الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان بعضهم يقول لولده إذا رأى حرصه في الطعام: يا بنىّ، عوّد نفسك الأثرة، ومجاهدة الشهوة، ولا تنهس نهس السّباع، ولا تخضم خضم البراذين، فإن الله جعلك إنسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة.
وحكى عن بعض الكتاب قال: تغديت مع المأمون فالتفت إلىّ وقال: خلال قبيحة عند الجلوس على الطعام: كثرة مسح اليد، والانكباب على الطعام، وكثرة أكل البقل، ومعنى ذمّه هذه الخلال الثلاث: أنه إذا أكثر مسح اليد فإنما ذلك من غمسها فى الطعام، والانكباب يدلّ على شدّة الحرص وزيادة الشره والنّهم. قال الشاعر
لقد سترت منك الخوان عمامة
…
دجوجيّة ظلماؤها ليس تقلع
وأما البقل، فإن الحاجة إلى البلغة منه، وفي الإكثار منه تشبّه بالبهائم، لأنه مرعاها.
وقيل: الأكل ثلاثة: مع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ومع أبناء الدنيا بالأدب.
وقيل لبعض الحكماء: أىّ الأوقات أحمد للأكل؟ فقال: أما من قدر فإذا اشتهى، وأما من لم يقدر فإذا وجد.
ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفّة عنها
قال الله عزوجل: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
وفي الحديث أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال:
«من زاره أخوه المسلم فقرّب إليه ما تيسر غفر له وجعل في طعامه البركة، ومن قرّب إليه ما تيسر فاستحقر ذلك كان في مقت من الله حتّى يخرج» . وقالت عائشة رضى الله عنها: أولم النبىّ صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه مدّين من شعير.
وقيل: كان عيسى بن مريم صلوات الله عليه يقول: اعملوا ولا تغملوا لبطونكم، وإياكم وفضول الدنيا، فإن فضولها رجز، هذه طير السماء تغدو وتروح، ليس معها من أرزاقها شىء، لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها، فإن قلتم: بطوننا أعظم من بطونها، فهذه الوحش تغدو وتروح، وليس معها من أرزاقها شىء والله يرزقها.
وروى أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لما دخل شهر رمضان كان يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد على لقمتين أو ثلاث، فقيل له، فقال: إنما هى أيّام قلائل يأتى أمر الله وأنا خميص، فقتل من ليلته.
وفي الحديث عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قلّ طعمه صحّ بدنه وضفا قلبه، ومن كثر طعمه سقم جسمه وقسا قلبه» . وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما زيّن الله رجلا بزينة أفضل من عفاف بطنه» . قال حاتم
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا
…
من الجوع أخشى الذّم أن أتضلعا
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله
…
وفرجك نالا منتهى الذّم أجمعا
وقال بعضهم: رأيت مجنونا ببغداد، وهو على باب دار فيها صنيع والناس يدخلون، وكنت ممن دعى، فقلت: ألا تدخل فتأكل؟ فإن الطعام كثير، قال:
وإن كثر فإنى ممنوع منه، فقلت: كيف والباب مفتوح، ولا مانع من الدخول؟
فقال: أآكل طعاما لم أدع إليه؟ لقد اضطرّنى إلى ذلك غير الجوع، فقلت:
ما هو؟ قال: دناءة النفس وسوء الغريزة، قال الشاعر
وإنّى لعفّ عن مطاعم جمّة
…
إذا زيّن الفحشاء للنفس جوعها
وقال آخر
وأعرض عن مطاعم قد أراها
…
فأتركها وفي البطن انطواء
فلا وأبيك ما في العيش خير
…
وفي الدنيا إذا ذهب الحياء!
قال الجنيد: مرّ بى الحارث بن أسد المحاسبىّ، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت:
يا عمّ، تدخل الدار وتتناول شيئا؟ قال: نعم، فدخل، وقدّمت إليه طعاما حمل إلىّ من عرس، فأخذ لقمة فلاكها ونهض فألقاها في الدّهليز ومضى، فالتقيت به بعد أيام، فقلت له في ذلك، فقال: كنت جائعا، وأردت أن أسرّك بأكلى، ولكن بينى وبين الله تعالى علامة، أن لا يسوّغنى طعاما فيه شبهة، فمن أين كان ذلك الطعام؟ فأخبرته، ثم قلت له: تدخل اليوم؟ قال: نعم، فقدّمت إليه كسرا كانت لنا فأكل وقال: إذا قدّمت لفقير شيئا، فقدّم مثل هذا.
روى أن عمرو بن العاص قال لأصحابه يوم الحكمين: أكثروا لهم الطعام، فو الله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا؛ فلما وجد معاوية ما قال صحيحا، قال: البطنة تذهب الفطنة.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشرب، فإن القلوب تموت كالزّرع إذا كثر عليه الماء» .
ودخل عمر رضى الله عنه على ابنه عاصم وهو يأكل لحما فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا اليه، قال: ويحك! قرمت إلى شىء فأكلته، كفى بالمرء شرها أن يأكل كلّ ما يشتهى.
قال ابن دريد: العرب تعيّر بكثرة الأكل، وأنشد
لست بأكّال كأكل العبد
…
ولا بنوّام كنوم الفهد