الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما قيل في حدّ العقل وماهيّته وما وصف به
وقد اختلف الحكماء، فى حد العقل، فقيل: حدّه الوقوف عند مقادير الأشياء قولا وفعلا، وقيل: النظر في العواقب، وقال المتكلمون: هو اسم لعلوم اذا حصلت للإنسان صحّ تكليفه. وقيل: العاقل من له رقيب على شهواته، وقيل:
هو من عقل نفسه عن المحارم، وقال عمرو بن العاص: أن يعرف خير الخيرين، وشرّ الشرين.
قال أبو هلال: ومن العجب أن العرب تمثّلت في جميع الخصال، بأقوام جعلوهم أعلاما فيها، فضربوا بها المثل اذا أرادوا المبالغة، فقالوا: أحلم من الأحنف، ومن قيس بن عاصم، وأجود من حاتم، ومن كعب بن مامة، وأشجع من بسطام، وأبين من سحبان، وأرمى من ابن تقن، وأعلم من دغفل، ولم يقولوا: أعقل من فلان، فلعلّهم لم يستكملوا عقل أحد، على حسب ما قال الأعرابىّ، وقد قيل له: حدّ لنا العقل، فقال: كيف أحدّه ولم أره كاملا في أحد قطّ.
وقيل لحكيم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملا فلا حدّ له.
وقالوا: لكلّ شىء غاية وحدّ، والعقل لا غاية له ولا حدّ، ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطّيب.
واختلفوا في ماهيّة العقل، كما اختلفوا في حدّه، فقال بعضهم: هو نور وضعه الله تعالى طبعا وغريزة في القلب، كالنور في العين وهو البصر، فالعقل نور في القلب، والبصر نور في العين، وهو ينقص ويزيد، ويذهب ويعود، وكما يدرك بالبصر شواهد
الأمور، كذلك يدرك بالعقل كثير من المحجوب والمستور، وعمى القلب كعمى البصر، قال تعالى:(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الأعمى من عمى بصره، ولكن من عميت بصيرته» .
وقال عبد الله بن عمر بن معاوية عن عمر بن عتبة المعروف بالعتبىّ: العقل عقلان، عقل تفرّد الله تعالى بصنعه، وهو الأصل، وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفرع، فاذا اجتمعا، قوّى كلّ واحد منهما صاحبه، تقوية النار في الظّلمة للبصر.
نظم بعض الشعراء هذا اللفظ فقال، ويروى لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه
رأيت العقل عقلان:
…
فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع
…
اذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس
…
وضوء العين ممنوع
وأكثر الناس على أنّ العقل في القلب، ودليله قوله عزوجلّ:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العقل في القلب يفرق به بين الحقّ والباطل» .
وقال بعضهم: هو في الدماغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
وأما ما وصف به فقيل: العقل وزير رشيد، وظهير سعيد، من عصاه أرداه، ومن أطاعه أنجاه.
وقال سعيد بن جبير: لم تر عيناى أجلّ من فضل عقل يتردّى به الرجل إن انكسر جبره، وإن تصدّع أنعشه، وإن ذلّ أعزّه، وإن أعوج أقامه، وإن عثر اقاله، وإن افتقر أغناه، وإن عرى كساه، وإن غوى أرشده، وإن خاف أمّنه، وإن حزن أفرحه، وإن تكلّم صدقه، وإن أقام بين أظهر قوم اغتبطوا به، وإن غاب عنهم أسفوا عليه، وإن بسط يده قالوا: جواد، وإن قبضها قالوا: مقتصد، وإن أشار قالوا: عالم، وإن صام قالوا: مجتهد، وإن أفطر قالوا: معذور.
قال بعض الشعراء
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا
…
وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله
…
وما عاقل في بلدة بغريب
وقال بعض الحكماء: إذا غلب العقل الهوى، صرف المساوىء الى المحاسن، فجعل البلادة حلما، والحدّة ذكاء، والمكر فطنة، والهذر بلاغة، والعىّ صمتا، والعقوبة أدبا، والجبن حذرا، والإسراف جودا.
وقيل: لو صوّر العقل، لأضاء معه الليل، ولو صوّر الجهل، لأظلم معه النهار.
قال المتنبّى
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
…
أدنى الى شرف من الإنسان
وقد ندب الى صحبة العقلاء.
قال الزّهرىّ: اذا أنكرت عقلك، فاقدحه بعاقل. قال ابن زرارة: جالس العقلاء أعداء كانوا أم أصدقاء، فإنّ العقل يقع على العقل.
قال بعض الشعراء
عدوّك ذو العقل أبقى عليك
…
وأبقى من الوامق الأحمق
وقال آخر
لله درّ العقل من راشد
…
وصاحب في اليسر والعسر
وحاكم يقضى على غائب
…
قضيّة الشاهد للأمر
وإنّ شيئا بعض أحواله
…
أن يفصل الخير من الشرّ
له قوّى، قد خصّه ربّه
…
بخالص التقديس والطّهر
وقال آخر
إذا لم يكن للمرء عقل فإنه
…
- وإن كان ذا قدر على الناس- هيّن
وإن كان ذا عقل أجلّ لعقله،
…
وأفضل عقل عقل من يتبيّن
وقال آخر
العقل حلّة فخر من تسر بلها
…
كانت له نشبا يغنى عن النّشب
وأفضل العقل ما في الناس كلّهم
…
بالعقل ينجو الفتى من حومة العطب
وقال ابن دريد
وأفضل قسم الله للمرء عقله
…
فليس من الخيرات شىء يقاربه
فزين الفتى في الناس صحّة عقله
…
وإن كان محظورا عليه مكاسبه
ويزرى به في الناس قلّة عقله
…
وإن كرمت أعراقه ومناسبه
اذا أكمل الرحمن للمرء عقله
…
فقد كملت أخلاقه ومآربه
وقال آخر
ما وهب الله لامرئ هبة
…
أشرف من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى، فإن عدما
…
فإنّ فقد الحياة أنفع به