الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
فيما يظن أنه من مفسدات العلة، مع أنه ليس كذلك
قال الرازي: وقبل الخوض في تلك الأشياء، نذكر تقسيمات العلة:
التقسيم الأول: كل حكم ثبت في محل، فعلة ذلك الحكم: إما نفس ذلك المحل، أو ما يكون جزءا من ماهيته وداخلا فيه، أو ما يكون خارجا عنه، والخارج: إما أن يكون أمرا عقليا، أو شرعيا، أو عرفيا، أو لغويا:
والعقلي: إما أن يكون صفة حقيقية، أو إضافية، أو سلبية أم ما يتركب من هذه الأقسام، وهي الصفة الحقيقية مع الإضافية، أو مع السلبية:
مثال التعليل بالصفة الحقيقية فقط: "مطعوم؛ فيكون ربويا":
مثال الإضافية: قولنا: "مكيل؛ فيكون ربويا".
مثال السلبية: قولنا في طلاق المكره: "لم يرض به؛ فلا يقع".
مثال: الحقيقية مع الإضافية: قولنا: "بيع صدر من الأهل في المحل".
مثال الحقيقية مع السلبية: قولنا: "قتل بغير حق".
مثال الحقيقية والإضافية والسلبية معا: قولنا: "قتل عمد عدوان".
مقال الوصف الشرعي: قولنا في المشاع: "يجوز بيعه، فتجوز هبته".
مثال العرفي: قولنا في بيع الغائب: "إنه مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف".
مثال الاسم: قولنا في النبيذ: "إنه مسمى بالخمر؛ فيحرم؛ كالمعتصر من العنب".
واعلم أن التعليل بجزء مسمى المحل؛ إن كان بعلة قاصرة، وجب أن يكون بالجزء الذي يمتاز ذلك المحل به عن غيره، وألا يحصل الحكم في ذلك المشارك، فتصير القاصرة متعدية، وإن كان بعلة متعدية، وجب التعليل بالجزء الذي يشارك غيره، وإلا لم توجب تلك العلة في غيره، فتصير العلة المتعدية قاصرة.
التقسيم الثاني: العلة والحكم: إما أن يكونا ثبوتيين، أو عدميين، وهذان القسمان لا نزاع في صحتهما، وإما أن يكون الحكم ثبوتية، والعلة عدمية، وفيه نزاع، وإما أن يكون الحكم عدميا، والعلة ثبوتية، وهذا يسميه الفقهاء تعليلا بالمانع، واختلفوا في أنه، هل من شرطه وجود المقتضى؟.
التقسيم الثالث: العلة: إما أن تكون فعلا للمكلف؛ كالقتل الموجب للقصاص، أو لا تكون؛ كالبكارة في ولاية الإجبار عندنا.
التقسيم الرابع: الوصف المجعول علة: إما أن يكون لازما للموصوف؛ ككون البر مطعوما، أو لا يكون، فحينئذ: يكون متجددا، وذلك المتجدد: إما أن يكون ضروريا بحسب العادة؛ وهو مثل انقلاب العصير خمرا، والخمر خلا، أو لا يكون وهو: إما أن يكون متعلقا باختيار أهل العرف؛ ككون البر مكيلا، أو باختيار الشخص الواحد؛ كالردة والقتل.
التقسيم الخامس: العلة: إما أن تكون ذات أوصاف؛ كقولنا: "قتل عمد عدوان" أو لا تكون؛ كقولنا: "التفاح مطعوم؛ فيكون ربويا".
التقسيم السادس: العلة قد تكون وجه المصلحة؛ ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء، وكون الخمر موقعة للبغضاء، وقد تكون أمارة المصلحة؛ كما إذا جعلنا جهالة أحد البدلين علة في فساد البيع، مع أنا نعلم أن فساد البيع في الحقيقة معلل بما يتبع الجهالة مع تعذر التسليم.
ألا ترى أن جواز البيع ثابت؛ حيث لا تمنع الجهالة من صحة التسليم؛ كبيع صبرة من الطعام مشار إليها لصحة تسليمها، وإن كان مجهول القدر.
التقسيم السابع: الوصف قد يعلم وجوده بالضرورة؛ ككون الخمر مسكرا، أو مطربا، وذلك إما أن يعلم بالضرورة كونه من الدين؛ ككون الجماع في نهار رمضان مفسدا للصوم، وقد لا يكون كذلك، وأمثلته ظاهرة.
المسألة الأولى: اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم: والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة، أو متعدية:
فإن كان الأول: صح التعليل بمحل الحكم، سواء كانت العلة منصوصة، أو مستنبطة؛ لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع: "حرمت الربا في البر؛ لكونه برا، أو يعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا.
فإن قلت: "لو كان محل الحكم، علة للحكم لكان الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا، وهو محال؛ لوجهين:
الأول: أن المفهوم من كونه قابلا غير المفهوم من كونه فاعلا؛ ولذلك صح تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر، فهذان المفهومان: إما أن يكونا داخلين في ذلك الشيء، أو خارجين عنه، أو أحدهما داخلا، والآخر خارجا:
فإن كان الأول: كان ذلك الشيء مركبا في نفسه، والجزء الذي هو ملحوق الفاعلية غير الجزء الذي ملحوق القابلية؛ فلا يكون الشيء الواحد قابلا وفاعلا.
وإن كان الثاني: كان هذان الأمران الخارجان عن تلك الماهية لاحقين لها، وكل لاحق معلول، فيعود الأمر في أن المفهوم من كون تلك الماهية علة لأحد اللاحقين غير المفهوم من كونه علة للاحق الآخر، ويكون الكلام في هذين المفهومين كما في الأول؛ فيلزم التسلسل؛ وهو محال.
وإن كان أحدهما داخلا في الماهية، والآخر خارجا عنها، لزم كون الماهية مركبة؛ لأن كل ماله جزء، فهو مركب، ولزم أن يكون: إما الفاعلية، أو القابلية- جزءا منن الماهية؛ وذلك محال؛ لأن الفاعلية والقابلية نسبة بين الماهية وبين غيرها، والنسبة بين الشيء وبين غيره خارجة عن الماهية، والخارج عن الشيء لا يكون داخلا فيه؛ فلا يمكن أن تكون القابلية أو الفاعلية داخلة في الماهية.
الثاني: وهو أن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان، ونسبة المؤثر إلى الأثر نسبة الوجوب، فلو كان الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد مؤثرا وقابلا، لزم كون النسبة الواحدة موصوفة بالوجوب وبالإمكان معا؛ وهو محال":
قلت: قد بينا في كتبنا العقلية ما في هذين الوجهين من المغالطة.
وأما إن كانت العلة متعدية، لم يصح أن يكون محل الحكم علة للحكم؛ لأن العلة المتعدية هي التي توجد في غير مورد النص، وخصوصية مورد النص يستحيل حصولها في غيره؛ لان الشيء لا يكون نفس غيره.
الباب الثالث
فيما ظن أنه من مفسدات العلة
قوله: "الإضافية كقولنا: مكيل؛ فيكون ربويا":
تقريره: أن الكيل أمر لا يعقل إلا بين شيئين: كيل ومكيل، وكائل، فكان إضافيا.
قوله: "مثال المركب من الحقيقي والإضافي، قولنا: بيع صدر من أهله في محله":
تقريره: أن البيع حقيقي، والأهل لا يعقل إلا بالقياس إلى شيء هو متأهل بالنسبة إليه، وكذلك لا يعقل المحل إلا بالقياس إلى حال.
قوله: "والإضافي والسلبي قولنا: عمد عدوان":
تقريره: أن العمد هو القصد، ولا بد فيه من مقصود يضاف إليه، والعدوان معناه غير مستحق، فهو سلبي.
قوله: "لا تمنع الجهالة إلا إذا منعت التسليم؛ لجواز البيع معها في الصبرة المشار إليها؛ لصحة التسليم مع الجهالة بالقدر":
قلنا: لا نسلم أن الصبرة مجهولة القدر، بل معلومة بطريق الحرز والتقدير، فالخطأ فيها نادر وقليل، ولو كان جاهلا بالحرز والتقدير امتنع البيع، بل الجهالة في نفسها مانعة لإخلالها بالرضا بانتقال المالية؛ لأن الرضا بغير المعلوم متعذر، [و] لأنها وإن رضي بها العاقد قد تخل بالمالية؛ لجواز انكشاف العيب عن نقص مخل بالمال.
"المسألة الأولى"
اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم، والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة أو متعدية.
يريد: أنا إما أن نفرع على جواز التعليل بالقاصرة أم لا، فإن فرعنا جاز.
قوله: "لا يستبعد أن يقول صاحب الشرع: حرمت الربا في البر لكونه برا، ويعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا":
تقريره: أن طريق معرفة ذلك أن يقال: إن فيه من الحرارة والرطوبة الملائمة لبدن الإنسان في الغذاء ما ليس غير غيره، فيعظم قدره لذلك، فيمنع الشرع من بذل كثيره في قليله؛ لأن بذل الكثير في القليل هوان بالكثير، والشرف يمنع الهوان.
قوله: "لو كان المحل علة لكان الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا، وذلك محال؛ لأن المفهومين إذا كانا داخلين لزم أن يكون الواحد مركبا":
قلنا: ولم قلتم: إن مفهوم المحل "كالبر" مثلا واحدا، بل يجب أن يكون كثيرا؛ لأن البر لا يتصور من مطلق الجوهر، ولا من مطلق العرض، بل لابد فيه من جواهر وأعراض من الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وحصول العناصر الأربعة وعلية بعضها على بعض، فنسب إلى ما غلب عليها.
وقولنا: "جاز" لا يقتضي أنه ليس فيه حر بارد، بل فيه ضرورة، غير أن تأثيره في بدن الإنسان التسخين والترطيب، وكذلك جميع ما يحكم عليه من النبات والحيوان والجماد، ولا بد من امتزاج بين تلك العناصر، والوحدة بعيدة من البر، وغيره من أجزاء العالم.
سلمنا الوحدة، لكن لا نسلم أن الواحد لا يكون قابلا وفاعلا؛ لأن هاتين نسبتان، والنسب والإضافات لا توجب التركيب في الخارج؛ لعدمها في الخارج، بل وجودها في الذهن فقط.
ثم ينتقض ذلك بمركز الدائرة، فإنها تسامت كل نقطة من نقط المحيط، فكل مسامتة غير المسامتة الأخرى، فالمسامتان إما داخلتان، أو خارجتان إلى آخر التقسيم.
وكذلك الواحد نصف الاثنين، وثلث الثلاثة، وربع الأربعة إلى غير ذلك من اللوازم.
فملازمة الواحد لأحد اللوازم، غير ملازمته للازم الآخر، فهاتان الملازمتان إما داخلتان أو خارجتان، فيلزم التركيب في الواحد، وجميع ما ذكرتموه، وهذه هي الأمور التي أشار المصنف أنه ذكرها في كتبه على هذا الوضع.
قوله: "نسبة [المؤثر إلى الأثر] نسبة الوجوب":
تقريره: أن المؤثر لا يؤثر حتى يستجمع لكل ما لا بد منه في أثره من الشروط، وانتفاء الموانع، ومتى استجمع لذلك، وجب أثره بالضرورة؛ إذ لو نفى يمكن عدم الوقوع بعد ذلك؛ لفرضنا وقوعه، وعدم وقوعه مع الاستجماع، وحينئذ يلزم الترجيح من غير مرجح في زم الوقوع.
فإن كان لابد من مرجح، فلذلك المرجح هو من جملة ما يتوقف عليه التأثير، فحينئذ ما استجمع، وقد فرضناه استجمع، هذا خلف، فتعين [ألا] يقع الأثر إلا واجبا.
قوله: "يلزم أن تكون النسبة الواحدة موصوفة الإمكان، والوجوب معا، وهو محال":
قلنا: لا نسلم أنه محال؛ فإن النقيضين؛ والضدين، يجوز اجتماعهما معا باعتبار إضافتين متعددتين، لما تقرر في علم المنطق أن من شروط التناقض اتحاد الإضافة، وأن الشروط ثمانية:
أحدها: الإضافة.
والوجوب- هاهنا- بالإضافة إلى البابين، والإمكان بالنسبة إلى القبول.
فهما جهتان، والإضافة إليهما متعددة، فلا تناقض حينئذ.
"تنبيه"
زاد التبريزي: فقال: يشهد لأن المحل قد يتضمن حكمة تقتضي الورود به- أن العلم شريف لكونه علما، وكذلك كل حالة شرعية، أو حقيقية ثابتة للشيء من حيث هو هو، كالتحير للجوهر، ووجوب الفناء للعرض، وافتقاره للمحل؛ فإنا نعنى بالتعليل حسن قولنا: إنه يثبت له.
وأجاب عن قولهم: "المفهومان إما داخلان أو خارجان عن الماهية":
بأن المفهومين يثبتان لشيء واحد بالإضافة إلى حكم؛ لأنهما لا يدخلان في ماهية شيء؛ لأنهما نسبتان بين الماهية وغيرها.
ونسلم هذا، ونقول: لم لا يكونا حالتين وحكمين لماهية واحدة؟
وقولهم: "يكونان لاحقين، واللاحق يحتاج إلى علة":
قلنا: مسلم، وعليته نفس الذات؛ لأنه لو افتقر [كل] إلى لاحق لعلة لاحقة تسلسل، فالصفات التابعة للحدوث كلها لواحق مستحقة للذات بنفس الماهية الموجودة.
ثم ليس هذا إشكالا على اجتماع العلية والقابلية لشيء واحد، بل على نفس ثبوت العلية لشيء، وهو باطل بالإجماع.
ثم نقول: إن كان الكم وضعيا، فقد عرضت له العلية بعد القابلية، ويبدل الإمكان بالوجوب.
وإن كان عقليا، فالإمكان مع تحقق الذات؛ فإن شرط الإمكان عدم فرض العلة، فإذا كانت العلية [حالية للذات] لم يكن فرض عدمها، فينقلب الإمكان للشيء لذاته وما بالذات الشيء لا يكون مشروطا لصحبة غيره؛ لأنه واجب، وشرطيته بالعارض تصيره ممكنا، والإمكان واجب الممكن، بل الحق أن الإمكان ثابت مع وجود العلة، ويجتمع الإمكان بالذات، والوجوب بالغير، وكذلك كل أثر مع مؤثره، بل أجزاء العالم كلها ممكنة لذاتها، وواجبة؛ لتعلق العلم والإرادة، والخبر النفساني بوجودها، فلا تناقض بين الإمكان بالذات، والوجوب بالغير، وظهر أن الإمكان غير مشترط ألبتة.
"فائدة"
قال سيف الدين: قال الأكثرون: لا يجوز التعليل بمحل الحكم، ولا بجزئه.
وقيل: يجوز.
والمختار التفصيل: فيجوز بالجزء، دون المحل.
***
المسألة الثانية
قال الرازي: الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا مضبوطا، جاز التعليل به، أما الذي لا يكون كذلك؛ مثل الحاجة إلى تحصيل المصلحة، ودفع المفسدة، وهي التي يسميها الفقهاء بالحكمة، فقد اختلفوا في جواز التعليل به، والأقرب جوازه.
لنا: أنا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكمة المخصوصة، ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة أخرى تولد؛ لا محالة، من ذينك الظنين- ظن حصول الحكم في تلك الصورة، والعمل بالظن واجب؛ على ما تقدم.
فإن قيل: لا نزاع في أنه لو حصل ظن تعليل الحكم في الأصل بتلك الحكمة، ثم حصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخرى- أنه يلزم حصول مثل حكم الأصل في تلك الصورة الأخرى، لكن النزاع في أن ذينك الظنين، هل هما ممكنا الحصول، أم لا؟ وأنتم ما دللتم على جوازه، ونحن نبين امتناعه من وجوه:
الأول: أن الحكم: إما أن يعلل بالحاجة المطلقة، أو يعلل بالحاجة المخصوصة:
والأول: باطل؛ وإلا لكان كل حاجة معتبرة.
والثاني أيضا: باطل؛ لأن الحاجة أمر باطن؛ فلا يمكن الوقوف على مقاديرها، وامتياز كل واحدة من مراتبها التي لا نهاية لها عن المرتبة الأخرى، وإذا تعذر، تعيينه تعذر التعليل بذلك المتعين.
الثاني: لو صح تعليل الحكم بالحكمة، لما صح تعليله بالوصف، وتعليله بالوصف جائز، فتعليله بالحكمة غير جائز.
بيان الملازمة: أن شرع الحكم لابد وأن يكون لفائدة عائدة إلى العبد، لانعقاد الإجماع على أن الشرائع مصالح، إما وجوبا؛ كما هو قول المعتزلة، أو تفضلا؛ كما هو قولنا.
وإذا كان كذلك، فالمؤثر الحقيقي في الحكم هو الحكمة: أما الوصف، فليس بمؤثر ألبتة، وإنما جعل مؤثرا؛ لاشتماله على الحكمة التي هي المؤثرة، إذا ثبت هذا، فنقول: لو أمكن استناد الحكم إلى الحكمة، لما جاز استناده إلى الوصف؛ لان كل ما يقدح في استناده إلى الحكمة يقدح في استناده إلى الوصف؛ لأن القادح في الأصل قادح في الفرع، وقد يوجد ما يقدح في الوصف، ولا يكون قادحا في الحكمة؛ لأن القادح في الفرع قد لا يكون قادحا في الأصل، فاستناد الحكم إلى الوصف، مع إمكان استناده إلى الحكمة- تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة إليه؛ وإنه لا يجوز، ولما رأينا أنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز؛ لتعذر التعليل بالحكمة.
الثالث: لو جاز التعليل بالحكمة، لوجب طلب الحكمة، والطلب لها غير واجب، فالتعليل بها غير جائز.
بيان الملازمة: أن المجتهد مأمور بالقياس عند فقدان النص، ولا يمكنه القياس إلا عند وجدان العلة، ولا يمكنه وجدانها إلا بعد الطلب، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب؛ فإذن: طلب العلة واجب، وإذا كانت الحكمة علة، كان طلبها واجبا.
بيان أن طلب الحكمة غير واجب: أن الحكمة لا تعرف إلا بواسطة معرفة الحاجات، والحاجات أمور باطنه لا يمكن معرفة مقاديرها إلا بمشقة شديدة؛ فوجب ألا تكون هذه المعرفة واجبة؛ لقوله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78].
الرابع: أن استقراء الشريعة يدل على أن الأحكام معللة بالأوصاف، لا بالحكم؛ لأنا لو فرضنا حصول الأوصاف الجلية؛ كالبيع، والنكاح، والهبة- عارية عن المصالح- لاستندت الأحكام إليها، ولو فرضنا حصول المصالح، دون هذه الأوصاف، لم تثبت بها الأحكام الملائمة لها؛ وذلك يدل ظاهرا على امتناع التعليل بالحكم.
الخامس: الدليل ينفي التمسك بالعلة المظنونة؛ لقوله تعالى: {ن بعض الظن إثم} [الحجرات:12] وقوله: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [النجم: 28] خالفناه في الأوصاف الجلية؛ لظهورها، والحاجات ليست كذلك؛ فتبقى على الأصل.
السادس: أن الحكمة تابعة للحكم؛ لأن الزجر تابع لحصول القصاص، وعلة الشيء يستحيل تأخيرها عن الشيء؛ فالحكمة لا تكون على للحكم.
والجواب: قوله: "ما الدليل على جواز أن يحصل لنا ظن أن الحكم في الأصل معلل بالحكمة؟ ":
قلنا: لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة، والمعنى بذلك: أنا نستدل بكون الوصف مشتملا على المصلحة؛ على كونه علة؛ فلا يخلو: إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على مطلق المصلحة، أو اشتماله على مصلحة معينة:
والأول: باطل؛ وإلا لكان كل وصف مشتمل على مصلحة، فكيف كانت- علة لذلك الحكم.
ولا بطل القسم الأول، تعين الثاني: فنقول: إما أن يمكن الإطلاع على المصلحة المخصوصة، أو لا يمكن: فإن امتنع الإطلاع على المصلحة المخصوصة، امتنع الاستدلال بكون الوصف مشتملا عليها؛ على كونه علة؛ لأن العلم باشتمال الوصف عليها موقوف على العلم بها، وحيث لم يمتنع هذا الاستدلال، علمنا أن الاطلاع على خصوصيتها ممكن، وبهذا الحرف ظهر الجواب عن قوله:"المصالح أمور باطنه؛ فلا يمكن الاطلاع عليها".
قلنا: التعليل بالحكمة، وإن كان راجحا على التعليل بالوصف؛ من الوجه الذي ذكرت، فالتعليل بالوصف راجح على التعليل بالحكمة من وجه آخر؛ وهو الاطلاع على الوصف، وعسر الاطلاع على الحكمة، فلما كان كل واحد منهما راجحا على الآخر من وجه، مرجوحا من وجه آخر- حصل الاستواء.
قوله: "لو صح التعليل بالحكمة لوجب طلبها":
قلنا: نحن، وإن اختلفنا في جواز تعليل الحكم، لكنا اتفقنا على أن كون الوصف علة للحكم- معلل بالحكمة، فإن لم يقتض ذلك وجوب طلب الحكمة، فقد بطل قولك؛ وإن اقتضى وجوب طلبها، فقد بطل قولك أيضا.
قوله: "الاستقراء دل على تعليل الأحكام بالأوصاف، لا بالحكمة":
قلنا: لا نسلم؛ بل التعليل بالحكم حاصل في صور كثيرة؛ مثل التوسط في إقامة الحد بين المهلك والزاجر، وكذا الفرق بين العمل اليسير والكثير.
قوله: "النافي للقياس قائم، ترك العمل به في الوصف؛ لظهوره":
قلنا: الحكمة علة لعلية الوصف؛ فأولى أن تكون علة للحكم.
قوله: "الحكمة ثمرة الحكم": قلنا: في الوجود الخارجي، لا في الذهن، ولهذا قيل: أول الفكر آخر العمل.
نكتة أخرى في المسألة: الحكمة علة لعلية العلة، فأولى أن تكون علة للحكم.
بيانه: أن الوصف لا يكون مؤثرا في الحكم، إلا لاشتماله على جلب نقع، أو دفع مضرة، فكونه علة معلل بهذه الحكمة؛ فإن لم يمكن العلم بتلك الحكمة المخصوصة، استحال التوصل به إلى جعل الوصف علة، وإن أمكن ذلك، وهو مؤثر في الحكم، والوصف ليس بمؤثر، كان إسناد الحكم إلى الحكمة المعلومة التي هي المؤثرة أولى من إسناده إلى الوصف الذي هو في الحقيقة ليس بمؤثر.
المسألة الثانية
الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا منضبطا جاز التعليل به
قال القرافي: قوله: "إذا ظننا [استناد] الحكم في مورد النص إلى الحكمة، وظننا حصولها في الفرع، ظننا حصول الحكم في الفرع، والعمل بالظن واحد":
قلنا: قد تقدم أن الشرع لم يعتبر مطلق الظن، بل مراتب مخصوصة؛ بدليل شهادة الكفار، والفساق، والصبيان، وغير ذلك من الأمارات التي ألغاها الشارع، فلم قلتم: إن هذا الظن من الرتب التي اعتبرها الشرع؟
هذا أول المسألة.
قوله: "الشرائع مصالح بالإجماع":
قلنا: المنكرون للقياس يمنعون أن المصالح مرعية ألبتة.
وجماعة من المتكلمين- ويعزى إلى الأشعري- أن حكم الله- تعالى- يستحيل تعليله بالمصالح، بل أفعاله يستحيل أن تكون معللة، فأين الإجماع؟.
قوله: "لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلبها؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وطلبها غير واجب؛ لأنها غير منضبطة، فيكون طلبها مشقة، فلا يجب طلبها؛ لقوله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78].
قلنا: إحدى المقدمتين باطلة، إما عدم لزوم وجوب الطلب، وإما أن اللازم غير منفى؛ لأن طلب الحكمة إما أن يكون مقدورا يحسن التكليف به، أو لا.
فإن كان الأول: بطل نفي اللازم؛ لأنه لا مشقة حينئذ.
وإن كان الثاني: بطلت الملازمة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به إنما يجب إذا لم يكن كذلك، فظهر أن إحدى المقدمتين باطلة، إما بطلان الملازمة، أو نفي اللازم.
قوله: "الحكمة تابعة للحكم؛ لأن الزجر تابع لحصول القصاص":
قلنا: مسلم، لكنه تقدم في المجاز أن الأسباب، والعلل أربعة أقسام: فاعلية، وصورية، ومادية، وغائية.
والمراد- هاهنا- الغائية التي تسبق في النفس، وتتأخر في الوقوع.
"فائدة"
قال النقشواني: العلة في الحقيقة الحكمة؛ لكنها إنما تنضبط بمقاديرها، وإنما يضبط ذلك الوصف، فكون الوصف علة في الشرع معناه: أنه علامة للحكمة، ودليل عليها، فالحكمة هي العلة الغائية الباعثة للفاعل، والوصف هو المعرف، فإذا قلنا: في الشرع علل معرفة، نريد بذلك الوصف المعرفة للعلة الحقيقية المؤثرة، فزالت الشبه، واجتمعت الأقوال.
"سؤال"
يلزم على التعليل بالحكمة أن من أكل من لحم امرأة قطعت حرمت عليه وصارت أمه؛ لأن حكمة التعليل بالرضاع، هو لحكمة كون جزء الرضيعة صار جزء المرضعة؛ لأن لبنها جزؤها، وقد صار لحما للرضيع، فصار جزؤها جزءا، ولذلك قال عليه السلام:"الرضاع لحمة كلحمة النسب"
أي لما كان أصل النسب أن منيها- الذي هو جزؤها- مع منى الرجل، نشأ منهما الجنين، وصار منهما [جزءا]، فكذلك اللبن.
وكذلك يلزم أن من سرق صبيانا صغارا، وغيبهم عن آبائهم، حتى كبروا، والتبسوا على آبائهم، واختلطت أنسابهم، كذلك يجب عليه الرجم حد الزنا؛ لأنه أتى بحكمة الزنا التي هي اختلاط الأنساب.
واعلم أن مثل هذا كما هو وارد على التعليل بالحكم، فهو- أيضا- وارد على المدرك المانع من التعليل الذي هو عدم الانضباط؛ فإن هذه حكم منضبطة؛ لأن كون جزئها صار جزءه أمر منضبط، وكذلك اختلاط الأنساب في المثال الآخر.
"فائدة"
قال سيف الدين: قال الأكثرون: يمتنع التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط.
وجوزه الأقلون.
ومنهم من فصل بين الحكمة الظاهرة المنضبطة بنفسها، والخفية المضطربة، فيجوز بالأولى دون الثانية؛ لاتفاقنا على أن الوصف المنضبط المشتمل على الحكمة يصح التعليل به؛ لانضباطه، وإن لما يكن هو المقصود، فالحكمة أولى إذا كانت منضبطة، والخفية [التي] لا تنضبط لا يعلل بها، بل بضابطها كمشقة السفر، ولذلك لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر، وإن زادت مشقته على مشقة السفر في كل يوم ربع فرسخ، وهو في غاية الرفاهية؛ لأجل الاضطراب.
***
المسألة الثالثة
قال الرازي: المعللون بالحكمة، لما قيل لهم: إن الحكمة مجهولة القدر؛ فإن حاجة الإنسان في مبدأ زمان الجوع، دون حاجته في مقطع زمان الجوع، وما كان الغالب فيها التفاوت، لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود قي الفرع؛ فلم يصح القياس.
فمن الناس: من أجاب عنه: بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين؛ لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة، وفي الفرع قدر معين، وكل مقدارين؛ فلابد وأن يكون بينهما اشتراك في قدر معين، وذلك القدر المشترك يناسب التعليل به؛ لكونها مصلحة مطلوبة الوجود.
فإن قيل لهم: إنه ينتقض بالحاجة الفلانية؛ فإنها غير معتبرة، قالوا: نحن إنما عللنا بالقدر المشترك بين الأصل والفرع، ونحن لا نسلم أن ذلك القدر المشترك حاصل في صورة النقض.
واعلم أن هذا الكلام ضعيف؛ وذلك لأنه يحتمل ألا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل، والحاصل في الفرع- اشتراك، إلا في مسمى كونه مصلحة، والتعليل بهذا المسمى غير ممكن؛ وإلا حصل النقض بجميع المصالح المنفكة عن هذا الحكم، وأما الاشتراك بين القدرين في أمر آخر وراء عموم كونه مصلحة، فغير معلوم، ولا مظنون؛ وإذا كان وجوده غير ظاهر، لم يكن التعليل به ظاهرا.