الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
(في كيفية دفع النقض)
قال الرازي: هذا لا يمكن إلا بأحد أمرين:
أحدهما: المنع من حصول تمام تلك الأوصاف في صورة النقض.
والثاني: المنع من عدم الحكم.
أما القسم الأول: ففيه أبحاث:
أحدها: المستدل: إذا منع من وجود الوصف في صورة النقض، لم يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجوده فيها؛ لأنه انتقال إلى مسألة أخرى، بل لو قال المعترض:(ما دللت به على وجود المعنى في الفرع، يقتضي وجوده في صورة النقض) فهذا لو صح، لكان نقضا على دليل وجود العلة في الفرع، لا على كون ذلك الوصف علة للحكم؛ فيكون انتقالا من السؤال الذي بدأ به إلى غيره.
وثانيها: أن المنع من وجود الوصف في صورة النقض: إنما يمكن لو وجد قيد في العلة يدفع النقض، وذلك القيد إما أن يكون له معنى واحد، أو معنيان؛ فإن كان معناه واحدا، فإما أن يكون وقوع الاحتراز به ظاهرا، أو لا يكون:
مثال الظاهر: قولنا: (طهارة عن حدث، فتفتقر إلى النية؛ كالتيمم، فنقضه بإزالة النجاسة غير وارد؛ لأنا نقول: (عن حدث)، وإزالة النجاسة لا تكون عن حدث).
مثال الخفي: قولنا في السلم الحال: (عقد معاوضة، فلا يكون الأجل من شرطه؛ كالبيع، ولا ينتقض بالكتابة؛ لأنها ليست معاوضة؛ لكنها عقد إرفاق.
أما إذا كان اللفظ له معنيان: فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ، أو بالاشتراك:
مثال التواطؤ: (قولنا: عبادة متكررة، فتفتقر إلى تعيين النية؛ كالصلاة):
فإن قيل: (ينتقض بالحج؛ فإنه يتكرر على زيد وعمرو):
قلنا: التكرار مقول على التكرار في الزمان، وعلى التكرار في الأشخاص، والأظهر هو الأول، وهو مردانا هاهنا.
مثال الاشتراك: قولنا: (جمع الطلاق في القراء الواحد لا يكون مبتدعا؛ كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد، مع الرجعة بين الطلقتين).
فإن قيل: (ينتقض بما لو طلقها في الحيض):
قلنا: أردنا بالقرء الطهر.
وثالثها: أنه، هل يجوز دفع النقض بقيد طردي؟.
أما الطاردون: فقد جوزوه، وأما منكرو الطرد: فمنهم من جوزه، والحق: أنه لا يجوز؛ لأن أحد أجزاء العلة، إذا لم يكن مؤثرا، لم يكن مجموع العلة مؤثرا، ولأنه لو جاز تقييده بالقيد الطردي، لجاز تقييده بنعيق الغراب، وصرير الباب، وبالشخص والوقت؛ ولا نزاع في فساده.
القسم الثاني: في منع عدم الحكم، وفيه أبحاث:
أحدها: أن انتفاء الحكم: إن كان مذهبا للمعلل، والمعترض معا، كان متوجها، وإن كان مذهبا للمعلل فقط، كان متوجها أيضا؛ لأن المعلل، إذا لم يف بمقتضى علته في الاطراد، فلأن لا يجب على غيره كان أولى، وإن كان
مذهبا للمعترض فقط، لم يتوجه؛ لأن خلاف المعترض في تلك المسألة كخلافه في المسألة الأولى وهو محجوج بذلك الدليل في المسألتين معا.
وثانيها: أن المنع من عدم الحكم قد يكون ظاهرا، وهو معلوم، وقد يكون خفيا، وهو على وجهين: الأول: كقولنا في السلم الحال: (عقد معارضة، فلا يكون الأجل من شرطه).
فإن قيل: (ينتقض بالإجارة): قلنا: الأجل ليس شرطا في الإجارة؛ بل تقدير المعقود عليه.
الثاني: كقولنا: (عقد معاوضة، فلا ينفسخ بالموت؛ كالبيع).
فإن قيل: (ينتقض بالنكاح): قلنا: هناك لا ينتقض بالموت؛ لكن انتهى العقد.
وثالثها: أن الحكم: إما أن يكون مجملا، أو مفصلا، وكل واحد منهما: إما في طرف الثبوت، أو في طرف الانتفاء، فهذه الأقسام أربعة:
الأول: الإثبات المجمل: والمراد: أنا ندعي ثبوته، ولو في صورة ما، فهذا لا ينتقض بالنفي المفصل؛ وهو النفي عن صورة معينة؛ لأن الثبوت المجمل يكفي فيه ثبوته في صورة واحدة، والثبوت في صورة واحدة لا يناقضه النفي في صورة معينة.
الثاني: النفي المجمل: ومعناه: أنه لا يثبت ألبتة، ولا في صورة واحدة، فهذا ينتقض بالثبوت المفصل؛ لأن ادعاء النفي عن كل الصور بناقضه في صورة معينة.
الثالث: الإثبات المفصل: لا يناقضه النفي المفصل؛ لأن الثبوت في صورة
معينة لا يناقضه النفي في صورة أخرى، لكن يناقضه النفي المجمل؛ لأن الثبوت في صورة واحدة يناقضه النفي المجمل.
الرابع: النفي المفصل: لا يناقضه الإثبات المفصل؛ لما تقدم، ولا الإثبات المجمل؛ لأنه في قوة الإثبات المفصل، بل يناقضه الإثبات العام.
ورابعها: أن الحكم الذي لا يكون ثابتا تحقيقا، لكنه يكون ثابتا تقديرا، هل يكون ذلك دافعا للنقض؟.
مثاله إذا قال: (ملك الأم علة لرق الولد) قيل: ينتقض ذلك بولد المغرور بحرية الجارية، فإنه ينعقد ولده حرا فهاهنا انتفى ملك الولد تحقيقا، ولكنه موجود تقديرا؛ بدليل أن الغرم يجب على المغرور، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع، وإلا لما وجبت قيمة الولد.
المسألة الثانية
في دفع النقض
قال القرافي: قوله: (لا يمكن ألا تمنع العلة في صورة النقض أو عدم الحكم):
تقريره: أن النقض وجود العلة دون الحكم، فماهيته مركبة من وجود وعدم.
والقاعدة أن الماهية المركبة تنتفي بانتفاء أي جزء كان من أجزائها، فمتى منع عدم الحكم، أو مجموع الأوصاف، اندفع النقض.
ومن الخلافيين من أجاب بوجه ثالث: وهو التزام خطئه، في صورة النقض، وقال: أنا قلت بعدم الحكم في صورة النقض، ولكني أخطأت في ذلك، ولا يلزم من خطئي هنالك التزام الخطأ هاهنا.
قوله: (إذا قال: دليل العلة موجود في صورة النقض يكون ذلك انتقالا):
تقريره: أن السائل إذا قال: الدليل على وجود العلة في صورة النقض أن الدليل الذي دللت به على العلة في الأصل موجود في صورة النقض، وهو المناسبة- مثلا- أو غيرها،
فيصير معناه: أن المناسبة قد وجدت في صورة النقض.
فأنت تقول: العلة ليست معها، فهو نقض عليها.
وهو يقول: بل العلة معها، فلا نقض عليها.
فهذا بحث في نقض على المناسبة لا على علة الحكم، فهو انتقال من نقض إلى نقض، والمناظرة مبنية على حسم مادة النزاع وتفرق الخصام.
نعم هذا إذا عرض للمجتهد تعين عليه اعتباره؛ لأن مقصوده استيفاء النظر في موارده، حيث صح.
قوله: (إذا كان للفظ معنيان؛ فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ، أو بالاشتراك):
قلنا: معنى اللفظ هو مسماه؛ لأنه تقدم أول الكتاب أن أصله معنى على وزن (مفعل) اسم مكان للعناية- أي موضع قصد الواضع بالوضع له.
ومتى كان اللفظ متواطئا كان لمعنى مشترك بينهما؛ فمسماه حينئذ واحد، فجعله من باب ماله معنيان غير مستقيم.
وكذلك في المثال الذي ذكرتموه من التكرر؛ فإنه معنى واحد، وإنما التعدد في محاله.
قوله: (الأجل ليس شرطا في الإجارة، بل تقديرا للمعقود عليه):
تقريره: أن المنافع لا يمكن استيفاؤها إلا موزعة على الزمان، فلا يمكن تسليم سكنى شهر في ساعة، فجاء الأصل من ضرورة المنفعة لا أنه شرط، بل الشرط ما يمكن حذفه وثبوته.
أما ما لابد منه فهو كزمن الوزن في الصرف، لا يمكن أن يقال: هو يجوز اشتراط الأجل فيه؛ لأنه ضروري، بل إنما يقال ذلك فيما يمكن حذفه عن العقد.
قوله في النكاح: (لم ينفسخ بالموت، بل انتهى):
تقريره: أن عقد النكاح اقتضى دوامه إلى أقصر الزوجين عمرا، فإذا مات أحدهما فقد فرغ مقتضاه، كالإجارة شهرا، إذا فرغ الشهر، لا يقال: انفسخت، بل انتهت.
قوله: (النفي المجمل ينتقض بالثبوت المفصل؛ لأن النفي عن كل الصور يناقضه الثبوت في صورة):
قلنا: النهي عن كل الصور عام لا إجمال فيه، وإنما يسمى مجملا إذا قيل: حصل النفي في صورة لم يعينها اللفظ؛ ليحصل الإجمال حينئذ، أما مع العموم فلا. وكذلك قوله بعد هذا:(إن النفي المجمل يناقض الثبوت المفصل).
ثم قوله: (النفي المفصل، والإثبات المفصل) يصدق بطريقتين:
أحدهما: الاقتصار على صورة واحدة على وجه التعيين والتفصيل.
والثاني: أن يعم الثبوت، أو النفي في جميع الصور على وجه التفصيل بتعيين كل واحد منهما بالذكر، فيكون مفصلا، ولا يحصل التناقض الذي ذكره، بل يناقضه المطلق من النقيض الآخر، فلا يستقيم إطلاق ما في