الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحتج المنكر بأمرين:
الأول: أن الترجيح، لو اعتبر في الأمارات، لاعتبر في البينات في الحكومات؛ لأنه لو اعتبر، لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر، وهذا المعنى قام ها هنا.
الثاني: أن إيماء قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] وقوله- عليه الصلاة والسلام: (نحن نحكم بالظاهر) يقتضي إلغاء زيادة الظن.
والجواب عن الأول والثاني: أن ما ذكرته دليل ظني، وما ذكرناه قطعي، والظني لا يعارض القطعي.
القسم الثاني
(في مقدمات الترجيح)
قال القرافي: قوله: الترجيح: تقوية أحد الطرفين):
قلنا: قد تقدم أول الباب كلام السيف في هذا المعنى، فيضم إلى هذا المسألة الثانية الأكثر، وإن اتفقوا على جواز الترجيح.
قوله: (قوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة؛ لموافقة محمد بن مسلمة.
قلنا: لم يتعارض في الجدة خبران، وليس هذا موطن الترجيح، بل اتفق أن ابن مسلمة روى مع المغيرة، وكذلك خبر أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد لم يكن تعارضا، وأنتم اشترطتم أول الباب التعارض في حقيقة الترجيح.
وهاهنا أوردتموه بغير تعارض بل فعل ذلك عمر- رضي الله عنهم أجمعين- لا لقصد الترجيح، بل لسد الذريعة في الجرأة على الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (الترجيح حسن في العرف، فيكون حسنا في الشرع؛ لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن):
قلنا: قد تقدم مرارا السؤال على هذا الحديث وهو أنه إذا كان زيد يرى الماء البارد حسنا في الصيف، وقلنا: ما رآه زيد حسنا، فهو عند عمر حسن.
ما نريد إلا الماء البارد في الصيف على ذلك الوجه، وتلك الحالة في ذلك المعنى، وأهل العرف إنما رأوا ذلك حسنا في دنياهم، فيكون عند الله حسنا في الدنيا، فيبطل الدليل على أنه حسن في الشريعة.
وقد تقدم الجواب بان اللفظ من الشارع إذا دار بين فائدة شرعية، أو عقلية، فالأول أولى؛ لأنه- عليه السلام بعث لبيان الشرعيات، وكونه عند الله مثل ما هو عند الناس في الدنيا- يرجع ذلك إلى كونه- تعالى- عاملا فقط، وذلك معنى عقلي، وكونه عنده كذلك بمعنى أنه شرعه تكون فائدة الكلام الشرعية، فيكون أولى.
قوله: (لو لم يعمل بالراجح علم بالمرجوح):
قلنا: لا نسلم، بل عند الخصم يعمل بالمشترك بينهما مع قطع النظر عن الترجيح، فلا يصدق، أما علمنا بالراجح ولا المرجوح، هذا إذا قلنا بالتخيير.
وإن قلنا بالتوقف سقطتا معا، كما يسقط اعتبار الراجح في خير العدل المنفرد؛ فإن الراجح صدقه، والمرجوح كذبه، ومع ذلك فلا يحكم الحاكم بصدقه، ولا كذبه، وما لزم العمل بالمرجوح عند عدم العمل بالراجح، وكذلك كل ظن ألغاه الشرع، فإن الوهم معه ملغي.
قوله: (لو اعتبر الترجيح في الأمارات لاعتبر في الحكومات):
قلنا: وإنه معتبر عند مالك، وجماعة من العلماء في الأموال دون الدماء.
ثم الفرق أن البينات أشد خطرا، ولذلك اشترط فيه العدد وغيره؛ لاحتمال العداوة الباطنة التي لم يطلع عليها الخلق، وإذا عظم خطره تعين ألا يعمل فيه إلا بسبب سالم عن المعارض فضلا عن الترجيح؛ لأن الترجيح اشتمل على نقضين:
أحدهما: أنه لا يكون إلا مع التعارض.
والثاني: أن أحد المتساويين يسقط بمثله، ويبقى الاعتماد على الترجيح، وهو أضعف من أصل السبب، إنما هو ضميمة لطيفة، ولذلك يحسن في الرواية دون الشهادة لعظم الحظر فيها.
قوله: (لا يعتبر الترجيح؛ لقوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2]، ولقوله عليه السلام: (نحن نحكم بالظاهر):
قلنا: الآية لا تقتضي عدم اعتبار الترجيح، بل دلت على القدر المشترك من الصور والاستدلال، والدال على الأعم غير دال على الأخص نفيا ولا إثباتا.
وأما الحديث وإن دل على اعتبار المرجوح لكونه ظاهرا بالنظر إلى ذاته، فهو يدل أيضا على اعتبار الراجح لكونه ظاهرا بالاعتبارين: باعتبار ذاته، وباعتبار ما حصل له من الترجيح، فهو يتناول الجميع؛ لأن الأظهر ظاهر قطعا، فهو متناول له بعمومه.
(سؤال)
قال النقشواني: جواب المصنف ضعيف بالنسبة إلى الوجه الأول؛ لأن الوجه متفرد بعين ما ذكره المستدل في اعتبار الترجيح بزيادة الظن، فإن كان ذلك قطعيا فهو في جانب المعترض أيضا قطعي، وإن لم يكن قطعيا فقد سقط الجواب.
(تنبيه)
قال التبريزي: يمتنع عدم اعتبار زيادة الظن في الشهادات؛ فإنا نرجح بالتاريخ، وبزيادة العمل، وباليد، والجرح، والتعديل، وإنما لا يرجح في مواضع مخصومة؛ لقيام الدليل على إلغاء تلك الزيادة كما في زيادة العدد.
كما لا يعتبر أصل الظن في مواضع، ثم كيف يترك الإجماع بقياس الرواية على الشهادة؟
وأما الخبر؛ فالمراد به استقلال الظن بوجوب العمل، لا إلغاء الزيادة عند التعارض.
ثم مقتضاه العمل بالراجح، فإنه هو الظاهر، وقد خالفتموه بالنظر إليه، وإلى معارضيه جميعا على أن أظهر معانيه تخصيص نفوذ الحكم بالظاهر دون الباطن على مقتضى مذهبنا.
(فائدة)
قال إمام الحرمين في (البرهان): معظم الأصوليين على منع الترجيح بغير تمسك بدليل مستقل.
وقيل: يجوز الاكتفاء بالترجيح. قاله بعض أصحاب عبد الجبار، وهو باطل؛ لأن الترجيح ينشأ عن الدليل، فحيث لا دليل لا ترجيح.
* * *
المسألة الثالثة
قال الرازي: الترجيح لا يجري في الأدلة اليقينية؛ لوجهين:
الأول: أن شرط الدليل اليقيني: أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية، أو لازما عنها لزوما ضروريا، إما بواسطة واحدة، أو بوسائط شأن كل واحدة منها ذلك، وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة:
أحدها: العلم الضروري بحقيقة المقدمات؛ إما ابتداء، أو استنادا.
وثانيها: العلم الضروري بصحة تركيبها.
وثالثها: العلم الضروري بلزوم النتيجة عنها.
ورابعها: العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضروري لزوما ضروريا، فهو ضروري، فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا؛ وإلا لزم القدح في الضروريات، وهو سفسطة، وإذا استحال ثبوتها، امتنع التعارض.
الثاني: أن الترجيح عبارة عن التقوية، والعلم اليقيني لا يقبل التقوية؛ لأنه إن قارنه احتمال النقيض، ولو على أبعد الوجوه، كان ظنا، لا علما، وإن لم يقارنه ذلك، لم يقبل التقوية.
المسألة الرابعة
اشتهر في الألسنة: أن العقليات لا يجري الترجيح فيها، وهذا فيه تفصيل؛ فإنا إن لم نكلف العوام بتحصيل العلم بالمعتقدات، بل قنعنا منهم بالاعتقاد الجازم على سبيل التقليد لم يمتنع تطرق التقوية إليه.
المسألة الثالثة
(لا ترجيح في الأدلة اليقينية)
قال القرافي: قوله: (الأول: العلم الضروري بحقيقة المقدمات ابتداء [أو] إستادا): يريد بالابتداء: أن تكون بديهية.
وبالإسناد: أن تكون نظرية استفدناها من مقدمات بديهية.
قوله: (الثاني: العلم بحصة تركيبها):
يريد: ما اشترطه المنطقيون في شروط الشكل الأول، وغيره من الشرائط على ما بسط في موضعه.
قوله: (الثالث: العلم بوجوب النتيجة عنها):
تقريره: أنه قد تكون المقدمات ضرورية، وتركيبها ضروري صحيح، ومع ذلك قد تكون النتيجة غير نتيجة ذلك التركيب غلطا من الناظر.
كقولنا: كل هب عين، وكل عين يبصر بها، ينتج: كل ذهب يبصر به، وهو غلط جاء عن الشركة اللفظية؛ فإن الذهب يسمى عينا، والحدقة تسمى عينا، فاغتر بصورة اللفظ، فحصل الغلط.
قوله: (العلم اليقين لا يقبل التقوية):
قلنا: قد اختلف العقلاء: هل العلم يقبل التفاوت أم لا؟ واستدلوا على التفاوت بأن العلوم الحسية أجلى عند العقل من البديهية، والبديهية أجلى من النظرية.
فإن العلم بأن الواحد نصف الاثنين أظهر عند العقل من العلم بأن المرتفع من سبعة في سبع تسع وأربعون، وقالوا: إن رؤية الله- تعالى- في الآخرة.
معناه: خلق علم ضروري للبشر تكون نسبته إليه- تعالى- كنسبة العلم الحاصل من فتح العين على زيد إليه.
وهذا كله يفيد التفاوت في العلم.
قوله: (احتمال النقيض على البعد يخل بالعلم):
قلنا: هذا ليس على إطلاقه، بل الاحتمال العقلي يخل بالعلوم العقلية، ولا يخل بالعلوم العادية؛ فإنا نقطع بأن (دجلة) لم تنقلب زيتا، وإن (أحدا) لم ينقلب ذهبا، ومع ذلك فنحن نجوز ذلك عليهم عقلا.
وإنما يخل بالعلوم العادية للاحتمال العادي، لا للاحتمال العقلي.
كما أن زيدا يحتمل عادة أن يعيش مائة وعشرين سنة، فلا جرم لا نجزم بموته قبل ذلك.
* * *
المسألة الخامسة
قال الرازي مذهب الشافعي- رضي الله عنه حصول الترجيح بكثرة الأدلة.
وقال بعضهم: لا يحصل.
ومن صور المسألة: ترجيح أحد الخبرين على الآخر لكثرة الرواة.
لنا وجهان:
الأول: أن الأمارات متى كانت أكثر، كان الظن أقوى، ومتى كان الظن أقوى، تعين العمل به.
بيان الأول من وجوه:
أحدهما: أن الرواة إذا بلغوا في الكثرة حدا حصل العلم بقولهم، وكلما كانت المقاربة إلى ذلك الحد أكثر، وجب أن يكون اعتقاد صدقهم أقوى.
وثانيها: أن قول كل واحد منهم يفيد قدرا من الظن، فإذا اجتمعوا، استحال ألا يحصل إلا ذلك القدر الذي كان حاصلا بقول الواحد، وإلا فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان، وهو محال؛ فإذن: لابد من الزيادة.
وثالثها: أن احتراز العدد عن تعمد الكذب أكثر من احتراز الواحد، وكذا احتمال الغلط والنسيان على العدد أبعد.
ورابعها: أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه أكثر من احترازه عن كذب لا يشعر به غيره.
وخامسها: أنا إذا فرضنا دليلين متعارضين يتساويان في القوة في ذهننا، فإذا
وجد دليل آخر يساوي أحدهما، فمجموعهما لابد وأن يكون زائدا على ذلك الآخر؛ لأن مجموعهما أعظم من كل واحد منهما، وكل واحد منهم مساو لذلك الآخر، والأعظم من المساوي أعظم.
وسادسها: اجتماع الصحابة على ّأن الظن الحاصل بقول الاثنين أقوى من الظن الحاصل بقول واحد؛ فإن الصديق: لم يعمل بخبر المغيرة في مسألة الجدة؛ حتى شهد له محمد بن مسلمة.
وعمر: لم يقبل خبر أبي موسى؛ حتى شهد له أبو سعيد الخدري، فلولا أن لكثرة الرواة أثرا في قوة الظن، وإلا لما كان كذلك؛ فثبت بهذه الوجوه أن الظن إذا كان أقوى، وجب أن يتعين العمل به؛ وذلك لأنا أجمعنا على جواز الترجيح بقوة الدليل، وجواز الترجيح بقوة الدليل إنما كان لزيادة القوة في أحد الجانبين، وهذا المعنى حاصل في الترجيح بكثرة الأدلة.
بلى؛ إذا كان الترجيح بالقوة، حصلت الزيادة مع المزيد عليه، ولا في فرق إلا أن في الترجيح بالقوة، وجدت الزيادة مع المزيد عليه.
وفي الترجيح بالكثرة: حصلت الزيادة في محل، والمزيد عليه في محل آخر، والعلم الضروري حاصل بأنه لا أثر لذلك.
الوجه الثاني في المسألة: أن مخالفة كل دليل خلاف الأصل، فإذا وجد في أحد الجانبين دليلان، وفي الجانب الآخر دليل واحد، كانت مخالفة الدليلين أكثر محذورا من مخالفة الدليل الواحد؛ فاشترك الجانبان في قدر من المحذور، واختص أحدهما بقدر زائد، ولم يوجد في الطرف الآخر، ولو لم يحصل
الترجيح، لكان ذلك التزاما، لذلك القدر الزائد من المحذور من غير معارض؛ وإنه غير جائز.
واحتج الخصم بالخبر، والقياس:
أما الخبر: فقوله- عليه الصلاة والسلام: (نحن نحكم بالظاهر) فهذا بإيمائه يدل على أن المعتبر أصل الظهور، وأن الزيادة عليه ملغاة، ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل؛ لأن هناك الزيادة مع المزيد عليه حاصلان في محل، والقوى حال اجتماعهما تكون أقوى منها حال تفرقها؛ بخلاف الترجيح بكثرة الدليل؛ فإن هناك الزيادة في محل، والمزيد عليه في محل آخر؛ فلا يحصل كمال القوة.
أما القياس: فقد أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في الشهادة والفتوى، فكذا هاهنا.
وأيضا: اجمعنا على أن الخبر الواحد، لو عارضه ألف قياس، فإنه يكون راجحا على الكل، وذلك يدل على أن الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة.
الجواب عن الأول: أن ذلك الإيماء ترك العمل به في الترجيح بالقوة؛ فوجب أن يترك العمل به في الترجيح بالكثرة؛ لأن المعتبر قوة الظن، وهي حاصلة في الموضعين.
أما قوله: (إن في الترجيح بالقوة: تحصل الزيادة مع المزيد في محل واحد، وللاجتماع أثر):
قلت: نحن نعلم أنه، وإنه كان محل الزيادة مغايرا للأصل، لكن مجموعهما مؤثر في تقوية الظن؛ فإنه إذا أخبرنا مخبر عدل عن واقعة، حصل ظن ما، فإذا أخبرنا ثان، صار ذلك الظن أقوى، وإذا أخبرنا ثالث، صار ذلك الظن أقوى، ولا تزال القوة تزداد بازدياد المخبرين؛ حتى ينتهي إلى العلم؛ فعلمنا أن ما ذكروه من الفرق لا يقدح في كونه مقويا للظن.
وأما فصل الشهادة: فعند مالك- رحمه الله:يحصل الترجيح فيها بكثرة الشهود.
والفرق أن الدليل يأبى اعتبار الشهادة حجة؛ لما فيه من توهم الكذب والخطأ، وتنفيذ قول شخص على شخص مثله، إلا أنا اعتبرناها فصلا للخصومات؛ فوجب أن تعتبر حجة على وجه لا يفضي إلى تطويل الخصومات؛ لئلا يعود على موضوعه بالنقض، فلو أجرينا فيه الترجيح بكثرة العدد، لزم تطويل الخصومة؛ فإنهما إذا أقاما الشهادة من الجانبين على السوية، كان لأحدهما أن يستمهل القاضي؛ ليأتي بعدد آخر من الشهود، فإذا أمهله من إقامتها بعد انقضاء المدة، كان للآخر أن يفعل ذلك، ويفضي ذلك إلى ألا تنقطع الخصومة ألبتة، فأسقط الشرع اعتبار الترجيح بالكثرة؛ دفعا لهذا المحذور.
وأما الترجيح بكثرة المفتين، فقد جوزه بعض العلماء.
وأما قوله: (الخبر الواحد يقدم على القياسات الكثيرة):
قلنا: إن كانت أصول تلك القياسات شيئا واحدا، فالخبر الواحد يقدم عليها؛ وذلك لأن تلك القياسات لا تتغاير، إلا إذا عللنا حكم الأصل في كل قياس بعلة أخرى، والجمع بين كلها محال؛ لما عرفت أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين، وإذا لعلمنا أن الحق منها ليس إلا الواحد، لم تحصل هناك كثرة الأدلة.
أما إن كان أصول تلك القياسات كثيرة، فلا نسلم أنه لا يحصل الترجيح.
المسألة الخامسة
الترجيح بكثرة الأدلة
قال القرافي: قوله: (قال عليه السلام: (نحن نحكم بالظاهر) يدل على اعتبار أصل الظهور فقط، وأن الزيادة ملغاة):
قلنا: لا نسلم، بل (الألف) و (اللام) فيه لاستغراق كل ما يصدق عليه أنه ظاهر.
والأظهر يصدق عليه أنه ظاهر، فيتناوله عموم اللفظ.
(فائدة)
قال إمام الحرمين: قال الأكثرون بالترجيح بكثرة الرواة، وهو مذهب الفقهاء، منعه بعض المعتزلة.
قال القاضي: والتقديم بكثرة الرواة لا أراه من المسائل القطعيات، بل من مسائل الاجتهاد.
قال الإمام: بل إذا روى أحد الحديثين واحد، وروى الأخر جمع، فإنا نقطع بأن الحكم تقديم ما رواه الجمع إذا استوت أحوال الرواة، وهو طريق الصحابة رضوان الله عليهم.
أما قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما، فالمسألة ظنية؛ فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف الظن بالذي يعارضه، فيبعد أن يستقل دليلا.
والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنها، والتمسك بالقياس، وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع، ولو تجرد القياس في الجانب الأخر، فهو مستمسك الحكم، ولكن قد يظن أن الصحابة كانوا يقدمون الخبر الذي يرويه الجميع، ويضربون عن القياس؛ تعظيما للنصوص، ولا نقطع بذلك، ولا تثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي، فما قطعنا به أثبتناه، وما ظنناه ترددنا فيه، وألحقناه بالمظنونات، وإن وافق القياس الخبر الذي يرويه الواحد، فالمسألة ظنية أيضا.
والي يرويه الجمع فلا يشك في العمل بالقياس، واختصاص إحدى الروايتين بمزيد قوة كاختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة.
فإن كان الراوي ثقة، وراوي الخبر الأخر جمع لا يبلغ آحادهم ثقة [هذا] الراوي، فمن أهل الحديث من يقدم مزيد العدد.
ومنهم من يقدم مزيد الثقة، وهي مسألة ظنية أيضا، والغالب على الظن تقديم الثقة إذا ظهرت.
فإن الصديق- رضي الله عنه المعلوم من حال الصحابة- رضي الله عنهم تقديمه على الجمع.
(فائدة)
قال سيف الدين: الأكثر رواة أرجح، خلافا للكرخي، ولم يحك خلافا عن غيره.
فدل على أنه المشهور، بخلاف (المحصول) لم يعين ذلك.
وقال الإمام في (البرهان): مذهب الفقهاء والأكثرين الترجيح بكثرة الرواة، ومنعه بعض المعتزلة.
فإن عارض ثقة عدد من الرواة لا يبلغ آحادهم مبلغ الثقة في المنفرد كالصديق- رضي الله عنه مع جمع غيره:
فقيل: يقدم مزيد الثقة.
وقيل: مزيد العدد.
والأول اظهر.
(فائدة)
قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): [إذا اختلفت] رواية الحديث اختلفوا هل يتنزل ذلك منزلة كثرة الرواة أم لا؟ لأن أحد الطريقين عين الآخر أم لا يتنزل؟ قولان.
* * *
المسألة الخامسة
قال الرازي: إذا تعارض الدليلان، فالعمل بكل واحد منهما من وجه، دون وجه- أولى من العمل بأحدهما، دون الثاني؛ لن دلالة اللفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة لدلالته على كل مفهومه، ودلالته على كل مفهومه دلالة أصلية.
فإذا علمنا بكل واحدة منهما بوجه، دون وجه- فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية، وإذا عملنا بأحدهما، دون الثاني، فقد تركنا العمل بالدلالة الأصلية، ولا شك أن الأول أولى.
فثبت أن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه- أولى من العمل بأحدهما من كل وجه، دون الثاني.
إذا ظهر ذلك، فنقول: العمل بكل واحد من وجه ثلاثة أنواع:
أحدهما: الاشتراك والتوزيع، إن كان قبل التعارض، يقبل ذلك.
وثانيها: أن يقتضي كل واحد منهما حكما ما، فيعمل بكل واحد منهما في حق بعض الأحكام.
وثالثها: العامان، إذا تعارضا، يعمل بكل واحد منهما في بعض الصور؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام:(ألا أخبركم بخير الشهداء؟! قيل: بلى، يا رسول الله، قال: (أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد) وقوله- عليه الصلاة والسلام: (ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد) فيعمل بالأول في حقوق الله، والثاني في حقوق العباد.
المسألة الخامسة
(في تعارض الدليلين)
قال القرافي: قوله: (إذا عملنا بكل دليل من وجه دون وجه، فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية):
قلنا: ظاهر الحال يقتضي أن العمل بكل واحد منهما من وجه أن المدلول مطابقة ترك فيها؛ لأنه لم يعتبر في أحدهما مسماة بكماله، وهو المدلول مطابقة، وإنما اعتبر البعض، وهو المدلول تضمنا، فقد قدم التضمن التبع على المدلول مطابقة المتأصل.
غير أن مراده الترجيح في جانب النفي، لا في جانب الثبوت، فإذا عملنا بأحدهما بجملته، فقد ألغينا الآخر بجملته، فدخل النفي والإلغاء على المدلول مطابقة.
وإذا عملنا بكل واحد منهما من وجه، فقد ألغينا بعض المسمى، ولم نلغه كله، فصيانة الكل عن الإلغاء أرجح، مع أن للخصم أن يرجح مذهبه بجهة الثبوت.
ونقول ما ذكرتموه لا تثبت المطابقة فيهما، وفي إلغاء أحدهما بجملته تثبت المطابقة في أحدهما، وثبوت الراجح في صورة أولى من إلغائه مطلقا، كما أن ثبوت الحقيقة في صورة أولى من ثبوت المجاز مطلقا.
قوله: (الوجه الأول: الجمع بالاشتراك والتوزيع):
تقريره: أن المحكوم عليه في الخبرين قد يكون بسيطا لا جزء له، وقد يكون ذا أجزاء.
فالأول كالقذف ونحوه، إذا تعارضت فيه النيات؛ فإنه لا يمكن العمل ببعض القذف، أو بعض القتل، فيقل البعض دون البعض.
والثاني: نحو الدار
قال التبريزي: للجمع طرق، منها توزيع تعلق الحكم إن أمكن، كما تقسم الدار المدعى لها، وتوفير بعض الأحكام على كل واحد عند العدد، والتنزيل على بعض الأحوال، أو بعض الصور عند الإطلاق والعموم، كتنزيل قوله عليه السلام:(ألا أخبركم بخير الشهداء)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:(أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد).
وقال في الحديث الآخر: (شر الشهداء من شهد قبل أن يستشهد).
فيحمل الأول على حقوق الله- تعالى-، والثاني على حقوق الآدميين.
قوله: (وثانيها: أن يقتضي كل واحد منهما حكما ما، فيعمل بكل واحد منهما في حق بعض الأحكام):
تقريره: أن ذلك كقوله عليه السلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
وقوله عليه السلام: (من توضأ للجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل).
فيحمل الأول على الندب، والثاني على نفي الحرج، الذي لا يمكن اجتماعه مع الندب؛ فإن المندوب لا حرج في تركه.
وكذلك نهيه- عليه السلام عن الشرب قائما، والبول قائما.
وروى عنه- عليه السلام انه فعل ذلك.
فيحمل الأول على الكراهة، والثاني على نفي الحرج، فيكون بيانا للأول.
قوله: (وثالثها: العامان إذا تعارضا عمل بكل واحد منهما في بعض الصور):
تقريره: أن طرق الجمع التي ذكرها ثلاثة: تارة يجمع بالحمل على جزءين، وهو الأول، أو حكمين، وهو الثاني، أو حالين، وهو الثالث.
(تنبيه)
زاد التبريزي فقال: دلالة اللفظ على مجموع مفهومه نص، وعلى بعض ذلك المفهوم عموم، وترك العام أهون من ترك النص.
قال: وقد غير بعضهم هذا المعنى بأن دلالته على جزء مفهومه تبع دلالته على كل مفهومه، ومخالفة التابع أسهل.
وقال تاج الدين بعد ذكر هذا البحث: هذا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون ذلك الحكم متبعضا، فيثبت بعضها دون البعض.
وثانيها: أن يفيد أحكاما، ويثبت بعضها دون البعض.
وثالثها: أن يكونا عامين: أحدهما يفيد سلبا كليا، والآخر إيجابا كليا، فيجب البعض دون البعض.
قلت: وهذه عبارة رديئة؛ لأن الحكم لا يبعض، بل المحكوم عليه.
وقوله في الثاني: يثبت بعضها دون البعض، الكل ثابت، وإنما هذا في حكم، والآخر في حكم، وعبارته تقتضي الترك مطلقا.
وقوله في لثالث: (يجب البعض دون البعض) باطل.
بل السلب ثابت كله في حال، والإيجاب في حال، وعبارته تشعر ببعض السلب وبعض الإيجاب.
* * *
المسألة السابعة
قال الرازي: إذا تعارض دليلان: فإما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عاما، والآخر خاصا، أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه:
وعلى التقديرات الأربعة: فإما أن يكونا معلومين، أو مظنونين، أو أحدهما معلوما، والآخر مظنونا؛ وعلى التقديرات كلها: فإما أن يكون المتقدم ملعوما والمتأخر معلوما، أولا يكون واحد منهما معلوما.
فلنذكر أحكام هذه الأقسام:
القسم الأول: أن يكونا عامين، فإما أن يكون معلومين، أو مظنونين، أو أحدهما معلوما، والآخر مظنونا.
النوع الأول: أن يكونا معلومين: فإما أن يكون التاريخ معلوما، أو لا يكون: فإن كان ملعوما: فإما أن يكون المدلول قابلا للنسخ، أو لا يكون: فإن قبله، جعلنا المتأخر ناسخا للمتقدم سواء كانا آيتين، أو خبرين، أو أحدهما آية والآخر خبرا متواترا.
فإن قلت: (فما قول الشافعي هاهنا مع أن مذهبه: أن القرآن لا ينسخ بالخبر المتواتر، ولا بالعكس؟!):
قلت: هذا التقسيم لا يفيد، إلا أنه لو وقع لكان، المتأخر ناسخا للمتقدم، والشافعي يقول:(لم يقع ذلك)، فليس بين مقتضى هذا التقسيم، وبين قول الشافعي منافاة.
وإن كان مدلولهما غير قابل للنسخ، فيتساقطان؛ ويجب الرجوع إلى دليل آخر.
هذا إذا علم تقدم أحدهما على الآخر.
فأما إذا علم أنهما تقارنا، فإن أمكن التخيير فيهما، تعين القول به؛ فإنه إذا تعذر الجمع، لم يبق إلا التخيير، ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد؛ لما عرفت أن المعلوم لا يقبل الترجيح، ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم أيضا؛ نحو كون أحدهما حاظرا، أو مثبتا حكما شرعيا؛ لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية؛ وإنه غير جائز.
وأما إذا لم يعلم التاريخ: فهاهنا يجب الرجوع إلى غيرهما؛ لأنا نجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر، فيكون ناسا للآخر.
النوع الثاني: أن يكونا مظنونبن، فإن نقل تقدم أحدهما على الآخر، كان المتأخر ناسخا، وإن نقلت المقارنة، أو لم يعلم شيء من ذلك، وجب الرجوع إلى الترجيح؛ فيعمل بالأقوى، وإن تساويا، كان التعبد فيهما التخيير.
النوع الثالث: أن يكون أحدهما معلوما، والآخر مظنونا:
فإما أن ينقل تقدم أحدهما على الآخر، أو لا ينقل ذلك، فإن نقل: وكان المعلوم هو المتأخر، كان ناسخا للمتقدم، وإن كان المظنون هو المتأخر، لم ينسخ المعلوم، وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر، وجب العمل بالمعلوم؛ لأنه إن كان هو المتأخر، كان ناسخا، وإن كان هو المتقدم، لم ينسخه المظنون، وإن كان مقارنا كان المعلوم راجحا عليه؛ لكونه معلوما.
القسم الثاني: من الأقسام الأربعة: أن يكونا خاصين، والتفصيل فيه كما في العامين من غير تفاوت.
القسم الثالث: أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه، خاصا من وجه؛ كما في قوله تعالى:{وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] مع قوله: {إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24].
وكما في قوله- عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها، إذا ذكرها) مع نهيه- عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الأوقات الخمسة المكروهة، فإن الأول عام في الأوقات، خاص في صلاة القضاء.
والثاني عام في الصلاة، خاص في الأوقات، فهذان العمومان: إما أن يعلم تقدم أحدهما على صاحبه، أو لا يعلم: فإن علم، وكانا معلومين، أو مظنونين، أو كان المتقدم مظنونا والمتأخر معلوما- كان المتأخر ناسخا للمتقدم على قول من قال: العام ينسخ الخاص المتقدم؛ لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا.
وإن كان المتقدم معلوما، والمتأخر مظنونا، لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول؛ ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح.
فأما من يقول: (إن العام المتأخر يبنى على الخاص المتقدم، والخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم) فاللائق بمذهبه ألا يقول في شيء من هذه الأقسام- بالنسخ؛ بل يذهب إلى الترجيح؛ لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم؛ حتى يخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر، وأما إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر: فإن كانا معلومين، لم يجز ترجيح أحدهما
على الآخر بقوة الإسناد، لكن يجوز الترجيح بما يتضمنه أحدهما من كونه حاظرا، أو مثبتا حكما شرعيا؛ لأن الحكم بذلك طريقه الاجتهاد، وليس في ترجيح أحدهما على الآخر اطراح الآخر؛ بخلاف ما إذا تعارضا من كل وجه، فإن لم يترجح أحدهما على ألآخر، فالحكم التخيير.
وأما إذا كانا مظنونين، جاز الترجيح كل واحد منهما على الآخر بقوة الإسناد، وبما تضمنه الحكم.
وإذا لم يترجح، فالحكم التخيير.
وأما إن كان أحدهما معلوما، والآخر مظنونا- جاز ترجيح المعلوم على المظنون؛ لكونه معلوما، فإن ترجح المظنون عليه بما يتضمن الحكم؛ حتى حصل التعارض؛ فإن الحكم ما قدمناه.
القسم الرابع: إذا كان أحدهما عاما، والآخر خاصا: فإن كانا معلومين، أو مظنونين، وكان الخاص متأخرا- كان ناسخا للعام المتقدم، وإن كان العام متأخرا، كان ناسخا للخاص المتقدم عند الحنفية.
وعندنا أنه يبنى للعام على الخاص، وإن وردا معا، خص العام بالخاص إجماعا، وإن جهل التاريخ، فعندنا يبنى العام على الخاص.
وعند الحنفية يتوقف فيه.
وأما إن كان أحدهما معلوما، والآخر مظنونا- فقد اتفقوا على تقديم المعلوم على المظنون، إلا إذا كان المعلوم عاما، والمظنون خاصا، ووردا معا؛ وذلك مثل تخصيص الكتاب، والخبر المتواتر؛ بخبر الواحد، والقياس، وقد ذكرنا أقوال الناس فيهما في (باب العموم).
(المسألة السابعة)
(إذا تعارض دليلان فإما عامان، أو خاصان)
قوله: (إما أن يكون المدلول قابلا للنسخ أو لا يكون):
تقريره: أن الخبر الصرف كقوله تعالى: {إنا أرسلنا نوحا} [نوح: 1].
لا يقبل النسخ، وإنما يقبل الخبر النسخ إذا كان متضمنا للحكم الشرعي، كقوله:{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة: 225] ونحو ذلك؛ فإنه نسخ.
وفي الحقيقة النسخ إنما هو في الحكم، وهذا هو الصحيح في نسخ الخبر، وفيه مذاهب تقدمت في النسخ.
قوله: (لا يمكن الترجيح في المتقارنين بأن أحدهما حاظر، أو مثبت حكما شرعيا؛ لأنه يؤدي إلى طرح المعلوم بالكلية):
قلنا: قد قلتم: إنه يتخير بينهما، والتخيير يفضي إلى ترك أحدهما بمجرد التشهي، فترك أحدهما بموجب معتبر أولى.
فإن الترجيح بالحظر ونحوه مرجح معتبر، غير أن له أن يقول: الترجيح يقتضي إطراح المرجوح دائما، والتخيير يوجب صحة الأخذ بالآخر في كل وقت، فلم يسقط منهما شيء على الإطلاق، فكان أولى، واندفع السؤال.
(تنبيه)
التخيير في هذا القسم، وفي القسم الذي بعده إذا كانا مظنونين ينبغي أن يتخرج على مذهب القاضي والجماعة في التخيير بين الأمارتين إذا تعارضا، ويجري القول الآخر الشاذ بالتساقط كما تقدم هنالك؛ لأن [من] مدرك التساقط حصول التساوي، وعدم العلم والظن، وأنه يكون حكما بالتشهي، وهو متحقق هاهنا.
قوله: (إن كان المظنون المتأخر لم ينس المعلوم المتقدم):
تقريره: أنه قد تقدم في النسخ أنا نشترط في الناسخ أن يكون مساويا للمنسوخ، أو أقوى، ويمتنع بالأضعف، والمظنون أضعف، فلا ينسخ المعلوم.
قوله: (إن كانا خاصين، فكالعامين من غير تفاوت):
تقريره: أن الخاص ينطلق على الشخص الجزئي، فهذا لا عموم فيه على الإطلاق، فيكون قسما للعام محققا، وهو الذي ينبغي أن ينزل عليه كلامه هاهنا.
وينطلق على أنواع من العمومات، لكنها خاصة بالنسبة إلى غيره من العموم.
كما تقول: (الرهبان) خاص بالنسبة إلى (المشركين) و (الغرر) خاص بالنسبة إلى عموم (البيع).
فهذه النصوص الخاصة لا يمكن أن تكون مرادة هاهنا؛ لأنهما عامان لا يكونان قسمين للعامين، بل الحكم الأول تناولهما، فتعين القسم الأول.
قوله: (القسم الثالث أن يكون كل واحد منهما خاصا من وجه، عاما من وجه):
تقريره: أن الحقائق أربعة أقسام: متباينان، ومتساويان، وعام مطلقا، وخاص مطلقا، وعام من وجه خاص من وجه، فالأول هما اللذان لا يصدق واحد منهما على الآخر في صورة كـ (الإنسان) و (الفرس).
والمتساويان هما اللذان يلزم من وجود كل واحد منهما وجود الآخر، ومن عدمه عدمه كـ (الإنسان) و (الناطق)، وكل نوع مع فصله، وملزوم مع لازمه [المساوي] كـ (الإنسان) و (الضاحك).
والعام مطلقا هو الذي يوجد مع كل أفراد الأخص وبدونه كـ (الحيوان) و (الناطق)، وكل جنس مع نوعه، وكل لازم أعم مع ملزومه، كالزوجية مع العشرة، فإذا شمل كل أفراد حقيقة الآخر، ووجد بدونه كان أعلم مطلقا، والآخر أخص مطلقا.
والأعم من وجه والأخص من وجه هما اللذان يجتمعان في صورة، وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كـ (الحيوان) و (الأبيض) اجتمعا في (الإنسان) و (الأبيض)، وانفرد (الحيوان) و (الزنج)، وغيره من الحيوانات بدون (الأبيض)، وانفرد (الأبيض) بـ (الجير) و (الثلج) وغيرهما دون الحيوان. هذا في الحقائق، ومثله في النصوص، فقد تتباين المدلولات كالمؤمنين والكافرين، وقد يتساويان كـ (الإنسان) و (البشر).
وقد يكون أعم مطلقا كـ (الكفار) و (الرهبان).
وقد يكون أعم من وجه كالآية المحرمة للجمع بين الأختين مع الآية المبيحة لملك اليمين؛ فإن ملك اليمين يوجد مع تحريم الأختين في الأختين المملوكتين، وينفرد الملك دون الإباحة في موطوءات الآباء وغيرهن.
وتنفرد الإباحة دون الملك بالحرائر.
قوله: (المتأخر ناسخ للمتقدم على قول من يقول: العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم):
تقريره: أن ها القائل هو الحنفية، وقد تقدم البحث معهم في ذلك.
قوله: (ما لم يثبت كونه أعم من المتقدم أولى أن يكون ناسخا):
قلنا: التقدير أنه أعم من وجه، فلا معنى لقولكم: إنه لم يثبت، بل العبارة الصحيحة التي يمكن أن تقال: ما لم يكن عاما مطلقا أولى أن يكون ناسخا؛ لأنه خاص من وجه، فهو أقوى، مع أنه يرد عليه أن العلم مطلقا آت على جملة أفراد الخاص المتقدم، فتعين النسخ عندهم.
أما في الأعم من وجه أمكن أن يقال: التعارض إنما وقع في البعض المشترك بين النصين.
فإذا أبطلنا الحكم فيه بالنص المتأخر أمكن أن يكون ذلك تخصيصا؛ لأنه إخراج بعض الأول، ولم يتعين أنه مراد، ولا عمل بالنص السابق مطلقا حتى يتعين النسخ، بخلاف العام مطلقا حصلت المعارضة في جملة الأفراد، فتعين النسخ.
فهذا فرق قوي يمنع هذا التخريج على أصول الحنفية.
قوله: (إن كان المتأخر مظنونا امتنع النسخ عندهم، ووجب الترجيح):
قلنا: هذا الكلام يشعر بطلب الترجيح بأمر خارج، وأن المتعين الوقف حتى يتبين الترجيح، وليس كذلك، بل التعارض إنما وقع في البعض، وقد شاركه دليل ملعوم ودليل مظنون، فيتعين إعمال المعلوم المتقدم من غير توقف، ولا طلب الترجيح، وإن كان مقصودكم بالترجيح هذا القدر، فكان ينبغي أن تكون العبارة تعين المعلوم وتقدمه على المظنون من غير إيهام هذا التوقف، والترجيح الخارجي.
قوله: (من يقول: العام المتأخر ينبني على الخاص المتقدم، فاللائق بمذهبه ألا يقول في شيء من هذه الأقسام بالنسخ، بل بالترجيح):
قلنا: هذا الإطلاق لا يتأتى على هذا المذهب، بل صاحب هذا المذهب يقدم المعلوم على المظنون، ولا يحتاج إلى الترجيح إلا في المعلومين، أو المظنونين.
فهذا الإطلاق يجب فيه هذا التفضيل.
قوله: (إذا لم يترجح أحدهما على الآخر، فالحكم التخيير):
قلنا: هذا على مذهب القاضي، والمشهور في تعارض الأمارتين.
أما على القول القليل المحكي ن بعضهم في التساقط يلزم التساقط هاهنا.
قوله: (إذا كان أحدهما عاما، والآخر خاصا، وهما معلومان أو مظنونان، وتأخر الخاص نسخ العام المتقدم):
قلنا: عليه سؤالان:
الأول: أن شرط النسخ التعارض، والتعارض هاهنا إنما وقع في البعض من العام الذي تناوله الخاص، وما عداه لم يحصل فيه تعارض، فلا نسخ فيه.
فإطلاق القول بنسخ العام يقتضي نسخ جملته، وهو باطل.
الثاني: أن العام وإن تقدم، لكنه قد لا يعمل به، فيكون قابلا للتخصيص، فيخرج منه أفراد الخاص المتأخر، ولا نسخ بل بيان؛ لأن المراد بالعام المتقدم ما عدا الخاص المتأخر، والتخصيص مهما أمكن الحمل عليه كان أولى من النسخ.
أما إذا علم بالعام المتقدم تعذر أن يقال: إن الخاص بيان له، بل نسخ لما وقع فيه التعارض، وهو أفراد الخاص. هذا على القول بامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة المبني على امتناع تكليف ما لا يطاق، والحق جواز تكليف ما لا يطاق، فيجوز التخصيص مطلقا، ويبطل النسخ مطلقا.
إلا أن يعلم الإرادة بجميع أفراد العموم.
أما مجرد العمل به غير كاف على هذه الطريقة مع أن المصنف في بناء العام على الخاص حكى عن الأصحاب بناء العام على الخاص، وتقدم أو تأخر.
وهاهنا ترك ذلك، وكان اللائق ملاحظة ما تقدمت حكايته.
قوله: (إن جهل التاريخ، فالتوقف عند الحنفية):
تقريره: أنه يجوز أن يكون العام متأخرا، فيكون ناسخا للخاص المتقدم على قاعدتهم أو متقدما، وقد عمل به، فيكون الخاص ناسخا، أو متقارنين، فيكون الخاص مخصصا، فقد دار الخاص بين أن يكون ناسخا أو منسوخا أو مخصصا، وكذلك العام دائر بين أن يكون ناسخا أو منسوخا، فيجب التوقف.
غير أنه ينبغي أن يقال: الأفراد التي في العام لم يتناولها الخاص، فصار العام بها عاما لم يحصل فيها تعارض، فينبغي عدم التوقف فيها.
إنما حصل التعارض في الأفراد التي يتناولها الخاص، وأيضا فقد يعلم عدم العلم بالعام، فلا يكون الخاص ناسخه.
فإطلاق القول بالتوقف لمجرد الجهل بالتاريخ غير سديد.
قوله: (اتفقوا بالتوقف تقديم المعلوم على المظنون، إلا إذا كان المعلوم عاما ووردا معا):
تقريره: أنه إذا كان الخاص هو المعلوم بأن فرض تقدمه، خصص العموم المتأخر المظنون، أو تأخره فإن لم يعمل بالعام خصصه، أو عمل به نسخه؛ لأنه أقوى منه، أو معا خصصه مقدم الخاص المعلوم على العام المظنون مطلقا.
أما إذا كان المعلوم هو العام، فإن تأخر عن الخاص نسخه عند الحنفية حينئذ.
وعندنا يخصصه، فلا إجماع في تقديم المعلوم؛ لأنا نقدم المظنون على العام المعلوم.
وإن وردا معا قدم المظنون الخاص على العام المعلوم، فيخصصه، فلا إجماع.
فلذلك استثنى هذه الصورة عن الإجماع في تقديم المعلوم فيها على المظنون.
(سؤال)
قال النقشواني: (قوله: إن كان مدلولهما غير قابل للنسخ يتساقطان، ويرجع إلى دليل آخر) لا يستقيم، بل يمتنع العمل بالمتأخر، ويعمل بالمتقدم كما كان قبل ورود المتأخر؛ لعدم صلاحية المتأخر للنسخ.
(سؤال)
قال النقشواني: (قوله في المعلومين: إن أمكن التخيير بينهما تعين)، يرد عليه: أنه لم يذكر حكم تعذر التخيير بينهما، والقول بالتخيير يفضي إلى ترك العمل بكل واحد منهما؛ ولأن مدلول أحدهما إذا لم يكن قابلا للنسخ كالأخبار والآيات الواردة في صفات الله- تعالى- فيتعين العمل بأحدهما عينا، ويترك الآخر، فلا تخيير.
(سؤال)
قال النقشواني: قوله: (إن جهل التاريخ وجب الرجوع إلى غيرهما).
يرد عليه: أن التخيير عنده علم بكل واحد من الدليلين بحسب الإمكان، فيكون هاهنا أولى من تركهما مطلقا كما في البيتين؛ لأنه لا فرق في البينات بين العلم بمقارنتهما، وبين جهل التاريخ بينهما.
فكذلك هاهنا.
وقوله: (إن كل واحد منهما قد يكون متأخرا، فيكون ناسخا) يرد عليه: أن المدلول قائم، فلا يكون قابلا للنسخ).
(سؤال)
قال النقشواني: إذا كانا مظنونين، ولم يعلم التاريخ، وتساويا في القوة، فقد احتمل في كل واحد منهما أن يكون ناسخا بان كان متأخرا.
وقد حكم في هذا الاحتمال في المعلومين بالتساقط، فلم لا يحكم به هاهنا؟
لأجل احتمال النسخ؛ فإنه إن كان موجبا للتساقط تعين هاهنا عملا بالواجب، أو لا يكون موجبا، فلا يحكم بالتساقط في المعلومين مع أن طرح المعلوم أشد.
وقد حكم به، مع أنه يمكن الترجيح في المعلومين؛ لأن المراد بالمعلوم معلوم السند، وقد يكون للعاملين عوارض نجد كون أحدهما مخصوصا دون الآخر، أو أحدهما أكثر قبولا للتخصيص من الأخر لكثرة صوره، أو لفظ التعميم في أحدهما (لام) التعريف، وفي الآخر (كل) و (أجمع).
أو أحدهما مذكورا بـ (ما)، والآخر بـ (كل)، ولفظ (كل) هو أقوى دلالة على العموم.
وقد تكون دلالة أحدهما نصا، والآخر ظاهرا، والسند معلوم فيهما، فمتى وقع التعارض بين معلومين، أو مظنونين وقع الترجيح بهذه الأمور، أو بين مقطوع ومظنون، ودلالة المقطوع ظاهرة، والمظنون نص؛ لأن ما في أحدهما من القوة يصير جابرا لما فيه من الضعف، فيتعادلان.
وعلى هذا لا يكون تقسيم المصنف حاصرا.
وبهذا يظهر أن قوله: (إن كان خاصين، فالتفصيل فيه كما في العامين) لا يتم على ما ذكرناه من أن العامين فيهما وجوه من الترجيح كما تقدم.
ولا تنافى في الخاصين من جهة الاختلاف في صيغ العموم كما تقدم.
(سؤال)
قال النقشواني: لم يحكم في القسم الثالث بالتساقط، مع أن على رأي القائلين بالنسخ ينبغي التساقط؛ لاحتمال النسخ في كل واحد منهما، ويجب
الرجوع إلى غيرهما كما قاله فيما تقدم من الأقسام، وحيث حكم بالتخيير مطلقا، كان مناقضا لما تقدم.
(تنبيه)
قال التبريزي: إذا تعارضا فإما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عام مطلقا أو من وجه، وعلى الأقسام كلها، فإما ان يكونا معلومين أو مظنونين، أو أحدهما معلوم والآخر مظنون في التناول فحسب.
وفي نسخة: (في الدلالة فحسب)، وهو معنى التناول.
ثم قال: وعلى الأقسام إما أن يعلم المتقدم عينا أو لا، فهذه أربعة وعشرون قسما تتشعب من الأربعة الأقسام، وذكر الترجيح والأحكام التي ذكرها المصنف إلى أخرها.
ثم قال: هذا بالنظر إلى أعيان الأدلة.
أما بالنظر إلى أجناسها، فلا ترجيح إلا للإجماع، ويقدم مظنونه على مظنون النقد عند من يراه حجة.
قلت: قوله في التناول أو الدلالة باطل.
فإن البحث هاهنا في المعلومين والمظنونين، إلا بحسب السند؛ فإنه يكون متواترا معلوما أو آحادا مظنونا، أما الدلالة فظنية قطعا في صيغ العموم، فكيف يصح تقسيمها إلى [معلومة] الدلالة؟
أما بحسب السند فيصح أن يكون معلوما، فلذلك صح التقسيم إلى المعلوم منه في العموم إلا أن يريد أن العموم قد يعلم أنه مراد من العام بأمر خارجي من القرائن، أو غيرها كما يعلم أن العموم مراد من قوله تعالى:{والله بكل شيء عليم} [التغابن: 11]، وكذلك وجدته على بعض الحواشي في نسخة من نسخ التنقيح لبعض المشايخ، ومع هذا فلا يتم، ولا يصلح؛
لأن العلم بإرادة العموم لا مدخل له في دلالة اللفظ، ولا مصير لها قطعية، ولا إن كانت مفقودة، ألا ترى أن المجمل قد يعلم المراد منه بدليل منفصل، ومع ذلك لا يصير اللفظ دالا بذلك.
كما أن الدال إذا قطع بعدم سماعه بعدم إرادة مدلوله لا يطل دلالته؛ لأن الدلالة هي إشعار اللفظ بالمعنى عند سماعه، وذلك لا يزيد بالأدلة الخارجية.
ولا يبطل كما تقول: إن عموم قوله تعالى: {تدمر كل شيء} [الأحقاف: 25] غير مراد بالضرورة، ومع ذلك لا يبطل إشعار اللفظ بالاستغراق، فظهر أن دلالة العموم لا تصير قطعية أبدا، وإن قطع بإرادة العموم.
وقال تاج الدين في قوله في آخر المسألة مع تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد. وهو كتخصص الكتاب بخبر الواحد، وقد تكلمنا فيه.
وقال في (المنتخب): مثل تخصيص الكتاب، والخبر المتواتر بخبر الواحد، ولم يذكر ضعفه مع تنبيه يقتضي هذه المسألة أن تتوزع أربعة وعشرين نوعا، كما أشار إليه التبريزي أنها أربعة وعشرون.
ونتكلم على كل مسألة يحكها، وحينئذ يكمل البحث فيها، وإلا فلا.
* * *