الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني
قال الرازي: في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة، وهي خمسة: النقض، وعدم التأثير، والقلب، والقول بالموجب، والفرق.
الفصل الأول
(في النقض) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وجود الوصف مع عدم الحكم يقدح في كونه علة
وزعم الأكثرون أن علية الوصف، إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته. وزعم آخرون أن علية الوصف، وإن ثبتت بالمناسبة، أو الدوران؛ لكن إذا كان تخلف الحكم عنه لمانع، لم يقدح في عليته، أما إذا كان التخلف لا لمانع فالأكثرون على أنه يقدح في العلية، ومنهم من قال: لا يقدح أيضا.
لنا وجوه:
الأول: أن اقتضاء العلة للحكم: إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض، أو لا يعتبر، فإن اعتبر، لم يكن علة إلا عند انتفاء المعارض؛ وهذا يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس تمام العلة، بل بعضها، وإن لم يعتبر، فسواء حصل المعارض، أو لم يحصل، كان الحكم حاصلا، وذلك يقدح في كون المعارض معارضا، فإن قيل: لم لا يجوز أن يتوقف الاقتضاء على انتفاء المعارض؟
قوله: (هذا يدل على أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ما كان تمام العلة؛ بل جزءا منها):
قلنا: لا نسلم؛ ولم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لتأثير العلة في الحكم؟!.
تقريره: العلة: إما أن تفسر بالداعي، أو المؤثر، أو المعرف:
أما المؤثر: فإما أن يكون قادرا، أو موجبا: أما القادر: فيجوز أن يتوقف صحة تأثيره على انتفاء المعارض؛ لأمور:
الأول: أن الفعل في الأزل محال؛ لأن الفعل ما له أول؛ والأزل ما لا أول له، والجمع بينهما محال.
فإذن: تتوقف صحة تأثير قدرة الله تعالى في الفعل على نفي الأزل، فالقيد العدمي لا يجوز أن يكون جزءا من المؤثرات الحقيقية، فهو إذن شرط صحة التأثير.
وثانيهما: أن إشالة القادر الثقيل إلى فوق يقتضي الصعود إلى فوق؛ بشرط ألا يجره قادر آخر إلى أسفل، فالقيد العدمي لا يكون جزءا من المؤثر الحقيقي.
وثالثهما: أن القادر لا يصح منه خلق السواد في المحل إلا بشرط عدم البياض فيه، والعدم لا يكون جزءا من المؤثر الحقيقي.
أما الواجب: فهو أن الثقل يوجب الهوى؛ بشرط عدم المانع، وسلامة الحاسة توجب الإدراك؛ بشرط عدم الحجاب.
وأما الداعي: فمن أعطى إنسانا لفقره، فجاء آخر، فقال: لا أعطيه؛ لأنه يهودي؛ فعدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى في إعطاء الأول؛ لأنه حين أعطى الفقير الأول، لم تكن اليهودية خاطرة بباله؛ فضلا عن عدمها،
وما لا يكون خاطرا بالبال، لم يكن جزءا من الداعي؛ فعلمنا أن عدم كون الأول يهوديا، لم يكن جزءا من المقتضى.
أما المعرف: فالعام المخصوص دليل على الحكم، وعدم المخصص ليس جزءا من المعرف، وإلا كان يجب ذكره عند الاستدلال؛ فثبت بما ذكرنا أن عدم المعارض، وإن كان معتبرا، لكنه ليس جزءا من العلة.
سلمنا كونه جزءا، ولكن يرجع الخلاف في المسألة إلي بحث لفظي لا فائدة فيه؛ لأن من جوز تخصيص العلة، ومن لم يجوزه، اتفقوا على أن اقتضاء العلة للحكم لابد فيه من ذلك العدم، وأنتم أيضا سلمتم أن المعلل، لو ذكر ذلك القيد في ابتداء التعليل، لاستقامت العلة؛ فلم يبق الخلاف إلا في أن ذلك القيد العلمي، هل يسمى جزء العلة أم لا؟.
ومعلوم أن ذلك مما لا فائدة فيه.
والجواب: قد بينا أنه لو توقف اقتضاء العلة للحكم على انتفاء المعارض، لم يكن الحاصل عند وجود المعارض تمام العلة، بل جزءها.
قوله: (لو كان كذلك، لزم جعل القيد العلمي جزءا من علة الوجود):
قلنا: إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي، امتنع جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود؛ فحينئذ: لا نقول: إن عدم المعارض جزء العلة، بل نقول: إنه يدل على أنه حدث أمر وجودي انضم إلى ما كان موجودا قبل؛ وحينئذ: صار ذلك المجموع علة تامة، فلم يلزم من قولنا:(العلة التامة؛ إنما وجدت حال عدم المعارض) أن يجعل عدم المعارض جزءا من العلة.
وإن فسرنا العلة بالمعرف، لم يمتنع جعل القيد العدمي جزءا من العلة، بهذا التفسير، كما أنا نجعل انتفاء المعارض جزءا من دلالة المعجز على الصدق.
قوله: (لو كان عدم المخصص جزءا من المعرف، لوجب على المتمسك بالعام المخصوص ذكر عدم المخصصات):
قلنا: لا شك أنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد ظن عدم المخصصات، فأما أنه لم يجب الذكر في الابتداء، فذلك يتعلق بأوضاع أهل الجدل، والتمسك بها في إثبات الحقائق غير جائز.
قوله: (إنه يصير الخلاف لفظيا):
قلنا: لا نسلم؛ فإنا إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب، لم نجعل العدم جزءا من العلة، بل كاشفا عن حدوث جزء العلة، ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك، وإن فسرناها بالأمارة، ظهر الخلاف في المعنى أيضا؛ لأن من أثبت العلة بالمناسبة، بحث عن ذلك القيد العدمي، فإن وجد فيه مناسبة، صحح العلة، وإلا أبطلها.
ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد العدمي.
الحجة الثانية في المسألة: أنه لابد وأن يكون بين كون المقتضي مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل، وبين كون المانع مانعا منعا حقيقيا بالفعل- منافاة بالذات، وشرط طريان أحد الضدين انتفاء الضد الأول؛ فلا يجوز أن يكون انتفاء الضد الأول لطريان اللاحق، وإلا وقع الدور، فلما كان شرط كون المانع مانعا خروج المقتضي عن أن يكون مقتضيا بالفعل- لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل، لأجل تحقيق المانع بالفعل، وإلا وقع الدور، فإذا المقتضي إنما
خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع؛ بل بذاته، وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك، فإنه لا يصلح للعلية.
الحجة الثالثة: الوصف وجد في الأصل مع وجود الحكم، وفي صورة التخصيص مع عدم الحكم، ووجوده مع الحكم في صورة التخصيص يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم، ثم إن الوصف الحاصل في الفرع، كما أنه مثل الوصف الحاصل في الأصل، فهو أيضا مثل الوصف الحاصل في صورة التخصيص؛ فليس إلحاقه بأحدهما أولى من إلحاقه بالآخر؛ ولما تعارضا، لم يجز إلحاقه بواحد منهما؛ فلم يجز الحكم عليه بالعلية.
قال المجوزون: الأصل في الوصف المناسب مع الاقتران أن يكون علة، فعند ذلك: إذا رأينا الحكم متخلفا عنه في صورة، وعثرنا في تلك الصورة على أمر يصلح أن يكون مانعا- وجب إحالة ذلك التخلف على ذلك المانع؛ عملا بذلك الأصل.
أجاب المانعون: بأن الأصل ترتب الحكم على المقتضى؛ فحيث لم يترتب الحكم عليه، وجب الحكم بأنه ليس بعلة؛ عملا بهذا الأصل، فصار هذا الأصل معارضا للأصل الذي ذكرتموه، وإذا تعارضا، وجب الرجوع إلى ما كان عليه أولا، وهو عدم العلية.
قال المجوزون: الترجيح معنا من وجهين:
الأول: أنا لو اعتقدنا أن هذا الوصف غير مؤثر، يلزمنا ترك العمل بالمناسبة مع الاقتران من كل وجه، ولو اعتقدنا أنه مؤثر، عملنا بما ذكرتم من الدليل، من بعض الوجوه؛ لأن ذلك الوصف يفيد الأثر في بعض الصور، ولا شك أن ترك العمل بالدليل من وجه أولى من ترك العمل بالدليل من كل الوجوه.
الثاني: هو: أن الوصف الذي ندعي كونه مانعا في صورة التخصيص يناسب انتفاء الحكم، والانتفاء حاصل معه، فيغلب على الظن: أن المؤثر في ذلك الانتفاء هو ذلك المانع، وإذا ثبت استناد ذلك الانتفاء إلى المانع، امتنع استناده إلى عدم المقتضي.
إذا ثبت هذا، فنقول: معكم أصل واحد، وهو أن الأصل ترتب الحكم على العلة، ومعنا أصلان:
أحدهما: أن المناسبة مع الاقتران دليل على كون الوصف في الأصل علة لثبوت الحكم فيه.
الثاني: أن المناسبة مع الاقتران في صورة التخصيص دليل على كون المانع علة؛ لانتفاء الحكم فيها، ومعلوم أن العمل بالأصلين أولى من العمل بالأصل الواحد.
أجاب المانعون عن الأول: بأنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية؛ بل عندنا: المناسبة مع الاقتران والاطراد دليل العلية، فإن حذفتم الاطراد عن درجة الاعتبار، فهو أول المسألة.
وعن الثاني: أنا لا نسلم أن انتفاء الحكم في محل التخصيص يمكن تعليله بالمانع؛ لأن ذلك الانتفاء كان حاصلا قبل حصول ذلك المانع، والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا.
أجاب المثبتون عن هذا من وجهين:
الأول: أن العلل الشرعية معرفات؛ فلا يمتنع كون المتأخر علة للمتقدم بهذا التفسير.
الثاني: أن المانع علة لنفي الحكم، لا لانتفائه، والنفي عبارة عن منعه من الدخول في الوجود، بعد كونه بعرضية الدخول.
أجاب المانعون عن الأول: بأنه إذا كان المراد من العلة المعرف، لم يلزم من تعليل ذلك الانتفاء بعدم المقتضي تعذر تعليله أيضا بالمانع؛ لجواز أن يدل على المدلول الواحد دليلان: أحدهما وجودي، والآخر عدمي.
وعن الثاني: أن تأثير المانع ليس في إعدام شيء؛ لأن ذلك يستدعي سابقة الوجود؛ وهاهنا: الحكم لم يوجد ألبتة، فيمتنع إعدامه، فعلم أن المستند إلى المانع ليس إلا ذلك العدم السابق.
احتج من جوز تخصيص العلة بوجوه:
أحدها: أن دلالة العلة على ثبوت الحكم في محالها؛ كدلالة العام على جميع الأفراد، وكما أن تخصيص العام لا يوجب خروج العام عن كونه حجة، فكذا تخصيص العلة لا يقدح في كونها علة.
وثانيها: أن اقتضاء الوصف لذلك الحكم في هذا المحل، إما أن يتوقف على اقتضاء الحكم في ذلك المحل الآخر، أو لا يتوقف، والأول محال؛ لأنه ليس توقف أحدهما على الآخر أولى من العكس؛ فيلزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر؛ فيلزم الدور، وإن لم يفتقر واحد منهما إلى الآخر؛ فحينئذ: لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر، فلا يلزم من انتفاء كون الوصف مقتضيا لذلك الحكم في هذا المحل- انتفاء كونه مقتضيا لذلك الحكم في المحل الآخر.
وثالثها: العقلاء أجمعوا على جواز ترك العمل بمقتضى الدليل في بعض
الصور؛ لقيام دليل أقوى من الأول فيه، مع أنه يجوز التمسك بالأول عند عدم المعارض؛ فإن الإنسان يلبس الثوب لدفع الحر والبرد، وإذا اتفق لبعض الناس أن قال له ظالم:(إن لبست هذا الثوب، قتلتك) فإنه يترك العمل بمقتضي الدليل الأول في هذه الصورة، وإن كان يعمل بمقتضاه في غيرها من الصور.
وإذا ثبت حسن ذلك في العادة، وجب حسنه في اضرع؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام:(ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن).
ورابعها: أن العلة الشرعية أمارة، فوجودها في بعض الصور دون حكمها لا يخرجها عن كونها أمارة؛ لأنه ليس من شرط كون الشيء أمارة على الحكم: أن يستلزمه دائما، فإن الغيم الرطب في الشتاء أمارة المطر، ثم عدم المطر في بعض الأوقات لا يقدح في كونه أمارة.
وخامسها: أن الوصف المناسب بعد التخصيص يقتضي ظن ثبوت الحكم؛ فوجب العمل به.
بيان الأول: أنا إذا عرفنا من الإنسان كونه مشرفا مكرما مطلوب البقاء، غلب على ظننا حرمة قتله، وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت ماهية الجناية؛ فضلا عن عدمها، فعلمنا أن مجرد النظر إلى الإنسانية مع مالها من الشرف- يفيد ظن حرمة القتل، وأن عدم كونه جانيا ليس جزءا من المقتضي لهذا الظن، وإذا كان كذلك، فأينما حصلت الإنسانية، حصل ظن حرمة القتل، وإذا ثبت أنه يفيد ظن الحكم وجب العمل به؛ لأن العمل بالظن واجب.
وسادسها: أن بعض الصحابة قال بتخصيص العلة: روي عن ابن مسعود:
أنه كان يقول: (هذا حكم معدول به عن القياس) وعن ابن عباس مثله؛ ولم ينقل عن أحد: أنه أنكر ذلك عليهما؛ وذلك يفيد انعقاد الإجماع.
وسابعها: أنه وجد في الأصل المناسبة مع الاقتران في ثبوت الحكم.
وفي صورة التخصيص: المناسبة مع الاقتران في انتفاء الحكم، فلو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضي، كنا قد تركنا العمل بذينك الأصلين، لكنا عملنا بأصل واحد، وهو: أن الأصل: أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضي.
أما لو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى حصول المانع، كنا عملنا بذينك الأصلين، وخالفنا أصلا واحدا، وهو أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضي؛ ومعلوم أن مخالفة الأصل الواحد لإبقاء أصلين أولى من العكس، فإحالة انتفاء الحكم على المانع أولى من إحالته على عدم المقتضي.
والجواب عن الأول: أن نقول: ما الجامع؟! ثم الفرق أن دلالة العام المخصوص على الحكم، وإن كانت موقوفة على عدم المخصص، إلا أن عدم المخصص، إذا ضم إلى العام، صار دليلا على الحكم.
أما العلة: فإن دلالتها موقوفة على عدم التخصص، وذلك الهدم لا يجوز ضمه إلى العلة؛ على جميع التقديرات.
أما أولا: فلأن منهم من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم الوجودي، والذين جوزوه قالوا: إنما يجوز ذلك بشرط أن يكون مناسبا؛ فلا جرم وجب ذكره في أول الأمر؛ ليعرف أنه، هل يصلح لأن يكون جزءا لعلة الحكم، أم لا؟.
وعن الثاني: أنا إن فسرنا العلة بالموجب، أو الداعي، كان بشرط كونه علة للحكم في محل أن يكون علة لذلك الحكم في جميع المحال؛ لأن العلة إنما توجب الحكم لماهيتها، ومقتضى الماهية أمر واحد، فإن كانت تلك الماهية موجبة لذلك الحكم في موضع، وجب كونها كذلك في كل المواضع، وإلا فلا.
وعن الثالث: أنه لا نزاع فيما قالوه، لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل، وبين صورة التخصيص قيد على العلة، وهم ما أقاموا الدلالة على فساد ذلك.
وعن الرابع: أن النظر في الأمارة إنما يفيد ظن الحكم، إذا غلب على الظن انتفاء ما يلازمه انتفاء الحكم؛ فإن من رأي الغيم الرطب في الشتاء بدون المطر في بعض الأوقات، ثم رآه مرة أخرى، فإنه لا يغلب على ظنه نزول المطر؛ إلا إذا غلب على ظنه انتفاء الأمر الذي لازمه عدم نزول المطر في المرة الأولى، وذلك لا يقدح في قولنا.
وعن الخامس: أنه مسلم؛ لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وصورة التخصيص قيد على العلة.
وعن السادس: هب أنهم قالوا ذلك؛ لكنهم لم يقولوا ذلك: التمسك بذلك القياس جائز أم لا؟.
وعن السابع: ما ذكرناه في الحجة الثالثة من جانبنا.
الباب الثاني
في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة
قال القرافي: قوله: (إن لم يعتبر انتفاء المعارض، فسواء حصل المعارض
أو لم يحصل، كان ذلك الحكم حاصلا، [و] ذلك يقدح في كون المعارض معارضا):
تقريره: أن دعواه عدم علية الوصف المنقوض، وقد استفاد دعواه على التقديرين:
أما التقدير الأول: فلأنه لزم على تقدير كون الوصف علة تامة، أنه ليس علة تامة، وهو جمع بين النقيضين، فيكون هذا التقدير مستلزما لاجتماع النقيضين، فيكون محالا، فلا يكون الوصف علة؛ لأنه التقدير.
وأما التقدير الثاني: فلأنه لزم أن يكون المعارض معارضا، والمقدر أنه معارض؛ لأن الترديد إنما وقع فيما هو معارض، فيكون تقدير علية الوصف- أيضا- مستلزما للجمع بين النقيضين، فبطل كونه علة مطلقا؛ لانحصاره في هذين التقديرين، وهو المطلوب.
قوله: (الثقل يوجب الهوى بشرط عدم المانع):
قلنا: - على رأي أهل الحق- هذه الأمور ليست موجبة بالذات، بل الله- تعالى- هو محرك الثقيل إلى أسفل وغيره.
وإن أردتم أنه موجب في العادة، لا في العقل صح.
وكذلك تمثيلكم المؤثر بشيل القادر الحجر إلى فوق، وإنما الله- تعالى- هو الخالق لحركات السائلين، بل ذلك في العادة صحيح، دون الحقيقة العقلية.
قوله: (ما لم يكن خاطرا بالبال، لا يكون جزءا من الداعي):
تقريره: أن الداعي هو الحامل على تحصيل الفعل، وهو السبب الغائي.
فتصور الإنسان لمصلحة في الفعل تبعثه وتدعوه إلى الإقدام، أو مفسدة تحجبه على الإحجام، فهذا هو الداعي.
قوله: (عدم المانع يدل على أنه حدث أمر وجودي انضم إلى ما كان موجودا قب):
قلنا: لا نسلم أنه يلزم من عدم المعارض أمر وجودي، فقد يكون عدم وعدم ضده دائمين من الأول إلى الأبد.
ولو كان يلزم من عدم المعارض وجود أمر آخر، مع أن المعارض كان معدوما في الأزل، أن يكون ذلك الوجودي في الأزل، وذلك يقتضي قدم العالم، وهو محال.
ثم إن هذا البحث يلزم منه خلاف المقدر؛ لأنا تكلمنا في وصف أنه تمام العلة أو المؤثر أو الداعي، فجعله مع ذلك الوجودي- الذي حدث- تمام العلة؛ خلاف الفرض المقدر.
قوله: (كونه لا يجب نفي المعارض من أوضاع الجدل):
تقريره: أن المجتهد لابد أن يفحص عن عدم المخصص في التمسك بالعموم، غير أن المناظرة بين أهل العصر منعوا من ذكر ذلك في المناظرات، سدا لباب الشغب، وحسم مادة النزاع؛ إسراعا لظهور الحق، ونفيا للجاج، فهو وضع جدلي لا وضع شرعي للمجتهد.
ويرد عليه- هاهنا- ما تقدم في باب العموم والخصوص، أنه رجح التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص، وهاهنا ادعي أنه لابد من الفحص عنه، وتقدم- هنالك- أن تلك الدعوى خلاف الإجماع، وإيضاح ذلك.
قوله: (بين المقتضي والمانع منافاة بالذات):
قلنا: لا منافاة بين العلة والمانع، بل المنافاة بين أثريهما.
ألا ترى أن البنوة مع الرق لا منافاة بينهما، بل بين التوريث وعدمه، والزوال والحيض لا منافاة بينهما، بل بين وجوب الصلاة وعدمها، فكذلك جميع الموانع الشرعية.
وإذا تقرر هذا لا يلزم من طريان الرق والقتل المانعين من الإرث- انتفاء البنوة التي هي سبب الإرث إجماعا.
قوله: (لما كان شرط كون المانع مانعا- خروج المقتضي عن أن يكون مقتضيا بالفعل، لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل؛ لأجل تحقق المانع):
قلنا: إن أردتم بالاقتضاء الفعل، والمنع بالفعل الوصف بقيد استلزامه لحكمه- الذي هو الثبوت في العلة، والعدم في المانع- فلا شك أن أحد الوصفين بهذين القيدين يوجب التضاد بينهما.
لكن المقتضى بقيد أثره أخص منه، من جهة أنه مقتضى، كما يصدق على البنوة أنها مقتضية للإرث من حيث إنها بنوة.
والقتل العمد العدوان موجب لوجوب القصاص، مع قطع النظر عما يعرض من الموانع، واللازم من قولكم- حينئذ- إنما هو انتفاء الأخص، ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم، ولم يدع الخصم إلا ثبوت الأعم الذي هو المقتضى من حيث هو مقتضى، لا المقتضي بقيد ثبوت أثره.
ونقول: امتنع ترتب الأثر لأجل المانع، لا للاقتضاء الذاتي فبطل لأجل المانع. هذا هو مذهب الخصم.
وعلى هذا خرج المقتضي عن أن يكون مقتضيا بالفعل لأجل المانع، ولم يخرج عن كونه مقتضيا بذاته كما قلتم.
وإن أردتم بالاقتضاء بالفعل ما في ذات المقتضي من حيث هو مقتضي، من
اقتضاء الأثر إذا جرد النظر إليه، فلا تضاد ولا بطلان حينئذ؛ لطريان المانع ألبتة، بل الاقتضاء بالذات حاصل مع وجود المانع كما نقول: وصف البنوة مع قيام الفعل هو بحيث إذا جرد النظر إليه اقتضى الأثر شرعا ومناسبة.
قوله: (وجد الوصف في الأصل مع وجود الحكم، وفي صورة التخصيص مع عدم الحكم):
تقريره: أن صورة النقض تسمى صورة التخصيص، وتسمى العلة مخصوصة كذلك، كما يسمى النص مخصوصا؛ لأن التخصيص في النصوص إخراج بعض الصور التي تناولها النص عن أن يثبت فيها الحكم، وكذلك- هاهنا- خرج بعض صور وجود العلة عن أن يثبت فيها الحكم، وهو صورة النقض نصا، والكل تخصيصا.
قوله: (وجود الوصف مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه علة):
تقريره: أنه يجوز أن يكون وصف آخر ما اطلعنا عليه، وهو علة الحكم.
غايته أن الأصل عدمه، والأصل مقدمة ظنية لا يحصل معها القطع.
قوله: (وجوده مع عدم الحكم في صورة التخصيص يقتضي القطع بأنه ليس بعلة):
قلنا: لا نسلم حصول القطع، بل القطع في عدم ترتب الحكم عليه في صورة النقض إن كان مجمعا على عدم الحكم فيها، وإلا فلا قطع.
وهذا مصادرة على مذهب الخصم؛ فإن الخصم جازم بأنه علة في صورة النقض وغيرها بالنظر إلى ذاته، ولا يلزم عنده من عدم ترتب الأثر عليه خروجه عن كونه علة في ذاته، فدعواكم القطع مصادرة محضة لا تسمع بغير دليل.
قوله: (ليس إلحاق الوصف بصورة التخصيص أولى من إلحاقه بصورة الأصل):
قلنا: لا نسلم، بل إلحاقه بالأصل أولى؛ لأجل أن الأصل عدم التخصيص كما قلناه في النصوص؛ فإنا نلحق في العام المخصوص من صورة النزاع بصورة عدم التخصيص عملا بالعموم، ولا نلحقها بصورة التخصيص؛ لأن المخصص لم يتناولها، كذلك هاهنا لم يتناولها المانع القائم في الفرع، ويتناولها اقتضاء العلة وشمولها، فظهرت الأولوية.
قوله: (تأثير المانع ليس في إعدام شيء؛ لأن ذلك يستدعي سابقة الوجود):
قلنا: لا نسلم استدعاء سابقة الوجود، بل يعرض للوجود كما تقدم كلام الخصم، كما أن الماء تحت السفينة يمنعها من الوصول إلى الأرض؛ لأنها تعرضه [للصوق] بالأرض لولا الماء الحامل، كذلك هاهنا.
قوله: (إن توقف الاقتضاء هاهنا على الاقتضاء هنالك لزم الدور (:
قلنا: لا نسلم، وقد تقدم في العام المخصوص من هذا الدور.
والجواب عنه بأن التوقف توقفان: توقف سبقي، توقف معي، فالدور لازم في الأول دون الثاني، فإن القائل لغيره:(لا أخرج حتى تخرج قبل)، ويقول الآخر كذلك، فيلزم الدور جزما.
والقائل: (لا أخرج حتى تخرج معي)، ويقول الآخر كذلك يخرجان معا، ولا يلزم الدور مع حصول التوقف بين الطرفين، وكذلك هاهنا.
والتوقف من الطرفين معي لا سبقي، فلا يحصل المقصود، ولا يلزم الدور.
قوله: (وجب حسنه في الشرع؛ لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن).
قلنا: قد تقدم السؤال على التمسك به مرارا، وهو أن الشيء إذا كان حسنا في العادة، فما استحسنه المسلمون إلا فيها، فيكون عند الله- تعالى- حسنا فيها لا في الشرع، والمقصود إنما هو حسنه في الشرع.
ومن شرط هذه المادة استواء الأحوال، فإذا كان زيد يرى لبس الجباب في الشتاء حسنا، وقلنا: ما رآه زيد حسنا، فهو عند عمرو حسن، يقتضي أن يكون عمرو- أيضا- إنما يستحسن الجباب في الشتاء؛ إذ لو استحسنها في الصيف لكان غير ما استحسنه زيد لا عينه. فيفيد الحديث أن هذه حسنة عند الله- تعالى- في العادة كما رآه المسلمون حسنا في العادة، وجوابه بقاعدة، وهي: أن كلام الشارع إذا دار بين إنشاء حكم شرعي أو عقلي، فالأول أولى؛ لأنه- عليه السلام إنما بعث لبيان الشرعيات، فإذا حملناه على ما قاله السائل، يرجع حاصله إلى أمر الله- تعالى- أنه حسن في العادة؛ إذ ليس يتعلق بالعادة شرعي، بل العلم والإرادة والقدرة وهي كلها أمور عقلية.
أما إذا جعلنا معناه: (فهو عند الله- تعالى- حسن) أي مشروع، كان ذلك حكما شرعيا، فكان أولى.
قوله: (المناسب يفيد ظن العلية):
قلنا: قد تقدم أن مطلق الظن ليس معتبرا شرعا، بل لابد من دليل شرعي يفيد اعتباره، ولم يذكروا دليلا على اعتبار هذه المرتبة المخصوصة من الظن، فلم يحصل المطلوب.
قوله: (لو أضفنا الانتفاء في صورة التخصيص لحصول المانع كما علمنا بذينك الأصلين، وخالفنا أصلا واحدا، وهو أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى):
قلنا: بل خالفتم أصلين: ما ذكرتم، وأصلا آخر.
وهو أن الأصل عدم المعارض، وقد ألزمتموه في صورة التخصيص بين المقتضى والمانع، فقد اعتبرتم أصلين، وخالفتم أصلين، فلم يحصل الترجيح.
قوله: (عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار المجموع دليلا):
قلنا: لا نسلم، بل الدليل العام فقط، كما أن الموجب للإرث هو البنوة، لا البنوة مع عدم الرق.
ثم إنا نسلم ما ذكرتم، ونقول به في العلم: المجموع هو المعرف لثبوت العلم.
وقولكم: (إن ذلك لا يتم على رأي بعضهم):
قلنا: وكذلك العام المخصوص ليس حجة على رأي بعضهم، والضم عنده لا يتم.