الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
قال الرازي: يجوز التعليل بالعدم؛ خلافا لبعض الفقهاء
.
لنا: أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات، والدوران يفيد ظن العلية، والعمل بالظن واجب.
احتجوا على أن العدم لا يصلح للعلية بوجوه:
أحدها: أن العلية مناقضة للاعلية المحمولة على العدم، فاللاعلية عدمية، والعلية ثبوتية، فلو حملناها على العدم المحض، كان النفي المحض موصوفا بالصفة الوجودية، ولو جوزنا ذلك، لما أمكننا أن نستدل بكون الجدار وكثافته، وحصوله في الجيز على كون الموصوف بهذه الصفات موجودا، وهو سفسطة.
وثانيها: أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة، سواء أريد بها المؤثر، أو المعرف، أو الداعي، والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه؛ بحيث لا يكون تعين هذا حاصلا لذلك، ولا تعين ذلك حاصلا لهذا، وهذا غير معقول في العدم الصرف؛ لأنه نفى محض، ولأنه لو جاز وقوع التمييز فيه، لجاز أن يقال:"المؤثر في العالم عدم صرف" لست أقول: "ذات معدومة" على ما ذهب إليه القائلون بأن المعدوم شيء؛ لأن ذلك عندهم ثابت، بل الإلزام أن نجعل النبي المحض الذي لا يكون ذاتا، ولا عينا، ولا أمرا من الأمور- مؤثرا في العالم، وذلك مما يسد باب إثبات الصانع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وثالثها: أن العدم: إما أن يكون عاريا عن النسبة من كل الوجوه أو لا يكون:
فإن كان الأول: لم يكن له اختصاص بذات، دون ذات، وبوقت، دون وقت؛ فلا يجوز جعله علة لحكم معين، في وقت معين، وفي شخص معين، وإن كان له انتساب بوجه ما، كان ذلك الانتساب أمرا ثبوتيا ضرورة كونه نقيضا للانتساب؛ فيلزم وصف العدم بالوجود؛ وهو محال.
ورابعها: أن المجتهد، إذا بحث عن على الحكم، لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية، فإنها غير متناهية، مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يمكن كونه علة، وذلك يدل على أن الوصف ألعدمي لا يصلح للعلية.
وخامسا: قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] والعدم نفي محض؛ فلا يكون من سعيه؛ فوجب ألا يترتب عليه حكم؛ فإن كل حكم يثبت، فإنه يحصل للإنسان بسببه: إما جلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فثبت أن الوصف ألعدمي لا يمكن أن يكون علة.
فإن قلت: "الامتناع عن الفعل عدم، مع أنه قد يكون مأمورا به، ويكون منشأ للمصالح، ودفع المفاسد":
قلت: الامتناع عن الفعل عبارة عن أمر يفعله الإنسان، فيترتب عليه عدم ذلك الشيء؛ فثبت أن الامتناع ليس عدما محضا.
والجواب عن الأول: ما ذكرتموه من الدالة على أن العلية صفة ثبوتية- معارض دليل آخر، وهو: أنها لو كانت ثبوتية، لكانت من عوارض ذات العلة؛ فكانت مفتقرة إلى تلك الذات؛ وكانت ممكنة؛ وكانت مفتقرة إلى العلة؛ فكانت علية العلة لتلك العلة زائدة عليها؛ ولزم التسلسل.
وعن الثاني: نسلم أنه لا بد وأن تكون العلة متميزة عما ليس لعلة، لكن لا نسلم أن التميز يستدعى كون المتميز ثبوتيا؛ فإن عدم أحد الضدين عن المحل يصحح حلول الضد الآخر فيه، وعدم ما ليس بضد ليس كذلك، وأيضا عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، وعدم ما ليس بلازم لا يقتضي ذلك؛ فقد حصل الامتياز في العدمات.
وعن الثالث: أن العلة عدم مخصوص.
قوله: "فالخصوصية صفة قائمة بالنفي المحض":
قلنا: لا نسلم أن الخصوصية أمر ثبوتي؛ فإنها لو كانت أمرا ثبوتيا، لكانت في نفسها أمرا مخصوصا؛ فلزم التسلسل.
وعن الرابع: لا نسلم أن المجتهد لا يبحث في السير والتقسيم عن الأوصاف العدمية.
سلمنا ذلك؛ لكن إسقاط ذلك التكليف؛ لتعذره؛ فإن العدمات غير متناهية.
وعن الخامس: أنا نعلم بالضرورة كوننا مكلفين بالامتناع؛ فدل على أن العدم قد يكون متعينا.
قوله: "الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم":
قلنا: لو كان الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم، لكان الممتنع عن الفعل فاعلا؛ وذلك محال.
المسألة الرابعة
يجوز التعليل بالعدم
قال القرافي: قوله: "إنه يفيد ظن العلية، والعمل بالظن واجب":
قلنا: قد تقدم أن مطلق الظن غير معتبر؛ بديل شهادة الفساق والكفار، وإلغاء كثير من المصالح والمفاسد في الأفعال المباحة، بل لا بد من رتبة معينة، فلم قلتم: إن هذا الظن من الرتب التي اعتبرها الشارع؟.
قوله: "اللاعلية محمولة على العدم":
تقريره: أن بعض المقدمات يصدق أن يقال فيها: ليس بعلة إجماعا، كعدم إصبع رائدة ليس علة للربا إجماعا.
[أو] الصفة الوجودية لا تكون صفة للعدم، يدل على أن العلية وجودية.
ويرد عليه جميع النسب والإضافات، كالقبلية، والبعدية، والتقدم، والتأخر، ونحو ذلك؛ فإنها يصدق أن القبلية وجودية؛ لأنها تقتضى اللاقبلية المحمولة على العدم؛ فإنه يصدق على جميع الأعلام المتأخرة أنها ليست قبلا، فيلزم أن تكون هذه الإضافات وجودية مع أنها لا وجود لها في الأعيان، بل عدمية في الخارج، كذلك العلية هي من باب النسب الكائنة بينهما وبين المعلول، كالتأثير بين المؤثر والأثر.
قوله: "العدم لا يكون من سعي الإنسان":
قلنا: لا نسلم، بل نحن مأمورون بدرء المفاسد، وعدمها إنما هو بتحصيل أضدادها، فإذا حصلنا أضدادها، خرجنا عن العهدة في درء المفاسد، فيكون العدم مكتسبا التزاما.