الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثالث
في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع
، وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأول في مباحث الحكم:
وفيه مسائل:
قال الرازي: المسالة الأولى: اتفق أكثر المتكلمين على صحة القياس في العقليات، ومنه نوع يسمونه (إلحاق الغائب بالشاهد).
قالوا: ولابد من جامع عقلي، والجامع أربعة: العلة، والحد، والشرط، والدليل.
أما الجمع بالعلة: فكقول أصحابنا: إذا كانت (العالمية) شاهدا فيمن له العلم، معللة بالعلم، وجب أن يكون كذلك غائبا.
وأما الجمع بالحد: فكقول القائل: حد العالم شاهدا: من له العلم؛ فيجب طرد. الحد غائبا.
وأما الجمع بالشرط: فكقولنا: العلم مشروط بالحياة شاهدا؛ فكذلك غائبا ذلك.
وأما الجمع بالدليل: فكقولنا: التخصيص والأحكام يدلان على العلم والإرادة شاهدا؛ فكذلك غائبا.
واعلم أنه لما كان الجمع بالعلة أقوى الوجوه، وجب علينا أن نتكلم فيه، فنقول: اعتماد القياس على مقدمتين:
إحداهما: أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا.
وثانيها: أن تلك العلة حاصلة بتمامها في الصورة الأخرى.
فهاتان المقدمتان: إن حصل العلم بهما، حصل العلم بثبوت الحكم في الفرع، وإن حصل الظن بهما حصل الظن بثبوت الحكم في الفرع.
وإنما قلنا: (إنه يلزم من حصول العلم بتينك المقدمتين- حصول العلم بالنتيجة؛ وذلك لأنه إذا ثبت أن ذلك المعنى مؤثر في ذلك الحكم، ثم ثبت ذلك المعنى في صورة أخرى، فنقول: كون ذلك المعنى مؤثرا في ذلك الحكم في تلك الصورة، إما أن يعتبر في تلك المؤثرية كونه حاصلا في تلك الصورة، أو كونه غير حاصل في هذه الصورة، وإما ألا يعتبر فيها ذلك.
فإن كان الأول: لم يكن ذلك المعنى إتمام العلة؛ لأن مرادنا من تمام العلة كل ما لابد منه في المؤثرية، فإذا كان لابد من قيد كون المعنى هناك، أو قيد كونه ليس هناك- فذاك المعنى ليس وحده تمام العلة؛ على التفسير الذي ذكرناه.
وإن كان الثاني: فتمام المؤثر حصل في الأصل مستلزما للحكم، وفي الفرع غير مستلزم للحكم، مع انه لم يختلف حاله ألبتة في الصورتين، لا بحسب زوال شيء عنه، ولا بحسب انضمام شيء إليه؛ فيلزم حينئذ ترجح أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح؛ وهو محال.
فثبت بهذا البرهان الباهر: أنه يلزم من العلم بتينك المقدمين حصول العلم بثبوت الحكم في الفرع، وإذا ثبت هذا ظهر أن بتقدير حصول هاتين المقدمتين في العقليات، كان القياس حجة فيها.
فإن قلت: حاصل الكلام فيما ذكرته هو الاستدلال بحصول العلة على حصول المعلول، وليس هو بقياس.
قلت: بل هذا هو القياس؛ فإنا رأينا الحكم حاصلا في صورة معينة، ثم
قامت الدلالة على أن المؤثر في ذلك الحكم، هو الوصف الفلاني، ثم قامت الدلالة على أن ذلك الوصف حاصل في هذه الصورة الثانية- لزم القطع بحصول الحكم في الصورة الثانية، بل تحصيل اليقين لهاتين المقدمتين أمر صعب؛ وذلك لأنا وإن بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الأصل، فالمثلان لابد وأن يتغايرا بالتعين والهوية؛ وإلا فهذا عين ذاك، وذاك عين هذا؛ فيكون كل واحد منهما عين الآخر، فالاثنان واحد، هذا خلف.
وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية، فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة، أو شرط العلية، وفي الجانب الآخر: يكون مانعا من العلية، ومع هذا الاحتمال: لا يحصل القطع.
واعلم أن للمتكلمين طرقا في تعيين العلة:
أحدها: التقسيم الذي لا يكون منحصرا، فإذا قيل لهم: لم لا يجوز وجود قسم آخر؟ قالوا: اجتهدنا في طلبه، فما وجدناه، وعدم الوجدان بعد الاستقصاء في الطلب يدل على عدم الوجود؛ كالمبصر، إذا طلب شيئا في الدار، ونظر إلى جميع جوانبها في النهار، فلم يجد- قطع العدم، وهذا ضعيف؛ إذ رب موجود ما عرفناه بعد الطلب، والقياس على نظر العين قياس من غير جامع، وبتقدير ذكر الجامع، فهو إثبات القياس بالقياس؛ وهو باطل.
وثانيها: الدوران الخارجي، وقد تقدم بيان أنه لا يفيد الظن؛ فضلا عن اليقين.
وثالثها: الدوران الذهني؛ كقولهم: متى عرفنا كون التكليف أمرا بالمحال، عرفنا قبحه، وإن لم نعرف شيئا آخر، ومتى لم نعرف كونه أمرا بالمحال، لم نعرف قبحه، وإن عرفنا سائر صفاته، فإذن: العلم بالقبح دائر، مع العلم بكونه بالتكليف بالمحال في الذهن.
فهذا الدوران الذهني يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح، هو نفس كونه أمرا بالتكليف.
فنقول: كلامكم يشتمل على أمري:
أحدهما: أنه لما لزم من العلم بكونه أمرا بالمحال- العلم بقبحه، لزم أن يكون كونه أمرا بالمحال علة لقبحه.
والثاني: أنه لما لم يلزم من العلم بسائر صفاته- العلم بكونه قبيحا، وجب ألا يكون سائر صفاته علة لكونه قبيحا، وأنتم منازعون في هذين المقامين، فلابد من الدلالة عليهما؛ فإن العلم بهما ليس من العلوم الضرورية؛ كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وما رأيت أحدا من المتكلمين ذكر في تقرير هذين المقامين شيئا؛ على أن الأول منقوض بجميع الإضافات؛ فإنا متى علمنا كون هذا الشخص أبا، علمنا كون هذا الآخر ابنا، وكذا بالعكس من أنه يستحيل أن يكون كون هذا أبا لذاك علة لكون ذلك ابنا لهذا؛ لأن المضافين معا، والعلة قبل المعلول؛ (والمع) لا يكون قبل.
وأما الثاني: فلأنه لا يمكن القطع بأنا إذا عرفنا سائر صفاته، فإنه لا يحصل العلم عند ذلك بكونه قبيحا إلا إذا عرفنا كل صفة، فكيف يمكننا أن نقطع بأنا عرفنا كل صفاته؟ فإنا إذا جوزنا أن يكون من الصفات ما لم نعرفه، جوزنا في بعض تلك الصفات التي لم نعرفها أن يجب عند العلم به العلم بكونه قبيحا، ومع هذا التجويز: لا تتم هذه المقدمة.
سلمنا أنه لا يلزم من العلم بسائر الصفات العلم بكونه قبيحا؛ فلم يدل هذا القدر على أن سائر الصفات لا يجوز أن تكون مؤثرة في القبح؟.
واعلم أن الكلام في تقرير هاتين المقدميتن مأخوذ من الفلاسفة؛ فإنهم زعموا أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، فعلى هذا: كل ما كان علة للقبح، يلزم من العلم به العلم بالقبح.
وزعموا أن العلم اليقيني بوجود المعلول لا يحصل إلا من العلم بعلته، فلما لزم الجزم بالقبح عند العلم بكونه أمرا بالتكليف المحال، علمنا أن علة القبح ذلك، ولكنا قد نقلنا في كتبنا الكلامية دلائلهم على هاتين المقدمين، وبينا ضعفهما وسقوطهما، فلا نعيدهما ها هنا، وبالله التوفيق.
القسم الثالث
في مباحث الحكم والأصل والفرع وفيه ثلاثة أبواب
الباب الأول [في مباحث الحكم]
قال القرافي: قوله: يجوز أن يكون خصوص المحل شرطا، ومع الاحتمال فلا يقين):
قلنا: قد يقطع الناظر بعدم اعتبار خصوصيات المحل عادة، وشرطا، وعقلا.
أما العادة: فلأنا نعلم أن زيدا إنما احترقت خشبته بهذه النار لكونها نارا، وأن خصوصها، وخصوص الخشبة لا مدخل له في الإحراق.
وأما شرعا: فلأنا نقطع أن هذا الزاني إنما رجم لما صدر منه من مفهوم الزنا المشترك بينه وبين غيره من الزناه، وأن خصوص زناه غير معتبر.
وأما عقلا: فلأنا نقطع أن المحل إنما يصير أسود، أو أبيض، أو عالما، لأصول هذه المعاني دون شخصياتها، وهذا أمر ضروري عند العقل، فتحصيل اليقين ليس عسرا، بل كثير جدا. نعم بعض المواطن لا يحصل فيه اليقين، وذلك لا يقدح في حصول اليقين في البعض الآخر.
قوله: (القياس على نظر العين قياس من غير جامع، وبتقدير الجماع فهو إثبات القياس بالقياس):
قلنا: بل الجامع حاصل، وهو أن البصيرة إذا نظرت في مفهوم العشرة، حصل الجزم بأنها ليس فيها ما يمنع أن يكون ثيابا، أو دراهم، ولا ما يوجب أنها فرد، وهذه ضرورة تحصل لا يمكن دفعها عن النفس، كما لا يمكن رفع العلم بوجود من نشاهده عن أنفسنا، فحصول العلم الضروري بعد التأمل بالبصر، أو البصيرة هو الجامع.
وقولكم: (إثبات القياس بالقياس):
قلنا: لا نسلم؛ فإن الصورة قد تذكر ليقاس عليها.
وقد تذكر للتمثيل والتنبيه على وجود الحق في صورة النزاع.
ولذلك إنه يحسن منا في هذا المقام أن تكون الدعوى عامة، والدليل صورة جزئية، وإثبات الكلية بالجزئية خطأ، وما ذلك إلا لأن المراد التنبيه والتمثيل كما يقول القائل: البغال لا تلد، ويدلك على ذلك أن جميع ما رأيناه منها لا تلد، فيتفطن السامع لوجه الاستقراء في ذلك، فيحصل له العلم بأن كل بغلة لا تلد.
قوله: (الدوران الخارجي لا يفيد الظن، فضلا عن اليقين):
قلنا: (بل الدوران قد يفيد اليقين عقلا، كدوران العلم مع العالمية.
وعادة، كدوران الموت مع قطع الرأس والعنق.
وقد يفيد الظن: كدوران الري مع شرب الماء، والإسكار مع تحريم الخمر.
وقد لا يفيد شيئا؛ كدوران الجوهر مع العرض، فتعميم القول بأن الدوران لا يفيد الظن مطلقا غير متجه.
قوله: (إذا لم يعرف كونه أمرا بالمحال لم يعلم قبحه، وإن علمنا سائر صفاته):
قلنا: قد لا نعلم كونه تكليما بالممكن الذي ليس بمحال، ونعلم قبحه لتضمنه [للكذب]، أو ذهاب نفس، أو غير ذلك من المفاسد التي هي أسباب القبح، فلم يحصل الدوران حالة العدم).
قوله: (العلم اليقيني بالمعلول لا يحصل إلا من العلم بعلته):
قلنا: قد يحصل العلم [اليقيني] بالحقيقة [في] غير علتها، كما نقطع بحصول الحياة عند حصول العلم، وإن كان العلم ليس علة للحياة، ولذلك نقطع بالعلم إذا علمنا بالإرادة، وبالمحل إذا قطعنا بالحال مع أن شيئا من هذه ليس بعلة للآخر.
ثم إن العلة قد يتخلف عنها أثرها لمانع، أو تخلف شرط، كما أن الثقل في طبيعة الحجر عندهم يقتضي الهبوط بشرط عدم المعاوق، والنار تقتضي التسخين بشرط قبول المحل، إلى غير ذلك مما هو مذكور في الطبيعيات عندهم.
فإذا علمنا بوجود العلة لا يمكننا الجزم بالمعلول؛ لجواز تخلف الشرط وقيام المانع، ومع الاحتمال لا جزم، فبطل قولهم: إن الجزم إنما يحصل من قبل العلة، بل غير العلة يحصل العلم، والعلة قد لا يحصل معها العلم، فبطل طردا وعكسا، وهذا ما أشار إليه المصنف في كتبه العقلية.
(تنبيه)
نسب الدوران الذهني إلى القبح العقلي المتكلمون مع أن المتكلمين لا
يقولون بالقبح العقلي، وما ذلك إلا أنه يريد المتكلمين- هاهنا- المعتزلة؛ فإن اسم المتكلمين كان أولا لهم قبل ظهور الأشعرية، ولذلك قال الشافعي: لو وجدت المتكلمين لضربتهم بالجريد، ولم يكن في زمان الشافعي أحد من الأشاعرة، إنما جاءوا بعده بزمان طويل.
وبهذا نجيب- أيضا- عمن يذم الأشاعرة بهذا النقل عن الشافعي، بأن نقول: نحن نضرب أولئك بالسيوف فضلا عن الجريد؛ فإن منهم عمرو بن عبيد من غلاة المعتزلة الذي نقل عنهم ما أوجب اختلاف العلماء في تكفيرهم، كجحد الصفات، وعدم إرادة الكائنات، وغير ذلك كم كبائرهم المنقولة عنهم.
(سؤال)
قال النقشواني: قوله: (هذا إثبات القياس بالقياس) ليس كذلك، بل القياس ثبت بالبحث السابق عن أن العلة إذا كانت معلومة في الأصل وفي الفرع إلى آخره، وهذا الكلام بعد ذلك استدلال بالقياس، لا إثبات للقياس، فلو كان إثباتا له لزم الدور.
* * *
المسألة الثانية
الحق جواز القياس في اللغات، وهو قول ابن سريج منا، ونقل ابن جني في (الخصائص): أنه قول أكثر علماء العربية؛ كالمازني وأبي علي الفارسي، وأما أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية فينكرونه.
لنا وجوه:
الأول: أنا رأينا أن عصير العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة الطارئة، فإذا حصلت تلك الشدة، سميت خمرا، فإذا زالت الشدة مرة أخرى، زال الاسم؛ والدوران يفيد ظن العلية، فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هو الشدة، ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ، فيحصل ظن أن علة هذا الاسم حاصلة في النبيذ، ويلزم من ظن حصول علة الاسم ظن حصول الاسم، فإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر، وعلمنا أو ظننا أن الخمر حرام- حصل ظن أن النبيذ حرام، والظن حجة، فوجب الحكم بحرمة النبيذ.
فإن قيل: الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل العلية، وهاهنا لم يوجد الاحتمال؛ لأنه ليس بين شيء من الألفاظ، وشيء من المعاني مناسبة أصلا؛ فاستحال أن يكون شيء من المعاني داعيا للواضع إلى تسميته بذلك الاسم، وإذا لم يوجد احتمال العلية هاهنا، لم يكن الدوران هاهنا مفيدا لظن العلية.
سلمنا أنه حصل ظن العلية؛ ولكن إنما يلزم من حصول العلة في الفرع حصول ذلك الحكم، إذا ثبت أن تلك العلة إنما صارت علة لأن الشارع جعلها علة؛ ألا ترى أنه لو قال:(أعتقت غانما لسواده) فإذا كان له عبد آخر أسود،
لم يعتق عليه؛ لأن ما يجعله الإنسان علة لحكم لا يجب أن يتفرع عليه الحكم، أينما وجد؟! فكذا هاهنا لا يلزم من كون الشدة علة لذلك الاسم حصول ذلك الاسم، أينما حصلت الشدة، إلا إذا عرفنا أن واضع الاسم هو الله تعالى.
والجواب عن الأول: أنه لا يمكن جعل المعنى علة للاسم، إذا فسرنا العلة بالداعي، أو المؤثر.
أما إذا فسرناها بالمعرف، فلا يمتنع؛ كما أن الله تعالى جعل الدلوك علة لوجوب الصلاة، لا بمعنى كون الدلوك مؤثرا، أو داعيا، بل بمعنى: أن الله تعالى جعله معرفا، فكذا هاهنا.
وعن الثاني: أنا بينا أن اللغات توقيفية.
الثاني: وهو الذي اعتمد عليه المازني، وأبو علي الفارسي- رحمهما الله- أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن كل فاعل رفع، وكل مفعول نصب، وكذلك القول في كل وجوه الإعراب، وأن كل ضرب منها اختص بأمر انفرد به، ولم يثبت ذلك إلا قياسا؛ لأنهم لما وصفوا بعض الفاعلين به، واستمروا على ذلك، علم أنه ارتفع الفاعل؛ لكونه فاعلا، وانتصب المفعول؛ لكونه مفعولا.
فإن قلت: (كيف يصح ذلك، وقد وجد المفعول غير منتصب، وكذا الفاعل قد لا يرتفع؛ لعارض؟):
قلت: تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية عند من يقول بتخصيص العلة، ومن لا يقول به يجعل ذلك القيد العدمي جزءا من العلة.
الثالث: وهو: أن أهل العربية أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله، إنما ارتفع؛
لكونه شبيها بالفاعل في إسناد الفعل إليه، ولم تزل فرق النحاة من الكوفيين والبصريين يعللون في الأحكام الإعرابية بأن هذا يشبه ذاك في كذا؛ فوجب أن يشبهه في الإعراب، وإجماع أهل اللغة في المباحث اللغوية حجة.
الرابع: أن نتمسك بعموم قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] فإنه يتناول كل الأقيسة، واعتمادهم في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ؛ فامتنع جعل المعنى علة للاسم؛ بخلاف الأحكام الشرعية؛ فإن المعاني قد تناسبها، لكنا قد بينا سقوط هذا الفرق.
واحتج المخالف بأمور:
أحدها: قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31] دلت الآية على أنها بأسرها توقيفية؛ فيمتنع في شيء منها أن يثبت بالقياس.
وثانيها: أن أهل اللغة لو صرحوا، وقالوا:(قيسوا) لم يجز القياس؛ كما إذا قال: أعتقت غانما لسواده، ثم قال:(قيسوا) فإنه لا يجوز القياس؛ فإذا لم يجز القياس عند التصريح بالأمر بالقياس، فلأن لا يجوز ذلك مع أنه لم ينقل عن أهل اللغة نص في ذلك- كان أولى.
وثالثها: أن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل، وتعليل الأسماء غير جائز؛ لأنه لا مناسبة بين شيء من الأسماء، وبين شيء من المسميات، وإذا لم يصح التعليل، لم يصح القياس ألبتة.
ورابعها: أن وضع اللغات ينافي جواز القياس؛ فإنهم سموا الفرس الأسود (أدهم) ولم يسموا الحمار الأسود به، وسموا الفرس الأبيض (أشهب) ولم
يسموا الحمار الأبيض به، وسموا صوت الفرس (صهيلا) وصت الحمار (نهيقا) وصوت الكلب (نباحا).
وأيضا: القارورة إنما سميت بهذا الاسم؛ لأجل الاستقرار، ثم إن ذلك المعنى حاصل في الحياض والأنهار، مع أنها لا تسمى بذلك؛ والخمر إنما سميت بهذا الاسم؛ لمخامرتها العقل، ثم المخامرة حاصلة في الأفيون وغيره، ولا يسمى خمرا.
والجواب عن الأول: أنه ليس في الآية أنه تعالى علم آدم الأسماء كلها توقيفا؛ فيجوز أن يكون علم البعض توقيفا، والبعض تنبيها بالقياس، ولأنه يجوز أن يدرك آدم علمها توقيفا، ونحن نعلمها قياسا كما أن جهات القبلة قد تدرك حسا، وقد تدرك اجتهادا.
وعن الثاني: أنا ندعي أنه نقل إلينا بالتواتر عن أهل اللغة: أنهم جوزوا القياس؛ ألا ترى أن جميع كتب النحو، والتصريف، والاشتقاق مملوءة من الأقيسة، وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة. فإنه لا نزاع أنه لا يمكن تفسير القرآن، والأخبار إلا بتلك القوانين؛ فكان ذلك إجماعا معلوما بالتواتر.
وعن الثالث: ما قد بينا: أنا نفسر العلة بالمعرف، لا بالداعي، ولا المناسب، وحينئذ لا يقدح عدم المناسبة فيه.
وعن الرابع: أن أقصى ما في الباب: أنهم ذكروا صورا لا يجري فيها القياس، وذلك لا يقدح في العمل بالقياس؛ كما أن النظام لما ذكر صورا كثيرة في الشرع لا يجزي فيها القياس، لم يدل ذلك على المنع من القياس في الشرع.
(المسألة الثانية)
في جواز القياس في اللغات
قال القرافي: قوله: (إذا زالت الشدة زال اسم الخمر، فتكون الشدة علة هذا الاسم، فيتأتى القياس في النبيذ):
قلنا: لا نزاع أن الحكم ينتفي لانتفاء مسماه، وانتفاء جزء مسماه.
فإذا سمت العرب الحيوان الناطق بالإنسان، فزال الناطق، أو الحيوان، زال استحقاقه للفظ الإنسان لغة.
وكذلك لفظ العشرة موضوع لمجموع الخمستين، فإذا زال بعض تلك الأفراد زال استحقاق اسم العشرة.
فزوال الاسم لزوال مسماه أو جزئه لا خلاف فيه، إنما النزاع في إثبات استحقاق الاسم لمعنى آخر غير المنقول لغة لمعنى مشترك بينه وبين الوضع الذي نقل أهل اللغة الوضع له، وما ذكرتموه ليس من ذلك، فلا يد لكم على مطلوبكم.
قوله: (لا يلزم من كون الشدة علة لذلك الاسم حصول ذلك الاسم أينما حصلت الشدة، إلا إذا عرفنا أن واضع الاسم هو الله تعالى):
قلنا: ولو علمنا أن واضع الاسم هو الله- تعالى- لا يلزم ذلك، حتى يرد الأمر بالقياس من جهة الله- تعالى- فلولا الأمر بالقياس ورد في الشرع ما قسنا، ولو فهمنا التعليل.
قوله: (ما بينا أن اللغات توقيفية):
قلنا: المختار- هنالك- إنا هو التوقف، لا أنها توقيفية.
سلمنا ذلك، لكن لم قلتم: إن الله- تعالى- إذا وضع اللفظ، لمعنى يلزم أن نقيس عليه حتى تتبينوا أن الله- تعالى- امر بالقياس؟.
قوله: (اعتمد أبو علي وغيره على أن كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب، وغير ذلك من وجوه الإعراب):
قلنا: هذا لا حجة فيه؛ لأن العرب تضع الجزئيات كتسمية الحيوان المخصوص بالفرس، وهو كلية في نفسه، ولكنه جزئي بالقياس إلى الحيوان.
وتارة تضع الكلية كقولهم: كل فاعل مرفوع، كما قالوا: كل جسم حساس اسمه حيوان، فليس هاهنا قياس ألبتة، بل كل فاعل يرفع بالوضع الأول لا بالقياس، كما أن كل [جسم] حساس يسمى حيوانا بالوضع الأول لا بالقياس، كما إذا قال الشارع:(اقتلوا كل مشرك)؛ فإنا نقتل ما نجده منهم بنص الشارع لا بالقياس، فالكليات اللغوية أو الشرعية لا يدخلها القياس، إنما يفيد إذا ألحقنا غير محل [الوضعي] به، ولم يبينوه.
قوله: (أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله، إنما رفع لكونه شبيها بالفاعل، والبصريون والكوفيون يعللون الأحكام الإعرابية).
قلنا: هذا لا حجة فيه؛ لأن النحاة تعلل الوضع الأول، ويقولون: وضع هذا للمعنى الفلاني لأجل كذا. هذا مسلم، وبقيت مقدمة أخرى ما نقلتموها عنهم، وهو أنهم قالوا: إذا كان الوضع لأجل كذا، فقد جوزت العرب أن يلحق به ما في معناه، لا بمعنى الكليات المتقدم ذكرها، بل بمعنى القياس، وهذا موضع النزاع، وما نقلتموه، فلم يحصل المطلوب.
وتعليل الوضع ليس كافيا في ذلك حتى قال بعض الفضلاء: العلل العقلية، والشرعية، والعادية، تتبعها أحكامها.
والعلل اللغوية [بعكس] ذلك، تتبع أحكامها.
فننظر أي شيء وضعوا عللناه، لا أنا نثبت وضعا لأجل علة، وهذا فرق عظيم بين الأبواب، فتأمله.
قوله: (الرابع): قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار {[الحشر: 2]).
قلنا: هذه الآية، وإن سلمت الدلالة منها، فإنها إنما تفيد أن قياس اللغة شرعي، والبحث في هذه المسألة إنما وقع الأدباء في كونه لغويا من مقتضى اللغة، قبل بعثته- عليه السلام فلا مدخل للنصوص الشرعية في هذا الباب، إنما تدخل النصوص في الأحكام الشرعية.
قوله: (احتجوا بقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]):
قلنا: قد تقدم أول الكتاب البحث في هذه الآية.
قوله: (لو صرح أهل اللغة فقالوا: قيسوا لم يجز القياس، كما إذا قال: أعتقت غانما لسواده، ثم قال: قيسوا):
قلنا: الفرق أنه إذا قال: (أعتقت غانما لسواده)، ثم قال:(قيسوا) لا يصح؛ لأن العتق حكم شرعي يستدعي علة شرعية منصوبة من قبل الشارع؛ فإنا لا نخرج الأحكام الشرعية إلا على العلل الشرعية، والأحكام اللغوية على العلل اللغوية، والأحكام العقلية على العلل العقلية، فلو أن لهذا القائل:(أعتقت غانما لسواده) أحكاما تخصه لا للشرع، ونص على علة، وقال:(قيسوا باعتبارها) قسنا، لكن المثال ليس كذلك فيه ترتيب للأحكام الشرعية على علة رجل من الناس، وهذا ليس مطابقا.
قوله: (سميت الخمر خمرا لمخامرتها العقل، والمخامرة حاصلة في الأفيون، ولا يسمى خمرا):
قلنا: إنما سميت [خمرا] للمخامرة بقيد سرور النفس فانبساطها كما قال [الوافر]:
ونشربها فتتركنا ملوكا
…
وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
والأفيون إنما هو ساتر فقط، فلم يوجد المعنى في الأفيون، بل الفرق حاصل بين المسكر، والمرقد، والمفسد للعقل مع بقاء الحواس من غير نشوة.
وتمتاز الثلاثة على المسكر بثلاثة أحكام: عدم الحد، والطهارة، وحل اليسير منها.
وفي المسكر: الحد، والتنجيس، وتحريم اليسير، فهذه فروق ظاهرة لغة وشرعا.
قوله: (كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة):
قلنا: ليست تلك الأقيسة المتنازع عليها، إنما هو إدراج جزئي تحت كلي لغة، وإدراج الفرد تحت الكلية ليس من باب القياس في شيء، كما تقدم بيانه في الفاعل والمفعول، و (اقتلوا كل مشرك).
قوله: (تلك لصور لا تدل على المنع من القياس، كما [أن ما] ذكره النظام من الصور- في الشرع- لم يمنع ذلك من القياس في الشرع):
قلنا: بل الدلالة حاصلة في الصورتين بسبب أن هذه [الصورة] لو ترك فيها القياس لا لمرجح، لزم الترجيح من غير مرجح.
وإن كان لمرجح لزم التعارض بينه وبين الدال على القياس، والتعارض على خلاف الأصل، فتعين ألا يكون القياس مشروعا في البابين نفيا للتعارض.
غير أن هذه المقدمة وجدناها في القياس الشرعي لإجماع الصحابة وغيره من النصوص مما يجب تقديمه عليها.
وأما في القياس اللغوي فلم قلتم: إنه وجد ما تقدم عليها، ولو وجد ما تقدم عليها لم تنتف الدلالة؟ فإن ترك الدليل لمعارض لانتفى كونه دليلا، وإلا لما صدق قولنا: حصل التعارض بين الدليلين بخروج كل واحد منهما عن كونه دليلا.
(فائدة)
صورة المسألة المتنازع فيها لم يذكرها المصنف، ومثالها: تسمية النباش سارقا؛ لمشاركته السارق لغة في أخذ المال على وجه الخفية، واللائط زانيا لوجه في محل حيوان، وإن كان لفظ الزنا والسرقة إنما وضع لخصوص تلك المحال، ولذلك لم يسم الغاصب سارقا، ولا الخائن، ولا الجاحد لأمانته.
(تنبيه)
زاد سراج الدين فقال على قوله: (اللغات توقيفية): لقائل أن يقول: أنت اخترت التوقف، فبطل الجواب.
وقال التبريزي: القول المرضي امتناع القياس في اللغات، ويدل عليه أمور:
الأول: أن أسماء الأجناس [الصفات والمعاني] ألقاب [لها، كأسماء الأعلام للذوات، ومقصودها التعريف]، وعلتها الحاجة للتفاهم.
الثاني: أن العلة المستنبطة لا تزيد على المنصوصة، ولو قال: سميت ابني هذا زيدا لسواده، أو لزيادته، لم يصر غيره من أولاده يسمى زيدا، وإن كان أسود، فكذلك في الأجناس.
الثالث: أن القياس فرع صحة التعليل، وتعليل وضع الاسم لمسماه باطل لوجوه:
الأول: أن طريق إثبات العلة بالاستنباط: السبر، أو المناسبة، أو الدوران.
ودليل الحصر أن العلة لابد أن تتميز عن غيرها، وإلا لم تكن أولى من غيرها، والتميز إما بالوجود، أو [بزائد] عليه.
والأول إما في صورة معينة أو صور.
فالوصف الزائد هو المناسبة.
والتعين في الوجود في العين هو السبر، وفي الجنس هو الدوران.
وإذا ثبت الحصر فنقول: لا سبيل إلى المناسبة؛ إذ لا مناسبة بين الألفاظ ومعانيها، وما يتخيل من إشعار الاشتقاق ينبني على ثبوت استحقاق المشتق منه لمعناه، وللكلام فيه كيف، والمعنى المعبر عنه بلفظ المخامرة لو عبر عنه بلفظ التغطية والساتر والسبر لم يثبت فيه؟، فنسبته إلى الخمر في الاقتضاء كنسبته إلى الغطاء، والساتر لم يمنع، والسبر والدوران ممتنعان؛ فإن خصوص محل التسمية لازم للقدر المشترك، فلم يتعين في الوجود، ولا يلزم عليه التعليل الشرعي لوجهين:
أحدهما: هو أن الإذن في القياس من واضع الحكم معلوم، ومن ضرورته إلغاء خصوص المحال.
الثاني: أن الحكم الشرعي معلوم المصالح والمفاسد، ولا أثر لخصوص المحال فيها، وأما الوضع اللغوي فهو معلول الحاجة للتعريف، والحاجة لتعريف المعنى لخصوصه، كالحاجة لتعريف المطلق بل أبلغ.
الوجه الثاني: هو أن القدر المشترك من مقاصد الأوضاع منقوض أبدا، كمعنى المخامرة بالبنج، ومعنى المنع بالصخر والنحاس، ولا سبيل إلى دعوى المانع؛ إذ لا مانع للإطلاق من حيث اللغة إلا عدم الوضع، والوضع لا مانع له أصلا.
الوجه الثالث: أن ما يعلل به من القدر المشترك نعارضه بالحاجة إلى التعريف علما، وبصرف خصوص وجه الاشتقاق إلى تعيين ذلك اللفظ من بين سائر الألفاظ.
المسلك الرابع: أن تعليل الأوضاع اللغوية يؤدي إلى التناقض وبيانه من وجوه:
الأول: أن من شروط صحة التعليل تسليم حكم الأصل، وهو كون اللفظ موضوعا للمعتصر من العنب، كما أنه ليس موضوعا للموز.
الثاني: أن القياس إنما يعلل حكم النص، والمعلوم بالنص إما كون اللفظ موضوعا للمعين، أو القدر المشترك.
فإن كان الأول: فالقياس يناقضه.
والثاني: غير محتاج إليه.
والثالث: أنه يلزم منه صحة قياس الخمر على النبيذ في [تسميتها] نبيذا، فإنها أيضا نبيذ، وكذا قياس الخابية على القارورة، والقارورة على الخابية، لاشتراك كل [واحدة] منهما فيما وضع له.
الوجه الرابع: أنه يؤدي إلى تعذر وضع اسم الأعيان؛ لأنه مهما قال: وضعت هذا الاسم لهذا المسمى عللته بعموم وجه الاشتقاق، وجعلته عاما في القدر المشترك إلا أن نقول: هو لهذا لا غير، ومعلوم أن قوله: لا لغيره تأكيد، فدل على استقلال قوله: هو لهذا بأصل المعنى، وهو عام في كل وضع.
المسلك الخامس: أنه لو صح القياس في طرف المسمى لصح في طرف الاسم؛ نظرا إلى عين التعليل؛ لأنه إذا ثبت أن المعتصر من العنب إنما يسمى خمرا؛ لأنه يخامر العقل، فكما أن مسمى النبيذ يشارك مسمى الخمر في هذا المعنى، فلفظ الخمار [والخمير] يشارك لفظ الخمر في هذا الإشعار، فإن
صح تسميته النبيذ خمرا للمشاركة في المعنى صحت تسمية الخمر خمارا أو خميرا للمشاركة في المعنى، ويؤيده القياس الشرعي؛ فإنه لما كان صحيحا اعتبر في طرف الحكم كما اعتبر في طرف المحكوم عليه، فكما نقيس مخرج البول والثقبة المنفتحة دون المعدة على مخرج الغائط في جواز الاستنجاء بالحجر؛ للمشاركة في المعنى، نقيس الخرق والخشب على الحجر في جواز الاستنجاء؛ للمشاركة في المعنى، بل بطريق الأولى، فإن احتمال التفاوت بين الأعيان في المقاصد الشرعية قائم، واحتمال التفاوت في الإشعار ومقصود التعريف غير قائم، بل نقول: الخمار يخمر الرأس، والغطاء يخمر الكوز، ولا يسمى خمرا.
فلئن قلت: خصوص المغطى داخل في المسمى، وهو كونه عقليا.
قلنا: وكذلك خصوص [المغطى] داخل في المسمى، وهو كونه معتصرا من العنب، ولا فصل بينهما.
المسلك السادس: هو أن الوضع من التصرفات العينية، فلا يقبل النقل بالتعليل كرقوم الكتابة، وسكة الدينار، والتنصيص بالذكر؛ فإذا رأينا العاقل كتب رقوما، أو ضرب سكة، أو ذكر شخصا، وعرفنا مشاركة غيره له في علة الكتابة، والسكة، والذكر، فلا يلزم إلا وجوب الكتابة والذكر؛ لوجود الحاجة إليه، أما نفس الكتابة والذكر فلا، ولهذا في القياس الشرعي لا نقول: إن السفر جل لما كان في معنى البر فقد ذكره- عليه السلام مع البر، وإنما يكون أراد تحريم بيعه متفاضلا كما أراد تحريم بيع البر، غير أن إثبات الحكم على وفق إرادة الشارع شرع، وإن لم ينطق [به]، فليفهم هذه الدقيقة.
المسلك السابع: أن الحكم كما لابد له من علة؛ فلابد له من فائدة، وحكمة الوضع التعريف، فإذا وضع اللفظ لشيء، فلابد أن يفيد الإطلاق تعريفه، ومهما قسنا معنى آخر عليه في التسمية بطلت إفادة اللفظ تعريفه عند
الإطلاق؛ لأنه ضار مشتركا، أو للقدر المشترك، وهذا فارق آخر بين القياس في الشرع، وبين القياس في اللغة؛ فإن الزجر المقصود بالقصاص في المحدد لا يبطل بشرع القصاص في المثقل وأمثاله، وقد حصل الجواب بما ذكرنا عن حجتهم الأولى.
وأما الثانية والثالثة فنقول: هما يرجعان إلى التتبع، ويصرف الوضع بالاستقراء من مجاري الاستعمال، واستنباط معاني عن محل النص للفهم لا للتعدية، ويدل عليه أن هذه الألقاب- أعني: الرفع، والنصب والجر- اصطلاحات حادثة من المصنفين، فلا يمكن إسنادها إلى نطق العرب، بل ربما لو سمعوا هذه الألفاظ لم يدركوا معناها المقصود في محاوراتنا، فإذا هو تعبير عما فهموه من استعمالهم، وإخبار على وفق العلم الحاصل من الاستقراء.
ومن هذا القبيل قولهم: إنما رفع ما لم يسم فاعله لاستناد الفعل إليه تشبيها بالفاعل؛ فإنه حكاية عن الواقع نصا، وإنما يكون قياسا أن لو جهلوا حكمه أولا، ثم ألحقوه بالفاعل للاشتراك في هذا المعنى، أما إذا كان رفعه منصوصا عليه من أهل الشأن، فالتنبيه على المعنى تصحيح لم استنبطوه من المعنى ببيان الاطراد.
وأما تعميم الحكم في بيان رفع الفاعل، فذلك لأنه لما عسر على المصنفين تفصيل كل فاعل [ضبطوا ما خرج عن القاعدة، وأحالوا ما عداه على القاعدة الكلية المفهومة بالاستعمال المنطوق به، فقالوا: الفاعل] بأصله يستحق الرفع إلا إذا امتنع لمانع وذكروه؟.
ثم لو سلمنا أن ذلك كله قياس، ولكنه في الإعراب، فلم قالوا: إنه يلزم منه صحة القياس في نفس اللغة؟.
والفرق ما مر من الفرق بينه وبين القياس الشرعي، وهو أن رفع ما لم يسم فاعله لا يرفع كون الفاعل مرفوعا.
وتسمية كل [ما يخامر العقل] خمرا ينفي كون المعتصر من العنب يسمى خمرا.
المسألة الثالثة
قال الرازي: المشهور أنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب.
والدليل عليه: أنا إذا قسنا اللواط مثلا على الزنا في كونه موجبا للحد: فإما أن نقول: إن كون الزنا موجبا للحد؛ لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط، وإما ألا نقول ذلك:
فإن كان الأول: كان الموجب للحد هو ذلك المشترك؛ وحينئذ: يخرج الزنا واللواط عن كونهما موجبين للحد؛ لأن الحكم لما أسند إلى القدر المشترك، استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد منهما؛ فإذن شرط القياس بقاء حكم الأصل، والقياس في الأسباب ينافي بقاء حكم الأصل؛ بخلاف القياس في الأحكام؛ فإن ثبوت الحكم في الأصل لا ينافي كونه معللا بالقدر المشترك بينه وبين الفرع، وأما إن قيل: كون الزنا موجبا للحد ليس لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط، استحال قياس اللواط عليه؛ لأنه لابد في القياس من الجامع.
فإن قلت: (الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في الحكم، بل تأثيره في علية الوصفين، وأما الحكم، فإنما يحصل من الوصفين):
قلت: هذا باطل؛ لأن ما صلح لعلية العلة، كان صالحا لعلية الحكم؛ فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة.
المسألة الثالثة
القياس في الأسباب
قال القرافي: قوله: (يكون الموجب للحد هو ذلك المشترك لا الزنا):
قلنا: المشترك بين الزنا واللواط لا علة للحد، وسببيات الأسباب غير مسببات الأسباب.
كما نقول: اختلاط الأنساب سبب كون الزنا سببا للحد.
وقد اشترك الزنا واللواط في الإيلاج في الفرج المحرم الموجب لفساد النسب، إما باختلاط، أو بحسم مادة إيجاده.
وهذا المعنى لا يمكن أن يكون علة للحد؛ لأن من جمع صغار الصبيان سنين طويلة حتى اختلطوا والتبسوا على آبائهم، فإنه لا يجب عليهم الحد أو من قبل النساء حتى تعذر النسل، أو سقاهن دواء يوجب بطلان التوليد، لا يقول أحد بوجوب رجمه، وبهذا يظهر أن ما يصلح علة العلة قد لا يصلح علة للحكم.
(سؤال)
قال النقشواني: علة العلية هي الحكمة، والوصف ضابطها، فإذا صلحت علة الحكم، فلم لا تصلح- أيضا- علة العلة؟؛ فإنه لا تنافي بين تعليل أحكام بعلة واحدة، ويضاف الحكم إليها إضافة الحكم لمؤثره، والوصف إضافة الحكم لضابطه ومعرفه، بل الواقع في جميع الأحكام هو ذلك، وعدم انضباط بعض الحكم يقتضي منع القياس في تلك الصورة، والمنع من القياس في بعض الصور لا يقتضي المنع مطلقا كما نقول في الصورة التعبدية في الفروع، بل نقول: قد يكون القياس في السبب بطريق الأولى؛ فإنا إذا عللنا الزنا باختلاط الأنساب، فإبطالها أولى بالزجر؛ فإن وضع الماء في غير محل التوليد يبطل النسب بالكلية.
(تنبيه)
زاد التبريزي فقال: احتج المخالف بأن السببية حكم شرعي- كما سبق أول الكتاب، فجاز تعليله كسائر الأحكام.
وأجابوا عن الإشكال بأن ذلك المعنى إنما يناسب السببية لا الحكم، فلا يمكن إضافة الحكم إليه.
والجواب هو أن الفرق ما ذكرناه من لزوم رفع حكم الأصل وإلغاء خصوصه، وأن المعنى وإن لم يناسب الحكم لم يمكن تعليل السببية به.
قلت: هذا ممنوع، بل لا يناسب الحكم، ويناسب السببية كما نقول: مصالح العبد في تخليص الاكتساب، وتكميل العبادات، والمناصب سبب مشروعية العتق، والعتق سبب الإرث، ومصالح العبد لا تناسب أن يؤخذ ماله عنه بعد موته، وخوف الزنا سبب الزواج، والزواج سبب وجوب النفقة، وتغليظ الجريمة في الحد بالرجم، مع أن سد ذريعة الزنا لا يناسب الرجم، والنفقة، والسفه سبب الحجر، والحجر سبب صون المال، والسفه لا يناسب صون المال، بل إفساده، والقتل سبب التكفير بالعتق، والعتق سبب الإرث، والقتل لا يناسب الإرث، والكفر سبب الرق، والرق سبب التخفيف بسقوط الجمعات والجهاد والحج، مع أن الكفر لا يناسب ذلك بل التغليظ، وكم سبب لا يناسب مسبب سببه، فأمكن ذلك في الحكم، ونحن لم ندع وقوع القياس في كل صورة، بل إن وجدنا شروطه حاصلة قسنا، وإلا فلا، وللخصم منع ذلك بالكلية، فكان الحق معنا.
(فائدة)
قال سيف الدين: قال أكثر أصحاب الشافعي: يجوز القياس في
الأسباب، ومنع من ذلك أبو زيد وأصحاب أبي حنيفة، وهو المختار في الأسباب والشروط، فنص على الشروط في مسألة أخرى بعد هذه في (الإحكام) ولم ينص عليه في (المحصول).
قال: لأن الجامع بين الأسباب هي الحكمة، وهي إن كانت منضبطة ظاهرة جلية، وفرعنا على جواز التعليل في الأحكام فالحكمة استقلت بإثبات الحكم، ولا حاجة إلى الوصف.
وإن فرعنا على المنع امتنع تعليل الحكم بها.
وأما إن كانت خفية مضطربة، فإن كانت مضبوطة بضابط، فذلك الضابط هو السبب، ويسقط خصوص كل واحد منهما، فيمتنع القياس بين السببين، وإن لم تكن مضبوطة امتنع الجمع بها إجماعا؛ لاحتمال التفاوت بين الأصل والفرع.
قال: فإن قيل: احتمال التساوي أرجح؛ لأنها إما مساوية أو راجحة، أو مرجوحة، وعلى التقديرين الأولين: يكون التساوي حاصلا وحده، أو مع زيادة، واحتمالا من احتمالين أرجح من احتمال واحد.
قلنا: إن كان هذا القدر كافيا، [فيجمع] بين الأصل والفرع في الحكمين به، ولا حاجة إلى السبب، وإلا فهو ساقط.
قلت: وقد تقدم جواب هذا الكلام من كلام النقشواني، ومن كلامي.
* * *
المسألة الرابعة
الحكم الذي طلب إثباته بالقياس: إما النفي الأصلي، أو الحكم الثبوتي المعلوم، أو المظنون: فلنتكلم في هذه الثلاثة، فنقول: افي أن النفي الأصلي، هل يمكن التوصل إليه بالقياس أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه.
والحق أنه يستعمل فيه قياس الدلالة، لا قياس العلة.
أما قياس الدلالة: فهو: أن يستدل بعدم آثار الشيء وعدم خواصه على عدمه، وأما تعذر قياس العلة، فلأن الانتفاء الأصلي حاصل قبل الشرع؛ فلا يجوز تعليله بوصف يوجد بعد ذلك.
ولقائل أن يقول: علة الشرع لا معنى لها إلا المعرف، وتأخر الدليل عن المدلول جائز.
وأعلم أن هذا الكلام يختص بالعدم، فأما الإعدام، فإنه حكم شرعي يجري فيه القياس.
وأما الذي طريقه العلم فقد اختلفوا في أنه، هل يجوز استعمال القياس فيه؟ وعندي: أن هذا الخلاف لا ينبغي أن يقع في الجواز الشرعي؛ فإنه لو أمكن تحصيل اليقين بعلة الحكم، ثم تحصيلا اليقين بأن تلك العلة حاصلة في هذه الصورة- لحصل العلم اليقيني بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل، بل البحث ينبغي أن يقع في أنه، هل يمكن تحصيل هذين اليقينين في الأحكام الشرعية، أم لا؟
وأما الذي طريقه الظن: فلا نزاع في جواز استعمال القياس فيه.
المسألة الرابعة
(القياس في العدم)
قال القرافي: قوله: (الإعدام يجري فيه [القياس]):
تقريره: أن الإعدام هو تحصيل العدم بعد الوجود، والسعي في إذهاب الوجود إنما يكون لمفسدة فيه، وهو قياس العلة، أو لذهاب [خاصية]، وهو قياس الدلالة.
(سؤال)
قال النقشواني: قوله: (اتفقوا على أن الاستصحاب كاف في النفي الأصلي) يناقضه قوله أول الكتاب: (إن ما لم يرد الشرع فيه بشيء هل الحكم فيه الحظر أو الإباحة أو التوقف)؟
فإن أراد بالنفي الأصلي: الإباحة أو الحظر، فلا اتفاق فيهما، ولا على أن الاستصحاب كاف، وكذلك التوقف لا يكفي فيه الاستصحاب؛ ولأن التوقف ليس نفيا أصليا.
قال: فلئن قال: تلك المسألة قبل ورود االشرائع، وهذه بعدها.
قال: قلت: لا تفاوت بينهما في المعنى.
قلت: جوابه أن القول بكفاية الاستصحاب لا يأباه ما ذكره من المذاهب؛ فإن القائل بتلك المذاهب لو قال بالبراءة الكلية من الأحكام كما يقوله أكثر الفقهاء- كفاه الاستصحاب، وإنما لم يقل به لمعارض عنده أداه للحظر أو غيره، وترك الدليل [المعارض] لا يمنع كونه كافيا في تحصيل مقصود من المقاصد؛ لأنا لا نعني بالكفاية إلا أنه بحيث إذا جرد النظر إليه كان كافيا في ذلك المقصود، ولو كان الدليل إنما يكون كافيا إذا لم يكن له معارض لم
يكن النص كافيا؛ لأنه يعارضه معارض، بل الكفاية معناها ما ذكرناه، فلا يضر الخلاف المذكور.
(سؤال)
قال النقشواني: قوله: (يدخله قياس الدلالة، وهو الاستدلال بعدم آثار الشيء عليه، وعدم [خواصه على عدمه]) لا يتجه؛ لأن هذا ليس قياسا عند الفقهاء، ولا يندرج في حدود القياس.
وتقريره: أن كون الشيء أثرا للشيء وخاصة، إن علم بدليل شرعي بنص أو قياس كانت هذه الصورة مما ورد الشرع فيها بحكمها.
وإن لم يعلم بأدلة الشرع، فإما ألا يعلم أصلا، فيتعذر فيه قياس الدلالة، فإن علم بدليل عقلي فالأحكام الشرعية لا تثبت بالأدلة العقلية عند المصنف.
وقوله: (علة [الشرع] معرفة):
قلنا: قد تقد أن الوصف لا يكون معرفا للحكم لا بواسطة كونه معرفا للمؤثر والداعي.
* * *
المسألة الخامسة
قال الرازي: اختلفوا في أنه، هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس، أم لا؟ فقال الجبائي والكرخي: لا يجوز؛ وبنى الكرخي عليه أنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب؛ بالقياس.
واعلم: أن هذا الخلاف يمكن حمله على وجهين:
الأول: أن يقال: (الصلاة بإيماء الحاجب، لو كانت مشروعة، لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبينها بيانا شافيا، وينقله أهل التواتر إلينا؛ حتى يصر ذلك معلوما لنا قطعا، فلما لم يكن كذلك، علمنا أن القول بها باطل).
والثاني: أن يقال: (لا ندعي أنها لو كانت مشروعة، لحصل العلم بها يقينا، ولكنا مع ذلك نمنع من استعمال القياس فيه).
أما الأول: فهو باطل بالوتر؛ فإنه واجب عندهم، مع أنه لم يعلم بوجوبه قطعا.
فإن قلت: (إذا جوزت في ذلك ألا يبلغ مبلغ التواتر؛ فلعله- عليه الصلاة والسلام أوجب صوم شوال، ولم ينقل ذلك بالتواتر.
قلت: المعتمد في نفيه الإجماع.
وأما الثاني: فتحكم محض؛ لأنه إذا جاز الاكتفاء فيه بالظن، فلم لا يكتفي بالقياس؟ ثم إنا نستدل على جوازه بعموم قوله تعالى:{فاعتبروا} [الحشر: 2] أو بما أنه يفيد ظن الضرر؛ فيكون العمل به واجبا.
المسألة الخامسة
اختلفوا هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس؟
(سؤال)
قال القرافي: قال النقشواني: لعل الكرخي والجبائي لا يقولون بوجوب المؤثر، أو يقولان، لكنه كان النقل عندهما فيه متواترا، ثم خفي في زماننا أو عندهما في زمانهما؛ فإن التواتر قد يختص ببعض الناس.
(سؤال)
قال النقشواني: قوله: (المعتمد فيه الإجماع) فيه نظر؛ لأنه فرق بين ما لم يقل به أحد من أهل الإجماع، وبين ما قال به أهل الإجماع.
فالحجة في الثاني، دون الأول، ولم يوجد إلا الأول.
قال: فإن قلت: بل ورد قوله عليه السلام: (لا إلا أن تطوع).
وانعقد الإجماع على وفقه فقد وجد الأول.
قال: قلنا: إذا انعقد الإجماع على هذه الصورة امتنع القياس على خلافه، وهو مقصود الخصم.
(سؤال)
قال النقشواني: قوله: (إذا جاز الاكتفاء في هذا بالظن، فيجوز القياس) للخصم أن يمنع أن أصول العبادات تثبت بأخبار الآحاد.
(سؤال)
قال النقشواني: تمثيله المسألة بصلاة الإيماء، لا يتجه؛ لأنها ليست عبادة أخرى، بل الصلاة الأصلية إذا عجز عنها كهذه الحالة يختلف العلماء، هل يكتفي منه بهذا؛ لقوله عليه السلام:(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أو سقط بالكلية؛ لقصوره عن المأمورية؟
كما اختلفوا في من لم يبق معه إلا القدرة على النية، هل يأتي بها أم لا؟ فليس هذا المثال مطابقا.
* * *
المسألة السادسة
قال الرازي: مذهب الشافعي- رضي الله عنه: أنه يجوز إثبات التقديرات، والكفارات، والحدود، والرخص بالقياس.
وقال أبو حنيفة وأصحابه- رحمهم الله: إنه لا يجوز.
وحاصل الخلاف: أنه، هل في الشريعة جملة من المسائل يعلم أنه لا يجوز استعمال القياس فيها، أوليس كذلك، بل يجب البحث عن كل مسألة أنه، هل يجري القياس فيها أم لا؟.
لنا: التمسك بعموم قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2]- وبإطلاق قول معاذ: (أجتهد)؛ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم صوبه في إطلاقه- وبأنه يجب العمل بالصواب المظنون.
فإن ادعوا أنه لا يمكننا وجدان العلة في هذه المسائل؛ فلذلك إنما يظهر بالبحث عن كل واحدة من هذه المسائل، فإن وجدنا العلة فيها، صح القياس، وإلا فلا، ولكن هذا المعنى غير مختص بهذه المسائل، بل كل مسألة لا نجد العلة فيها، تعذر علينا القياس.
واعلم: أن الشافعي- رضي الله عنه ذكر مناقضاتهم في هذا الباب، فقال:(أما (الحدود): فقد كثرت أقيستهم فيها؛ حتى تعدوها على الاستحسان؛ فإنهم زعموا في شهود الزوايا: أن المشهود عليه يجب رجمه بالاستحسان؛ مع أنه على خلاف العقل، فلأن يعمل به وافق العقل كان أولى، وأما
(الكفارات): فقد قاسوا الإفطار بالأكل، على الإفطار بالوقاع، وقاسوا قتل الصيد ناسيا، على قتله عمدا، مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى:{ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95].
فإن قلت: (ليس هذا بقياس؛ وإنما هو استدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة):
قلت: إنكم لما لم تبينوا: أن الحكم في الأصل يجب أن يكون معللا، وأن العلة: إما الذي به الاشتراك بين الأصل والفرع، أو الذي به الامتياز، وباطل ألا يكون معللا، وباطل أن يكون معللا بما فيه الامتياز؛ فوجب التعليل بما به الاشتراك؛ ويلزم من حصول ذلك المعنى في الفرع حصول الحكم فيه، وهذا نفس القياس، واستخراج العلة بطريق السبر والتقسيم.
وأما (المقدرات): فقد قاسوا فيها؛ حتى إنهم ذهبوا إلى تقديراتهم في (الدلو والبئر).
وأما (الرخص): فقد قاسوا فيها، وبالغوا؛ فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص، ثم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة كانت أو معتادة؛ وانتهوا فيها إلى نفي أيجاب استعمال الأحجار.
وقالوا أيضا: العاصي بسفره يترخص، فأثبتوا الرخصة بالقياس، مع أن القياس ينفيها؛ لأن الرخصة إعانة، والمعصية لا تناسب الإعانة).
احتج الخصم بقوله- عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) والقياس لا يفيد؛ فتحصل الشبهة.
وأما (المقدرات): فهي كالنصب في الزكوات، والمواقيت في الصلوات، وقالوا: العقول لا تهتدي إليها.
وأما "الرخص": فقالوا: إنها منح من الله تعالى؛ فلا يعدل بها عن مواضعها.
وأما "الكفارات": فإنها على خلاف الأصل؛ لكونها منفية بالنص النافي للضرر.
والجواب عنها: أنها تشكل بالمسائل التي ذكرها الشافعي- رضي الله عنه ثم نقول: هذه الأدلة خصت بخبر الواحد؛ فإنه يجوز إثبات هذه الأشياء بخبر الواحد، مع أنه لا يفيد العلم، وما لأجله صار خبر الواحد مخصصا لها- قائم في القياس الخاص- فوجب تخصيصها بالقياس.
المسألة السابعة
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي- رحمه الله: ما طريقة العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره، وأقل النفاس وأكثره- لا يجوز إثباته بالقياس؛ لأن أسبابها غير معلومة، لا قطعا، ولا ظاهرا فوجب؛ الرجوع فيها إلى قول الصادق.
المسألة السادسة
في القياس في المقدرات
قال القرافي: قوله: "لنا قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2]، وقول معاذ: "أجتهد رأيي":
قلنا: قد تقدم أنهما مطلقان لا دلالة لهما على خصوصيات محل النزاع.
قوله: "يجب العمل بالضرر المظنون":
قلنا: لا نسلم أن مطلق الظن يعمل به، بل مراتب خاصة، فلم قلتم: إن هذا منها؟.
قوله: "ليس هذا بقياس، بل استدلال على موضع الحكم بخلاف الفوارق":
قلنا: هذا فيه خلاف هل هو قياس أم لا؟ وعامة الحنفية على أنه ليس بقياس.
قوله: "ما بينتم أن الحكم في الأصل يجب أن يكون معللا، وهو بالفارق، وأن العلة إما الذي به الامتياز، أو المشترك، والأول باطل":
قلنا: لا تحتاجون إلى ذكر التعليل أصلا، بل تقولون: نحن لا نعلم علة هذا الحكم أصلا، ونجزم بنفي الفارق، كما نجزم بالتسوية بين الأزمان، وأنه لا فارق بينهما، وأن الله- تعالى- إنما فضل بعضها على بعض بإرادته لذلك، لا لمعنى في المفضل.
قوله: "ذهبوا إلى التقدير في الدلو والبئر":
تقريره: أنهم فرقوا في سقوط الدواب في الآبار فتموت، فقال في الدجاجة: تنزح البئر عددا من الدلاء، وفي الفأرة أقل من ذلك، وجعلوا لكل حيوان [مقدارا] من الدلاء، وهو مجرم تحكيم بغير نص في ذلك.
قوله: "احتجوا بقوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات":
قلنا: الحديث ليس بصحيح.
سلمنا: صحته لكن [الشبه مأخوذ] من الاشتباه، وهو تعارض موجبين: احدهما: يقتضي وجوب الحد، والآخر يقتضي عدمه، كما نقول في الأمة المشتركة: نصيب الواطئ يقتضي سقوط الحد، ونصيب الشريك يقتضي الحد، فاشتبه الأمران، فسقط الحد.
وكذلك واطئ الأجنبية معتقدا أنها مباحة له، اعتقاده يقتضي عدم الحد، وأجنبيتها تقتضي الحد، فاشتبه الأمران.
ونكاح المتعة فيه دليلان: أحدهما: يقتضي ثبوت الحد، والآخر يقتضي عدمه.
وهذه الثلاثة هي أنواع الشبهات.
إما في الواطئ كاعتقاده الحل.
أو في الموطوءة [كالمشتركة]، أو الطريق، وهو اختلاف العلماء.
أما القياس إذا لم يفد القطع فالراجع منه موجب، والمرجوح ملغي في جميع مراتب الظنون، فلم يتعارض موجبان حتى تحصل الشبهة.
قوله: "العقل لا يهتدي لمقادير نصب الزكاة":
قلنا: محل النزاع إنما هو إذا اهتدى.
قوله: "الرخص منح من الله- تعالى- فلا يدخلها القياس":
قلنا: هذه مصادرة، بل إذا فهمنا أن الله- تعالى- منح عباده منحة لأجل معنى مشترك بينهما وبين صورة أخرى، جعلنا تلك الصورة الأخرى منحة من الله- تعالى- بالقياس تكثيرا لمنح الله- تعالى- وحفظا لحكمة الوصف عن الضياع.
قوله: "الكفارة على خلاف الأصل؛ لأنها ضرر":
قلنا: إذا كانت المصلحة تقتضي مخالفة الأصل في صورة، ووجدنا صورة أخرى مساوية لها في تلك المصلحة، خالفنا الأصل- أيضا- تكثيرا لتلك المصلحة الراجحة في الأصل، وما قدمه الله- تعالى- على غيره في صورة كان الأصل تقديمه عليه مطلقا.
"تنبيه"
زاد التبريزي فقال: [قال] الحنفية: المشهود عليه بالزنا في زوايا البيت يرجم استحسانا.
فزاد ذكر الزوايا على "المحصول".
وصورتها: أنه شهد أربعة على أنه زنا بفلانة، غير أن كل شاهد عين زاوية من زوايا البيت، فقالت: الأحسن رجمه؛ لأنه قد اتفق على أصل الزنا، ويجوز أنه كان يدور بها في أركان البيت، فرؤى في الزوايا الأربع.
وقال في الجواب [عن] مداركهم: "إن على مذهب التصويب لا يتصور الخطأ في القياس".
يريد أن كل مجتهد مصيب، فيقطع بالصواب في القياس.
قال: وأما المقدرات، فلا نقيس في نفس التقدير، بل في نقل المقدر بسببه، وكذلك الرخص والكفارات.
"فائدة"
قال إمام الحرمين "في البرهان": قال الحنفية بالاستحسان في مسألة شهود الزوايا: إن المشهود عليه يرجم بالاستحسان:
قلت: وهذه العبارة تقتضي أن عبارة "المحصول" تصفحت على النساخ، وأصلها "الزوايا"، فكتبوا "الزنا"؛ استبعادا للفظ "الزوايا" عن الصحة، لاسيما و "البرهان" هو أحد الأصول التي ألف منها "المحصول"، وكشفت عدة نسخ فلم أجد إلا قوله:"الزنا"، بغير واو وألف بعدها.
***
المسألة الثامنة
قال الرازي: الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا يجوز إثباتها بالقياس؛ كقران النبي صلى الله عليه وسلم وإفراده، ودخوله مكة صلحا أو عنوة؛ فإن مثل هذه الأمور تطلب لتعرف، لا ليعمل بها؛ فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن.
المسألة التاسعة
القياس إذا ورد بخلاف النص: فالنص إما أن يكون متواترا، أو آحادا:
فإن كان متواترا: فالقياس إن نسخه، كان مردودا، وإن خصصه، فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب العموم والخصوص، وإن كان آحادا: فهو ما إذا ورد خبر الواحد على خلاف القياس، وقد شرحنا الحال فيه في باب الخبر.
المسألة العاشرة
يجوز التعبد بالنصوص في كل الشرع، فإنه يمكن أن ينص الله تعالى على أحكام الأفعال على الجملة، ويدخل تفصيلها فيها؛ كما إذا نص على حرمة الربا في كل مطعوم؛ فيدخل فيه كل مطعوم.
وأما التعبد بالقياس في الكل، فمحال؛ لأن القياس لا يصح إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل، لكن أحكام الأصول شرعية؛ لأن العقل لا يدل إلا على البراءة الأصلية، فما عداها لا يثبت إلا بالشرع، فلو كانت تلك الأحكام مثبتة بالقياس، لزوم الدور؛ وهو محال.
المسألة الثامنة
الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا تثبت بالقياس، كقران النبي- صلى الله عليه وسلم وإفراده، ودخوله "مكة" صلحا، أو عنوة:
قال القرافي: قلنا: هذه يتعلق بها عمل؛ لأن الذي فعله- عليه السلام يكون أفضل، فيكون القران مثلا أفضل، والعنوة يتعلق بها وقف الأراضي عند مالك، وجماعة من العلماء، وهدم الكنائس، وغير ذلك من الأحكام، بل يتعذر القياس في هذه لمعنى آخر، وهو أنها تثبت بنوع من النظر المصلحي غير القياسي، اقتضته تلك الحالة الحاضرة، فيتعذر القياس لذلك.
ثم قوله: "لا يجوز الاكتفاء فيها بالظن"- مشكل، بل يجوز إثباتها بخبر الواحد، وكذلك إثبات أمثالها؛ لأنها قصص وتواريخ.
المسألة العاشرة
لا يجوز أن تثبت الشريعة بالقياس:
قال سيف الدين في "الإحكام": اختلفوا في جواز إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية، فأثبته بعض الشذوذ [مصيرا منه إلى] أن جميع الأحكام جنس واحد يدخل تحت حد واحد، وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر.
قال: وجوابه من وجهين:
قال: وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الجائز على أفراد النوع قد يمتنع في بعضها [المعارض] من
خارج، كما امتنع على بعض الآدمين المعصية لدلالة الدليل على العصمة، كما في هذه الأمة دون غيرها من الأمم، وهاهنا دل الدليل من خارج، وهو لزوم أصل يقاس عليه، فلو ثبت كل أصل بأصل لزم التسلسل.
وثانيهما: أن من الأحكام ما لا يمكن تعليله ألبتة؛ فيتعذر القياس.
"خاتمة لهذا الباب"
قال سيف الدين: القياس ينقسم إلى: فرض عين، وكفاية، ومندوب:
فالأول: من نزلت به نازلة من القضاة والمجتهدين، ولا يقوم غيره فيهما مقامة، وضاق الوقت.
والثاني: أن يكون كل مجتهد فيها يقوم مقام الآخر.
والثالث: ما يجوز حدوثه من الوقائع، ولم يحدث.
وهذا الكلام بعينه في "المعتمد" لأبي الحسين، وكأن سيف الدين نقله منه.
قال سيف الدين: وهل يوسف القياس بأنه دين لله تعالى؟.
فوصفه به القاضي عبد الجبار.
ومنه أبو الهذيل من ذلك مطلقا.
وفصل الجبائي بين الواجب، فوصفه بالدين، وبين المندوب، فلا يوصف.
قال: والمختار أنه إن عنى بالدين ما هو حكم [مقصود] أصالة، كوجوب الفعل وحرمته، ونحوه، فالقياس ليس من الدين؛ لأنه مقصود لغيره لا لنفسه.
وإن عنى بالدين ما تعبد به كان مقصودا في نفسه أم لا؟، فهو من الدين، فالمسألة لفظية.