الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خبر الثلاثة الذين خلّفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذّرين من الأعراب
والثلاثة الذين خلّفوا لم يتخلّفوا عن شكّ ولا نفاق، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، وكان من خبرهم ما حدّثنا به الشيخان المعمّران المسندان شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وست الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر بن أسعد بن المنجى التّنوخيّة الدّمشقيّان قراءة عليهما، وأنا أسمع فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبعمائة بالمدرسة المنصورية بالقاهرة المعزّيّة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدى، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزى قراءة عليه ونحن نسمع، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودىّ، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمّويه السّرخسىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن مطر الفربرىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أنّ عبد الله بن كعب بن مالك،- وكان قائد كعب من بنيه حين عمى- قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حين تخلّف عن قصّة تبوك قال كعب: لم أتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة غزاها إلا فى غزوة تبوك، غير أنى كنت تخلفت فى غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد؛ ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أن لى بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر فى الناس منها.
كان من خبرى أنى لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّى حين تخلفت عنه فى تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندى قبله راحلتان قطّ حتى جمعتهما فى تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوّا كثيرا، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذى يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان.
قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيّب إلّا ظن أنّه سيخفى له ذلك، ما لم ينزل فيه وحى الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظّلال، وتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكى أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول فى نفسى: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بى حتى شمّر بالناس الجدّ. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أفض من جهازى شيئا، فقلت: اتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، ورجعت فلم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئا، فلم يزل بى حتّى أسرعوا وتفرّط «1» الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتنى فعلت، فلم يقدر لى ذلك، فكنت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفت فيهم أحزننى أنّى لا أرى إلّا رجلا مغموصا «2» عليه بالنفاق، أو رجلا ممّن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرنى
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس فى القوم بتبوك:
«ما فعل كعب» ؟ فقال رجل من بنى سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ونظره فى عطفيه «1» . فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمت عليه إلّا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغنى أنه توجه قافلا حضرنى همّى، وطفقت أتذكّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا، واستعنت على ذلك بكل ذى رأى من أهلى، فلما قيل إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ «2» قادما راح عنى الباطل، وعرفت أنّى لم أخرج منه أبدا بشىء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم يجلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال:«تعال» ، فجئت أمشى حتى جلست بين يديه، فقال لى:«ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك» ؟ فقلت: بلى والله، إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «3» ، ولكنّى والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّى ليوشكن الله أن يسخطك علىّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد «4» علىّ فيه إنى لأرجو فيه عقبى الله، لا والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قطّ أقوى
ولا أيسر منّى حين تخلّفت عنك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى الله فيك» ، فقمت وثار رجال من بنى سلمة فاتبعونى، فقالوا لى: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلّفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله ما زالوا يؤنّبونى حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسى، ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحدا؟ قالوا:
نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك؛ فقلت: من هما؟
قالوا: مرارة بن الربيع العمرى، وهلال بن أمية الواقفىّ، فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة؛ فمضيت حين ذكروهما لى.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا- أيّها الثلاثة- من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكّرت فى نفسى الأرض، فما هى بالتى أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأمّا صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف فى الأسواق، فلا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى: هل حرّك شفتيه بردّ السلام علىّ أم لا؟ ثم أصلّى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلىّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنى، حتى إذا طال علىّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبى قتادة، وهو ابن عمّى، وأحبّ الناس إلىّ، فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ علىّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلمى أحبّ الله ورسوله؟
فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناى، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار.
قال: فبينا أنا أمشى بسوق المدينة إذا نبطىّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءنى دفع إلىّ كتابا من ملك غسّان، فإذا فيه:«أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك» . فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيمّمت «1» بها التنور، فسجرته «2» بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينى، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فقلت: أطلّقها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربنّها، وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أميّة- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال:«لا، ولكن لا يقربنّك» قالت: إنه والله ما به حركة إلى شىء، والله مازال يبكى مذكان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لى بعض أهلى:
لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدرينى ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أستأذنته فيها وأنا رجل شابّ! فلبثت بعد ذلك عشر
ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا؛ فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله، قد ضاقت علىّ نفسى، وضاقت علىّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى «1» على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل «2» صاحبىّ مبشّرون، وركض رجل إلىّ فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءنى الذى سمعت صوته يبشرنى، نزعت ثوبىّ فكسوته إباهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقّانى الناس فوجا فوجا يهنّئوننى بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنّأنى، والله ما قام إلىّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ؛ قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال:
«لا، بل من عند الله» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استتار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسول الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» ، قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر، وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجّانى بالصدق، وإنّ من توبتى ألا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ممّا أبلانى، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا كذبا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى «1» ، فأنزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
«2» .
قال كعب: فو الله ما أنعم الله علىّ من نعمة قطّ بعد أن هدانى للإسلام أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ