الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزّع «1»
وقد عرّضوا بالكفر والموت دونه
…
وقد ذرفت عيناى من غير مدمع «2»
وما بى حذار الموت، إنى لمّيت
…
ولكن حذارى حرّ نار تلفع «3»
فلست بمبد للعدوّ تخشّعا
…
ولا جزعا إنّى إلى الله مرجعى
ولست أبا لى حين أقتل مسلما
…
على أى حال كان فى الله مضجعى
وفى رواية ابن شهاب:
على أى جنب كان فى الله مصرعى
قالوا: وصلب بالتّنعيم، وكان الذى تولى صلبه عقبة بن الحارث، وأبو هبيرة العدوى «4» .
ذكر غزوة بنى النّضير
غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهر ربيع الأوّل، سنة أربع، على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجره.
وكان سبب هذه الغزوة على ما حكاه محمد بن سعد، ومحمد بن إسحاق، وعبد الملك بن هشام، دخل حديث بعضهم فى بعض، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى بنى النضير يستعينهم فى دية الكلابيّين أو العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمرى، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك بما أحببت. وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جلس إلى جنب جدار من بيوتهم، وهو فى نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر، وعمر، وعلىّ، رضوان الله عليهم، فخلا بعض بنى النضير إلى بعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل «1» يعلو هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش «2» ابن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك؛ فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذى بيننا وبينه. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فنهض مسرعا كأنه يريد الحاجة فتوجه إلى المدينة، فلما أبطأ على أصحابه قاموا فى طلبه، فلقوا «3» رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيته قد دخل المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوه، فقالوا: يا رسول الله، قمت ولم نشعر.
قال: همّت يهود بالغدر فأخبرنى الله بذلك فقمت. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم محمد بن مسلمة: «أن أخرجوا من بلدى فلا تساكنونى بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا [أى من «4» الأيام] فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه» . فمكثوا أياما يتجّهزون، وأرسلوا إلى ظهر لهم بذى الجدر»
وتكاروا إبلا من ناس من أشجع، فأرسل إليهم عبد الله بن أبىّ: أن أقيموا فى حصونكم، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معى ألفين من قومى وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من عند آخرهم، وتمدّكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. ووافقه على ذلك وديعة «6» بن مالك بن أبى قوقل، وسويد وداعس، وقالوا
لهم: إن قوتلتم نصرناكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فطمع حيّى بن أخطب فيما قال ابن أبىّ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود. واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وسار فى أصحابه، وعلى بن أبى طالب يحمل لواءه، فصلى العصر بفناء بنى النضير، فلما رأوه تحصنوا بحصونهم، وقاموا عليها معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم، وخذلهم عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فلم ينصروهم، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ست ليال، ثم أمر بقطع النّخيل وتحريقها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها! وكان الله عز وجل أمر رسوله، صلى الله عليه وسلم بذلك، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، وقالوا:
نخرج من بلادك. فقال: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة «1» . فنزلوا على ذلك.
وكانت مدّة حصرهم خمسة عشر يوما، وولى إخراجهم محمد بن مسلمة، فحملوا النساء والصبيان وتحملوا على سبعمائة بعير، وكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف «2» بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبى الحقيق، وكنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق، وحيّى بن أخطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء فى قومهم بمنزلة بنى المغيرة فى قريش. وحزن المنافقون [عليهم «3» ] حزنا شديدا، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة، فوجد من الحلقة خمسين
درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة سيف وأربعين سيفا، وكانت بنو النضير صفيّا «1» لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خالصة له حبسا «2» لنوائبه، لم يخمّسها ولم يسهم منها لأحد، إلا أنه أعطى ناسا من أصحابه، ووسّع فى الناس، فكان ممن أعطاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم من المهاجرين أبو بكر [الصديق «3» ] رضى الله عنه، أعطاه بئر حجر، وعمر بن الخطاب بئر جرم «4» ، وعبد الرحمن بن عوف سوالة، وصهيب بن سنان الصراطة «5» ، والزبير بن العوّام وأبو سلمة بن عبد الأسد البويلة «6» ، وسهل بن حنيف وأبو دجانة مالا، يقال له: مال ابن خرشة. حكاه محمد بن سعد فى طبقاته.
قال: ولما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير، قال: امضوا فإن هذا أوّل الحشر وإنا على الأثر.
وأنزل الله عز وجل فى بنى النضير سورة «الحشر» بكمالها.
يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) .
قال الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى، رحمه الله:
«أهل الكتاب» بنو النضير «من ديارهم» التى كانت بيثرب «لأوّل الحشر» قال الزهرى: كانوا من سبط «1» لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم فى الدنيا، قال: وكانوا أوّل حشر فى الدنيا حشر إلى «2» الشام. وقال الكلبى: إنما قال: «لأوّل الحشر» لأنهم أوّل حشر من أهل الكتاب، ونفوا من الحجاز. وقال مرّة الهمدانىّ: كان هذا أوّل الحشر من أهل المدينة، والحشر الثانى من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا «3» من الشام فى أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعلى يديه. وقال قتادة:
كان هذا أوّل الحشر، والحشر الثانى: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلّف.
«ما ظننتم» أيها المؤمنون «أن يخرجوا» من المدينة «وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله» حيث درّبوها وحصنوها «فأتاهم الله» أى أمر الله وعذابه « [من «4» ] حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرّعب» قيل: بقتل سيدهم كعب بن الأشرف.
«يخربون بيوتهم بأيديهم» قال ابن إسحاق: وذلك لهدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم. وقال ابن زيد: كانوا يقتلون العمد، وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب «5» ، حتى الأوتاد، يخربونها لئلا يسكنها المسلمون حسدا منهم وبغضا. وقال ابن عباس: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم «6» هدموها لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التى
بعدها، فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم منها، ويرمون بالتى خرجوا منها أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من باطنها، فذلك قوله عز وجل:
«يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» .)
ثم قال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ)
الآية «الْجَلاءَ»
عن الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا)
بالقتل وبالسّبى «1» كما فعل ببنى قريظة «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ.)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا «2» اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .
قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)
قال ابن إسحاق: اللينة: ما خالف العجوة من النخل. وقال ابن هشام: ما لم تكن برنيّة «3» ولا عجوة. وقال عكرمة وزيد بن رومان وقتادة: النخل كلّه لينة ما خلا العجوة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، اللينة: النخلة والشجرة.
وقال سفيان: هى كرام النخل. وقيل: هى النخلة القريبة من الأرض. وقال مقاتل: هو ضرب من النخل، يقال لثمرها «4» : اللّون، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارج، يغيب فيه الضّرس، وكان من أجود ثمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف «5» ، وأحب إليهم من وصيف، فلما رأوا ذلك يقطع شق عليهم. قال: وجمع اللينة لين. وقيل: ليان «6» .
قال الثعلبى: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنى النضير، وتحصنوا فى حصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخيل، وعقر الشجر؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد فى الأرض؟ فشق ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون «1» في ذلك فسادا، واختلف المسلمون فى ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها. فأنزل الله تعالى الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذنه تعالى.
وفى قطع نخيل بنى النضير يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بنى لؤىّ
…
حريق بالبويرة مستطير
وقوله تعالى: «وليخزى الفاسقين» أى وليذل اليهود ويخزيهم ويغيظهم.
قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
«أفآء الله» أى ردّ على رسوله ورجع إليه، ومنه فىء الظلّ [منهم «2» ] أى من بنى النضير من الأموال «فما أوجفتم» أوضعتم «3» «عليه من خيل ولا ركاب» وهى الإبل، يقول: لم تقطعوا إليها شقّة، ولم تنالوا فيها مشقة، ولم تكلفوا مؤنة «4» ، ولم تلقوا حربا.
وإنما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشيا، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلا التى
صلّى الله عليه وسلّم، فإنه ركب جملا فافتتحها صلحا، وأجلاهم عنها وخزن أموالهم فسأل المسلمون النبى صلى الله عليه وسلم القسمة، فأنزل الله عز وجل الآية، فجعل أموال بنى النضير خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة. قال: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان، أحدهما سفيان ابن عمير بن وهب، والثانى سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها. روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: إن أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف «1» المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينفق على أهله منه نفقة سنته، وما بقى جعله فى الكراع «2» والسلاح عدّة فى سبيل الله.
قوله تعالى: (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)
قال ابن عباس رضى الله عنهما: القرى هى قريظة والنّضير، وهما بالمدينة، وفدك، وهى من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر، وقرى عرينة وينبع جعلها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، يحكم فيها ما أراد، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قال: و (الْقُرْبى) *
قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وقوله:(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)
أى بين
الرؤساء والأغنياء والأقوياء، فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفى منها أيضا بعد المرباع ما شاء، وفيه يقول شاعرهم:
لك المرباع منها والصّفايا
…
وحكمك والنّشيطة والفضول «1»
فجعل الله تعالى [هذا «2» ] لرسوله عليه السلام يقسمه فى المواضع التى أمر بها.
وقوله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)
أى ما أعطاكم من الفىء والغنيمة «وما نهاكم عنه» من الغلول وغيره «فانتهوا» .
قوله تعالى: (لِلْفُقَراءِ) *
يعنى كى لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم ولكن يكون (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)
أى فى إيمانهم.
قال قتادة: هم المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر، وخرجوا حبّا لله ورسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيه من شديدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها.
وعن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة، يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهما فى الزكاة.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
قال: قوله (تَبَوَّؤُا)
توطنوا (الدَّارُ) *
اتخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار، أسلموا فى ديارهم وابتنوا المساجد قبل قدوم النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأحسن الله الثناء عليهم. وقوله:
(مِنْ قَبْلِهِمْ) *
أى من قبل قدوم المهاجرين عليهم، وقد آمنوا (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً»
أى حزازة وغيظا وحسدا (مِمَّا أُوتُوا)
أى مما أعطى المهاجرين من الفىء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قسم أموال بنى النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار «1» منها شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ)
إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)
أى فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار:«إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم فى هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم عليكم شىء من الغنيمة» فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا «2» وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولم نشاركهم فيها. فأنزل الله عز وجل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
والشحّ فى كلام العرب: البخل ومنع الفضل.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ «1» رَحِيمٌ)
قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاث منازل: للفقراء المهاجرون، والذين تبوّءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد ألا تكون خارجا من هذه المنازل.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أمر الله عز وجل بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وعن عائشة رضى الله عنها قالت:
أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد عليه السلام فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أوّلها» .
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)
نزلت هذه الآيات فى شأن عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فى إرسالهم لبنى النضير وقعودهم عنهم، كما تقدّم آنفا، وقوله:(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ)
يقول: يرهبونكم أشدّ من رهبتهم الله تعالى. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) .
قوله تعالى: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «2» بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)
أعلم الله تعالى المؤمنين أن اليهود لا يبرزون لهم بالقتال، ولا يقاتلونهم إلا فى قرى محصنة، أو من