الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى هذه الغزاة تكلم عبد الله بن أبىّ بن «1»
سلول المنافق بما تكلم به من قوله:
(لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)
. ووقع حديث الإفك، وقد قدّمنا ذكر ذلك كلّه فى حوادث السنين بعد الهجرة، فى حوادث السنة الخامسة.
ذكر غزوات الخندق، وهى غزوة الأحزاب
وكانت فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكاه ابن سعد. وقال ابن إسحاق: كانت فى شوّال.
قال محمد بن سعد ومحمد بن إسحاق وعبد الملك بن هشام، رحمهم الله تعالى، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير وساروا إلى خيبر، خرج نفر من أشرافهم ووجوههم، منهم سلام بن أبى الحقيق، وحيىّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلى، وأبو عمّار الوائلى، فى نفر من بنى النضير، ونفر من بنى وائل، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا مكّة على قريش، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا «2»
سنكون معكم عليه حتى نستأصله؛ فقالت قريش لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا «3»
خير أم دينه؟
فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ «4»
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)
قالوا: فلما قالت اليهود [ذلك «1»
] لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان وسليما، ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلموهم «2»
أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم «3»
واجتمعوا معهم؛ فتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، وكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواء فى دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبى طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان بن حرب، ووافتهم بنو سليم بمرّ الظّهران، وهم سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس، حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبى الأعور السّلمى الذى كان مع معاوية بصفّين، وخرجت بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدى، وخرجت غطفان وفزارة، معهما ألف بعير، يقودهم عيينة «4»
بن حصن بن حذيفة ابن بدر، وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعر «5»
بن رخيلة بن نويرة بن طريف، وخرج معهم غيرهم.
فكان جميع من وافى الخندق عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر، ومرجع أمرهم إلى أبى سفيان بن حرب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصولهم «1»
من مكة ندب «2»
الناس، وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم فى أمرهم، فأشار عليه سلمان الفارسىّ بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع «3»
، وجعل سلعا خلف ظهره، وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم ضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين فى الأجر، فعملوا وجدّوا فى العمل ودأبوا «4»
، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فى ذلك العمل رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون «5»
بالضعف من العمل، ويتسلّلون إلى أهليهم بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة، ذكرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى عمله فى الخندق، فأنزل الله تعالى فى أولئك من المؤمنين قوله تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
ثم قال تعالى فى المنافقين: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً «6»
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
ثم قال تعالى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
قال: وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وروى محمد بن سعد [بسند «1» ] يرفعه إلى سهل بن سعد قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتافنا، فقال «2» صلى الله عليه وسلم:«لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة «3» » . وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول:
لا همّ «4» لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبّت الأقدام إن لاقينا
إنّ الأولى لقد «5» بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنة أبينا
[أبينا «6» ] يرفع بها صوته صلى الله عليه وسلم.
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى حفر الخندق معجزات نذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لمعجزاته، ومنها ما يتعيّن ذكره هاهنا، وهو ما حكاه محمد بن إسحاق عن جابر بن عبد الله قال:
اشتدت على الناس فى بعض الخندق كدية «1» ، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فو لذى بعثه بالحق لأنهالت حتى عادت «2» كالكثيب، لا تردّ فأسا ولا مسحاة.
قالوا: وفرغوا من حفر الخندق فى ستّة أيام، وكانوا يعلمون فيه نهارا وينصرفون ليلا، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان فى الآطام، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان مضين من ذى القعدة، وكان يحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة، ويحمل لواء الأنصار سعد بن عبادة. وأقبلت قريش ومن شايعها وتابعها، واجتمع إليها بعد فراغ الخندق، فصار الخندق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، وظهور المسلمين إلى سلع، وخرج حيىّ ابن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى، صاحب «3» عقد بنى قريظة، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دون حيى باب حصنه، وأبى أن يفتح له، فناداه حيّى: ويحك يا كعب! افتح لى. قال: ويحك! إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. فعادوه مرارا، وهو يأبى عليه حتى [قال «4» له حيىّ] : والله إن «5» أغلقت دونى إلا عن جشيشتك «6» أن آكل معك «7» .
فأحفظه «1» ذلك، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر وببحر طام «2» ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، [ومن دونه «3» ] غطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى «4» على جانب أحد، وقد عاهدونى وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب:
جئتنى والله بذلّ الدهر، وبجهام «5» قد هراق ماءه، يرعد ويبرق، ليس فيه شىء، ويحك يا حيىّ! فدعنى وما أنا عليه، فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل به حيى حتى سمح له، أن أعطاه «6» عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أدخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك. فنقض كعب بن أسد «7» عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين وصحّ ذلك عنده كبّر، وقال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
قال: ونجم النفاق وفشل الناس، وعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وخيف على الذرارىّ والنساء، وكانوا كما قال الله تعالى:(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم فى مائتى رجل، وزيد بن حارثة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذرارى من بنى قريظة، وكان
عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وجاه العدوّ لا يزالون يعتقبون خندقهم ويحرسونه، والمشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب فى أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، [ويغدو «1» عمرو بن العاص يوما] ، ويغدو هبيرة بن أبى وهب يوما، ويغدو ضرار بن الخطّاب الفهرى يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويجتمعون مرّة ويتفرّقون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقدّمون رماتهم فيرمون، فرمى حبّان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله «2» ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة. ويقال:
رماه أبو أسامة الجشمى.
قال ابن هشام: ولما اشتدّ على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى [بينه «3» و] بينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا:
يا رسول الله، أمر تحبّه فتصنعه، أم شىء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شىء تصنعه لنا؟ قال: بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم «4» من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد
كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوامنها تمرة إلا قراء «1» أو بيعا، أفحين «2» أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال:
ليجهدوا علينا.
قال ابن سعد: ثم اجتمع رؤساؤهم أن يغدوا يوما، فغدوا جميعا ومعهم رؤساء سائر الأحزاب، وطلبوا مضيقا من الخندق يقتحمون «3» خيلهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يجدوا ذلك وقالوا: إن هذه لمكبدة ما كانت العرب تصنعها؛ فقيل لهم: إن معه رجلا فارسيا، فهو أشار عليه بذلك؛ قالوا: فمن هناك إذا، فصاروا إلى مكان ضيّق أغفله المسلمون، فعبر منه عكرمة بن أبى جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطّاب، وهبيرة بن أبى وهب، وعمرو بن عبد ودّ [فجعل «4» عمرو بن عبد ودّ] يدعو إلى البراز، ويقول:
ولقد بححت من النداء
…
لجمعهم هل من مبارز
وكان ابن تسعين سنة، فبرز إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين إلّا أخذتها منه؛ قال له: أجل. قال له «5» : فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام؛ قال: لا حاجة لى بذلك؛ قال: فإنى أدعوك إلى النّزال؛ قال: يا بن
أخى، فو الله ما أحبّ أن أقتلك؛ فقال له علىّ: ولكنى والله أحبّ أن أقتلك؛ فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علىّ فتنازلا وتجاولا، فقتله علىّ رضى الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عكرمة بن أبى جهل يومئذ رمحه وهو منهزم عن عمرو. فقال حسّان بن ثابت:
فرّ وألقى لنا رمحه
…
لعلك عكرم لم تفعل
وولّيت تعدو كعدو الظّليم «1»
…
منهم ما إن «2» تجور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا
…
كأنّ قفاك قفا فرعل «3»
قال ابن سعد: وحمل الزبير بن العوّام على نوفل بن عبد الله بالسيف فضربه فشقّه باثنتين، ثم اتّعدوا أن يغدوا «4» من الغد، فباتوا «5» يعبّئون أصحابهم، وفرّقوا كتائبهم، ونحّوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومهم ذاك إلى هوىّ «6» من الليل، ما يقدرون أن يزولوا من موضعهم، ولم يصلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ظهرا ولا عصرا ولا مغربا ولا عشاء حتى كشفهم الله تعالى، فرجعوا متفرّقين إلى منازلهم وعسكرهم، وانصرف المسلمون إلى قبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام أسيد بن حضير على الخندق فى مائتين من المسلمين، وكرّ خالد بن الوليد فى خيل من المشركين يطلبون غرّة من المسلمين فناوشوهم ساعة ومع المشركين وحشىّ، فزرق الطفيل بن النعمان بمزراقة فقتله وانكشفوا، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبّته فأمر بلالا فأذّن وأقام للظهر فصلّى، ثم بعد
ذلك لكل صلاة إقامة إقامة، وصلّى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات، وقال:
«شغلونا عن الصلاة الوسطى- صلاة العصر- ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» .
ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل طمعا فى الغرّة، قال: وحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة. وقال ابن إسحاق: أقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن هلال بن حلاوة «1» بن الأشجع ابن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنى قد أسلمت، وإن قومى لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل «2» عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما فى الجاهلية، فقال:
يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إياكم، وخاصّة ما بينى وبينكم؛ قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم؛ فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تجلوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة «3» أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم «4» ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا «5» من أشرافهم، ليكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه؛ قالوا: لقد أشرت علينا بالرأى. ثم خرج حتى أتى قريشا،
فقال لأبى سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّى لكم وفراقى محمّدا، وإنه قد بلغنى أمر قد رأيت منه علىّ حقا أن أبلّغكموه نصحا لكم، فاكتموا عنى؛ قالوا:
نفعل؛ فما هو؟ قال: تعلّموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ [لك «1» ] من القبيلتين: قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، ونعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلى وعشيرتى، وأحبّ الناس إلىّ، ولا أراكم تتّهمونى «2» ؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عنى؛ قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثلما قال لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم. فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل، فى نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ فيما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم:
إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذى نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى تناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم «3» الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا «4» إلى بلادكم وتتركونا، والرجل فى بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش
وغطفان: والله إن الذى حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بنى قريظة:
إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا؛ فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم ابن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم، وقال أبو سفيان:
ألا أرانى أستعين بإخوة القردة والخنازير! فوقع الاختلاف والخذلان بينهم، وبعث الله عز وجل عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد، فكفأت القدور وطرحت الأبنية.
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقع بينهم من الاختلاف أرسل حذيفة بن اليمان إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. قال حذيفة: دعائى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل فى القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثنّ شيئا. فذهبت فدخلت فيهم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبى، فقلت:
من أنت؟ فقال: فلان ابن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع «1» والخفّ، وأخلفنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الرّيح ما ترون، فارتحلوا فإنّى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىّ ألّا أحدث شيئا