الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الحادية عشرة
قال الرازي: الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة؛ خلافا لبعض الفقهاء العصريين
؛ مثاله: قولهم: (الملك معنى مقدر شرعي في المحل، أثره إطلاق التصرفات) وربما قالوا: (الملك الحادث يستدعي سببا حادثا، وذلك هو قوله: بعت واشتريت، وهاتان الكلمتان مركبتان من الحروف المتوالية، وكل واحد من تلك الحروف لا يوجد عند وجود الحرف الآخر، فإذن: ليس لهاتين الكلمتين وجود حقيقي؛ لكن لهما وجودا تقديريا؛ وهو أن الشارع قدر بقاء تلك الحروف إلى حين حدوث الملك؛ ضرورة أنه لا بد من وجود السبب، حال حصول المسبب) وقد يذكرون هذا التقدير في جانب الأثر؛ فيقولون: (إن من عليه الدين، يكون ذلك الدين مقدرا في ذمته).
واعلم أن الكلام من جنس الخرافات؛ لأن (الوجوب) إما أن يكون مفسرا بمجرد تعلق خطاب الشرع؛ على ما هو مذهبنا، أو يكون الفعل في نفسه؛ بحيث يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذم؛ على ما هو قول المعتزلة.
فإن كان الأول: لم يكن لتعلق الخطاب حاجة إلى معنى محدث، يكون علة له؛ لأن ذلك التعلق قديم أزلي؛ فكيف يكون معللا بالمحدث؟.
وإن كان الثاني: فالمؤثر في الحكم جهات المصلحة والمفسدة؛ فلا حاجة فيه إلى بقاء الحروف.
وأيضا: فالمقدر يجب أن يكون على وفق الواقع، والحروف لو وجدت مجتمعة، لخرجت عن أن تكون كلاما، فلو قدر الشرع بقاء الحروف التي
حصل منها قوله: (بعت واشتريت) لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام، وأما تقدير المال في الذمة، فهو ساقط جدا، بل لا معنى له إلا أن الشرع مكنه، إما في الحال، أو في الاستقبال؛ من أن يطالبه بذلك القدر من المال، فهذا معقول شرعا وعرفا.
فأما التقدير في الذمة، فهو من الترهات التي لا حاجة في العقل والشرع إليها.
المسألة الحادية عشرة
في التعليل بالمقدرات
قوله: (إطلاق التصرف معلل بالملك، والملك معلل بصيغة الإيجاب والقبول، والدين مقدر في الذمة):
قلنا: فهرسة المسألة إن أريد بها ظاهرها، وهو العلة الشرعية، فهذه المثل ليست مطابقة؛ لأن الملك والتصرف ونحوها ليست عللا يصح بها القياس.
وإن أريد أنه لا يجوز التقدير في الشريعة، فهو غير مستقيم لوجهين:
الأول: أن هذا البحث لا تعلق له بالقياس، ونحن في كتاب القياس ومسألة، فيصير الكلام غير موجه.
الثاني: أن هذه الدعوى باطلة في نفسها؛ لأن الشريعة مملوءة من التقادير، حتى إنها في جميع أبواب الفقه، فكيف ينكر؟
وقد أكثرت من بيان ذلك في كتاب (الأمنية)، وأذكر- ها هنا- طرقا من ذلك، فأقول: التقدير الشرعي هو إعطاء الموجود حكم المعدوم، والمعدوم حكم الموجود.
فمن الأول: النجاسة اليسيرة، والضرر اليسير، والصور النادرة في كل باب، هي معدومة في نظر الشرع، ونحو ذلك.
ومن الثاني: الإعتاق عن الغير، فيكون له الولاء، [و] إنما يستقيم ذلك إذا قدر له الملك، يتجه ثبوت الولاء المرتب على العتق المرتب على الملك المقدر له، وإلا فثبوت أحد هذه بدون الآخر غير ممكن في قواعد الشرع.
وكذلك التوريث من دية الخطأ لا يتناوله الميراث، وهو لا يملك حتى يزهق نفسه؛ لأن الزهوق هو السبب؛ فيتعين التقدير.
وتقدير المنافع في الإجارات موجودة، وأعيان السلم حتى يصح إصدار العقد؛ فإن العقد لا بد له من متعلق محققا، كبيع المرئيات.
أو مقدرا، كبيع المعدومات.
وتجد ذلك إذا أمعنت النظر في القراض، والمساقاة، والصلح، والعارية، والوديعة، وغير ذلك.
قوله: (الوجوب مجرد تعلق خطاب الشرع عندنا):
قلنا: ليس كذلك، بل الخطاب المتعلق، لا مجرد التعليق، وبينهما فرق كبير.
قوله: (التعلق قديم، فلا يحتاج إلى أمر محدث):
قلنا: لا نسلم إنما تعلق مرتبا على هذا المحدث، كما تعلق بالمكلف على تقدير وجوده وحدوثه، كما تعلق خطاب الله- تعالى- بوجوب الظهر علينا إلا مرتبا على تقدير حدوثنا وحدوث الزوال، وغير ذلك من الشروط وانتفاء الموانع، أما تعلقه في الأزل مطلقا، فلا.
ثم هذا الكلام يبقى تعلقه بالمحقق المحدث: كالزوال، ورؤية الهلال، وملك النصاب وغير ذلك، وهو خلاف الإجماع.
قوله: (وإن كان الثاني، فالمؤثر جهات المصلحة والمفسدة، فلا حاجة إلى بقاء الحروف):
قلنا: لا تنافي بين كون المؤثر المصلحة، وبين أن تكون الحروف ضابطة للمصلحة، والمعرفة بها، ثلم المصلحة في نفسها حادثة، فيلزم فيها ما قلتموه في الحروف.
قوله: (المقدر يجب أن يكون على وفق المحقق، والحروف لو اجتمعت لخرجت عن أن تكون كلاما):
قلنا: نقدرها مجتمعة على وجه يصدق عليها أنها كلام، وتكون كأنها الآن مترتبة في الحس، وهي موجودة في أزمانها، موصوف جميعها [بالحدوث]، [وكذلك] الآدمي مرتبا أعضاؤه في بقاعها، وليس من شروط التقدير أن يكون المقدر ممكن الوقوع، بل قد يكون مستحيلا كما قدر الله- تعالى- الشريك في قوله تعالى:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] مع استحالة الشريك، وإذا لم تمنع الاستحالة التقدير، صح ما قلناه؛ لأن غايته أنه مستحيل.
قوله: (لا معنى للتقدير إلا تمكين الشارع للإنسان من المطالبة بذلك المال).
قلنا: المطالبة لا بد لها من مطلوب، ويكون ذلك المطلوب متميزا بقدره، ومحله، وجهته، وصفاته عن غيره، ولا نعني بالتقدير إلا كونه مفروضا في ذمة المطالب، مختصا به على الوجه المخصوص، وكذلك الذمة صفة مقدرة في المحل تقبل الإلزام والالتزام، كما نقول: البالغ الرشيد المكلف في نظر الشرع له صلاحية أنه إذا أتلف شيئا ترتب عليه قيمته، وإذا باع أو اشترى لزمه التسليم، أو الثمن.
وهذه الصلاحية نقطع بانتفائها شرعا عن البهيمة، والطفل في المهد ونحو ذلك.