الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة العاشرة
قال الرازى: مذهب الشافعي- رضي الله عنه: أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة؛ وهو قول أكثر المتكلمين
.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز، ووافقونا في العلة المنصوصة.
لنا: أن صحة تعدية العلة إلى الفرع موقوفة على صحتها في نفسها، فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع، لزم الدور، وإذا لم تتوقف على ذلك، فقد صحت العلة في نفسها، سواء كانت متعدية، أو لم تكن.
فإن قيل: (لم لا يجوز أن يقال: (إن صحتها في نفسها لا تتوقف على صحة تعديتها، بل على صحة وجودها في غير الأصل؛ وحينئذ ينقطع الدور): سلمنا ذلك؛ ولكن وجد ها هنا ما يدل على فساد العلة القاصرة، وهو من وجوه:
الأول: إن العلة القاصرة لا فائدة فيها، وما لا فائدة فيه كان عبثا، وهو على الحكيم غير جائز.
وإنما قلنا: إنه لا فائدة فيها: لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم، وهذه الفائدة مفقودة ها هنا؛ لأنه لا يمكن في القاصرة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم في الأصل؛ لأن ذلك معلوم بالنص، ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير الأصل؛ لأن ذلك يمكن أن لو وجد ذلك الوصف في غير الأصل، فإذا لم يوجد، امتنع حصول تلك الفائدة.
وإنما قلنا: إن ما لا فائدة فيه عبث، وإن العبث غير جائز؛ فذلك للإجماع.
الثاني: الدليل ينفى القول بالعلة المظنونة؛ لأنه اتباع الظن؛ وهو غير جائز، لقوله تعالى:{إن الظن لا يغنى من الحق شيئا} [النجم: 28] ترك العمل به في العلة المتعدية؛ لأن فيها فائدة، وهي التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير محل النص، وهذه الفائدة مفقودة في القاصرة؛ فوجب بقاؤها على الأصل.
الثالث: العلة الشرعية أمارة؛ فلا بد وأن تكون كاشفة عن شيء، والعلة القاصرة لا تكشف عن شيء من الأحكام؛ فلا تكون أمارة؛ فلا تكون علة
والجواب: قوله: لم لا يجوز أن يقال: (صحة كونها علة موقوفة على صحة وجودها في غير ذلك المحل):
قلنا: لأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه؛ لاستحالة حلول الشيء الواحد في محلين، بل يكون مثله، وإذا كان كذلك فنقول: كل ما يحصل له من الصفات عند حلول مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول له عند عدم حلول مثله في محل آخر؛ لأن حكم الشيء حكم مثله، فإذا أمكن حصول كل تلك الأمور، فبتقدير تحقق ذلك، وجب أن تكون علة؛ لأن تلك العلية ما حصلت إلا بسبب تلك الأمور.
وأما تلك المعارضة الأولى، وهي:(أنه لا فائدة فيها): قلنا: لا نسلم.
قوله: (الفائدة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم) " قلنا: نسلم أن معرفة الحكم فائدة؛ لكن لا نسلم أنه لا فائدة إلا هي؛ فما الدلالة على هذا الحصر؟ ثم إنا نبين فائدتين أخريين:
الأولى: أن نعرف أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة، وهذه فائدة معتبرة؛ لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل، وعن قبول التحكم الصرف والتعبد المحض أبعد.
الثانية: أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشيء؛ لأنا إذا علمنا الحكم، ثم اطلعنا على علته، صرنا عالمين، أو ظانين بما كنا غافلين عنه، وذلك محبوب القلوب، ولا يمتنع أيضا أن يكون لنا فيه مصلحة.
سلمنا أنه لا بد وأن يتوسل بالعلة إلى معرفة الحكم؛ لكن من جانب الثبوت، أو في جانب العدم؟.
الأول ممنوع، والثاني مسلم، وها هنا أمكن التوسل به إلى عدم الحكم.
بيانه: أنه إذا غلب على ظننا كون حكم الأصل معللا بعلة قاصرة، امتنعنا من القياس عليه؛ فلا يثبت الحكم في الفرع.
فإن قلت: (يكفى في الامتناع من القياس ألا نجد علة متعدية، فأما التعليل بالعلة القاصرة، فلا حاجة إليه في الامتناع من القياس):
قلت: يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد مناسب لذلك الحكم، فلو لم يجز التعليل بالعلة القاصرة، لبقى ذلك الوصف المتعدي خاليا عن المعارض؛ فكان يجب التعليل به؛ وحينئذ: كان يلزم ثبوت الحكم في الفرع.
أما لو جاز التعليل بالوصف القاصر، صار معارضا لذلك الوصف المتعدى؛ وحينئذ: لا يثبت القياس، ويمتنع الحكم.
سلمنا أنه لا فائدة فيها؛ فلم قلتم: إنها تكون باطلة؛ فإنه لا يمتنع كونها علة
مؤثرة في الحكم، مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به، حين يتشاغل بطلب ما هو مستغن عنه.
سلمنا أن ما لا فائدة فيه لا يجوز إثباته، ولكن لا يجوز ذلك قبل أن يعلم أنه لا فائدة فيه، أو بعد أن يعلم ذلك؟! وها هنا المستنبط للعلة- حال طلبه لها- لا يعلم أن تلك العلة متعدية، أو قاصرة؛ فلا يمكن منعه عن ذلك الطلب، وبعد وقوفه على العلة القاصرة: لا يمكن منعه عن معرفتها؛ لأن ذلك خارج عن وسعه.
سلمنا كل ما ذكروه، ولكنه منقوص بالتنصيص على العلة القاصرة؛ فإن كل ما ذكروه حاصل فيها، مع جوازها.
قوله: (الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة):
قلنا: لا نسلم؛ والتمسك بالآية سبق الجواب عنه في مسألة إثبات القياس.
وأيضا: قد بينا أن العلة المتعدية كما أنها وسيلة إلى إثبات الحكم، فالعلة القاصرة وسيله إلى نفي الحكم؛ فوجب كون القاصرة صحيحة؛ لأنها على وفق النافي، والمتعدية على خلافها.
قوله: (هذه الأمارة لا تكشف عن حكمة):
قلنا: لا نسلم؛ بل تكشف عن المنع من استعمال القياس.
سلمناه؛ لكنه يكشف عن حكمة الحكم، سلمناه؛ لكنه منقوض بالعلة القاصرة المنصوصة.
فرع: اختلفوا في أن الحكم في مورد النص ثابت بالنص، أو بعلة النص؟! فقالت الحنفية: لا يمكن ثبوته بالعلة؛ لأن الحكم معلوم، والعلة مظنونة،
والمظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم، وأصحابنا جوزوه، والخلاف فيه لفظي؛ لأنا نعني بالعلة ها هنا أمرا مناسبا، يغلب على الظن أن الشرع أثبت الحكم لأجله، وذلك مما لا يمكن إنكاره.
المسألة العاشرة
يجوز التعليل بالعلة القاصرة
قال القرافي: قوله: (الكائن في المحل الآخر هو مثل الكائن في محل الأصل، فكل ما حصل لأحد المثلين عند حصول المثل الآخر، يكون ممكن الحصول عند عدم المثل الآخر):
قلنا: العلة عندنا القدر المشترك بين المثلين، لا هذا ولا ذاك، فلا معنى لهذا البحث في الأمثال.
وللشارع أن يعتبر المشترك علة كما [اعتبر] متعلق الحكم في الأفعال، فلم يوجب إلا مطلق أربع ركعات في الظهر، أما إيقاعها هنا أو هناك فلا.
وكذلك جميع الأفعال المطلوبة، أو المخير فيها.
سلمنا أن العلة في الأصل هو المثل بما هو مثل، لكن قولكم:(ما ثبت له مع مثله، جاز ثبوته له مع عدم مثله) لا يفيد مقصودكم؛ لأن هذا الجواز إنما نسلمه عقلا، وذلك غير محل النزاع، إنما النزاع في الجواز الشرعي، ولا تنافي بين الجواز العقلي والامتناع الشرعي، كما يجوز ثبوت حكم الإجزاء والكمال للركعة الواحدة في الظهر، والواقع شرعا للامتناع، فحينئذ لا بد من دليل شرعي يدل على الصحة الشرعية، ولم تذكروه، بل قولكم:(حكم الشيء حكم مثله) مدرك عقلي لحكم عقلي.
قوله: (يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد يناسب ذلك الحكم):
تقريره: أن الفرع يكون قد اتفق على عدم الحكم فيه؛ لأن البحث وقع على هذا التقدير، وبين هذا الفرع والأصل وصف مشترك.
وفي الأصل وصف آخر قاصر.
فإذا عللنا بالقاصر اتجه القول بالعدم في الفرع مضافا لانتفاء العلة القاصرة، ويكون ذلك عذرا عن الوصف المتعدي.
فنقول: إنما لم يثبت الحكم به في الفرع؛ لأن التعليل في الأصل وقع بالعلة القاصرة، وعدمها يعارض [التعدي] في الفرع.
واعتبار عدمه راجح على اعتبار ثبوت [التعدي] ويبن ذلك بطريقة.
أو يكون مساويا له، ويكفي في عدم الحكم حصول التعارض على التساوي.
قوله: (تكون القاصرة مؤثرة في الحكم مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به):
تقريره: أن تأثيرها هو كونها الداعي إلى ورود النص بذلك الحكم، فلا يحصل للطالب بها إثبات حكم في الأصل؛ لأنه ثابت بالنص، بل العلم بأنها الباعث والداعي لذلك الحكم.
قوله: (القاصرة تقتضي عدم الحكم، فهي على خلاف المتعدية):
قلنا: هذا يقتضي عدم اعتبار القاصرة؛ لأنها لم تفد فائدة؛ لحصول تلك الفائدة بالبراءة الأصلية.
والمتعدية مفيدة فائدة زائدة، فكانت أرجح منها، كما قلناه في النصوص والبيانات الواقعة والمقررة.