خَلِيلٌ عَنْ الْمَذْهَبِ وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْمَذْهَبِ لَا أَعْرِفُهُ انْتَهَى.
(قُلْت) نَقَلَهُ سَنَدٌ وَنَصُّهُ: وَالْغَسْلُ مُتَعَلِّقٌ
بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فَقَطْ، وَلَوْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ لَمْ يُغْسَلْ سَبْعًا خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ.
(فَرْعٌ) قَالَ سَنَدٌ إذَا لَعِقَ الْكَلْبُ يَدَ أَحَدِكُمْ لَا يَغْسِلُهَا.
وَيُقَالُ: وَلَغَ يَلَغُ بِفَتْحِ اللَّامِ فِيهِمَا وُلُوغًا بِضَمِّ الْوَاوِ إذَا شَرِبَ. أَبُو عُبَيْدَةَ فَإِذَا شَرِبَ كَثِيرًا فَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَيُسْتَعْمَلُ الْوُلُوغُ فِي الْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْآدَمِيِّ وَيُسْتَعْمَلُ الشُّرْبُ فِي الْجَمِيعِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى.
وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الطَّيْرِ يَلَغُ إلَّا الذُّبَابُ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَقَوْلُهُ مُطْلَقًا يَعْنِي أَنَّ الْغَسْلَ لَا يَخْتَصَّ بِالْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ بَلْ يَغْسِلُ مِنْ وُلُوغِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْوَافِي قَالَهُ السَّيِّدُ فِي تَصْحِيحِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: هُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْكِتَابِ لِلْجِنْسِ فَيَعُمُّ، أَوْ لِلْعَهْدِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ ثَالِثًا عَنْ ابْنِ رُشْدٍ وَابْنِ زَرْقُونٍ بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْحَضَرِيِّ وَعَزَيَاهُ لِابْنِ الْمَاجِشُونِ وَقَالَ وَتَفْسِيرُ اللَّخْمِيّ بِالْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ ثَالِثًا يَعْنِي أَنَّ اللَّخْمِيَّ فَسَّرَ الْحَضَرِيَّ فِي كَلَامِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْحَضَرِ لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَّا مَنْهِيًّا عَنْ اتِّخَاذِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: " لَا غَيْرِهِ " يَعْنِي أَنَّ الْغَسْلَ خَاصٌّ بِالْكَلْبِ فَلَا يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ يُلْحَقُ بِهِ الْخِنْزِيرُ وَهُمَا رِوَايَتَانِ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ عَرَفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَسْلَ لِلتَّعَبُّدِ، أَوْ لِلْقَذَارَةِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَإِذَا أُلْحِقَ بِهِ الْخِنْزِيرُ فَيُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ السِّبَاعِ لِاسْتِعْمَالِهَا لِلنَّجَاسَةِ وَانْدِرَاجِهَا فِي الِاسْمِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَعَدَا عَلَيْهِ الْأَسَدُ فَأَكَلَهُ» .
(فَرْعٌ) قَالَ ابْنُ هَارُونَ وَانْظُرْ لَوْ نَشَأَ وَلَدٌ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِالْكَلْبِ قَالَ وَالْأَحْوَطُ وُجُوبُ الْغَسْلِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِتَبَعِيَّةِ أُمِّهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَزَادَ لِقَوْلِهِ: كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا.
ص (عِنْدَ قَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ)
ش: أَيْ لَا يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ الْإِنَاءِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَزَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ لِلْأَكْثَرِ وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ بِفَوْرِ الْوُلُوغِ وَعَزَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ لِتَخْرِيجِ الْمَازِرِيُّ عَلَى التَّحْرِيرِ وَلِنَقْلِ ابْنِ رُشْدٍ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَبَنَى ابْنُ رُشْدٍ وَعِيَاضٌ الْخِلَافَ عَلَى أَنَّ الْغَسْلَ تَعَبُّدٌ فَيَجِبُ عِنْدَ الْوُلُوغِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُؤَخَّرُ، أَوْ لِلنَّجَاسَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ إرَادَةِ الِاسْتِعْمَالِ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُبْنَى الْخِلَافُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَمْرِ هَلْ هُوَ لِلْفَوْرِ، أَوْ لِلتَّرَاخِي؟ اهـ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الذَّخِيرَةِ تَرْجِيحُ الثَّانِي لِتَقْدِيمِهِ إيَّاهُ، قَالَ: وَانْظُرْ هَلْ مُرَادُ ابْنِ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ هَلْ يُغْسَلُ فَوْرًا، أَوْ عِنْدَ قَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ، أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ اسْتِعْمَالُهُ غُسِلَ عِنْدَ إرَادَةِ الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ اتَّصَلَ الِاسْتِعْمَالُ بِالْقَصْدِ، أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ؟ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ اسْتِعْمَالَهُ فَإِنَّهُ لَا يُغْسَلُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ يُغْسَلُ وَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ كُسِرَ لَزِمَ غَسْلُ شِقَاقِهِ قَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ اهـ. وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَرُبَّمَا بِمَا ذُكِرَ فِي ثَمَرَةِ الْخِلَافِ هُنَا هَلْ يَلْزَمُ غَسْلُ الْإِنَاءِ إذَا كُسِرَ وَفِيهِ بُعْدٌ اهـ. وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَقَالَ سَنَدٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ غَسْلُهُ عِنْدَ إرَادَةِ الِاسْتِعْمَالِ لَا بِفَوْرِ الْوُلُوغِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّ غَسْلَهُ إنَّمَا يُرَادُ لِيُسْتَعْمَلَ أَرَأَيْت لَوْ كُسِرَ بَعْدَ الْوُلُوغِ أَكَانَ يُغْسَلُ شِقَاقُهُ؟ اهـ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِغَسْلِ شِقَاقِهِ، فَتَأَمَّلْهُ.
ص (بِلَا نِيَّةٍ)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ النِّيَّةُ قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ قَالَا وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ التَّعَبُّدُ إلَى النِّيَّةِ