الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطبخ بعض البخلاء قدرا، وجلس يأكل مع زوجته فقال: ما أطيب هذا الطعام! لولا كثرة الزّحام، فقالت: وأىّ زحام وما ثمّ إلا أنا وأنت؟ قال: كنت أحبّ أن أكون أنا والقدر.
وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام، وأغلق الباب، فقال: يا مولاى، ليس هذا بحزم، وإنّما أغلق الباب، وأقدّم الطعام، فقال له: أنت حرّ لوجه الله.
وعزم بعض إخوان أشعب عليه ليأكل عنده، فقال: إنّى أخاف من ثقيل يأكل معنا فينغّص لذّتنا، فقال: ليس عندى إلا ما تحبّ فمضى معه فبينما هما يأكلان، إذا بالباب قد طرق، فقال أشعب: ما أرانا إلا صرنا لما نكره، فقال صاحب المنزل: إنه صديق لى، وفيه عشر خصال، إن كرهت منها واحدة لم آذن له، فقال اشعب: هات، قال: أوّلها، أنه لا يأكل ولا يشرب، فقال: التسع لك ودعه يدخل، فقد أمنّا منه ما نخافه.
ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة
والتطفيل من اللؤم، وهو التعرّض إلى الطعام، من غير أن يدعى إليه، وسنذكر تلو هذا الفصل آداب الأكل، والمؤاكلة، والاقتصاد في المطاعم، والعفّة عنها، وما يجرى هذا المجرى، وإن كان خارجا عنه، وإنما الشىء يذكر بالشىء، والعرب تقول للطفيلىّ: الوارش، والراشن، قيل: هو مشتق من الطّفل، وهو الظلمة لأن الفقير من العرب كان يحضر الطعام الذى لم يدع إليه مستترا بالظلمة، لئلا يعرف.
وقيل: سمّى بذلك، لإظلام أمره على الناس، لا يدرى من دعاه. وقيل: بل
من الطّفل لهجومه على الناس كهجوم الليل على النهار، فيكون من الظلمة، ولذلك قيل:«أطفل من ليل على نهار» ، وأوّل من سمى بهذا الاسم: طفيل العرائس، وإليه ينسب الطّفيليّون، وكان يقول لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرسا، فلا يلتفت تلفّت المريب، ويتخيّر المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام، فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل المرأة أنه من أهل الرجل، ويظنّ أهل الرجل أنه من أهل المرأة، وإن كان البوّاب غليظا فاحشا، فليبدأ به، ويأمره وينهاه من غير أن يعنّف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.
وأشهر من نسب إليه هذا الاسم، وكثرت عنه الحكايات، بنان الطّفيلىّ، وهو عبد الله بن عثمان، ويكنى أبا الحسن، ولقبه بنان، وأصله مروزىّ وأقام ببغداد، وكان نقش خاتمه، «مالكم لا تأكلون» . حكى أن رجلا سأله أن يدعو له، فقال:
اللهم ارزقه صحة الجسم وكثرة الأكل، ودوام الشهوة، ونقاء المعدة، وأمتعه بضرس طحون، ومعدة هضوم، مع السعة والدّعة، والأمن والعافية؛ وقال يوصى بعض أصحابه: إذا قعدت على مائدة وكان موضعك ضيّقا فقل للذى يليك: لعلى ضيقت عليك فإنه يتأخر إلى خلف، ويقول: موضعى واسع، فيتسع عليك موضع رجل؛ وقال له طفيلىّ: أوصنى، فقال: لا تصادفنّ من الطعام شيئا، فترفع يدك عنه وتقول:
لعلّى أصادف ما هو أطيب منه، فإن هذا عجز ووهن، قال: زدنى، قال: إذا وجدت خبزا فيه قلّة، فكل الحروف، فإن كان كثيرا فكل الأوساط، قال: زدنى، قال:
لا تكثر شرب الماء وأنت تأكل، فإنه يصدّك عن الأكل، ويمنعك من أن تستوفى، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فكل منه أكل من لم يره قط، وتزوّد منه زاد من لا يراه أبدا، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فاجعله زادك إلى الله تعالى،
وقال: إذا دعاك صديق لك، فاقعد يمنة البيت فإنّك ترى ما تحبّ، وتسودهم في كلّ شىء، وتسبقهم إلى كلّ خير، وأنت أوّل من يغسل يده والمنديل جافّ، والماء واسع، والخوان بين يديك يوضع، والنبيذ أوّل القنيّنة ورأسها تشربه، والنقل منتخب، يوضع بين يديك، وتكون أوّل من يتبخّر، فإذا أردت أن تقوم لحاجة لم تحتج أن تتخطّاهم، وأنت في كل سرور الى أن تنصرف. قال البديع الهمذانىّ في طفيليّين يشبههم ببنان
خلفتم بنانا فكم من أديب
…
من الغيظ عضّ عليكم بنانا
إذا ما النهار بدا ضوءه
…
غدوتم خماصا ورحتم بطانا
ومنهم: عثمان بن درّاج، قيل له: كيف تصنع إذا لم يدخلك أهل العرس؟ قال:
أنوح على الباب، فيتطيّرون فيدخلوننى. وحكى أبو الفرج الأصفهانى: أن عثمان هذا، كان يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطابىّ أحد ولد زيد بن الخطاب، فقال له:
ويحك! إنى أبخل بأدبك وعلمك، وأضنّ بك عما أنت فيه من التطفيل ولى وظيفة راتبة في كلّ يوم، فالزمنى وكن مدعوّا، أصلح لك مما تفعل، فقال: يرحمك الله فأين لذّة الجديد، وطيب التنقل كل يوم إلى مكان؟ وأين هو يناك ووظيفتك من احتفال العرس؟ وأين ألوانك من ألوان الوليمة؟ قال: فأما إذا ثبت ذاك: فإذا ضاقت عليك المذاهب فأتنى قال: أمّا هذا فنعم؛ قال: وقال له رجل: ما هذه الصّفرة التى في لونك؟ قال: من الفترة التى بين القصعتين، ومن خوفى في كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع؛ وقيل له مرة: هل تعرف بستان فلان؟ فقال: إى والله، وإنه للجنة الحاضرة في الدنيا، قيل له: فلم لا تدخل اليه فتأكل من ثماره، وتقيل
تحت أشجاره، وتسبح في أنهاره؟ قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال، وعثمان هذا الذى يقول
لذّة التطفيل دومى
…
وأقيمى لا تريمى
أنت تشفين غليلى
…
وتسلّين همومى
ولهم أخبار وحكايات، منها: ما نقل عن نصر بن علىّ الجهضمىّ أنه قال:
كان لى جار طفيلىّ، إذا دعيت إلى مدعاة ركب معى وجلس حيث أجلس، فيأكل وينصرف، وكان نظيفا عطرا، حسن اللباس والمركب، وكنت لا أعرف من أمره إلا الظاهر، فاتفق لجعفر بن القاسم الهاشمىّ حقّ دعا له أشراف البصرة ووجوهها، وهو يومئذ أمير البصرة، فقلت في نفسى: إن تبعنى هذا الرجل إلى دار الأمير لأخزيته، فلما كان يوم الحضور، جاءنى الرسول، فركبت، وإذا به قد تبعنى حتى دخل بدخولى، وارتفع حيث أجلست، فلما حضرنا الطعام، قلت: حدّثنا درست ابن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل إلى دار قوم بغير إذنهم، دخل سارقا، وخرج مغيرا، ومن دعى ولم يجب فقد عصى الله ورسوله» ، فظننت أنى قد أشرفت على الرجل وقصّرت من لسانه، فأقبل علىّ وقال: أعيذك بالله من هذا الكلام في دار الأمير، فإن الأشراف لا يحتملون التعريض باللؤم، وقد حظر الدين التعريض، وعزّر عليه عمر رضى الله عنه، ووليمة الأمير دعاء لأهل مصره فإنه سليل أهل السقاية، والرفادة، والمطعمين الأفضلين الذين هشموا الثّريد، وأبرزوا الجفان لمن غدا إليها، ثم لا توزع وأنت فى بيت من العلم معروف من أن تحدّث عن درست بن زياد وهو ضعيف عن أبان ابن طارق وهو متروك الحديث بحكم رفعه الله إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمون
على خلافه، لأن حكم السارق القطع، والمغير يعزّر على ما يراه الإمام، وهذان حكمان لا ينفذان على داخل دارا في مجمع فيتناول لقما من فضل الله الذى آتى أهلها ثم لا يحدث حدثا حتى يخرج عنها، وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم:«طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الأربعة» . حدّثنا بذلك أبو عاصم النبيل عن ابن جريح عن أبى الزبير عن جابر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأين أنت عن هذا الحديث الصحيح الإسناد والمتن؟ قال نصر: فأصابتنى خجلة شديدة، فلما نظر الرجل إلى ما بى أكل ونهض قلبى، فلما خرجت وجدته واقفا على دابته بالباب، فلما رآنى تبعنى، ولم يكلّمنى ولم أكلّمه، إلا أننى سمعته يتمثل
ومن ظنّ ممّن يلاقى الحروب
…
بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا
وقيل: مرّ طفيلىّ بسكة النّخع بالبصرة على قوم، وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم، وأخذ مجلسه مع من دعى، فأنكره صاحب المنزل، فقال له: لو تأنّيت أو وقفت حتّى يؤذن لك، أو يبعث إليك، فقال: إنما اتّخذت البيوت ليدخل إليها، ووضعت الموائد ليؤكل ما عليها، وما وجّهت بهديّة فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، واطّراحها صلة، وقد جاء في الأثر:«صل من قطعك، وأعط من حرمك» ، ثم أنشد
كلّ يوم أدور في عرصة الدّا
…
ر أشمّ القتار «1» شمّ الذّباب
فاذا ما رأيت آثار عرس
…
أو دخانا أو دعوة الأصحاب
لم أعرّج دون التقحّم لا أر
…
هب شتما ولكرة البوّاب
مستهينا بمن دخلت عليه
…
غير مستأذن ولا هيّاب
فترانى ألفّ بالرغم منه
…
كلّ ما قدّموه لفّ العقاب
ووصف طفيلىّ نفسه فقال
نحن قوم إذا دعينا أجبنا
…
ومتى ننس يدعنا التطفيل
قولنا: علّنا دعينا فغبنا
…
أو أتانا فلم يجدنا الرسول
وقال آخر
نحن قوم نحبّ هدى رسول الله
…
هديا به الصواب أصبنا
فادعنا كلّما بسطت فإنّا
…
لو دعينا إلى كراع أجبنا
وقال آخر
نحن قوم إن جفا النّا
…
س وصلنا من جفانا
لا نبالى صاحب الدّا
…
ر نسينا أم دعانا
وقال آخر وقد أقبل إلى طعام، من غير أن يدعى إليه فقال له صاحب الصنيع:
من دعاك؟ فأنشد
دعوت نفسى حين لم تدعنى
…
فالحمد لى لا لك في الدّعوة
وكان ذا أحسن من موعد
…
إخلافه يدعو إلى جفوة
وقد مدح أبو روح ظفر بن عبد الله الهروىّ طفيليّا ولم يسبق إليه، فقال
إنّ الطفيلىّ له حرمة
…
زادت على حرمة ندمانى
لأنه جاء ولم أدعه
…
مبتدئا منه بإحسان
ودخل طفيلىّ إلى قوم فقالوا له: ما دعوناك! فما الذى جاء بك؟ فقال:
إذا لم تدعونى ولم آت، وقعت وحشة، فضحكوا منه وقرّبوه.
وقيل: مرّ طفيلىّ على قوم يتغدّون، فقال: سلام عليكم معشر اللئام، فقالوا:
لا والله! بل كرام، فثنى ركبته ونزل، وقال: اللهمّ اجعلهم من الصادقين، واجعلنى من الكاذبين.
قال هشام أخوذى الرمّة لرجل أراد سفرا: إن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت أن لا تكون كلب الرّفاق فافعل.
ونظر طفيلىّ إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فظنهم يدعون الى صنيع، فتلطف حتّى دخل في لفيفهم وصار كواحد منهم، فلما بلغوا صاحب الشّرطة، أمر بضرب أعناقهم، فقدّموا واحدا بعد واحد حتّى انتهوا إلى الطفيلىّ فلما قدّم للقتل التفت إلى صاحب الشّرطة، فقال له: إنّى والله ما أنا منهم، ولا أعلم بما يدينون، وإنما أنا طفيلىّ ظننتهم يذهب بهم إلى صنيع، فتلطّفت حتّى دخلت في جملتهم، فقال ليس هذا مما ينجيك، اضربوا عنقه، فقال: أصلحك الله، إن كنت عزمت على قتلى، فأمر السياف أن يضرب بطنى بالسيف، فإنه هو الذى أوقعنى في هذه الورطة، فضحك، وكشف عنه، فأخبر أنه طفيلىّ معروف، فخلّى سبيله.
وحكى أن المأمون أمر أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له من أهل البصرة، فجمعوا، فأبصرهم طفيلىّ، فقال: ما اجتمعوا إلا لصنيع، فدخل في وسطهم ومضى بهم الموكّلون، حتّى انتهوا إلى زورق قد أعدّلهم، قال الطفيلىّ: هى نزهة، فدخل معهم الزّورق، فلم يكن بأسرع من أن قيّدوا، وقيّد معهم الطفيلىّ، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعوهم بأسمائهم رجلا رجلا، ويأمر بضرب أعناقهم، حتّى وصل إلى الطفيلىّ، وقد استوفى العدّة، فقال للموكلين: ما هذا؟
قالوا: والله ما ندرى، غير أنّا وجدناه مع القوم، فجئنا به، فقال له المأمون:
ما قصّتك؟ ويلك! فقال يا أمير المؤمنين: امرأتى طالق إن كنت أعرف من أقاويلهم شيئا ولا مما يدينون به وإنما أنا رجل طفيلىّ، رأيتهم مجتمعين، فظننت صنيعا يدعون إليه، فضحك المأمون وقال: يؤدّب، وكان إبراهيم بن المهدىّ قائما على رأس المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، هب لى أدبه، وأحدثك بحديث عجيب عن نفسى، قال: قل يا إبراهيم، قال: يا أمير المؤمنين، خرجت من عندك يوما، فطفت في سكك بغداد متطرّفا، حتّى انتهيت إلى موضع كذا، فشممت من قتار أبازير قدور قد فاح، فتاقبت نفسى إليها، وإلى طيب ريحها، فوقفت إلى خياط، فقلت له: لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من التّجار، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فرميت بطرفى إلى الدار، فإذا شبّاك فيها مطلّ، وإذا كفّ قد خرج من الشّبّاك ومعصم، فشغلنى حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، فبهتّ ساعة، ثم أدركنى ذهنى، فقلت للخياط: أهو ممّن يشرب النبيذ؟
قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، وهو لا ينادم إلا تجّارا مثله مستورين، فإنى لكذلك، إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدّرب، فقال لى الخياط:
هؤلاء منادماه، فقلت: ما اسماهما وما كناهما؟ فقال: فلان وفلان، فحرّكت دابتى وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأكما أبو فلان، وسايرتهما حتّى بلغنا الباب فأجلّانى وقدّمانى، فدخلت ودخلا، فلما رآنى صاحب المنزل معهما، لم يشكّ أنى منهما، فرحّب بى وأجلسنى في أفضل المواضع، فجىء يا أمير المؤمنين بمائدة عليها خبز نظيف وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسى: هذه الألوان قد أكلتها، بقيت الكفّ، كيف إلى صاحبتها؟
ثم رفع الطعام، وجىء بالوضوء، ثم صرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكل منزل، وجعل
صاحب المنزل يلطف بى، ويميل علىّ بالحديث، حتّى إذا شربنا أقداحا، خرجت علينا جارية، كأنها بدر، تتثنى يا أمير المؤمنين كالخيزران، فأقبلت، وسلّمت غير خجلة وثنيت لها وسادة، فجلست عليها، وأتى بالعود فوضع في حجرها، فجسته فاستبينت حذقها في جسّها، ثم اندفعت تغنّى
توهّمها طرفى فأصبح خدّها
…
وفيه مكان الوهم من نظرى أثر
تصافحها كفّى فتؤلم كفّها
…
فمن مسّ كفّى في أناملها عقر
فهيّجت يا أمير المؤمنين بلابلى، وطربت لحسن شعرها، ثم اندفعت تغنّى
أشرت إليها هل عرفت مودّتى؟
…
فردّت بطرف العين إنى على العهد
فحدت عن الإظهار عمدا لسرها
…
وحادت عن الإظهار أيضا على عمد
فصحت يا أمير المؤمنين، وجاءنى من الطرب ما لم أملك نفسى معه، ثم اندفعت فغنّت الصوت الثالث
أليس عجيبا أن بيتا يضمّنى
…
وإياك لا نخلو ولا نتكلّم!
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها
…
وتقطيع أكباد على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب
…
وتكسير أجفان وكفّ تسلّم
فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حدقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، فقلت: بقى عليك يا جارية، فضربت بالعود على الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فندمت على ما كان منّى، ورأيت القوم قد تغيّروانى، فقلت:
أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى، فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه ثم غنيّت
ما للمنازل لا يجبن حزينا
…
أصممن أم قدم البلى فبلينا؟
راحوا العشيّة روحة مذكورة
…
إن متن متنا أو حيين حيينا
فما استتممته يا أمير المؤمنين، حتّى قامت الجارية، فأكبّت على رجلىّ تقبّلهما، وقالت: معذرة يا سيدى، فو الله ما سمعت أحدا يغنّى هذا الصوت غناءك، وقام مولاها وأهل المجلس، ففعلوا كفعلها، وطرب القوم واستحثّوا الشرب فشربوا، ثم اندفعت أغنّى
أفى الحقّ أن تمشى ولا تذكرنّنى
…
وقد همعت عيناى من ذكرها الدّما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتى
…
لها عسل منى وتبذل علقما
فردّى مصاب القلب أنت قتلته
…
ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
فطرب القوم حتّى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتّى تراجعوا، ثم غنّيت الثالث
هذا محبّك مطويّا على كمده
…
عبرى مدامعه تجرى على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته
…
مما به ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدى، لا ما كنّا فيه منذ اليوم، وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب، صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه، فلما شربنا أقداحا، قال: يا سيدى، ذهب ما مضى من أيامى ضياعا، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ ولم يزل يلحّ علىّ، حتّى أخبرته الخبر، فقام وقبّل رأسى، وقال: وأنا أعجب أن يكون هذا الأدب إلا لملك! وإنى لجالس مع الخلافة ولا أشعر، ثمّ سألنى عن قصتى، فأخبرته حتّى بلغت إلى صاحبة الكف والمعصم، فقال للجارية: قومى فقولى لفلانة تنزل، فلم تزل تنزل
جواريه واحدة واحدة، فأنظر إلى كفّها ومعصمها، وأقول: ليس هى هذه! حتّى قال: والله ما بقى غير أختى وأمّى، والله لأنزلهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك، ابدأ بالأخت قبل الأمّ فعسى أن تكون هى، فبرزت، فلما رأيت كفّها ومعصمها، قلت: هى هذه فأمر! غلمانه، فساروا إلى عشرة مشايخ من جلّة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثمّ قال للمشايخ: هذه أختى فلانة، أشهدكم أنى قد زوّجتها من سيدى إبراهيم بن المهدىّ، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلت النكاح، فدفع إليها بدرة، وفرّق الأخرى على المشايخ وصرفهم، ثم قال: يا سيدى، أمهّد بعض البيوت فتنام فيه مع أهلك، فأحشمنى ما رأيت من كرمه، فقلت: أحضر عماريّة «1» وأحملها إلى منزلى، ففعل، فو الله يا أمير المؤمنين، لقد أتبعها من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين، يشير إلى ولده، فعجب المأمون من كرم الرجل وألحقه في خاصة أهله، وأطلق الطفيلىّ وأجازه.
ومن إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ وهو الذى حاز قصبات السبق في فن الأدب على أترابه، وفاز من البلاغة بقدحها المعلّى في عنفوان شبابه، رسالة وضعها في هذا الفنّ، وصار له بها على أهله غاية المنّ، مع نزاهة نفسه الأبيّة، وارتفاعه عن المطاعم الدنية، وإنما وضعها تجربة لخاطره، وضمها إلى فوائد دفاتره، وهى:
هذا عهد عهده زارد بن لاقم، لبالع بن هاجم، استفتحه بأن قال: الحمد لله مسهل أوقات اللذّات وميسّرها، وناظم أسباب الخيرات ومكثّرها، وجاعل أسواق الأفراح قائمة على ساق، جابرة لمن ورد إليها بأنواع الإرفاد وأجناس الإرفاق، أحمده
على أن أحلّنا في منازل السادات، أرفع الدرجات، وأحلّ لنا من الأطعمة الفائقة الطيّبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهدينا إلى المقام الرفيع، وتخصنا بالمحل الجسيم المنيع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رب المكارم الجسام، ومعدن الجسارة والإقدام، الجامع بين فضيلتى الطعان والطعام، صلى الله عليه وعلى آله أهل السماحة والكرم والإكرام، صلاة تحلّ قائلها في غرفات الجنان في دار السلام، وبعد، فإن صناعة التطفيل صناعة مهوبة، وحرفة هى عند الظرفاء محبوبة، لا يلبس شعارها إلا كلّ مقدام، ولا يرفع خافق علمها إلا من عدّ في حرفته من الأعلام، ولا يتلو أساطير شهامتها إلا من ارتضع أفاويق الصّفاقة، ولا يهتدى لمنار علائها إلا من نزع عن منكبيه رداء الرّقاعة والحماقة، وكنت والفود غدافىّ الإهاب، والغصن ريّان من ماء الشباب، والقدّ يميس في حلّة النشاط، والقدم تذرع الأرض ذرع الاختباط، لا يقام سوق وليمة إلا وأنا الساعى إليها، ولا ترفع أعلام نار مأدبة إلا وكنت الواقف لديها، أتخذ الدروب شباكا للاصطياد، وحبائل أبلغ بها لذيذ الازدراد، قد جعلت المعطس حليف الهواء، والقلب نزيل الأهواء، فحيث عبقت روائح الأبازير من أعالى تلك القصور، وتمندلت تلك الشوارع بزعفران البرم والقدور، ألقيت عصا المسير على الباب، وخلبت بحسن أدبى قلب البواب، وأوسعت في وصولى ألف حيله، وجعلتها على ما عندى من حسن فنونها مخيله، فلا دعوة، إلا وكنت عليهم دعوة، ولا وليمة ختان، إلا وقد طلعت على أرجائها مثل الجان، ولا سماط تأنيب، إلا وكنت إليه الساعى المنيب، ولا مجمع ضيافة، إلا وكنت عليه أشد آفة، ولا ملاك عرس مشهود، إلا وانتظمت في سلك الشهود، يحسن فيّ قول القائل
لو طبخت قدر بمطمورة
…
موقدها الشام وأعلى الثغور
وأنت في الصين لوافيتها
…
يا عالم الغيب بما في القدور
واليوم قد مال القويم إلى الاعوجاج، وعزّ بازى الشيب غراب الشّعر الدّاج، وقيّد الزمن أقداما، ومنعت الشيخوخة إقداما، وصرت لحما على وضم، بعد أن كنت نارا على علم، وقد أفادتنى التّجربة من هذه الصناعة فنونا، وتلت علىّ من محاسنها متونا، وقد أبقيت لكل مجمع بابا، وفذلكت لكل مشهد حسابا، وقد اقتضى حسن الرأى أن أفوّض إليك أمرها، وأودع تأمور قلبك وحسّك سرّها، علمى بأنك الكيّس الفطن، بل الألمعىّ الذّرب المرن، لو عقدت أكلة الولائم بغاب ولجه، وأحسن بتأنّيه الجميل مدخله ومخرجه، وقد شاهدت من أعمالك الصالحة، ما يقال عند ذهابى:
ما أشبه الليلة بالبارحة، وقد عهدت إليك، واستخرت الله في التعويل عليك، فمثلك من يخطب للمناصب، ويتسنّم ذروة المراتب، ودونك ما أنطق به من الوصايا، واحفظ ما يسرده لسان القلم من جميل المزايا، إياك وموائد اللئام، وانزل بساحات الكرام، واتخذ الشروع في الشوارع حرفة، وأظهر على مشيك صلافة وعفّة، وميّز بعينك حسن المساطب ونقش الستور، وجمال الخدء وقعود الصدور، واقصد الأبواب العالية، والأكلة المنقوشة الجالية، فإن دللت على مأدبة نصبها بعض الأعيان، وجمع إليها أصحابه الإخوان، فالبس من ثيابك الجميلة قشيبها، وضوّع بالمندل الرطب طيبها، وأتقن خبر صاحب الدار وأخباره، وقف في صدر الشارع من الحاره، فإذا رأيت الجمع وقد تهادوا بالهوادى والأقدام، وتهادوا فيما بينهم لذيذ الكلام، تقدّم إليهم بقلب قلب الأمور، وعلم بحسن تطلّعه وتضلّعه داء الجمهور، وقل لهم: رب الدار قد استبطأكم، فما الذى أبطأكم؟ حتّى إذا قاربوا صعود العتبة،
ولم تبق هنا لك معتبة، تقدّم رافعا لهم الستور، ومعرّفا بمقدار أولئك الصدور، فالأضياف، يعتقدون أنك غلام المضياف، وربّ الحلّة، يعتقد أنك رفيق السادة الجلّة، وإن ولجت مجتمع ختان، وقد نصبت فيه موائد الألوان، وذرفنت الأبواب، واكفهرّت وجوه الحجّاب، فاجعل تحت ضبنك المجمع، واخدع قلوبهم فمثلك من يخدع، وقل: رفيق الأستاذ ومعينه، ورجله التى يسعى بها بل يمينه، فحينئذ ترفع الستور، وتقدّم لك أطايب القدور، وإن رماك القدر على باب غفل عنه صاحبه، وسها في غلقه حاجبه، وقد مدّوا في أوانيه سماطا، وجعلوا لأوائل من يقدمه فراطا، وقد تقاربت الزبادى، وامتدت الأيادى، ورأيت السّماط روضة تخالفت ألوانها، وامتدّت أفنانها، والموائد فيما بينها أفلاك تدور بصحونها، بل بروج ثابتة تشعر بسكونها، فلج على غفلة من الرقيب، وابسط بنان الأكل وكفّ لسان المجيب، فإن قيل لك: أما غلق دونك باب؟ فقل: ما على الكرماء من حجاب، وإيّاك والإطالة على الموائد، فإنها مصايد الشوارد، وإياك والقذارة عليها، فإنها إمارة الحرمان لديها، وإن وقعت على وليمة كثيرة الطعام، قليلة الازدحام، كبّر اللقمة ولا تطل علكها، ومر الفكّ في سرعة أن يفكّها، فإنك ما تدرى ما تحدث الليالى والأيام، خيفة أن يعثر عليك بعض الأقوام، فتكتسى حلّة الخجل، وتظهر على وجهك صفرة الوجل، واجعل من آدابك، تطلعك الى أثوابك، ولا ترفع لمستجلّ وجها وجيها، وقل لمن يحادثك: إليه ولا تقل: إيها، وجاوب بنعم، فإنها معينة على اللّقم، واجعل لكل مقام ما يناسبه من الحيلة، ومل على أهل الولائم والمآدب ميلة وأىّ ميلة، واسأل عمن ورث من آبائه مالا، وقد جمعه بوعثاء السفر وعنائه حراما وحلالا، أهل يعقد مقاما؟ أم يبلغ من دنياه بالقصف مراما؟ فإن قيل: فلان الفلانىّ ربّ
هذه المثابة، وصاحب الدعوة المجابة، فكن ثالثة الأثافى لبابه، وانتظم في سلك عشرائه وأترابه، وتفقّد الأسواق خصوصا اللّحامين، ومواطن الطبخ ومساطب المطربين، ومجمع القراء ومعاهد محالّ الوعّاظ، وكلّ بقعة هى مظنّة فرح يعود عليك نفعه وكن أوّل داخل وآخر خارج، ومل إلى الزوايا، فهى أجمل ما لهذه الحرفة من المزايا، ونقّل ركابك في كلّ يوم، فتارة في سوق اللحم وتارة في سوق الثّوم؛ وغيّر الحلية، وقصّر اللحية، وابرز كلّ يوم في لباس، فهو أكثر للالتباس، وجدّد البهت حتى تتخذه عصاك، وتجعله ذريعة لمن عصاك، وأتقن الفنون المحتاج اليها من غنى ونجامة، وطب وشهامة، وتاريخ وأدب، وكرم أصل وحسب، وحالتى التوقيت والتنزيل، فاجعلهما دأبك، فإذا عرفوك، وحضر الجمع وكشفوك، فطرّز كلّ محفل بمحاسنن أقوالك، وكلّل جيد كلّ مأدبة بجواهر أفعالك، واعلم أنها صنعة دثرت معالمها، وقلّ عالمها، ولو لم أر على وجهك مخائل بشرها، وعلى أعطاف أردافك روائح نشرها، لما ألقيت إليك كتاب عهدها، ولا حملت لبابك راية مجدها، فتلقّ راية هذا العهد بساعد مساعد، وعضد في الولوج على الأسمطة معاضد، فوّضت اليك أمر من تحلّى بجواهرها المنظومة، ولبس حللها القشيبة المرقومة، وبسطت لسان قلمك في رقم عهودها، وأذنت لك أن تجريهم على سنن معهودها، وإياك أن تعهد إلا لمن ملك خصالها، وجاس خلالها، واستجلى هلالها، وأتقن أحوالها، ولاية عامّة، وكلمة مبرمة تامّة، حرس الله بك معقل الأدب واللطافة، ومحابك معالم الثقالة والكثافة.