الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
(في الطرد)
قال الرازي: والمراد منه: الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا، ولا مستلزما للمناسب، إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، فهذا هو المراد من الاطراد والجريان، وهذا قول كثير من قدماء فقهائنا.
ومنهم: من بالغ فقال: مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة، حصل ظن العلية.
احتجوا على التفسير الأول بوجهين:
الأول: أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب، فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة بمحل النزاع مقارنا للحكم، ثم رأينا الوصف حاصلا في الفرع، وجب أن يستدل به على ثبوت الحكم؛ إلحاقا لتلك الصورة الواحدة بسائر الصور.
الثاني: أنا إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير، غلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير؛ وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة.
واحتج المخالف بأمرين:
أحدهما: أن الاطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم، وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع، فإذا أثبتم
حصول الحكم في الفرع؛ يكون ذلك الوصف علة، وبينتم عليته؛ بكونه مطردا- لزم الدور؛ وهو باطل.
وثانيهما: أن الحد مع المحدود، والجوهر مع العرض، وذات الله تعالى مع صفاته، حصلت المقارنة فيها، مع عدم العلية.
والجواب عن الأول: أنا لا نستدل بالمصاحبة في كل الصور على العلية؛ حتى يلزم الدور، بل نستدل بالمصاحبة في كل صورة غير الفرع على العلية؛ وحينئذ: لا يلزم الجور.
وعن الثاني: أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور منفكا عن العلية، وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا، كما أن الغيم الرطب دليل المطر، ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا.
وأيضا: المناسبة، والدوران، والتأثير، والإيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية، ولم يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا، فكذا هاهنا.
وأما التفسير الثاني: وهو أضعف التفسيرين: فقد احتجوا عليه: بأنا إذا علمنا أن الحكم لابد له من علة، وعلمنا حصول هذا الوصف، وقدرنا خلو ذهننا عن سائر الأوصاف، فإن علمنا بأنه لابد للحكم من علة، مع علمنا بوجود هذا الوصف- يقتضيان اعتقاد كون هذا الحكم معللا بذلك الوصف؛ إذ لو لم يقتض ذلك، لكان ذلك: إما لأجل أنه لا يسند ذلك الحكم إلى شيء، أو لأجل أنه يسنده إلى شيء آخر، والأول محال؛ لأن اعتقاد أنه لابد من علة مناقض لعدم الإسناد.
والثاني محال؛ لأن إسناد الذهن ذلك الحكم إلى غير ذلك الوصف مشروط
بشعور الذهن بغير ذلك الوصف، وتحقق ذلك حال خلو الذهن عن الشعور بغير ذلك الوصف- محال.
فثبت بهذا: أن مجرد ذينك العلمين يقتضيان ظن العلية؛ بلى عند الشعور بوصف آخر يزول ذلك الظن، ولكن الشعور بالغير كالمعارض لما يقتضي ذلك الظن، ونفي المعارض ليس على المستدل.
حجة المنكرين من وجهين:
الأول: أن تجويزه يفتح باب الهذيان، كقولهم في إزالة النجاسة:(مائع لا تبنى القنطرة على جنسه؛ فلا تجوز إزالة النجاسة به؛ كالدهن):
وقال بعضهم في (مسألة اللمس): طويل مشقوق، فلا تنتقض الطهارة بلمسه؛ كالبوق.
الثاني: أن تعين الوصف المعين للعلة، مع كونه مساويا لسائر الأوصاف قول في الدين لمجرد التشهي، فيكون باطلا؛ لقوله تعالى:{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59].
والجواب عن الأول: أن ذلك الكلام يدل على جهل قائله بصورة المسألة؛ لأنا نقول: مجرد المقارنة يفيد ظن العلية؛ ولكن بشرط ألا يخطر بالبال وصف آخر هو أولى بالرعاية منه، ولكن هذا الشرط ساقط عن المعلل؛ لأن نفي المعارض ليس من وظيفته؛ وفي هذين المثالين: إنما يبطل ذلك؛ لأن العلم الضروري حاصل بوجود وصف آخر هو أولى بالاعتبار من الوصف المذكور؛ لأنا متى علمنا كون الدهن لزجا غير مزيل للنجاسة، علمنا أن هذا الوصف أولى بالاعتبار من كونه بحيث لا تبنى القنطرة على جنسه.