الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ
(وهي من وجوه)
قال الرازي: الأول: أن يكون اللفظ في أحدهما بعيدا عن الاستعمال، وفيه ركاكة، والآخر فصيح.
فمن الناس: من رد الأول؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام كان أفصح العرب؛ فلا يكون ذلك كلاما له.
ومنهم: من قبله؛ وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه، وكيف ما كان؛ فأجمعوا على ترجيح الفصيح عليه.
وثانيها: قال بعضهم: يقدم الأفصح على الفصيح، وهو ضعيف؛ لأن الفصيح لا يجب في كل كلامه أن يكون كذلك.
وثالثها: أن يكون أحدهما عاما، والآخر خاصا، فيقدم الخاص على العام.
وقد تقدم دليله في (باب العموم).
ورابعها: أن يكون أحدهما حقيقة، والآخر مجازا، فتقدم الحقيقة؛ لأن دلالتها أظهر، وهذا ضعيف؛ لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة؛ فإنك لو قلت:(فلان بحر) فهو أقولا دلالة من قولك: (فلان سخي).
وخامسها: أن يكونا حقيقتين، إلا أن أحدهما أظهر في المعنى؛ إما لكثرة ناقليه، أو لكون ناقله أقوى وأتقن من ناقل غيره، ويجري ها هنا كل ما ذكرناه في ترجيح الخبر؛ نظرا إلى حال الراوي.
وسادسها: أن يكون وضع أحدهما لمسماه متفقا عليه، ووضع الآخر مختلفا فيه.
وسابعها: أن الذي يكون محتاجا إلى الإضمار مرجوح بالنسبة إلى الذي لا يحتاج إليه.
وثامنها: الذي يدل على المقصود بالوضع الشرعي، أو العرفي-أولى مما يدل عليه بالوضع اللغوي.
وها هنا تفصيل؛ فإن اللفظ الذي صار شرعيا: حمله على المعنى الشرعي أولى من حمله على اللغوي.
فأما الذي لم يثبت ذلك فيه؛ مثل أن يدل أحد اللفظين بوضعه الشرعي على حكم، واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حكم، وليس للشرع في هذا اللفظ اللغوي عرف شرعي، فلا نسلم ترجيح الشرعي على هذا اللغو؛ لأن هذا اللغوي، إذا لم ينقله الشرع، فهو لغوي عرفي شرعي.
وأما الثاني، فهو شرعي، وليس بلغوي، ولا عرفي، والنقل على خلاف الأصل؛ فكان اللغوي أولى.
وتاسعها: إذا تعارض مجازان، فالذي يكون أكثر شبها بالحقيقة، أولى، وأيضا: إذا تعارض خبران، ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين، والآخر يمكن العمل به بمجاز واحد، كان هذا راجحا على الأول؛ لأنه أقل مخالفة للأصل.
وعاشرها: أن يكون أحدهما دخله التخصص، والآخر لم يدخله
التخصيص؛ فالذي لم يدخله التخصيص، يقدم على الأول؛ لأن الذي دخله التخصيص، قد أزيل عن تمام مسماه، والحقيقة مقدمة على المجاز.
وحادي عشرها: أن يدل أحدهما على المراد من الوجهين، والآخر من وجه واحد، يقدم الأول؛ لأن الظن الحاصل منه أقوى.
وثاني عشرها: أن يكون أحد الحكمين مذكورا مع علته، والآخر ليس كذلك؛ فالأول أقوى.
ومن هذا القبيل: أن يكون أحدهما مقرونا بمعنى مناسب، والآخر يكون معلقا بمجرد الاسم فيكون الأول أولى.
وثالث عشرها: أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم، مع اعتباره بمحل آخر، والآخر ليس كذلك- يقدم الأول في المشبه به جميعا؛ لأن اعتبار محل بمحل إشارة إلى وجود علة جامعة.
مثاله: قول الحنفية في قوله-عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ، فقد طهر) كالخمر تخلل فتخل، رجحناه في المشبه على قوله-عليه الصلاة والسلام:(لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب) وفي المشبه به في مسألة تحليل الخمر على قوله: (أرقها).
ورابع عشرها: أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة، ودلالة الأخرى لا تكون مؤكدة فتقدم الأولى؛ كقوله-عليه الصلاة والسلام:(فنكاحها باطل، باطل، باطل).
وخامس عشرها: أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم، مع ذكر المقتضي لضده؛ كقوله-عليه الصلاة والسلام:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها).
يقدم على ما ليس ذلك؛ لأن اللفظ يدل على ترجيح ذلك على ضده،
ولأن تقديمه يقتضي النسخ مرة، وتقديم ضده يقتضي النسخ مرتين، فيكون الأول أولى.
وسادس عشرها: يقدم أن يكون أحد الدليلين مقرونا بنوع تهديد؛ فإنه على ما لا يكون كذلك؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام: (من صام يوم الشك، فقد عصي أبا القاسم).
وكذا القول، لو كان التهديد في أحدهما أكثر.
وسابع عشرها: أن يكون أحد الدليلين يقتضي الحكم بواسطة، والآخر يقتضيه بغر واسطة، فالثاني يرجح على الأول؛ كما إذا كانت المسألة ذات صورتين، فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة، وأقام الدليل عليه، فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في الصورة الثانية، ثم توسل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع، فيقول المعلل:(دليلي راجح على دليلك؛ لأن دليلي بغير واسطة، ودليلك بواسطة، فيكون الترجيح معي؛ لأن كثرة الوسائط الظنية تقتصي كثرة الاحتمالات، فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يقل الاحتمال فيه).
وثامن عشرها: المنطوق مقدم على المفهوم، إذا جعلنا المفهوم حجة؛ لأن المنطوق أقوى دلالة على الحكم من المفهوم.
(القول بالترجيح باللفظ)
قال القرافي: قوله: (ترجيح الحقيقة على المجاز ضعيف؛ لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة؛ لأن قولنا: (فلان بحر) أقوى من دلالة قولنا: (سخي).
قلنا: المجاز الغالب حقيقة عرفية، فيرجح من جهة أنه حقيقة ناسخة للحقيقة اللغوية، والناسخ مقدم على المنسوخ
ثم تمثيله بالبحر والسخي ليس من المجاز الغالب؛ فقد تردد قوله: (فإن كان مراده ما دل عليه مثاله)، فليكن كلامه أن المجاز أظهر في المبالغة، ولا يذكر لفظ الغلبة، وإن كان مراده المجاز الغالب، فليأت بمثال من الحقائق العرفية، أو الشرعية؛ فإنها [للمجازات] الغالبة،
أما الجمع بين هذه الدعوى، وبين هذا المثال فمتنافر.
قوله: (الدال بالوضع الشرعي، أو العرفي أولى مما يدل بالوضع اللغوي):
تقريره: أن الوضع الشرعي والعرفي ناسخان للوضع اللغوي؛ لطروئهما بعده، ومناقضتهما له في صورة ما كان عليه.
والناسخ مقدم على المنسوخ.
قوله: (اللفظ إذا لم ينقله الشرع، فهو لغوي عرفي شرعي):
تقريره: أنه إذا لم ينقل فالشارع وأهل العرف يستعملونه في اللغوي، فهو معنى قوله: إنه شرعي عرفي.
أي: هو آلة للأبواب الثلاثة، كالألفاظ الخصيصة لتلك الأبواب.
قوله: (النقل على خلاف الأصل، فكان اللغوي أولى):
قلنا: الترجيح عند التعارض، والتعارض إنما يكون إذا كان صاحب الشرع هو الوارد بهما، وحينئذ نقول: إن الظاهر أن من له معنى في وضعه، فالظاهر أنه إنما يريد المعاني المنسوبة إليه، لا أنه أنسب بحاله، فترجح الشرعي.
وقوله: (النقل خلاف الأصل يعارضه أن الناسخ مقدم على المنسوخ، غير أن التقدير أن هذا اللغوي لم ينسخ، فلا يتأتى هذا الترجيح في غير ذلك اللفظ، بل في جنسه.
فنقول: جنس النقل ناسخ، بخلاف اللغوي جنسه منسوخ، فحصل الترجيح، بخلاف إذا وقع [التغيير] في اللفظة الواحدة يقع النسخ فيعينها، ويكون الترجيح أقوى.
قوله: (تقديم المذكور مع ضده يقتضي النسخ مرة، وتقديم ضده يقتضي النسخ مرتين):
تقريره: أن قوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور والآن فزوروها).
إذا قدمنا الإباحة لزم أن تكون البراءة الأصلية ارتفعت بالنهي، والنهي ارتفع بالإباحة، فما ارتفع الحكم الشرعي إلا مرة، وهو رفع النهي السابق.
وإذا رجحنا النهي كان هو المتأخر، فيكون قد نسخ الإباحة، والإباحة مؤكدة للبراءة الأصلية، فما لزم أيضا النسخ في الحكم الشرعي إلا مرة واحدة، وعلى هذا يكزن كلامه لا يتم؛ لأنه إن أراد النسخ في الحكم الشرعي، فهو مرة فيهما.
وإن أراد النسخ اللغوي الذي هو مطلق الرفع حتى في البراءة الأصلية التي لا يسمي الفقهاء رفعها نسخا، فينعكس عليه الحال، ويكون تقديم الإباحة يلزم منها النسخ مرتين؛ لأنها رافعة للنهي، والنهي رافع للبراءة.
أما ترجيح النهي وهو الضد، فيلزم أن يكون رافعا للإباحة، والإباحة مؤكدة للبراءة الأصلية، فلا يلزم النسخ إلا مرة واحدة، وهذا يؤدي إلى ترجيح ضده عليه.
ثم قوله في الكتاب: (إن تقديمه يقتضي النسخ مرة) يصدق التقديم بطريقين.
أحدهما: تقديمه بالزمان.
والآخر: تقديمه في العمل.
فإن كان مراده الأول صح قوله: إنه يلزم منه النسخ مرة، لكن يبطل قوله: إنه أولى؛ لأنه حينئذ يكون منسوخا بالنهي بعده، وإن أراد الثاني صح قوله: إنه أولى.
غير أنه يشكل قوله: إنه يلزم منه النسخ.
وأما سراج الدين فقال: ولأنه يلزم منه النسخ مرتين، ولم يقل: إن ذلك في ضده ولا فيه، ولم يذكر النسخ مرة، بل مرتين فقط.
ولا يتلخص من كلام الجميع حسن ذكر النسخ مرتين في ترجيح الإباحة أصلا.
فإنه لازم عنها ليس إلا، والأكثر نسخا لا يكون أرجح.
قوله: (أن يكون أحد الدليلين يقتضي الحكم بواسطة مثل أن تكون المسألة ذات صورتين.
فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة، وأقام الدليل عليه، فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في الصورة الثانية، ثم توصل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع، يقول المعلل: دليلي أرجح لعدم الحاجة للواسطة.
قلنا: هذا الكلام مستحيل في وضع الشريعة؛ لأن المعترض إذا قال: إنه إذا ثبت الحكم في هذه الصورة، وجب أن يثبت في الصورة الأخرى؛ لأنه لا قائل بالفرق.
فلابد من أن يكون الإجماع انعقد على عدم الفرق بينهما، وحينئذ لابد للمستدل من أن يقول أيضا: لا قائل بالفرق؛ لأنه لا يمكنه إفراد أحدهما بالحكم ضرورة انعقاد الإجماع على عدم الفرق، ولا يخلص المستدل في مثل هذا إلا أن يأتي بدليل شامل للصورتين.
لكنه غير ما فرضه المصنف؛ فإن فرضه أثبت في صورة واحدة، فيلزم أحد أمور ثلاثة:
إما بطلان ما ذكره المعترض من الإجماع.
أو احتياج المعلل له.
أو يكون دليل المستدل شاملا للصورتين بغير وسط.
ودليل المعترض يحتاج للوسط، فحينئذ يحسن الترجيح.
* * *