الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا فى الجذع ستّ ليال، تأتيه امرأته فى كلّ وقت صلاة، فتحلّه للصلاة، ثم تعود فتربطه.
هذا ما كان من أمر أبى لبابة؛ وأما يهود فإن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد «1» بن عبيد، وهم نفر من هدل، قال ابن إسحاق: ليسوا من بنى قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم، أسلموا فى الليلة التى نزل بنو قريظة فى صبيحتها على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظىّ فمرّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: أنا عمرو بن سعدى- وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا- فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى عثرات «2» الكرام؛ ثم خلّى سبيله، فخرج على وجهه، فلم يدر أين توجّه من الأرض إلى آخر الدهر، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه؛ ومنهم من يزعم أنه أوثق. والله أعلم.
ذكر نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسؤال الأوس فيهم؛ وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم
قال: ولما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت
فى موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت. يعنون بنى قينقاع لما أطلقهم «1» صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبىّ بن سلول «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فذاك سعد بن معاذ. وكان سعد فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى خيمة لامرأة من أسلم يقال لها: رفيدة، كانت تداوى الجرحى محتسبة، فأتاه قومه فحملوه على حمار، ووطّئوا له بوسادة من أدم، ثم أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون له: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولّاك «3» ذلك لتحسن فيهم؛ فلما أكثروا عليه قال: لقد أنى لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه [من قومه «4» ] إلى دار بنى عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل إليهم سعد، لكلمته التى سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قوموا إلى سيّدكم» . فأما المهاجرون من قريش فيقولون:
إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار؛ والأنصار يقولون: قد عمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم؛ قال: وعلى من هاهنا؟
فى الناحية التى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ قال سعد:
فإنى أحكم فيهم أن نقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذرارىّ «5» والنساء. فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة «1» أرقعة.
أى من فوق سبع سموات، ويقال: إن اليهود سألوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.
والله تعالى أعلم.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الخميس لسبع خلون من ذى الحجة، وأمر بهم فأدخلوا «2» المدينة، فحبسهم فى دار بنت الحارث امرأة من بنى النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، فحفر بها خنادق، وجلس هو وأصحابه وبعث إليهم فأخرجوا إليه أرسالا «3» ، فضربت أعناقهم، وفيهم حيىّ بن أخطب، وكعب بن أسد، واختلف فى عددهم فقيل: كانوا ستمائة أو سبعمائة. وقيل: بين الثمانمائة والتسعمائة؛ قال: وقالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا:
يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب [به «4» ] منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! قال: وأتى بحيىّ ابن أخطب، وعليه حلّة [له «5» ] فقّاحية «6» قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل
على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بنى إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوّال الثعلبىّ:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه
…
ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها
…
وقلقل «1» يبغى العزّ كلّ مقلقل
وروى محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت:
لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة. قالت: والله إنها لعندى تحدّث معى، وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها فى السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله؛ قلت لها: ويلك! مالك؟ قالت: أقتل؛ قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته؛ قالت: فانطلق بها، فضربت «2» عنقها، فكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبا منها، طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. قال الواقدىّ: واسم تلك المرأة: بنانة «3» امرأة الحكم القرظىّ؛ وكانت قتلت خلّاد بن سويد، طرحت عليه رحىّ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنقها بخلاد بن سويد. قال: وكان علىّ بن أبى طالب والزبير بن العوّام رضى الله عنهما يضربان أعناق بنى قريظة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهرى أن الزّبير بن باطا القرظىّ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن- وكان قد منّ على ثابت بن قيس بن شمّاس فى الجاهليّة [يوم بعاث «4» ] أخذه فجزّ ناصيته ثم خلّى سبيله- فجاءه «5» ثابت يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال:
يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفنى؟ فقال: وهل يجهل مثلى مثلك؛ قال: إنى قد آن أن أجزيك بيدك عندى؛ قال: إنّ الكريم يجزى الكريم؛ ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد كانت للزبير عندى يد، وله علىّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لى دمه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لى دمك؛ قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أهله وولده؛ قال: هم لك. فأتاه فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطانى امرأتك وولدك، فهم لك؛ قال:
أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما له؛ فقال: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطانى مالك فهو لك؛ قال: أى ثابت، ما فعل الذى كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيه «1» عذارى الحىّ، كعب بن أسد؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل سيّد الحاضر والبادى حيىّ بن أخطب؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل مقدّمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا «2» ، عزّال بن سموءل «3» ؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل المجلسان؟ يعنى بنى كعب بن قريظة، وبنى عمرو بن قريظة؛ قال: ذهبوا وقتلوا؛ قال: فإنى أسألك بيدى عندك «4» يا ثابت إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله ما فى العيش
بعد هؤلاء من خير، وما أنا بصابر لله قبلة «1» دلو ناضح حتى ألقى الأحبّة. فقدّمه ثابت فضرب عنقه. فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله «ألقى الأحبة» قال: يلقاهم والله فى نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا.
وفى هذه الواقعة يقول ثابت بن قيس:
وفت ذمّتى أنّى كريم وأننى
…
صبور إذا ما القوم حادوا «2» عن الصبر
وكان زبير أعظم الناس منّة
…
علىّ فلمّا شدّ كوعاه «3» بالأسر
أتيت رسول الله كيما أفكّه
…
وكان رسول الله بحرا لنا يجرى
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم؛ فسألته سلمى بنت قيس بن المنذر أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قد صلّت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء- على رفاعة بن سموءل القرظىّ، وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفها، فقالت: يا نبى الله، بأبى أنت وأمّى، هب لى رفاعة بن سموءل، فإنه قد زعم أنه سيصلى ويأكل لحم الجمل. فوهبه لها، فاستحيته.
قال: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم فجمعت، فاصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء عمرو بن قريظة، ثم أخرج الخمس من
المتاع والسبى، ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يزيد وقسمه بين المسلمين، وكانت السّهمان على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية «1» بن جزء الزبيدى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق منه، ويهب، ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرّثّة، وهى السّقط من متاع البيت.
وقال محمد بن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصارىّ أحد بنى عبد الأشهل بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا وسلاحا.
واستشهد يوم بنى قريظة من المسلمين: خلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الأنصارى الخزرجى، طرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، ومات أبو سنان ابن محصن بن حرثان، أخو بنى أسد بن خزيمة.
وأنزل الله عز وجل فى شأن بنى قريظة قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)
قال قوله: (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ)
يعنى قريظة ظاهروا قريشا وغطفان (مِنْ صَياصِيهِمْ
أى حصونهم ومعاقلهم، واحدتها صيصية (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ
وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)
وهم النساء والذرارىّ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها)
قال يزيد بن رومان [وابن «2» ]