المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الأولفي التعادل - نفائس الأصول في شرح المحصول - جـ ٨

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل السادس(في الدوران)

- ‌تنبيه:قال النقشواني: الدوران عين التجربة

- ‌سؤال:قال النقشواني: قوله: (غير هذا الوصف لم يكن موجودا قبل، وإلا لتخلف الحكم عن علته): طريقه لا يتوقف على الدوران

- ‌سؤال:قال النقشواني: ما ذكره في هذا الوجه يقتضي أن الحكم حادث

- ‌سؤال:قال: ولأنه في هذا الموضع احتج بالاستصحاب

- ‌سؤال:قال النقشواني: قوله: (بعض الدورانات تفيد الظن؛ فيكون الكل كذلك [للآية]) غير متجه

- ‌تنبيه:قال سراج الدين: علل الشرع معرفات، فجاز أن يكون العدم علة وجزء علة

- ‌الفصل السابع(في السبر والتقسيم)

- ‌سؤال:قال النقشواني: قوله: (الأصل بقاء غير هذا الوصف على العدم) يقتضي أن هذه الطريقة مفتقرة إلى للاستصحاب

- ‌(جوابه)ما تقدم أن القياس وإن افتقر إلى الاستصحاب من هذا الوجه، لكن القياس أقوى منه من وجه آخر

- ‌(سؤال)قال التبريزي: قوله: (لا يبين بالمناسبة؛ لئلا يحتاج إليها فيما يدعيه علة) لا يلزم

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي فقال: إذا لم يكن التركيب مجمعا عليه، ينفى التركيب في العلة بأنه على خلاف الأصل

- ‌(سؤال)قال إمام الحرمين في (البرهان): قال القاضي: السبر أقوى الطرق في إثبات العلة

- ‌الفصل الثامن(في الطرد)

- ‌ القرافي: قلت: تقدم الفرق بين الطرد والطردي:

- ‌(سؤال)قال النقشواني: إن أراد أنه يلزم من المقارنة التأثير فممنوع

- ‌(تنبيه)قال سراج الدين على قوله: (لو لم يحصل ظن العلية لما أسند إلى علة، وهو باطل، أو أسند إلى غيره، وهو يقتضي الشعور بالغير).قال: لقائل أن يقول: الإسناد إلى الغير يقتضي الشعور به جملة

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: إثبات العلة بالطرد والعكس اختلف القائلون بدلالته على علية الوصف

- ‌(تنبيه)مثار الخلاف في هذه المواطن ملاحظة أن ما [رده] الصحابة- رضي الله عنهم[رددناه]، وما أعملوه أعملناه

- ‌الفصل التاسع(في تنقيح المناط)

- ‌(تنبيه)أما الحصر فقد يتوصل إليه بعدم الوجدان، ويجري في التعبدات بعد البحث التام

- ‌الفصل العاشر(في الطرق الفاسدة) وهو طريقان

- ‌الفصل الأول(في النقض) وفيه مسائل:

- ‌المسألة الأولى: وجود الوصف مع عدم الحكم يقدح في كونه علة

- ‌(فائدة)الفرق بين النقض، والعكس، والكسر؛ فإن الفقيه محتاج لذلك

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: جوز أكثر الحنفية، ومالك وابن حنبل، تخصيص العلة المستنبطة، ومنعه أكثر الشافعية، وروي المنع عن الشافعي

- ‌المسألة الثانية(في كيفية دفع النقض)

- ‌(سؤال)قال النقشواني: لا ينحصر دفع النقض بما ذكره

- ‌(تنبيه)قال التبريزي: ما يقع الاحتراز به عن النقض هل يجب ذكره في الدليل

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: اختلفوا في النقض المكسور

- ‌(فائدة)قال أبو يعلى الحنبلي في (العمدة): إذا وقع النقض بتفسير علته بما يدفع النقض بتفسير مطابق للفظ العلة قبل منه

- ‌المسألة الثالثةقال الرازي: وهي مشتملة على فرعين من فروع تخصيص العلة:

- ‌المسألة الرابعةقال الرازي: في أن النقض: إذا كان واردا على سبيل الاستثناء، هل يقدح في العلة أم لا

- ‌المسألة الخامسةفي الكسر

- ‌(فائدة)سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: اتفقوا على أنه إذا قطع بانتفاء الحكمة لا يثبت الحكم

- ‌الفصل الثاني(في عدم التأثير)

- ‌(فائدة)قال الإمام في (البرهان): قال الجدليون: عدم التأثير في الوصف، وعدم التأثير في الأصل

- ‌(سؤال)قال النقشواني: ما ذكره في العلل الشرعية لا يرد على من يعلل بنفس الحكمة

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي فقال: العكس إنما يلزم عند اتحاد العلة، وقد أجمعوا على جواز تعددها في الشرع

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: العكس لغة: رد أول الأمر إلى آخره، وآخره إلى أوله

- ‌الفصل الثالث"في القلب" وفيه مسائل:

- ‌ المسألة الأولى: في حقيقته

- ‌سؤال"قال النقشوانى: ما ذكره في القلب معارضة في حكم المسألة

- ‌تنبيه"زاد التبريزي فقال: يشترط في القلب الرد إلى أقل المعلل

- ‌فائدة"قال الباجي في "الفصول": "لا يصح قلب القلب

- ‌فائدة"قال سيف الدين: القلب قلبان:

- ‌الفصل الرابع"في القول بالموجب

- ‌سؤال""القلب" و"القول بالموجب" معارضة في الحكم، لا قدح في العلة

- ‌الفصل الخامس"في الفرق

- ‌الباب الثالثفيما يظن أنه من مفسدات العلة، مع أنه ليس كذلك

- ‌تنبيه"زاد سراج الدين فقال: الاقتصار على المشترك، وإن كان جائزا، لكنه غير لازم

- ‌المسألة الرابعةقال الرازي: يجوز التعليل بالعدم؛ خلافا لبعض الفقهاء

- ‌سؤال"قال النقشواني: قوله- هاهنا-: "يجوز التعليل بالعدم_ يناقضه ما تقدم له:

- ‌تنبيه"زاد التبريزي قال: "لا يجوز التعليل بالعدم" خلافا للمصنف

- ‌المسألة الخامسةقال الرازي: للمانعين من التعليل بالعدم: أن يمنعوا من التعليل بالأوصاف الإضافية

- ‌تنبيه"زاد التبريزي فقال: ليس من فروع المنع من التعليل بالعدم امتناع التعليل بالأوصاف الإضافية

- ‌المسألة السادسةقال الرازي: تعليل الحكم الشرعي جائز؛ خلافا لبعضهم

- ‌سؤال"كيف يتصور في الأحكام الشرعية التقدم والتأخر مع أنها كلها قديمة

- ‌جوابه"أن المراد تكامل شروط التعلق

- ‌تنبيه"زاد التبريزي فقال: نحن نعلل جواز الانتفاع، وصحة البيع، ووجوب الزكاة، ونفقة المملوك بالملك، وهو حكم شرعي

- ‌المسألة السابعةقال الرازي: يجوز التعليل بالأوصاف العرفية

- ‌المسألة الثامنةقال الرازي: يجوز بالتعليل بالوصف المركب عند الأكثرين، وقال قوم: لا يجوز

- ‌تنبيه"زاد سراج الدين فقال على قوله: "إن العدم ليس علة ثبوتية دفعا للتسلسل": لقائل أن يقول: في هذين الجوابين نظر نبهنا عليه فيما تقدم

- ‌المسألة التاسعةقال الرازى: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم

- ‌المسألة العاشرةقال الرازى: مذهب الشافعي- رضي الله عنه: أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة؛ وهو قول أكثر المتكلمين

- ‌(سؤال)قال النقشواني: قوله: (تكشف عن المنع من القياس) لا يتم

- ‌(تنبيه)زاد سراج الدين فقال على قوله: (حكم الشيء حكم مثله؛ لأن عليته إنما هي باعتبار تلك الصفات الحاصلة)

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: الخلاف في القاصرة إذا لم تكن منصوصة

- ‌المسألة الحادية عشرةقال الرازي: الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة؛ خلافا لبعض الفقهاء العصريين

- ‌(سؤال)قال النقشواني: الملك في العرف، والشرع

- ‌(تنبيه)زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لما فسرت الوجوب بتعلق الخطاب، وقد اعترفت أول الكتاب بحدوثه- افتقر إلى سبب حادث

- ‌المسألة الثانية عشرةقال الرازي: ها هنا أبحاث:

- ‌(سؤال)قال النقشواني: لم يبين أن العلة واحدة بالنوع، أو بالشخص

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: اختلفوا في العلة الواحدة الشرعية، هل يكون لها حكمان شرعيان

- ‌المسألة الثالثة عشرةقال الرازي: قد يستدل بذات العلة على الحكم، وقد يستدل بعلية العلة على الحكم

- ‌(سؤال)قال النقشواني: كلامه متناقض

- ‌(تنبيه)زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: صدق قولنا: القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف على وجوب القصاص

- ‌المسألة الرابعة عشرةقال الرازي: تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي لا يتوقف على بيان ثبوت المقتضي لذلك الحكم

- ‌القسم الثالثفي المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع

- ‌الباب الأول في مباحث الحكم:

- ‌الباب الثانيفي شرائط الأصل

- ‌الباب الثالث"في الفرع

- ‌الكلام في التعادل والترجيح

- ‌القسم الأولفي التعادل

- ‌القسم الثاني(في مقدمات الترجيح)

- ‌القسم الثالثفي تراجيح الأخبار

- ‌(سؤال)قال النقشواني: دعواه الندرة في علو الإسناد ليست على الإطلاق

- ‌القول في التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: رواية متقدم الإسلام مقدمة لقوة أصالته في الإسلام

- ‌القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ

- ‌القول في التراجيح الراجعة إلى الحكم

- ‌ القرافي: قوله: (لو جعلنا المبقى متقدما على الناقل، لكان واردا حيث لا يحتاج إليه):

- ‌(فائدة)قال بعض العلماء: في الأحكام يقدم الحظر؛ لأن النهي يعتمد المفاسد

- ‌القول في الترجيحات الحاصلةبالأمور الخارجة

- ‌تنبيه"تقدم رواية أهل الحرمين وبعض المفهومات على بعض، فليطالع من هناك

الفصل: ‌القسم الأولفي التعادل

‌الكلام في التعادل والترجيح

قال الرازي: وهو مرتب على أربعة أقسام

‌القسم الأول

في التعادل

، وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: اختلفوا في أنه هل يجوز تعادل الأمارتين؟ فمنع منه الكرخي مطلقا. وجوزه الباقون، ثم المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه، فعند القاضي أبي بكر منا، وأبي على وأبي هاشم من المعتزلة: حكمه التخيير، وعند بعض الفقهاء: حكمه أنهما يتساقطان، ويجب الرجوع إلى مقتضى العقل.

والمختار أن نقول: تعادل الأمارتين: إما أن يقع في حكمين متناقضين، والفعل واحد، وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا، ومباحا، وواجبا، وإما أن يكون في فعلين متنافيين، والحكم واحد؛ نحو وجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة.

أما القسم الأول: فهو جائز في الجملة؛ لكنه غير واقع في الشرع: أما أنه جائز في الجملة: فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفي والإثبات، وتستوي عدالتهما وصدق لهجتهما؛ بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر- وأما أنه في الشرع غير واقع؛ فالدليل عليه أنه لو تعادلت أمارتان على كون هذا الفعل محظورا ومباحا: فإما أن يعمل بهما معا، أو يتركا معا، أو يعمل بإحداهما دون الثانية:

ص: 3646

والأول محال؛ لأنه يقتضي كون الشيء الواحد في الوقت الواحد من الشخص الواحد محظورا مباحا؛ وهو محال.

والثاني أيضا: محال؛ لأنهما لما كانتا في نفسيهما؛ بحيث لا يمكن العمل بهما البتة، وكان وضعهما عبثا، والعبث غير جائز على الله تعالى.

وأما الثالث، وهو أن يعمل بإحداهما دون الأخرى: فإما أن يعمل بإحداهما على التعيين، أولا على التعيين:

والأول: باطل؛ لأنه ترجيح من غير مرجح؛ فيكون ذلك قولا في الدين بمجرد التشهي؛ وإنه غير جائز.

والثاني أيضا: باطل؛ لأنا إذا خيرناه بين الفعل والترك، فقد أبحنا له الفعل، فيكون هذا ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر، وذلك هو القسم الذي تقدم إبطاله؛ فثبت أن القول بتعادل الأمارتين في حكمين متنافيين، والفعل واحد يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة؛ فوجب أن يكون باطلا.

فإن قيل: (لم لا يجوز العمل بإحدى الأمارتين على التعيين؛ إما لأنها أحوط، أو لأنها أخذ بالأصل؟!):

سلمنا ذلك؛ فلم لا يجوز أن يكون مقتضى التعادل هو التخيير؟.

قوله: (القول بالتخيير إباحة الفعل؛ فيكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة):

قلنا: لا نسلم أن الأمر بالتخيير إباحة.

بيانه: أنه يجوز أن يقول الله تعالى: أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة، وبأمارة الحظر، إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة، فقد أبحت لك الفعل،

ص: 3647

وإن أخذت بأمارة الحرمة، فقد حرمت الفعل عليك؛ فهذا لا يكون إذنا في الفعل والترك مطلقا، بل إباحة في حال، وحظرا في حال أخرى؛ ومثاله في الشرع: أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا، وبين أن يترك ركعتين، فالركعتان واجبتان، ويجوز تركهما بشرط أن يقصد الترخص.

وأيضا: من أستحق أربعة دراهم على غيره، فقال:(تصدقت عليك بدرهمين، إن قبلت؛ وإن لم تقبل، وأتيت بالأربعة، قبلت الأربعة عن الدين الواجب) فإن شاء قبل الصدقة، وأتى بدرهمين، وإن شاء، أتى بالأربعة عن الواجب، فكذا في مسألتنا، إذا سمع قوله تعالى:{وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] حرم عليه الجمع بين المملوكتين، وإنما يجوز له الجمع، إذا قصد العمل بموجب الدليل الثاني، وهو قوله تعالى:{إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] كما قال عثمان- رضي الله عنه: (أحلتهما آية، وحرمتهما آية).

سلمنا ذلك؛ لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والإباحة، وأما عند تعارض أمارة الحظر والوجوب، إذا قلنا بالتخيير، لم يلزم ترجيح إحداهما على الأخرى؛ فدليلكم على امتناع التعادل غير متناول لكل الصور.

سلمنا فساد القول بالتخيير؛ فلما لا يجوز التساقط؟

قوله: (لأنه عبث) قلنا: لا نسلم؛ ولم لا يجوز أن يقال: إن لله تعالى فيه حكمة خفية لا يطلع عليها.

وأيضا: فهب أن التعادل في نفس الأمر ممتنع؛ لكن لا نزاع في وقوع التعادل؛ بحسب أذهاننا، فإذا جاز ألا يكون التعادل عبثا فلم لا

ص: 3648

يجوز ألا يكون التعادل الخارجي عبثا أيضا؟! ثم ما ذكرتموه يشكل بما إذا أفتى مفتيان: أحدهما بالحل، والآخر بالحرمة، واستويا في ظن المستفتي، ولم يوجد الرجحان؛ فإنما بالنسبة إلى العامي كالأمارة.

والجواب: قوله: (لما لا يجوز العمل بإحداهما؛ لأنه أحوط، أو لأنه أصل):

قلنا: إن جاز الترجيح بهاتين الجهتين، فوجوده ينافي التعادل؛ وإن لم يجز، فقد بطل كلامك.

قوله: (لم قلت: (إن التخيير إباحة؟):

قلت: لأن المحظور هو الذي منع من فعله؛ والمباح هو الذي لم يمنع من فعله؛ فإذا حصل الإذن في الفعل، فقد ارتفع الحجر، فلا يبقى الحظر ألبتة، ولا معنى للإباحة إلا ذلك.

قوله: (ذلك الفعل محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر، ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة):

قلنا: هذا باطل من وجهين: الوجه الأول: هو أن أمارة الإباحة، وأمارة الحظر إما أن تقوم على ذات الفعل وماهيته؛ باعتبار واحد، أو ليس كذلك؛ بل تقوم أمارة الإباحة على الفعل المقيد بقيد، وتقوم أمارة الحظر على الفعل المقيد بقيد آخر:

فإن كان الثاني: كان ذلك مغايرا لهذه المسألة التي نحن فيها؛ لأن هذه المسألة هي أن تقوم الأمارتان على إباحة شيء واحد وحظره، وعلى التقدير الذي قالوا: قامت أمارة الإباحة على شيء، وأمارة الحظر على شيء آخر؛ فإنهم لما قالوا:

ص: 3649

عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل عليه؛ فمعناه: أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة، وأمارة الإباحة قائمة على إباحة هذا الفعل حال عدم الأخذ بأمارة الحرمة، فالأمارتان إنما قامتا على شيئين متنافيين غير متلازمين، لا على شيء واحد؛ وكلامنا في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين: في شيء واحد، لا في شيئين.

وإذا بطل هذا القسم، ثبت القسم الأول؛ وهو: أن أمارة الحظر، وأمارة الإباحة قامتا على ذات الفعل وماهيته؛ باعتبار واحد، فإن رفعنا الحظر عن ماهية الفعل، كان ذلك إباحة، فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها، وإن لم نرفع ذلك كان ذلك حظرا؛ فيكون ترجيحا للأمارة الأخرى بعينها.

الوجه الثاني في الجواب: أن نقول: ما المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين؟.

إن عنيتم بهذا الأخذ: اعتقاد رجحانها، فهذا باطل؛ لأنها إذا لم تكن راجحة، كان اعتقاد رجحانها جهلا.

وأيضا: فنفرض الكلام فيما إذا حصل العلم بأنه لا رجحان، ففي هذه الصورة يمتنع حصول اعتقاد الرجحان، وإن عنيتم بهذا الأخذ: العزم على الإتيان بمقتضاها، فذاك العزم: إما أن يكون عزما جزما، بحيث يتصل بالفعل لا محالة، أو لا يكون كذلك:

فإن كان الأول: كان الفعل في ذلك الوقت واجب الوقوع، فيمتنع ورود الإباحة والحظر؛ لأنه يكون ذلك إذنا في إيقاع ما يجب وقوعه، أو منعا عن إيقاع ما يجب وقوعه، وإن كان الثاني: وهو أن يكون العزم عزما فاترا، فها هنا يجوز له الرجوع؛ لأنه إذا عزم عزما فاترا على الترك، فلو أراد الرجوع عن هذا العزم، وقصد الإقدام على الفعل- جاز له ذلك؛ فلعمنا أن ما قالوه فاسد.

ص: 3650

قوله: (هذه الدلالة لا تطرد عند تعارض أمارتي الوجوب والحظر): قلنا: لا قائل بالفرق.

وأيضا: فالإباحة منافية للوجوب والحظر، فعندما تعادل أمارتي الوجوب والحظر: لو حصلت الإباحة، لكان ذلك قولا بتساقطهما، وإثباتا لحكم لم يدل عليه دليل أصلا.

قوله: (لم) يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية؟): قلنا: لأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوسل بها إلى المدلول، فإذا كان هو في ذاته بحيث يمتنع التوسل به إلى الحكم، كان خاليا عن المقصود الأصلي منه، ولا معنى للعبث إلا ذلك، وهذا بخلاف وقوع التعارض في أفكارنا؛ لأن الرجحان لما كان حاصلا في نفس الأمر، لم يكن واضعه عابثا، بل غايته أنا لقصورنا، أو تقصيرنا، ما انتفعنا به.

أما إذا كان الرجحان مفقودا في نفس الأمر، كان الواضع عابثا.

وأما القسم الثاني: وهو تعادل الأمارتين في فعلين متنافيين، والحكم واحد، فهذا جائز، ومقتضاه التخيير، والدليل على جوازه وقوعه في صور:

إحداهما: قوله-عليه الصلاة والسلام في زكاة الإبل: (في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) فمن ملك مائتين، فقد ملك أربع خمسينات، وخمس أربعينات، فإن أخرج الحقاق، فقد أدى الواجب؛ إذ عمل بقوله:(في كل خمسين حقة) وإن أخرج بنات اللبون، فقد عمل بقوله- عليه الصلاة والسلام:(في كل أربعين بنت لبون) وليس أحد اللفظين أولى من الآخر؛ فيتخير.

ص: 3651

وثانيها: من دخل الكعبة، فله أن يستقبل أي جانب شاء؛ لأنه كيف فعل، فهو مستقبل شيئا من الكعبة.

وثالثها: أن الولي، إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه، ولو قسمه عليهما، أو منعهما، لماتا، ولو سقى أحدهما؛ فها هنا: هو مخير بين أن يسقي هذا، فيهلك ذاك، أو ذاك، فيهلك هذا، ولا سبيل إلا التخيير.

ورابعها: أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين-نفس إيجاب الضدين؛ وذلك يقتضي إيجاب فعل كل واحد منهما بدلا عن الآخر.

واحتج الخصم على فساد التخيير؛ بأن أمارة وجوب كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا يسوغ الإخلال به، والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به، فالقول بالتخيير مخالف لمقتضى الأمارتين معا.

والجواب: أما أمارة وجوب الفعل، فتقتضي وجوبه قطعا، وأما المنع من الإخلال به على كل حال: فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه، وإذا كان كذلك، لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين.

فرع: هذا التعادل: إن وقع للإنسان في عمل نفسه، كان حكمه فيه التخيير، وإن وقع للمفتي، كان حكمه أن يخير المستفتي في العمل بأيهما شاء، كما يلزمه ذلك في أمر نفسه، وإن وقع للحاكم، وجب عليه التعيين؛ لأن الحاكم نصب لقطع الخصومات، فلو خير الخصمين، لم تنقطع خصومتهما؛ لأن كل واحد منهما يختار الذي هو أوفق له، وليس كذلك حال المفتى.

فإن قلت: (فهل للحاكم أن يقضي في الحكومة بحكم إحدى الأمارتين، إذا كان قد قضى فيها من قبل بالأمارة الأخرى):

ص: 3652

قلت: لا يمتنع ذلك عقلا؛ كمن يجوز لمن استوى عنده جهتا القبلة: أن يصلي مرة إلى جهة، ومرة إلى جهة أخرى، إلا أنه منع منه دليل شرعي؛ وهو ما روي أنه- عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكرة- رضي الله عنه:(لا تقضين في شيء واحد بحكمين مختلفين) فأما ما روي عن- عمر رضي الله عنه: أنه قضى في (المسألة الحمارية) بحكمين، وقال:(ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي) فيجوز أن يكون ذلك ليس لتعادل الأمارتين؛ بل لأنه ظن في المرة الأولى قوة تلك الأمارة، وفي المرة الثانية قوة هذه الأمارة.

الكلام في التعادل والترجيح

(فائدة)

قال القرافي: قال سيف الدين: الترجيح اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به، وإهمال الآخر.

وقولنا: (الصالحين): احتراز عن غير الصالح؛ فإن الترجيح فرع تحقق الصالح.

وقولنا: (المتعارضان) احتراز عن غير المتعارضين؛ فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض.

وقولنا: (بما يوجب العمل بأحدهما، وإهمال الآخر) احتراز عما اختص به أحد الدليلين من الصفات الذاتية، أو العرضية، ولا مدخل له في التقوية والترجيح

ص: 3653

(فائدة)

قال سيف الدين: ويدل على أن العمل بالراجح واجب إجماع الصحابة، والسلف في المنقول من الوقائع كتقديمهم خبر عائشة في التقاء الختانين على خبر أبي هريرة في قوله عليه السلام:(إنما الماء من الماء).

وما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا وهو صائم على ما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام: (من أصبح جنبا فلا صوم له).

لكونها أعرف بحال النبي- عليه السلام وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص، واليأس منها، ومن استقرأ أحوالهم- رضوان الله عليهم- علم أن ذلك دأبهم بالضرورة.

ويدل أيضا حديث معاذ على ذلك؛ لأنه- عليه السلام قرره على تقديم الراجح؛ لأن مناسبة العقل تقتضي تقديم الراجح.

قال إمام الحرمين في (البرهان): حكى القاضي البصري الملقب

ص: 3654

بـ (جعل) إنكار الترجيح، ولم أره في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها، مع أنه قد أجمع الأولون على الترجيح قبل اختلاف الآراء.

واستدل القاضي لمنكري الترجيح بأنه غير معتبر في البينات، وهو غير متجه؛ فإن بعض العلماء يراه، ثم لو سلم فلعله يرى أن فيها تعبدات توقيفية.

(فائدة)

قال الغزالي في (المستصفى): (يجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر في النفي الأصلي قبل ورود السمع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة للنفي الأصلي، فينظر أولا في الإجماع، ثم في الكتاب والسنة؛ فإنهما يقبلان النسخ، والإجماع لا يقبله، ثم في الكتاب والسنة؛ المتواترة فهما على رتبة واحدة؛ لأن كل واحد يفيد العلم القاطع، والتعارض في العقليات محال إلا بالنسخ، ثم ينظر بعد ذلك في العمومات الكتابية وظواهرها، ثم في مخصصات العموم من أخبار الآحاد والأقيسة، فإن فقد ذلك نظر في القياس).

ص: 3655

(المسألة الأولى)

اختلفوا في تعادل الأمارتين هل يجوز؟

(فائدة)

قال أبو الحسين في (المعتمد): قال المتكلمون: كل ما أفاد النظر فيه الظن فهو أمارة، كان عقليا أو شرعيا.

وقال الفقهاء: القياس وخبر الواحد أدلة، ولا يسمون الأمارات العقلية أدلة، كالنظر في القبلة، وقيم المتلفات.

قوله: (منع الكرخي تعادل الأمارتين):

تقريره: أن المراد بالتعادل تساوي الظنين الحاصلين عنهما، والأمارتان لابد وأن يكونا من نوعين، وبينهما اختلاف بوجه ما.

وحينئذ لابد لذلك الوجه من مدخل في التأثير، فيمتنع الاستواء في الظنين الناشئين عنهما.

ووجه التجويز أن العادة قاضية بأن شهادة شاهدين متعارضين يجد الإنسان في نفسه الظني في أحدهما مثل الظن من أخبار الآخر إذا استويا في العدالة، والاستواء في العدالة في ظن الحاكم أيضا شهدت به العادة، وكذلك [الشخص] الواحد إذا روي حديثين متعارضين بسند واحد، يجد الظن منهما سواء بأن يكونا سواء في العموم والخصوص، وفصاحة اللفظ، ونحو ذلك، وبالجملة فالمحكم في هذه المسألة العادة، وما هو الواقع فيها.

قوله: (قال القاضي بالتخيير):

ص: 3656

تقريره: أن المجتهد إذا عمل بأحد الأمارتين، فقد عمل بمدرك شرعي، والمحذور إنما هو أن الحكم بالقوى أو قبل بذل الجهد، وهذا قد بذل جهده، فلا إثم حينئذ، والقول ىلآخر مبني على قاعدة، وهي أن الحجاج المعتبر منها إنما هو الظن الناشئ في ظنون المجتهدين؛ فإن الله- تعالى- نهى أن نقفو ما ليس لنا به علم؛ لأن غير المعلوم بصدد الخطأ والجهل بعذر حصول العلم في كثير من الصور أقام الشرع الظن مقامه؛ لغلبة صوابه، وندرة خطئه.

فإذا لم يحصل ظن امتنع الحكم، ومع التساوي لا ظن، فلا حكم، فيرجع إلى البراءة الأصلية، كأنه لم يجد سببا ألبتة كتساقط البينتين.

قوله: (تعادلهما في حكمين متنافيين في فعل واحد غير واقع في الشرع) ثم ذكر الدليل.

قلنا: ترك العمل بهما غير محال؛ لأنا إذا أعرضنا عنهما، وجعلناهما كالعدم الصرف الذي لم يرد، واعتبرنا البراءة الأصلية كان ذلك تركا للعمل بهما.

وقوله: (يكون وضعهما عبثا):

قلنا: التعادل إنما هو بحسب ظن المجتهد، وقد يستويان في ظن مجتهد دون غيره، فيكون الوضع ليس عبثا لأجل من يحصل في ذهنه الترجيح، سلمناه، ولكن العبث هو قاعة المعتزلة.

ونحن لا نقول به، فالمحال مبني عليه غير لازم.

قوله: (إما أن يعمل بأحدهما على التعيين أو لا):

تقريره: أن الحكم قد يكون بالتخيير بأحدهما عينا، فيلزم الترجيح من غير مرجح.

قوله: (إذا خيرناه بين الفعل والترك، فيكون إباحة للقتل، فيكون

ص: 3657

ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها، فيلزم الترجيح من غير مرجح):

قلنا: الدعوى عامة في تعارض الأمارتين، فقد لا تكون أحداهما الإباحة، بل إحداهما التحريم، والأخرى للوجوب، أو الكراهة والندب، أو الكراهة والوجوب، فما ذكرتموه إنما يلزم في بعض الصور القليلة بالنسبة إلى بقية المسألة، تفكون الدعوى عامة، والدليل خاصا، فلا يفيد كمن قال: الحيوان كله حرام؛ لأن الخنزير حرام.

سلمنا أن الدليل عام، لكن لا يلزم الترجيح من غير مرجح؛ لأنا حينئذ إنما أبحنا له الفعل من جهة التخيير بينهما، لا من جهة قصدنا إلى أمارة الإباحة، فهي إباحة أدى إليها حكم التخيير، لا أمارة ألتخيير.

بل اتفق أن حكم التخيير وافق أحدهما، فلا يقتضي ذلك ترجيحهما على الأخرى من غير مرجح.

كما إذا أقرعنا بين الرجلين لو شهدت البينة لأحدهما، فإنما نقضي بوجوب إرادته، ومقصوده في بعض الصور إذا صادف ذلك.

ولا يقال: إنا رجحناه على خصمه من غير مرجح؛ لأن ذلك نشأ عن سبب أقتضى حصول مقصوده؛ لأن المعتمد نفس مقصوده.

سلمنا دليلكم بجملته، لكنه يقتضي أن وقوعهما يلزم منه تكليف ما لا يطاق؛ بسبب اجتماع النقيضين بالعمل بهما، أو الترجيح من غير مرجح إذا عينا إحداهما، والتكليف بما لا يطاق جائز عندنا، وهو الذي اختاره المصنف في ذلك.

قوله: (المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين إما أن يكون اعتقاد رجحانها، أو العزم على الإتيان بمقتضاها):

قلنا: هذا ترديد بين المراتب التي هي غير منحصرة، فلا يفيد مع أن الحق لم يذكر فيها؛ لأن الأخذ بالدليل هو اعتقاد موجبه، وذلك غير اعتقاد

ص: 3658

رجحانه؛ وغير العزم على الإتيان بمقتضاه.

أما أنه مغاير لاعتقاد الرجحان، فلأن اعتقاد مقتضاه قد يكون مع التساوي، كما قال القاضي؛ فقد وجد بدون الرجحان، وأما ثانيا: فلأنه يترتب على رجحان الدليل في نفسه، والمترتب على الشيء غيره.

وأما أنه غير العموم على الإتيان بمقتضاه؛ فلأنه قد يقتضي الإباحة، ولا عزم حينئذ على الفعل ضرورة التخيير، ولذلك قد يقتضي التحريم، أو الكراهة، فلا عزم على الإتيان بمقتضى الحكم الشرعي، بل بمقتضى العصيان والمخالفة.

ثم قوله: (إذا كان العزم فاترا جاز له الرجوع)،ولم يبين ما يلزم من ذلك من المفاسد، وهو لا يلزم عليه شيء وهو احد الأقسام.

فللسائل التزامه، فيبطل الاستدلال بهذا التقسيم.

(سؤال)

قال النقشواني: تنافي الحكمين قد يكون في طرف الثبوت والانتفاء، كما إذا دلت أمارة على أن هذا لفعل بعينه غير ممنوع عنه، بمعنى لا حرج على فاعله، ودلت أمارة على أنه ممنوع، وقد يكون تنافيهما في طرف الثبوت كدلالة الأمارة على أن هذا الفعل واجب، والأخرى على انه مباح، أو في طرفي الانتفاء فقط، كدلالتها على وجوب صرف درهم لزيد، والأخرى على صرف درهم لعمرو.

وأما الثالث: فلا تعارض فيه وليس له ترك واحد منهما، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في الأول.

وأما الثاني: فيمكن إعمالهما من وجه؛ لأن كل واحدة تقتضي أن الفعل ليس محظورا، فيحرم الحظر، ويتوقف في الزائد عليه إلى ظهور المرجح،

ص: 3659

فإن عنى المصنف بقوله: (في المتنافيين والفعل واحد)؛ ليتنافيا ثبوتا وانتفاء، فلا يكون تمثيله بدلالة إحداهما على انه قبيح، ودلالة الأخرى على أنه مباح مطابقا؛ لعدم حصول التنافي ثبوتا وانتفاء من كل وجه، فيمكن أن يعمل بهما في اعتقاد عدم الوجوب.

ويتوقف في الحظر والإباحة إلى ظهور المعارض، وكذلك في أمارتي الوجوب والإباحة، وأمارتي الوجوب والحظر.

فالحظر والإباحة ترادفت أمارتهما على جواز الفعل، فترجحت أمارة الإباحة إذا اجتمعت مع الوجوب والحظر؛ لاعتضادها بالطرفين.

فإن قيل: أمارة الوجوب والحظر تنفيان الإباحة فترادفتا على نفيها، وحينئذ يحصل التعادل من هذا الوجه.

قلنا: لم تجتمع أمارتا الحظر والوجوب على محل واحد بالنسبة إلى نفي الإباحة، بل دلالة كل واحد منهما بواسطة دلالتها على شيء غير مدلول الدلالة الأخرى، فكانت دلالة أمارة الإباحة أقوى فينتفي التعادل.

(سؤال)

قال النقشواني: في كلامه تناقض؛ لأنه حكم بالجواز، واحتج بأن تعيينها يلزم منه الترجيح من غير مرجح، والترجيح من غير مرجح يلزم منه الامتناع، وهو يناقض الامتناع.

هذا في القسم الأول، وفي القسم الثاني فرض التعادل، وحكم بالتخيير، فالحكم بالتخيير إن كان ترجيحا من غير مرجح فقد وقع الترجيح من غير مرجح، فتناقض قوله في القسم الأول، وإن لم يكن ترجيحا من غير مرجح، فلا يتم الاستدلال في القسم الأول.

(سؤال)

ص: 3660

قال النقشواني: جعل من المثل تعارض الحديثين في الزكاة، وليس كذلك؛ لأنه من شرط التعادل أن يلزم من العمل بأحد الأمارتين ترك الأخرى، وها هنا هما مترادفتان على معنى واحد في المعنى، ومتى عمل بأحدهما فقد عمل الآخر.

وأما مثاله بالكعبة، فلم يوجد فيه أمارتان.

بل الواجب التوجه من أي جهة كان، وإلى أي جهة كان، بل ذلك كصلاة الظهر في أي مكان شاء.

(تنبيه)

قال التبريزي: لا خلاف في جواز تعارض دليلين عند إتحاد الحكم، واختلاف المتعلق، كوجوب استقبال كل جانب من جوانب الكعبة على الداخل، ووجوب إخراج الحقاق وبنات اللبون من نصاب المائتين.

أما عند اختلاف الحكم، واتحاد المتعلق، فإن كان في نظرنا، فهو أيضا جائز، وأما في نفس [الأمر] فقد أنكره الكرخي.

قال: وأجاب عن السؤال الثاني، بأن إذا رفعنا الحرج عن الفعل، فقد عملنا بدليل الإباحة أو أثبتناه، فقد عملنا بدليل الحظر.

قال: وهذا غلط عظيم؛ لأن هذا هو وجه التزييف؛ لأنه مهما ثبت أن مقتضى خطاب الإباحة رفع الحرج عن الفعل مطلقا بالنظر إلى ذات الفعل، فرفع الحرج بشرط قيد زائد وراء نفس الفعل لا يكون موافقا لمقتضى الخطاب، فلا يكون عملا بمقتضى الخطاب، ثم لا ننكر أن رفع الحرج بهذا التقدير يدخل أيضا تحت اقتضائه، فتكون موافقة له من وجه، لكن مثل هذا ثابت بالإضافة إلى خطاب التحريم، فلا يكون تقديما عليه في العمل، وهذا جواب واقع، وبه اندفع الإشكال عن مذهب الجمهور، وأجاب عن الثالث

ص: 3661

بأنه لا قائل بالفرق، وهو ضعيف.

وأجاب عن الرابع بأن حكمة نصب الأمارة التوصل بها إلى المدلول، وهذا الحصر أيضا غير مسلم.

قلت: يريد بقول: (إنه وجه التزييف) أن رفع الحرج عن الفعل هو وجه من دليل الإباحة، لا مجموع دليل الإباحة.

وكذلك دليل الحظر يقتضي رفع الحرج عن الترك، وهو وجه في الإباحة، فليس في ذلك إعمال أحد الدليلين عينا، فهذا وجه تغليطه له.

* * *

ص: 3662

المسألة الثانية

قال الرازي: إذا نقل عن المجتهد قولان: فإما أن يوجد له في المسألة قولان في موضع واحد، أو في موضعين: فإن وجد القولان في موضعين؛ بأن يقول في كتاب؛ بتحريم شيء، وفي كتاب أخر، بتحليله: فإما أن يعلم التاريخ، أو لا يعلم: فإن علم التاريخ: فالثاني منهما رجوع عن الأول ظاهرا- وإن لم يعلم التاريخ: حكي عنه القولان، ولا يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه- وإن وجد القولان في الموضع الواحد؛ بأن يقول:(في المسألة قولان) فإما أن يقول عقيب هذا القول ما يشعر بتقوية أحدهما، فيكون ذلك قولا له؛ لأن قول المجتهد ليس إلا ما ترجح عنده، وإن لم يقل ذلك، فهاهنا من الناس: من قال: إنه يقتضي التخيير إلا أنا أبطلنا ذلك.

وأيضا: فتقدير صحته يكون له في المسألة قول واحد، وهو التخيير، لا قولان.

بل الحق: أن ذلك يدل على أنه كان متوقفا في المسألة، ولم يظهر له وجه رجحان، والمتوقف في المسألة لا يكون له فيها قول واحد؛ فضلا عن القولين، أما إذا لم يعرف قوله في المسألة وعرف قوله في نظيرها، فهل يجعل قوله في نظيرها قولا له فيها؟ فنقول إن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب، لم يحكم بأن قوله في المسألة كقوله في نظيرها؛ لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق وإن لم يكن بينهما فرق ألبتة، فالظاهر: أن قوله في إحدى المسألتين قول له في الأخرى.

ص: 3663

وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي- رضي الله عنه فهي على وجوه:

أحدهما: أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا، وفي كتبه الجديدة شيئا أخر، والناس نقلوهما دفعة واحدة، وجعلوهما قولين له: فالمتأخر كالناسخ للمتقدم، وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم والدين: أما في العلم: فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب، والبحث، والتدبر.

وأما في الدين: فلأنه يدل على أنه متى لاح له في الدين شيء، أظهره؛ فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله، وترويج مذهبه، بل كان منتهى مطلبه به إرشاد الخلق إلى سبيل الحق.

وثانيها: أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد، ونص على الترجيح، كقوله في بعض ما ذكر فيه قولين:(وبهذا أقول، وهذا أولى، وبالحق أشبه).

وأيضا، فقد يفرغ على أحدهما، ويترك التفريع على الأخر؛ فيعلم أن الذي فرع عليه أقوى عندهم.

وأيضا: فربما نبه في أخر كلامه على الترجيح؛ لكن المطالع قد لا يتبع كلامه إلى آخره، وقد يمل فلا؛ ينتبه لموضع الترجيح.

وثالثها: أن يقول: (في هذه المسألة قولان) ولا ينبه على الترجيح ألبتة، فها هنا احتمالان:

أحدهما: أنه قال: (في هذه المسألة قولان) ولم يقل: (لي فيها قولان) فيمكن أن يكونا قولين لبعض الناس؛ وإنما ذكرهما، لينبه الناظر في كتابه على مأخذهما، وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما، ولأنه لو لم يذكرهما، فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته، إلا أنه لا يمكنه القول به؛

ص: 3664

لظنه أنه قول حادث، خارق للإجماع؛ فإذا نقله عرف أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع، ثم جاء الناقل؛ فجعلها قولين للشافعي، فهذا لا يكون عيبا على الشافعي، بل على الناقل؛ فإن الشافعي لم يقل:(لي فيها قولان)، بل قال: فيها قولان، فإذا جزم الراوي بكونها قولين للشافعي، كان العيب على الناقل.

وثانيهما: لعل مراد الشافي بقوله: (فيهما قولان) أن في المسألة احتمالين يمكن أن يقول بهما قائل، وذلك إذا كان ما سوى ذينك القولين ظاهر البطلان، فأما ذانك القولان، فكونان قويين؛ بحيث يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة، ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق؛ فلا جرم؛ أفردهما بالذكر، دون سائر الوجوه، وكما أنه يجوز أن يقال للخمر التي في الدن:(إنها مسكرة) وللسكين التي لم تقطع: (إنها قاطعة) والمراد منه: الصلاحية، لا الوقوع، فكذلك ها هنا، ثم إنه لم يرجح أحدهما على الآخر؛ لأنه لم يظهر له فيه وجه الترجيح.

ونقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني أنه قال: (لم يصح عن الشافي- رضي الله عنه قولان على الوجه إلا في سبع عشرة مسألة.

أقول: وهذا أيضا يدل على كمال منصبه في العلم، والدين:

أما العلم: فلأن كل من كان أغوص نظرا، وأدق فكرا، وأكثر إحاطة بالأصول والفروع، وأتم وقوفا على شرائط الأدلة، كانت الإشكالات عنده أكثر.

أما المصر على الوجه الواحد عمره في المباحث الظنية؛ بحيث لا يتردد فيه فذاك لا يكون إلا من جمود الطبع، وقلة الفطنة، وكلال القريحة، وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات.

ص: 3665

وأما الدين: فمن وجهين: الأول: أنه لما لم يظهر له فيه وجه الرجحان، لم يستح من الاعتراف بعدم العلم، ولم يشتغل بالترويج والمداهنة، بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه، وذلك لا يصدر إلا عن الدين المتين، كيف وقد نقل عن عمر- رضي الله عنه: اعترافه بعدم العلم، في كثير من المسائل، وجميع المسلمين عدوا ذلك من مناقبه وفضائله؛ فكيف جعلوه عيا ها هنا؟!.

والثاني: وهو أنه- رضي الله عنه لم يقل ابتداء: (إني لا أعرف هذه المسألة) بل وجد المسألة واقعة بين أصلين، فذكر وجه وقوعهما بينهما، وكيفية اشتباههما بهما، ثم لما لم يظهر له الرجحان، تركها على تلك الحالة؛ ليكون ذلك بعثا له على الفكر بعد ذلك، وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح، وهذا هو اللائق بالدين المتين، والعقل الرصين، والعلم الكامل؛ بل من أنصف واعترف بالحق، علم أن ذلك مما يدل على رجحان حاله، على حال سائر المجتهدين في العلم والدين.

المسألة الثانية

(إذا نقل عن المجتهد قولان)

قال القرافي: قوله: (بل الحق أن ذلك يدل على أنه متوقف في المسألة) فيه إشكال من جهة أنه لا قول مع التوقف، والتقدير أنه حكى عنه قولان.

وطريق الجمع أنه بالقولين عن الاحتمالين، كما بينه آخر المسألة.

* * *

ص: 3666

القسم الثاني

قال الرازي: في مقدمات الترجيح، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الترجيح: (تقوية أحد الطرفين على الآخر؛ ليعلم الأقوى، فيعمل به، ويطرح الآخر) وإنما قلنا: (طريقين) لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين، لو انفرد كل واحد منهما [،لكان طريقا] فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق.

المسألة الثانية: الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح، وأنكره بعضهم؛ وقال عند التعارض: يلزم التخيير أو التوقف.

لنا وجوه:

الأول: إجماع الصحابة على العمل بالترجيح؛ فإنهم قدموا خبر عائشة- رضي الله عنها في (التقاء الختانين) على قول من روى: (إنما الماء من الماء) وخبر من روت من أزواجه: (أنه كان يصبح جنبا) على ما روى أبو هريرة: (أنه من أصبح جنبا، فلا صوم له) وقوى على خبر أبو بكر، فلم يحلفه، وحلف غيره، وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، بموافقة محمد بن مسلمة، وقوى عمر خبر أبي موسى في الاستئذان؛ بموافقة أبي سعيد الخدري.

الثاني: أن الظنين، إذا تعارضا، ثم ترجح أحدهما على الأخر، كان العمل بالراجح متعينا عرفا؛ فيجب شرعا؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام:(ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن).

الثالث: أنه لو لم يعمل بالراجح، لزم العمل المرجوح، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه العقول.

ص: 3667