الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من آثار العيان؟ إن اللسان قد يكذب، والحال لا تكذب، ولله در نصيب حيث يقول
فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله
…
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ثم قال: أعلمت أن ناووس أبرويز، أمدح لأبرويز من زهير لآل سنان؟
وقالت الحكماء: لسان الحال، أصدق من لسان الشكوى.
وقد أجاد ابن الرومىّ في هذا المعنى فقال
حالى تبوح بما أوليت من حسن
…
فكلّ ما تدعيه غير مردود
كلّى هجاء، وقتلى لا يحلّ لكم
…
فما يداويكم منّى سوى الجود
وقالوا: شهادات الأحوال، أعدل من شهادات الرجال.
ذكر ما قيل في الوعد والإنجاز
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وعد المؤمن كأخذ باليد» .
وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: الوعد مرض في الجود، والإنجاز دواءه.
ومن كلامه: المسئول حرّ حتّى يعد، ومسترقّ بالوعد حتى ينجز.
وقال الزّهرىّ: حقيق على من أزهر بالوعد، أن يثمر بالفعل.
وقال مسلم بن الوليد عن أبيه قال: سألت الفضل بن سهل حاجة، فقال: أشرّفك اليوم بالوعد، وأحبوك غدا بالإنجاز، فإنى سمعت يحيى بن خالد يقول: المواعيد شبكة من شباك الكرام، يصيدون بها محامد الأحرار، ولو كان المعطى لا يعد، لارتفعت مفاخر إنجاز الوعد، ونقص فضل صدق المقال.
وقال الأبرش الكلبىّ لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، لا تصنع إلىّ معروفا حتى تعدنى، فإنه لم يأتنى منك سيب على غير وعد، إلا هان علىّ قدره، وقلّ منّى
شكره، فقال له هشام: لئن قلت ذلك، لقد قال سيّد أهلك أبو مسلم الخولانىّ:
أنجع المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد، معروف منتظر من وعد لا يكدّر بالمطل.
وكان يحيى بن خالد لا يقضى حاجة إلا بوعد.
وقالت أعرابيّة لرجل: مالك تعطى ولا تعد، فقال: مالك والوعد؟ قالت ينفسح به البصر، وينشر فيه الأمل، وتطيب بذكره النفس، ويرخى به العيش، وتربح به المدح بالوفاء.
قيل: كلّم منصور بن زياد يحيى بن خالد في حاجة لرجل فقال: عده عنّى قضاءها، قال: وما يدعوك أعزّك الله الى العدة مع وجود القدرة؟ فقال يحيى: هذا قول من لا يعرف موضع الصنائع من القلوب، إن الحاجة إن لم تتقدمها بوعد ينتظر به نجحها؛ لم تتجاذب الأنفس بسرورها، ولم تتلذذ بتأميلها، وإن الوعد تطعّم، والإنجاز طعام، وليس من فاجأه طعام، كمن وجد رائحته، وتمطّق له وتطعّمه، ثم طعمه، فدع الحاجة تحتّم بالوعد، ليكون لها عند المصطنع اليه حسن موقع، ولطف محلّ.
وقال عيسى بن ماهان: إنى أحبّ أن أهب بلا وعد، وأحبّ أن أعد، لأخرج من جملة المخلفين، وأدخل في عدد الوافين، ويؤثر عنّى كرم المنجزين، فإن من سبق فعله وعده، وصف بكرم فرد، وسقط عنه جميع ما ذكرت.
قال ذكر العباس المأمون فقال: إنه ألقح معروفه عندى بالوعد، ونتجه بالنّجح، وأرضعه بالزيادة، وشيّبه بالتعهد، وهرّمه باستتمامه من جهاته، وهنأه «1» بترك الامتنان به.
وشكا رجل جعفر بن يحيى لأبيه: أنه وعده وعدا ومطله به، فوقّع: يا بنىّ، أنتم معاقل الأحرار ومظانّ المطالب ومعادن الشكوى، فكونوا سواء في الأقوال والأفعال، فإن الحرّ، يدّخر وعد الحر ويعتقده وينفقه قبل ملكته، فإن أخفق أمله، كان سببا لذمّه واتّهامه وسوء ظنّه، حتّى يوارى قبح ذلك حسن يقينه، فأنجز الوعد، وإلا فأقصر القول، فإنه أعذر والسلام.
قال: كلّم المأمون في الحسين بن الضحّاك الخليع أن يردّ عليه رزقه، فقال: أليس هو القائل في الأمين
فلا فرح المأمون بالملك بعده
…
ولا زال في الدّنيا طريدا مشردا
فما زالوا يتلطفون معه في القول، إلى أن أذن له أن ينشده، فأنشده
أبن لى فإنى قد ظمئت الى الوعد
…
متى تنجز الوعد المؤكّد بالعهد؟
أعيذك من صدّ الملوك وقد ترى
…
تقطّع أنفاسى عليك من الوجد
فما لى شفيع عند حسنك غيره
…
ولا سبب إلا التمسك بالودّ
أيبخل فرد الحسن فرد صفاته
…
علىّ وقد أفردته بهوى وحدى
رأى الله عبد الله خير عباده
…
فملّكه والله أعلم بالعبد
فقال له المأمون: هذه بتلك، وقد عفونا عنك فقال: يا أمير المؤمنين، فأتبع عفوك إحسانك، فأمر بردّ أرزاقه عليه، وكانت في كلّ شهر خمسمائة دينار، فقال المأمون:
لولا أنى نويت عفوا عنه، وجعلت ذلك وعدا له من قبل، ما فعلته، وإنما ذكر الوعد في تشبيبه يذكرنيه.
وقال بعض ملوك العجم: البخل بعد الوعد، يضعف قبحه على البخل قبله، فما قولك في أمر، البخل أحسن منه؟