الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في الترجيحات الحاصلة
بالأمور الخارجة
قال الرازي: وهي من وجوه:
أحدها: الترجيح بكثرة الأدلة، وقد سبق القول فيه.
وثانيها: أن يقول بعض أئمة الصحابة، أو يعمل بخلافه، والخبر لا يجوز خفاؤه عليه، وهذا عند البعض يحمل على نسخه، أو أنه لا أصل له؛ إذ لولاه، لما خالف، وعند الشافعي- رضي الله عنه: لا يحمل على ذلك؛ لكن إذا عارضه خبر لا يكون كذلك، كان راجحا عليه.
وثالثها: إذا عمل بأحدهما أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم.
قال عيسى بن أبان: يجب ترجيحه؛ لأن الأكثر يوفقون للصواب ما لا يوفق له الأصل، وقال آخرون: لا يحصل الترجيح؛ لأنه لا يجب تقليدهم.
ورابعها: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يكون مرجوحا؛ إما لاختلاف المجتهدين في قبوله، أو لأن كونه مما تعم به البلوى، إن لم يوجب القدح فيه، فلا أقل من إفادته المرجوحية.
واعلم أن بعض ما يرجح به الخبر قد يكون أقوى من بعض؛ فينبغي إذا استوي الخبران في كمية وجوه الترجيح: أن تعتبر الكيفية، فإن كان أحد الجانبين أقوى كيفية، وجب العمل به، وإن كان أحد الجانبين أكثر كمية، وأقل كيفية، والجانب الآخر على العكس منه- وجب على المجتهد أن يقابل ما في أحد الجانبين بما في الجانب الآخر، ويعتبر حال قوة الظن، والكلام في قوة كثير من وجوه الترجيحات طريقه الاجتهاد.
القول في الترجيح بالأمور الخارجة
قال القرافي: لم أجد في هذا القسم للمصنف ما يحتاج الكلام عليه، غير أن سيف الدين ذكر أشياء أذكرها:
قال سيف الدين وجوها:
أحدها: إذا كان أحد الروايين ينقل عن شيخه، غير معتمد على نسخة [سماعه، أو خط نفسه بخلاف] الآخر على نسخة، فهو أرجح؛ لأنه يكون أبعد عن السهو.
وثانيها: أن يكون أحدهما أقرب للنبي- عليه السلام حالة السماع، فيقدم على البعيد في المجلس، كرواية الإفراد في حجة الوداع مقدمة على رواية القران؛ لأن ابن عمر ذكر أنه كان تحت ناقته؛ فهو أقرب.
وثالثها: أن يكون أحد الراويين روايته عن حفظ، والآخر من كتاب، فيقدم الأول؛ لأنه أضبط.
ورابعها: المسند إلى كتب المحدثين مقدم على المشهور؛ لأن المشهور قد ينص المحدثون على عدم صحته.
وخامسها: رواية المناولة مقدمة على رواية الإجازة؛ لأن في المناولة لابد وأن يقول: حدث به عني، فهو إجازة وزيادة، والمناولة أولى من الرواية عن الخط؛ لاحتمال التزوير في الخط.
وسادسها: الرواية من غير حجاب مقدمة على الرواية من وراء حجاب.
كرواية القاسم بن محمد عن عائشة من غير حجاب؛ لكونها عمته: أن بريرة عتقت، وكان زوجها عبدا، تقدم على رواية أسود عنها أن زوجها كان حرا.
وسابعها: رواية السامع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم مقدمة على الرواية عما جرى في زمانه- عليه السلام وسكت عنه.
وثامنها: أن يكون أحد الخبرين خطره في السكوت عنه أعظم من خطر الآخر في السكوت عنه، فيقدم، فيكون الظن في تقرير الأخطر أغلب.
أحدها: أن الطلب فيه أكثر؛ فإن أكثر من قال: يكفي في الأمر المرة الواحدة نازع في النهي.
وثانيها: أن يردد الأمر بين محامل كثيرة أكثر من محامل النهي.
وثالثها: أن النهي يعتمد المفسدة، والأمر يعتمد المصلحة، ودفع المفسدة أعظم عند العقلاء.
وعاشرها: أن يكون أحدهما أمرا، والآخر خبرا، فيرجح الخبر لثلاثة أوجه:
أحدها: أن مدلول الخبر متحد، بخلاف الأمر.
الثاني: أن الخبر أقوى في الدلالة؛ لامتناع نسخه.
الثالث: أن مخالفة الخبر يلزمها محذور الكذب، وهو أشد من مخالفة الأمر بالنسبة إلى المتكلم بهما.
وحادي عشرها: يقدم الخبر على النهي لذلك.
وثاني عشرها: يقدم الخبر على النسخ لذلك.
وثالث عشرها: اللفظ [الذي] مدلوله مفرد مقدم على اللفظ المشترك، فإن كانا مفردين، وأحدهما أشهر قدم الأشهر.
ورابع عشرها: يقدم ما يلزم منه مجاز واحد على ما يلزم منه مجازان.
وخامس عشرها: تقدم دلالة المطابقة على دلالة الالتزام.
وسادس عشرها: أن يكونا معا يدلان بالاقتضاء، غير أن أحدهما لضرورة صدق المتكلم، والآخر لضرورة وقع الملفوف به عقلا أو شرعا، فيقدم الأولان على الثالث.
وسابع عشرها: أن يكونا معا دالين على العلة بالإيماء، غير أن أحدهما لو لم يكن المواد منه التعليل لزم منه العبث، فيقدم على ما لا يلزم منه ذلك.
وثامن عشرها: يمكن ترجيح الموافقة على مفهوم المخالفة؛ لأنه متفق عليه عند الأكثرين، وقد يرجح مفهوم المخالفة من وجهين:
أحدهما: أن مفهوم المخالفة أدخل في باب التأسيس، والموافقة أدخل في باب التأكيد.
وتاسع عشرها: دلالة الاقتضاء مقدمة على دلالة الإشارة؛ لأن المتكلم يقصدها، بخلاف دلالة الإشارة، ولذلك تقدم على دلالة التنبيه، والإيماء؛ لوقوع الاتفاق عليها.
والعشرون: أن يكونا عامين، فيمكن تقديم العموم المستفاد من الشرط على النكرة المنفية؛ لأن الحكم فيه المعلل، بخلاف النكرة، والمعلل أولى.
ولذلك لو قال: لا رجل في الدار، وفيها رجل استهجن، فإن كان الآخر من عموم صيغة الجمع قدم الشرط؛ لأن كثيرا ممن خالف في الجمع وافق على العموم في الشرط، ويقدم الجمع المعرف على المفرد المعرف، والجمع المنكر؛ لأن العموم فيه أقوى منهما، واسم الجمع المعرف مقدم على اسم الجنس المعرف؛ فكان أقوى و "من" و "ما" في العموم مقدم على اسم الجنس المعرف؛ لاحتماله العهد.
الحادي والعشرون: أن يشتمل أحدهما على زيادة لم يتعرض لها الآخر.
الثاني والعشرون: أن يكونا إجماعين دخل في أحدهما جميع أهل العصر، والآخر لم يدخل فيه سوى أهل العقد والحل، فالأول أولى؛ لأنه ابعد عن الخلاف فيه، أو يدخل في أحدهما الأصوليون الذين ليسوا فقهاء، ويخرج العوام، والآخر بالعكس.
فالأول أولى لقربهم من معرفة المدارك، أو دخل فيه المجتهد المبتدع الذي ليس بكافر، ولم يدخل في الآخر، فالثاني أولى؛ لأنه أقرب للصدق، ولبعده عن الخلاف، أو دخل فيه المجتهد المتبع دون العوام، والفروعيون الذين ليسوا أصوليين، والأصوليون الذين ليسوا فروعيين، والآخر بعكسه.
فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى؛ لأن خلله إنما هو في اعتقاده، والخلل غير غيره من جهة اجتهاده في تلك المسألة.
ويقدم إجماع الصحابة- رضي الله عنهم على إجماع التابعين،
والإجماع الذي انقرض عصره على ما لم ينقرض عصره، والذي لم يسبق بالمخالفة أولى؛ لأنه أبعد عن الخلاف فيه.
ويقدم ما لم يرجع فيه بعض المجتهدين إلى بقية الأمة على ما فيه رجوع بعض المجتهدين؛ لبعده عن المناقضة، والخلاف فيه.
ويقدم إجماع الصحابة الذي لم يدخل فيه غير المجتهدين على إجماع التابعين الذي دخل فيه جميع أهل عصرهم، وما دخل فيه جميع أهل العصر، وإن لم ينقرض عصرهم مقدم على ما لم يدخل فيه جميع أهل العصر، إلا أنه انقرض عصرهم؛ لأن الرجوع بسبب عدم انقراض العصر موهم، وإجماع النطق مقدم على إجماع الانقسام على قولين، وإن لم ينقرض عصره، والانقسام على قولين الذي لم يسبق بمخالفة، والآخر بعكسه، فالأول مقدم.
قلت: والإجماعات لا يتأتى فيها التعارض حتى يتأتى الترجيح بل أحدهما خطأ، وإنما ذلك إذا فرع بين قاعدتين مجمع عليهما بإجماعين مختلفين، فترجح إحدى القاعدتين على الأخرى، أو يكون الإجماعان ظنيين؛ إما بقوة الخلاف، أو لكونهما منقولين بطريق الآحاد؛ فيتجه الترجيح.
فهذه أنواع من الترجيحات ليست في "المحصول".
الثالث والعشرون: الحظر مقدم على الوجوب؛ لما تقدم من الترجيح في النهي والأمر؛ ولأن النهي أفضى إلى مقصوده؛ لأنه يحصل بمجرد الترك، ولو مع الغفلة، وعدم الشعور، وعدم المشقة.
الرابع والعشرون: أن يكون أحدهما دالا على التكليف؛ فيقدم على ما يدل على الحكم الوضعي؛ لما فيه من الثواب.
الخامس والعشرون: خطاب المشافهة، كقوله تعالى:{يا أيها الناس}
[البقرة: 21]، {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة: 178] إذا عارضه خطاب الغيبة، كقوله تعالى:{والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة: 3]، {ومن دخله كان آمنا} [آل عمران: 97].
إن تعارضا في حق من وردت المخاطبة به، قدم خطاب المشافهة، أو في الآخر، قدم الآخر كما تقدم في الوارد على سبب.
السادس والعشرون: الذي لا يتطرق النسخ إليه يقدم على ما يتطرق النسخ إليه.
السابع والعشرون: العام المتفق على العمل به في صورة مقدم على المختلف في العمل به، لتطرق التعطيل إليه.
الثامن والعشرون: يقدم الذي لا يستلزم نقص بعض الصحابة على المقتضى لذلك، كحديث القهقهة في الصلاة.
التاسع والعشرون: يقدم ما فسره الراوي على متروك التفسير؛ لأنه أعلم بمقصود المتكلم، هذا كله في الأحكام، وقال في الكتاب الموضوع له في الترجيح خاصة.
الثلاثون: العام المختلف في تخصيصه، كقوله تعالى:{وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23].
مقدم على المتفق على تخصيصه، كقوله تعالى:{أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3].
الحادي والثلاثون: قال: ما هو على خلاف القياس، وإن ظن أنه أولى مما هو على وفق القياس؛ لعدم إسناد القول فيه إلى الاجتهاد، فإن مفسدة احتمال الكذب عن النبي- صلى الله عليه وسلم فيهما سواء فلا يتحقق الترجيح، لا سيما والغالب على الشرائع موافقة القياس، فيكون الموافق مقدما.
ولأن مخالفة القياس إذا قد يلزم منه مخالفة النقل، والقياس، والآخر إنما يلزم منه مخالفة النقل فقط.
وخالفه إمام الحرمين في "البرهان"، فقال: قدم الشافعي ما عضده القياس [لرجحانه] بالعاضد.
وقال القاضي: يتساقط الخبران، ويعمل بالقياس؛ لأن الخبر مقدم على القياس، فلا يقدم خبر على خبر مما يسقطه.
الثاني والثلاثون: قال سيف الدين: أن يكونا دخلهما التخصيص، إلا أن أحدهما تخصيصه بعيد في العادة، فيقدم الآخر.
الثالث والثلاثون: قال إمام الحرمين: إذا تعارض الخبر المتواتر والإجماع قدم الإجماع، وإن كان تصويره عسرا، وهو غير واقع، لكن [المتواتر] يحتمل النسخ دون الإجماع.
الرابع والثلاثون: قال في "البرهان": إذا تعارض خبر الواحد، وأقضية الصحابة، قدم مالك أقضية الصحابة- رضي الله عنهم على النص الصريح، كما قدم عمل أهل "المدينة".
وقال الشافعي: يقدم الخبر؛ لأنهم محجوجون بالخبر، والمحجوج لا يعارض الحجة، ولو عاصرتهم لحاججتهم، وجادلتهم العين العين، ولا
يتغير ذلك بانقراضهم، بل أقدم القياس على قولهم، فكيف الخبر المقدم على القياس، وإذا حسن الظن بهم، فبخبر الشارع أولى.
قال الإمام: والذي أراه أن يقول: إن تحققنا بلوغ الخبر طائفة من الصحابة- رضي الله عنهم وهو نص لا يقبل التأويل قدمنا عملهم؛ لأنه لا مستند لهم إلا النسخ، وهم مبرءون من الاستهانة بالأخبار إجماعا.
وليس هذا تقديما لقضائهم على الخبر، بل تمسك الإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه سائغ، فالخبر عارضه الإجماع؛ فيقدم على الخبر.
وليس في تطرق النسخ الخبر غض من منصبه، فإن لم يبلغهم، أو غلب على الظن ذلك الخبر.
قال: وحسن الظن بدقة نظر الشافعي- رضي الله عنه في أصول الشريعة أنه إنما قدم الخبر في هذه الصورة وإن غلب على الظن أنه بلغهم.
قال: فهو عندي محل التوقف والبحث.
فإن وجدنا في الحادثة متعلقا سوى الخبر، والأقضية الصحابية، وإلا تعلقنا بالخبر.
قال: وينبغي أن يعلم أن أقضية الصحابة- رضوان الله عليهم- من غير إجماع لا يتمسك بها.
فإن نقلت معارضة لنص لا يقبل التأويل تمسكنا بها؛ لأنه تعلق بما صدرت المذاهب عنه.
قال: وما ذكرناه في أئمة الصحابة- رضوان الله عليهم- يطرد في أئمة التابعين، وأئمة كل عصر، فإذا روى مالك خبر الخيار ولم يعمل به، قدمنا الخبر عليه، ولو أن جمعا بلغهم خبر، وعملوا بخلافه، وجوزنا ذهولهم خرج على التقاسم كما سبق، وكذلك المجتهد الواحد الموثوق به، وبديانته
وعدالته، فلو عمل بالخبر جمع وتركه جمع، والفريقان ذاكران للخبر، ولا احتمال إلا النسخ، قال: فالذي أرى تقديم عمل المخالفين؛ لاحتمال عدم اطلاع العاملين على الناسخ، وهذا إذا لم يبد المخالفون مستندهم.
الخامس والثلاثون: قال في "البرهان": إذا تعارض الخبران من غير ترجيح، ولا احتمال نسخ، فالحكم عند الأصوليين التوقف واللحوق بما قبل الشرائع.
قلت: وهذا لا يخالف ما حكاه صاحب "المحصول" أن الجمهور في الأمارتين على التخيير؛ لأن الأمارتين ظن، والتقدير هاهنا النصوص، وعدم التأويل.
السادس والثلاثون: قال في "البرهان": إذا تعارض ظاهران: أحدهما من الكتاب، والآخر من السنة.
قيل: يقدم الكتاب.
وقيل: السنة.
وقيل: هما متعارضان؛ نظرا لحديث معاذ، أو لأن السنة مبينة، أو لتعارض المدركين.
قال: والصحيح التعارض.
وقال القاضي: إذا تعارض ظاهر الكتاب وظاهر خبر الواحد، فهما متعارضان، قال: ولست أراه، بل يقدم الكتاب، لاختصاصه بأن نقله متواتر.