الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام
حقيقة الجود بذل المال، قال الله عزّوجلّ:(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)
وقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله استخلص هذا الدّين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزيّنوا دينكم بهما» وقال صلى الله عليه وسلم: «تجاوزوا عن ذنب السّخىّ فإن الله عزّوجلّ آخذ بيده كلّما عثر وفاتح له كلّما افتقر» وقال صلى الله عليه وسلم: «الجود من جود الله تعالى فجودوا يجود الله عليكم» . «ألا إن السخاء شجرة في الجنة أغصانها متدلية فى الأرض فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة» . «ألا إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة» . وقال علىّ بن عبد الله بن عبّاس: سادة الناس في الدنيا الأسخياء. وقال بعض الحكماء: الجواد من جاد بماله وصان نفسه عن مال غيره.
وقيل لعمرو بن عبيد: ما الكرم؟ فقال: أن تكون بمالك متبرّعا، وعن مال غيرك متورّعا. ويقال: مراتب السخاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار، فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر، والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك بشىء، وهو أشرف درجات الكرم، وبه استحقّوا ثناء الله عزّوجلّ عليهم في قوله:(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)
. ومن كلام ينسب الى جعفر بن محمّد: لا يتمّ المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره. الجود زكاة السّعادة، والإيثار على النفس موجب لاسم الكرم، وقال:
لا يستحى من بذل القليل فإن الحرمان أقلّ منه. قال بعض الشّعراء
أعط القليل ولا يمنعك قلته
…
فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود
وقال علىّ بن الحسين: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله.
وقال الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما: أيّها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وأن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه. وقيل ليزيد بن معاوية:
ما الجود؟ قال: أن تعطى المال من لا تعرف؛ فإنّه لا يصير اليه حتى يتخطّى من تعرف.
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: لو لم يكن في الكرم، إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسمّى بها فهو الكريم عزّوجلّ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: إن الله عزوجل قد عوّدنى بعادة أن يتفضل علىّ، وعودته أن أتفضل على عباده، وأخاف أن أقطع العادة فيقطع عنى. وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلّبىّ: إنك متلاف، قال: منع الجود، سوء ظنّ بالمعبود. قال الله تعالى:
(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
. وقال أكثم بن صيفىّ حكيم العرب: ذلّلوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها الى المحامد، وعلّموها المكارم، ولا تقيموها على خلق تذمّونه من غيركم، وصلوا من رغب اليكم وتحلّوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل، تتعجلوا الفقر؛ أخذه شاعر فقال
أمن خوف فقر تعجلته
…
وأخّرت إنفاق ما تجمع؟
فصرت الفقير وأنت الغنىّ
…
وما كنت تعدو الذى تصنع
وكتب رجل من البخلاء الى رجل من الأسخياء يأمره بالإنفاق على نفسه ويخوّفه الفقر، فأجابه:(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا)
وإنى أكره أن أترك أمرا قد وقع لأمر لعلّه لا يقع.
وكان سعيد بن العاصى يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا، فلينفق منه سرا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين، إما لمصلح، فلا يقلّ عليه شىء، وإما لمفسد، فلا يبقى له شىء. أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
اسعد بمالك في الحياة فإنما
…
يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فاذا جمعت لمفسد لم يغنه
…
وأخو الصّلاح قليله يتزيّد
وقال أبو ذرّ رضى الله عنه: لك في مالك شريكان، الحدثان، والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظّا فافعل. وقال بزرجمهر الفارسىّ:
إذا أقبلت عليك الدنيا، فانفق منها، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك، فانفق منها، فإنها لا تبقى؛ أخذ الشاعر هذا المعنى فقال
لا تبخلنّ بدنيا وهى مقبلة
…
فليس ينقصها التبذير والسّرف
وإن تولّت فأحرى أن تجود بها
…
فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن ظنّ بالله، ولو أن أهل البخل، لم يدخل عليهم من ضرّ بخلهم، ومذمّة الناس لهم، وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنّهم بربهم في الخلف، لكان عظيما؛ أخذه محمود الورّاق فقال
من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا
…
والبخل من سوء ظنّ المرء بالله
وقيل لأبى عقيل البليغ العراقىّ: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة اليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام، فوق رغبته في الشكر، وحاجته الى قضاء الحاجة، أشدّ من حاجة صاحبها.
وقال زياد: كفى بالبخيل عارا، أن اسمه لم يقع في حمد قطّ.
وقال أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أردّ أحدا عن حاجة طلبها، لأنه لا يخلو أن يكون كريما، فأصون له عرضه. أو لئيما، فأصون عرضى منه.
وقال إبراهيم بن المهدىّ: قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجفّ بيده قلم، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضعفاء: أخبرنى عن الحالة التى خفّفت عنك النّصب، وهوّنت عليك التعب، فى القيام بحوائج الناس، ما هى؟ قال: قد والله سمعت [تغريد الطّير بالأسحار، فى فروع الأشجار، وسمعت خفق أوتار العيدان «1» ] وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قطّ، طربى من ثناء حسن، بلسان حسن، على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ لمنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب، لطالب شاكر؛ قال إبراهيم: فقلت، لله أبوك! لقد حشيت كرما. وكان طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرىّ من أجود قريش في زمانه، فقالت له امرأته: ما رأيت قوما ألأم من إخوتك، فقال لها: لمه؟ وأنّى قلت ذاك؟ فقالت: أراهم إذا أيسرت أتوك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله كرمهم، يأتوننا في حال القوّة عليهم، ويتركوننا في حال العجز عنهم.
وحكى أن رجلا شيخا أتى سعيد بن سالم، وكلّمه في حاجة وما شاه، فوضع الشيخ زجّ عصاه التى يتوكأ عليها، على رجل سعيد حتّى أدماها، فما تأوّه لذلك، وما نهاه، فلما فارقه، قيل له: كيف صبرت على هذا منه؟ فقال: خفت أن يعلم جنايته، فينقطع عن ذكر حاجته.