الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقالت: بلى، فقال:
فقد قلت إذ أهلى وأهلك جيرة
…
أثيبى بودّ قبل إحدى الصّفائق
أثيبى بودّ قبل أن تشحط النّوى
…
وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فإنى لا ضيعت سرّ أمانة
…
ولا راق عينى بعد عينك رائق «1»
قال خالد: فغاظنى ما رأيت من غزله وشعره فى حاله تلك، فقدّمته فضربت عنقه، فأقبلت الجارية تسعى حتى أخذت برأسه فوضعته فى حجرها، وجعلت ترشفه وتقول:
لا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا
…
ولا يبعدنّ المدح مثلك من مثلى «2»
ولا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا
…
فقد عشت محمود الثّنا ماجد الفعل
فمن لطراد الخيل تشجر بالقنا
…
وللنّحر يوما عند قرقرة البزل «3»
فما زالت تبكى وتردّد هذه الأبيات حتى ماتت، وإنّ رأسه لفى حجرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد وقفت لى يا خالد وإن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضّونك على قتل عمرو حتى قتلته» . والله أعلم.
ذكر غزوة حنين، وهى إلى هوازن وثقيف
غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شوّال سنة ثمان من مهاجره، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكّة، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، وحشدوا وأوعبوا وبغوا، وجمع أمرهم مالك بن عوف النّصرى، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، وأمرهم فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس «4» ، وجعلت الأمداد تأتيهم.
قال محمد بن إسحاق: اجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلّها، ونصر، وجشم كلها، وسعد بكر، وناس من بنى هلال، وهم قليل. قال: ولم يشهدها من قيس عيلان إلّا هؤلاء، وغابت عنها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم؛ قال: وفى بنى جشم دريد بن الصّمّة، وهو شيخ كبير ليس فيه شىء إلا التّيمّن برأيه ومعرفته بالحرب. قال: وفى ثقيف سيّدان لهم فى الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود بن معتّب، وفى بنى مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه «1» .
وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى: كان على ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفىّ. قال: وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف.
قال ابن إسحاق: وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف. قال: ولما نزل مالك بأوطاس، اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصّمّة، والصّمّة: معاوية الأصغر بن بكر ابن علقة، وقيل: علقمة بن خزاعة بن غزيّة بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن فى شجار له يقاد به- والشّجار الهودج- فلما نزل دريد قال: بأىّ واد أنتم؟ قالوا:
بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس «2» ، ثم قال:
مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار «3» الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل:
هذا مالك، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار
الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم؟ قال:
أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به،- أى صاح- ثم قال: راعى ضأن والله! وهل يردّ المنهزم شىء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدّ والجدّ؛ ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال:
ذانك الجذعان من «1» عامر لا ينفعان ولا يضرّان، يا مالك: إنك لم تصنع بتقديم البيضة، بيضة «2» هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ادفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم ألق الصّبّاء «3» على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك، قد أحرزت أهلك ومالك، قال: لا والله، لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنىّ يا معشر هوازن أو لأتّكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهرى. وكره أن يكون لدريد بن الصّمّة فيها ذكر ورأى، قالوا:
أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى.
يا ليتنى فيها جذع
…
أخبّ فيها وأضع
أقود وطفاء الزّمع
…
كأنها شاة صدع «4»
ثم قال مالك بن عوف للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدّة رجل واحد؛ قال: وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرّقت أوصالهم من الرّعب، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا، على خيل بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فلم يردّه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
قال ابن إسحاق: ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم بعث إليهم عبد الله بن أبى حدود الأسلمىّ، وأمره أن يدخل فى الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل؛ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى هوازن لقتالهم، وذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال:«أعرنا سلاحك نلق به عدوّنا» ؛ فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: «بل عاريّة مضمونة حتى نؤدّيها إليك» ؛ قال: ليس بهذا بأس؛ فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لستّ ليال خلون من شوّال فى اثنى عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح بهم مكة، وألفان من أهل مكة.
قال الثعلبىّ: قال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة.
وقال الكلبىّ: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قطّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لن نغلب اليوم من قلّة» ، حكاه ابن إسحاق.
وقال محمد بن سعد: قال ذلك أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. قال الثعلبىّ:
ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له: سلمة بن سلامة.
قال ابن سعد: وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المشركين كثير، منهم صفوان بن أمية.
قال محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بالجاهلية، وكان لكفار قريش ومن سواهم من العرب سدرة «1» عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط. يأتونها كل سنة يعلّقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما؛ قال:
فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله. جعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: «الله أكبر، قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى:(اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)
«2» إنها السّنن، لتركبن سنن من كان قبلكم» ، قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوّال، فلما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم فى وادى حنين، وأوعز إليهم أن يحملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حملة واحدة، وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فى السحر. وصفّهم صفوفا، ووضع الألوية والرايات فى أهلها مع المهاجرين: لواء يحمله علىّ بن أبى طالب، وراية يحملها سعد بن أبى وقّاص، وراية يحملها عمر بن الخطّاب، ولواء الخزرج يحمله حباب بن المنذر- ويقال: سعد بن عبادة- ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وفى كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم مسمّى. وكذلك قبائل العرب فيها الألوية والرايات يحملها قوم منهم مسمّون، وكان رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم قد قدم سليما من يوم خرج من مكة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، فلم يزل على المقدّمة حتى قدم الجعرّانة. قال: وانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وادى حنين على تعبئته، وركب بغلته البيضاء «دلدل» ، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن شىء لم يروا مثله قطّ من السواد والكثرة، وذلك فى غبش «1» الصبح وخرجت الكتائب من مضيق الوادى وسعته، فحملوا حملة، وانكشفت الخيل خيل بنى سليم مولّيه، وتبعهم الناس منهزمين، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، وجعل يقول: يا أنصار الله وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله، وثبت معه يومئذ أبو بكر، وعمر، والعباس بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان واسمه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أمّ أيمن بن عبيد فى أناس من أهل بيته وأصحابه.
قال الكلبىّ: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين، وانهزم سائر الناس عنه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للعباس: ناد، يا معشر الأنصار، يا أصحاب السّمرة «2» ، يا أصحاب سورة البقرة، فنادى- وكان صيّتا- فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها يقولون: يا لبّيك يا لبّيك! فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم فقال:«الآن حمى الوطيس «3» .
أنا النبىّ لا كذب
…
أنا ابن عبد المطّلب»
ثم قال للعباس بن عبد المطلب: ناولنى حصيات، فناوله حصيات من الأرض، ثم قال:«شاهت الوجوه» ورمى بها وجوه المشركين، وقال:«انهزموا وربّ الكعبة» وقذف الله فى قلوبهم الرعب، وانهزموا لا يلوى أحد منهم على أحد.
قال محمد بن إسحاق: لما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة مكّة الهزيمة، تكلّم رجال بما فى أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه فى كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية: ألا بطل السّحر اليوم! فقال له صفوان: اسكت فضّ الله فاك! فو الله لأن يربّنى «1» رجل من قريش أحبّ إلىّ من أن يربّنى رجل من هوازن؛ وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة: اليوم أدرك ثأرى من محمد- وكان أبوه قتل يوم أحد- اليوم أقتل محمدا. قال: فبادرت لأقتله، فأقبل شىء حتى غشّى فؤادى، فلم أطق ذلك، فعلمت أنه ممنوع منّى.
وفى رواية أخرى، قال شيبة بن عثمان: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة. فأطلع الله رسوله على ما فى نفسى، فالتقت إلىّ وضرب فى صدرى وقال:«أعيذك بالله يا شيبة» ، فأرعدت فرائصى، فنظرت إليه وهو أحبّ إلىّ من سمعى وبصرى فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأنّ الله أطلعك على ما فى نفسى.
وروى محمد بن إسحاق بسنده إلى العبّاس قال: إنى لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة «2» بغلته البيضاء وقد شجرتها «3» بها، وكنت امرأ جسيما شديد الصوت،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس « [أين «1» ] أيها الناس» ، فلم أر الناس يلوون على شىء، فقال:«يا عباس، اصرخ، يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السّمرة» قال: فأجابوا لبّيك لبّيك، قال: فيذهب الرجل ليثنى بعيره فلا يقدر على ذلك، ويأخذ درعه فيقذفها فى عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله، فيؤمّ الصوت حتى ينتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا؛ فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ركائبه، فنظر إلى مجتلد «2» القوم، فقال:«الآن حمى الوطيس» .
قال جابر بن عبد الله: فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتّفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أمّ سليم ابنة ملحان، وكانت مع زوجها أبى طلحة، وهى حازمة وسطها ببرد لها. وإنها لحامل بعبد الله بن أبى طلحة، ومعها جمل أبى طلحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أمّ سليم» ؟ قالت: نعم، بأبى وأمّى يا رسول الله! اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم لذلك أهل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو يكفى الله يا أمّ سليم» ؟ قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أمّ سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا منّى أحد من المشركين بعجته «3» به.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار أنه حدّث عن جبير ابن مطعم قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد «1» الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت، فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادى، لم أشكّ أنها الملائكة، ولم تكن إلّا هزيمة القوم.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجّه بعضهم نحو نخلة «2» ، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك فى نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثّنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان- وهو ابن الدّغنّة- دريد بن الصّمّة وهو فى شجار له أى هودج، فأخذ بخطام جمله وهو يظنّ أنه امرأة، فأناخ به، فإذا هو شيخ كبير والغلام لا يعرفه، فقال له دريد: ما تريد بى؟ قال: أقتلك؛ قال: ومن أنت؟ قال:
أنا ربيعة بن رفيع السّلمىّ، ثم ضربه بسيفه فلم يغن فيه شيئا، فقال: بئس ما سلّحتك أمّك! خذ سيفى هذا من مؤخر الرّحل فى الشّجار، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدّماغ، فإنّى كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمّك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصّمة. فربّ والله يوم قد منعت فيه نساءك؛ فقتله. ولمّا رجع ربيعة إلى أمّه أخبرها بقتله إيّاه، فقالت: أما والله لقد أعتق أمّهات لك ثلاثا.
قال ابن هشام: ويقال إن الذى قتل دريد بن الصّمّة هو عبد الله بن قنيع ابن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة؛ قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آثار من توجّه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرىّ، فأدرك بعص من انهزم، فناوشوه القتال، فقتل منهم أبو عامر تسعة مبارزة وهو يدعو كلّ واحد منهم إلى الإسلام
ويقول: اللهم اشهد؛ ثم برز له العاشر معلما بعمامة صفراء، فضرب أبا عامر فقتله. واستخلف أبو عامر أبا موسى الأشعرىّ، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنّة» ، ودعا لأبى موسى.
وقال ابن هشام فى خبر أبى عامر: إنه قتل تسعة مبارزة يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فيقتله أبو عامر، وبقى العاشر، فحمل كلّ منهما على صاحبه، فدعاه أبو عامر إلى الإسلام وقال: اللهم اشهد عليه، فقال الرجل: اللهم لا تشهد علىّ، فكفّ عنه أبو عامر، فأقلت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال:«هذا شريد أبى عامر» ، ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث من بنى جشم ابن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه. والآخر ركبته، فقتلاه، وولى الناس أبو موسى فحمل عليهما فقتلهما.
وقال أبو الفرج الأصفهانى: إن الذى رمى أبا عامر فأصاب ركبته هو سلمة ابن دريد «1» بن الصّمّة. وإنه ارتجز فقال:
إن تسألوا عنّى فإنّى سلمه
…
ابن سمادير «2» لمن توسّمه
أضرب بالسيف رءوس المسلمة
قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف فى فوارس من قومه على ثنيّة من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضى ضعفاؤكم وتلحق أخراكم، فوقف حتى مضى من لحق بهم من منهزمة الناس.
قال ابن هشام: وبلغنى أنّ خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنيّة، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا ترى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم، طويلة بوادّهم «1» فقال: هؤلاء بنو سليم، ولا بأس عليكم منهم؛ فلمّا أقبلوا سلكوا بطن الوادى، ثم طلعت خيل أخرى تتبعها، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى قوما عارضى رماحهم أغفالا «2» على خيلهم، فقال: هؤلاء الأوس والخزرج، ولا بأس عليكم منهم؛ فلما انتهوا إلى أصل الثنيّة سلكوا طريق بنى سليم، ثم طلع فارس فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى فارسا طويل البادّ واضعا رمحه على عاتقه، عاصبا رأسه بملاءة حمراء، فقال: هذا الزبير بن العوّام، وأحلف باللات ليخالطنّكم، فاثبتوا له، فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية، أبصر القوم فصمد لهم، فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها.
قالوا: ولما انهزم القوم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل من قدر عليه، فحنق المسلمون عليهم، فقتلوا الذرّيّة والنساء، فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بامرأة قد قتلها خالد بن الوليد، فقال:«ما هذه» ؟ قالوا:
امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه:«أدرك خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة» ؛ وأنزل الله تعالى فى يوم حنين قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)
«3»
قال الثعلبىّ: قال سعيد بن جبير: أمدّ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين «1» .
وقال الحسن ومجاهد: كانوا ثمانية آلاف.
وقال الحسن: كانوا ستة عشر ألفا؛ قال سعيد بن جبير: حدثنى رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلبة شاة، فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء- يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقّانا رجال بيض الثياب حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إيّاها. يعنى الملائكة.
قال: وفى الخبر أنّ رجلا من بنى نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال:
أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراكم فيهم إلّا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلّا بأيديهم، فأخبروا النبى صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:«تلك الملائكة» .
وقال محمد بن سعد: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم.
قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم حنين من بنى هاشم أيمن بن عبيد، ومن بنى أسد يزيد بن زمعة بن الأسود، ومن الأنصار سراقة بن الحارث ابن عدىّ، ومن الأشعر بين أبو عامر.
وقال ابن سعد: ورقيم بن ثعلبة بن زيد بن لوذان، واستحرّ القتل فى بنى نصر ابن معاوية، ثم فى بنى رئاب، فقال عبد الله بن قيس، وكان مسلما: هلكت