الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين إلى بدر
قال محمد بن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان.
وقال محمد بن سعد: خرج يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره، واستعمل على المدينة عمرو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله، ليصلّى بالناس، ثم ردّ أبا لبابة من الرّوحاء «1» واستعمله على المدينة، وخرج صلى الله عليه وسلم فى ثلاثمائة رجل وخمسة عشر رجلا، كان من المهاجرين منهم أربعة وسبعون، وسائرهم من الأنصار بعد أن ردّ من أصحابه من استصغرهم، ولم يكن غزا بالأنصار قبلها.
قال محمد بن سعد: وتخلّف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية لعلّة، ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهم، وأجورهم؛ ثلاثة من المهاجرين: وهم عثمان بن عفان، خلّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فأقام عليها حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، بعثهما يتحسّسان خبر العير، وخمسة من الأنصار، وهم: أبو لبابة بن عبد المنذر، خلّفه على المدينة، وعاصم بن عدىّ، خلّفه على أهل العالية، والحارث بن حاطب، رده من الرّوحاء إلى بنى عمرو بن عوف لشىء بلغه عنهم، والحارث بن الصّمة، وخوّات بن جبير، كسرا بالرّوحاء.
وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ يعتقبون بعيرا.
قال محمد بن سعد يرفعه إلى ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كلّ ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة، وعلىّ، زميلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا كانت عقبة النبى صلى الله عليه وسلم قالا له: اركب يا رسول الله حتى تمشى عنك، فيقول:«ما أنتما بأقوى على المشى منّى، وما أنا أغنى عن الأجر منكما.»
قال ابن إسحاق: وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا؛ وكان أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، يعتقبون بعيرا.
قال ابن سعد: وكانت الخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ. قال ابن إسحاق: وفرس للزّبير بن العوّام.
قال: ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أبيض، قال: وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع على بن أبى طالب، والأخرى مع الأنصار.
قال ابن سعد: وكان لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على السّاقة قيس بن أبى صعصعة أخا بنى مازن بن النجار. قال: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قريبا من الصّفراء»
بعث بسبس بن عمرو، وعدىّ بن أبى الزّغباء الجهنيّين إلى بدر يتحسّسان له الأخبار عن أبى سفيان وعيره.
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم إلى ذفران- واد يسار الصّفراء- وأتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال:
يا رسول الله، امض لما أمرك الله! فنحن معك فو الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل:(فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)
، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد «2» لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له.
ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس- وإنما يريد الأنصار لأنهم عدد الناس- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل؛ قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللّقاء،
لعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فقال صلى الله عليه وسلم:«سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم» .
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم من ذفران «1» حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر الصديق حتى وقفا على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبرانى من أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أو ذاك بذاك؟ قال نعم. قال الشيخ: فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن صدق الذى أخبرنى فهم «2» اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى ترك به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه- وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى به قريش- ثم قال: من أنتما؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء. ويقال: إن الشيخ سفيان الضّمرىّ. قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علىّ بن أبى طالب، والزّبير بن العوّام، وسعد بن أبى وقّاص، فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له عليه الخبر، فأصابوا راوية «3» لقريش فيها أسلم، غلام بنى الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بنى العاص، فأتوا بهما؛ فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش، فقالا: هم وراء هذا الكئيب الذى ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير؛ قال: ما عدّتهم؟ قالا: لا ندرى.
قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: تسعا، ويوما عشرا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترىّ بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدىّ بن نوفل، والنّضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميّة بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ودّ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت أفلاذ كبدها.
قال: وبلغ أبا سفيان الخبر بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ماء بدر، فرجع إلى أصحابه سريعا وصرف وجه عيره عن الطريق، فساحل بها «1» ، وترك بدرا يساره، وانطلق. وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة «2» ، رأى جهيم بن الصّلت بن مخرمة ابن عبد المطلب رؤيا فقال: إنّى فيما يرى النائم، أو إنى «3» لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممّن كان قتل يوم بدر من أشراف قريش، ورأيته ضرب فى لبّة بعيره، ثم أرسله فى العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح «4» من دمه.
قال: فبلغت أبا جهل بن هشام فقال: وهذا أيضا نبىّ آخر من بنى عبد المطلب! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
قال: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا؛ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا؛ وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم فيه سوق فى كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان «1» ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعينا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا.
فمضت قريش حتى نزلوا العدوة «2» القصوى من الوادى، والقلب «3» ببدر فى العدوة «4» الدنيا، قال: وبعث الله السماء، وكان الوادى دهسا «5» ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير.
وقال ابن سعد: كان المسلمون يومئذ يميدون من النعاس ونزلوا على كثيب «6» أهيل، فمطرت السماء فصار مثل الصّفا «7» يسعون عليه سعيا. وأنزل الله تعالى:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ «8» النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) .
قال ابن إسحاق: وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء
من ماء بدر نزل به، فأتاه الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله، هذا المنزل منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بل الرأى والحرب والمكيدة» . قال يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله، ثم نعوّر «1» ما وراءه من القلب، ثم نبتنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد أشرت بالرأى» ، فنهض بالناس وسار حتى [إذا «2» ] أتى أدنى ماء من القوم، نزل عليه؛ ثم أمر بالقلب فعوّرت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
فقال سعد بن معاذ: يا نبىّ الله، نبتنى لك عريشا «3» تكون فيه، وتكون عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشدّ لك حبّا منهم، ولو ظنّوا أن تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك؛ فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه خيرا، ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فمكان فيه.
قال: وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها «4» وفخرها، تحادّك «5» وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم «6» الغداة.»
قال ابن سعد: كانت قريش تسعمائة وخمسين، وخيلهم مائة فرس، وكان لهم ثلاثة ألوية؛ لواء مع أبى عزيز بن عمير، ولواء مع النّضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبى طلحة.
قال ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار وغيره، عن أشياخ من الأنصار، قال:
لما اطمأنّ القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحىّ فقالوا: احزر «1» لنا أصحاب محمد، فجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه، ولكن أمهلونى حتى أنظر، أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب فى الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكنى رأيت يا معشر قريش البلايا «2» تحمل المنايا، نواضح «3» يثرب تحمل الموت الناقع «4» ، قوم ليس معهم [منعة «5» ] ولا ملجأ إلا سيوفهم، أما ترونهم خرصا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعى؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس؛ فأتى عتبة بن ربيعة فقال:
يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك ألّا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمىّ. قال: قد فعلت، علىّ عقله «6» ؛ فأت ابن الحنظليّة، يعنى أبا جهل بن هشام، قال: فأتيته فقلت: يا أبا الحكم، قد أرسلنى إليك عتبة
بكذا وكذا، فقال: انتفخ والله سحره «1» حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فأنشد خفرتك «2» ومقتل أخيك. فقام عامر فاكتشف «3» ثم صرخ: واعمراه! وا عمراه! فحميت الحرب»
وحقب «5» أمر الناس، واستوسقوا «6» على ما هم عليه من الشر. قال: فخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومىّ، وكان رجلا شرسا سيّء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه، أو أموتنّ دونه، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطنّ «7» قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره، ثم جاء إلى الحوض يريد أن يبرّ يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله.
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا برز من الصفّ دعا إلى المبارزة، فخرج إليه ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوّذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟
فقالوا: رهط من الأنصار؛ قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم:
يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فأخرج لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
عمّه حمزة بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، وعبيدة بن الحارث، فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فسمّى كل رجل منهم نفسه، قالوا: نعم أكفاء كرام؛ فبارز عبيدة- وكان أسنّ القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علىّ الوليد بن عتبة، فأما حمزة وعلىّ فإنهما لم يمهلا مبارزيهما أن قتلاهما، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت «1» صاحبه، وكرّ حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذفّفا «2» عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه «3» إلى أصحابه.
قال محمد بن سعد: وفى عبيدة وعتبة نزل قوله تعالى: (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)
. قال: ثم زحف الناس ودنا بعضهم من بعض.
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة.
وعدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّفوف، ورجع إلى العريش، فدخله هو وأبو بكر الصدّيق ليس معه غيره فيه، وهو صلى الله عليه وسلم يناشد «4» ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبىّ الله، بعض مناشدتك ربّك، فإن الله منجزك ما وعدك.
وخفق «5» رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النّقع «6» .
قال ابن إسحاق: ورمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، وكان أول قتيل قتل من المسلمين، ثم رمى حارثة بن سراقة، أحد بنى عدىّ بن النجّار، وهو يشرب فى الحوض بسهم، فأصاب نحره، فقتل.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس يحرّضهم، وقال:«والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» ، فقال عمير بن الحمام أخو بنى سلمة، وفى يده تمرات يأكلهن: بخ بخ «1» ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل.
وقال عوف بن الحارث- وهو ابن عفراء- يا رسول الله: ما يضحك «2» الربّ من عبده؟ قال: غمسه يده فى العدوة حاسرا. فنزع درعا كانت عليه، وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت «3» الوجوه، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدّوا؛ فكانت الهزيمة على قريش، فقتل الله من صناديد قريش من قتل، وأسر من أسر.
قال محمد بن سعد: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لما نزلت:
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)
، قلت: وأىّ جمع يهزم ومن يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب فى الدرع وثبا وهو يقول:
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)
، فعملت أن الله تعالى سيهزمهم.
قال: ولمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [فى العريش «1» ] وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، متوشّح السيف، فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرّة العدوّ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له: لكأنّى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؛ قال: أجل: والله يا رسول الله، كانت أوّل وقعة أوقعها الله بأهل الشّرك، فكان الإثخان فى القتل أحبّ إلىّ من استبقاء الرجال.
وفى هذا اليوم أنزل الله تعالى الملائكة فقاتلوا مع المسلمين.
قال محمد بن سعد: لما صفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وعبّأهم للحرب، جاءت ريح لم ير مثلها شدّة ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى، فكانت الأولى جبريل عليه السلام فى ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالثة إسرافيل فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سيما الملائكة يومئذ عمائم قد أرخوها بين أكتافهم: خضر وصفر وحمر من نور، والصّوف فى نواصى خيلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنّ الملائكة قد سوّمت فسوّموا. فأعلموا بالصوف فى مغافرهم «2» وقلانسهم.
قال: وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق.
وقال ابن إسحاق: حدّثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدّث عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: حدّثنى رجل من بنى غفار قال:
أقبلت أنا وابن عمّ لى حتى أصعدنا فى جبل يشرف [بنا «1» ] على بدر [ونحن مشركان «2» ] ننظر الوقعة على من تكون الدائرة «3» ، ننتهب مع من ينتهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم «4» حيزوم. قال: فأمّا ابن عمى فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه. وأما أنا فكدت أن أهلك، ثم تماسكت.
وروى ابن إسحاق عن أبى أسيد مالك بن ربيعة- وكان شهد بدرا- قال- بعد أن ذهب بصره-: لو كنت اليوم ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشّعب «5» الذى خرجت منه الملائكة، لا أشكّ ولا أتمارى «6» .
وعن أبى داوود المازنىّ، قال: إنى لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أنه قتله غيرى.
وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: كانت سما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها فى ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا، وفى حديث آخر عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم. إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لم تقاتل الملائكة فى يوم سوى يوم بدر، وكانوا فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.
قال: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: أحد أحد.
قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز وهو [يقاتل «1» و] يقول:
ما تنقم الحرب العوان منّى
…
بازل عامين حديث سنّى «2» .
لمثل هذا ولدتنى أمّى
قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوّه أمر أن يلتمس أبو جهل بن هشام فى القتلى، فمرّ به عبد الله بن مسعود، قال: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلى على عنقه، فقال لى: لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقى صعبا، ثم قال: أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ فقلت: لله ولرسوله؛ ثم احتززت رأسه، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدوّ الله أبى جهل؛ فقال: الله «3» الذى لا إله غيره؟ قلت: نعم والله الذى لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، طرحوا فيه إلا أميّة بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها فذهبوا ليحرّكوه فتزايل «4» ، فأقرّوه وألقوا عليه ما غيّبه من التراب والحجارة، قالت: ولما ألقوا فى القليب، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يأهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى
ربى حقا» قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم:«لقد علموا أنّ ما وعدهم ربهم حق» . وعن أنس رضى الله عنه نحوه، إلا أنّ فيه: فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيّفوا «1» ؟ قال:
«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم «2» ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبونى» .
قال ابن إسحاق: وكان الفتية الذين قتلوا ببدر- فنزل فيهم قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً)
- الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه ابن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن أميّة بن خلف، والعاص ابن منبّه.
وذلك أنهم كانوا أسلموا بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم خرجوا مع قومهم إلى بدر، فأصيبوا كلّهم.
قال: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فى العسكر ممّا جمع الناس فجمع، واختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا؛ وقال الذين كفروا يقاتلون العدوّ: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم؛ وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدوّ: ما أنتم بأحقّ منّا، لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذا منحنا الله
أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنّا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرّة العدوّ فقمنا دونه، فما أنتم أحقّ به منا.
فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ)
، نزلت السورة بجملتها فى غزوة بدر.
قال: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين والنّفل «1» ، وجعل على النّفل عبد الله بن كعب المازنىّ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق «2» وبين النازية «3» ، يقال له: سير، إلى سرحة «4» [به «5» ] وهو من المدينة على ثلاث ليال، فقسم هناك النّفل الذى أفاء الله على المسلمين على السواء.
قال ابن سعد: وتنفّل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار، وكان لمنبّه بن الحجّاج، فكان صفيّه يومئذ؛ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه مع المسلمين، وفيه جمل أبى جهل بن هشام، وكان مهريّا «6» ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بشيرا إلى المدينة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية.
قال ابن سعد يرفعه إلى عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة، كما خرج طالوت،
فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجوا، فقال:«اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم» .
ففتح الله يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا، وما فيهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، فاكتسبوا وشبعوا.
وقال يرفعه إلى عكرمة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أهل بدر: عليك بالعير ليس دونها شىء، فناداه العباس: إنه لا يصلح ذلك لك، قال: لم؟: قال: لأنّ الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، فقد أعطاك ما وعدك.
ذكر ورود الخير بمصاب أهل بدر على من بمكة من كفار قريش وهلاك أبى لهب بن عبد المطلب قال ابن إسحاق: كان أوّل من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعىّ، فقالوا له: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج، وأبو البخترىّ، وجعل يعدّد أشراف قريش، فقال صفوان بن أمية وهو قاعد فى الحجر،: والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالس فى الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد داخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه [وكان
ذا مال كثير متفرّق فى قومه «1» ] . وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص ابن هشام بن المغيرة [وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا «2» ] ، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كتبه «3» الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوّة وعزا، وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أنحت الأقداح فى حجرة زمزم، فو الله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أمّ الفضل جالسة، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ، حتى جلس على طنب «4» الحجرة، وكان ظهري إلى ظهره، فبينما هو جالس إذ قال الناس «5» : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال أبو لهب: هلمّ إلىّ، فعندك لعمرى الخير. قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يابن أخى، أخبرنى كيف كان أمر الناس؟ قال:
والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا، على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق «6» شيئا ولا يقوم لها شىء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة [بيدى «7» ] ثم قلت: تلك والله الملائكة.
قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، فثاورته «8» فاحتملنى، فضرب بى الأرض، ثم برك على صدرى، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلقت «9» رأسه شجّة منكرة، وقالت: