الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِر
(خ م)، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " ، فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: " الْإِشْرَاكُ بِاللهِ (1) وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (2)) (3)(وَكَانَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا فَجَلَسَ (4) فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ (5) ") (6) (قَالَ:" فَمَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَرِّرُهَا "، حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) (7).
الشرح (8)
(1) يَحْتَمِلُ مُطْلَقَ اَلْكُفْرِ ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ ، وَلَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ ، فَذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ ، فَبَعْضُ اَلْكُفْرِ - وَهُوَ التَّعْطِيلُ -أَعْظَمُ قُبْحًا مِنْ الْإِشْرَاكِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُطْلَقٌ ، وَالْإِشْرَاكُ: إِثْبَاتٌ مُقَيَّدٌ ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الِاحْتِمَال. فتح الباري (ج 8 / ص 164)
(2)
عُقُوقُ الْوَالِدَيْن: صُدُورُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، إِلَّا فِي شِرْكٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ ، مَا لَمْ يَتَعَنَّتْ الْوَالِدُ، وَضَبَطَهُ اِبْنُ عَطِيَّةَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي الْمُبَاحَاتِ ، فِعْلًا وَتَرْكًا، وَاسْتِحْبَابُهَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ. تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 121)
(3)
(خ) 2511 ، (م) 87
(4)
قَوْلُهُ: " وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا " يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اِهْتَمَّ بِذَلِكَ ، حَتَّى جَلَسَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّكِئًا، وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأكِيدَ تَحْرِيمِهِ ، وَعِظَمَ قُبْحِهِ، وَسَبَبُ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ اَلزُّورِ أَوْ شَهَادَة الزُّورِ أَسْهَلُ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ، وَالتَّهَاوُنُ بِهَا أَكْثَر، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ اَلْمُسْلِمِ ، وَالْعُقُوقُ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعُ وَأَمَّا الزُّورُ ، فَالْحَوَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرَة ، كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا فَاحْتِيجَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنْ الْإِشْرَاكِ قَطْعًا ، بَلْ لِكَوْنِ مَفْسَدَةِ الزُّورِ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى غَيْرِ الشَّاهِدِ ، بِخِلَافِ الشِّرْكِ ، فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ قَاصِرَةٌ غَالِبًا. فتح الباري (ج8ص 164)
وقَوْلُهُ " وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا " استُدِلَّ به على أنه يجوزُ للمحدِّثِ بالعلمِ أن يحدِّثَ بِهِ وهو مُتَّكِئ.
(5)
قَوْلُهُ: " أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأكِيدِ ، فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، لَزِمَ أَنْ تَكُونَ اَلْكِذْبَةُ اَلْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِظَمَ الْكَذِبِ وَمَرَاتِبَهُ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ اِحْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .فتح الباري (8/ 164)
(6)
(خ) 5631 ، (م) 87
(7)
(خ) 5918 ، (م) 87
(8)
" قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ " أَيْ: شَفَقَةً عَلَيْهِ ، وَكَرَاهِيَةً لِمَا يُزْعِجُهُ.
وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدَبِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمَحَبَّةِ لَهُ ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ. فتح الباري (8/ 164)
(س حم هب)، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (" ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [أَبَدًا] (1) ولَا يَنْظُرُ اللهُ عز وجل إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ ، الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ ، وَالدَّيُّوثُ) (2) وفي رواية:(وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ " ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا مُدْمِنُ الْخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الدَّيُّوثُ؟ ، قَالَ: " الَّذِي لَا يُبَالِي مَنْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ (3) ") (4)
وفي رواية: " الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخُبْثَ "(5)
(1)(هب) 10800 ، انظر صَحِيح الْجَامِع: 3062 ، صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 2071
(2)
(س) 2562 ، (حم) 6180 ، انظر الصَّحِيحَة: 674 ، 1397
(3)
أَيْ: الذي يرى فيهن ما يسوءُه ، ولا يغارُ عليهن ، ولا يمنعهن ، فَيُقِرُّ في أهله الخُبْث (الزِّنَا). مرقاة المفاتيح (ج 11 / ص 296)
(4)
(هب) 10800
(5)
(حم) 5372 ، صَحِيح الْجَامِع: 3052 ،صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 2366
(حم)، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَلِجُ حَائِطَ الْقُدُسِ (1) مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَا الْمَنَّانُ عَطَاءَهُ "(2)
(1) حائط القُدس: الجنَّة ، وهو في الأصل: الموضع الذي يُحاط عليه.
(2)
(حم) 13384 ، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 2363 ، قال الألباني في الصحيحة تحت حديث 673: أخرج ابن خزيمة في " التوحيد "(ص 237) عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " لا يدخل حظيرة القدس سِكِّير ، ولا عاق ، ولا منان ". وإسناده صحيح، وهو موقوف في حكم المرفوع، فهو شاهد قوي لحديث أنس هذا. أ. هـ
(ن)، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا عَاقُّ وَالِدَيْه، وَلَا وَلَدُ زِنْيَةٍ "(1)
(1)(ن)(4916) ، (س)(5672) ، (حم) 6892 ، (حب) 3383 ، انظر الصَّحِيحَة: 673
وقال الألباني: قوله " لَا يدخل الجنة وَلَدُ زِنْيَةٍ "، ليس على ظاهره ، بل المراد به من تحقَّق بالزنا ، حتى صار غالبا عليه، فاستحقَّ بذلك أن يكون منسوبا إليه، فيقال: هو ابن له، كما يُنسب المتحقِّقون بالدنيا إليها فيقال لهم: بنو الدنيا ، بِعِلْمِهِم وتحقُّقِهم بها، وكقولنا عن المسافر: ابن السبيل، فمثل ذلك وَلَدُ زِنْيَةٍ ، وابن زِنْيَةٍ، قيل لمن تحقق بالزنا حتى صار تحقُّقُه منسوبا إليه، وصار الزنا غالبا عليه، فهو المراد بقوله " لَا يدخل الجنة " ، ولم يُرِدْ به المولودَ من الزنا ، ولم يكن هو من ذوي الزنا، وقد يكون هو إذا فعل بفعل أبويه ، لِتَوَلُّدِه من نطفة خبيثة. أ. هـ
(خد)، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ ذُنُوبٍ يُؤَخِّرُ اللهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا الْبَغْيَ (1) وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، يُعَجَّلُ لِصَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْمَوْتِ "(2)
وفي رواية: " اثْنَتَانِ يُعَجِّلُهُمَا اللهُ فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ "(3)
(1) البغي: الظلم والتعدي.
(2)
(خد) 591 ، انظر صَحْيح الْأَدَبِ الْمُفْرَد: 460
(3)
(تخ) 494 ، (كنز) 45458 ، انظر صَحِيح الْجَامِع: 137
(ك)، وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " بَابَانِ مُعَجَّلَانِ عُقُوبَتُهُمَا فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ ، وَالْعُقُوق "(1)
(1)(ك) 7350 ، انظر صَحِيح الْجَامِع: 2810 ، الصَّحِيحَة: 1120
(خ م)، وَعَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللهَ عز وجل حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ (1) وَوَأدَ الْبَنَاتِ (2) وَمَنْعٍ ، وَهَاتِ (3) وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ (4) وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ (5) وَإِضَاعَةَ الْمَالِ "(6)
الشرح (7)
(1) قِيلَ: خَصَّ الْأُمَّهَاتِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعُقُوقَ إِلَيْهِنَّ أَسْرَعُ مِنْ الْآبَاءِ ، لِضَعْفِ النِّسَاءِ ، وَلِيُنَبِّه عَلَى أَنَّ بِرَّ الْأُمِّ مُقَدَّم عَلَى بِرِّ الْأَبِ فِي التَّلَطُّفِ وَالْحُنُوِّ وَنَحْو ذَلِكَ. فتح الباري (7/ 292)
(2)
الوأد: عادة جاهلية، كان إذا وُلِدَ لأحَدِهم في الجاهلية بنتٌ دفَنَها في التراب وهي حَيَّة. الأدب المفرد للبخاري - (1/ 447)
(3)
" مَنْعٍ " الْمُرَادُ: مَنْعُ مَا أَمَرَ اللهُ أَنْ لَا يُمْنَعَ ، وَ" هَاتِ " فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ طَلَبَهُ. سبل السلام - (7/ 66)
(4)
أَيْ: حِكَايَةُ أَقَاوِيلِ النَّاس ، وَالْبَحْث عَنْهَا ، فَيَقُول: قَالَ فُلَانٌ كَذَا ، وَقِيلَ كَذَا، وَالنَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَإِمَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوص مِنْهُ ، وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ. فتح الباري (17/ 98)
(5)
اخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد مِنْهُ ، هَلْ هُوَ سُؤَالُ الْمَال، أَوْ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَات وَالْمُعْضِلَات، أَوْ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ؟ ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُوم ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ كَثْرَةُ سُؤَالِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ عَنْ تَفَاصِيلِ حَاله، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ الْمَسْئُولُ غَالِبًا ، وَثَبَتَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ السَّلَفِ كَرَاهَةُ تَكَلُّفِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا عَادَةً ، أَوْ يَنْدُرُ جِدًّا ، وَإِنَّمَا كَرِهُوا ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَطُّع ، وَالْقَوْلِ بِالظَّنِّ إِذْ لَا يَخْلُو صَاحِبُه مِنْ الْخَطَأ.
وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي اللِّعَانِ ، فَكَرِهَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلُ وَعَابَهَا، وَكَذَا فِي التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فَذَلِكَ خَاصٌّ بِزَمَانِ نُزُول الْوَحْي، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيث:" أَعْظَم النَّاسِ جُرْمًا عِنْد اللهِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِه ".
وَثَبَتَ أَيْضًا ذَمُّ السُّؤَالِ لِلْمَالِ ، وَمَدْحِ مَنْ لَا يُلْحِف فِيهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا} ، وَفِي صَحِيح مُسْلِم " إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِع، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِع، أَوْ جَائِحَة ".
وَفِي السُّنَنِ قَوْلُه صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاس: " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ الله ".
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْد الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِز ، لِأَنَّهُ طَلَبٌ مُبَاحٌ ، فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّة، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَلَى مَنْ سَأَلَ مِنْ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شَرْح مُسْلِم ": اِتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَة ، قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُؤَالِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، أَصَحُّهمَا: التَّحْرِيم ، لِظَاهِرِ الْأَحَادِيث.
وَقَالَ الْفَاكِهَانِيّ: يُتَعَجَّب مِمَّنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ السُّؤَالِ فِي عَصْرِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ نَكِير، فَالشَّارِعُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَكْرُوه.
قُلْت: يَنْبَغِي حَمْلُ حَالِ أُولَئِكَ عَلَى السَّدَاد، وَأَنَّ السَّائِلَ مِنْهُمْ غَالِبًا مَا كَانَ يَسْأَلُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَة.
وَفِي قَوْله: " مِنْ غَيْرِ نَكِير " نَظَر ، فَفِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ السُّؤَالِ كِفَايَةٌ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ. فتح الباري (ج 17 / ص 98)
(6)
(خ) 2277 ، (م) 593 ، (حم) 18172
(7)
قَالَ الْجُمْهُور: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: السَّرَفُ فِي إِنْفَاقِهِ.
وَالْأَقْوَى أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَأذُونِ فِيهِ شَرْعًا ، سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّة أَوْ دُنْيَوِيَّة ، فَمَنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ قِيَامًا لِمَصَالِحِ الْعِبَاد، وَفِي تَبْذِيرِهَا تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمَصَالِح، إِمَّا فِي حَقِّ مُضَيِّعِهَا ، وَإِمَّا فِي حَقِّ غَيْرِه، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَة ، مَا لَمْ يُفَوِّتْ حَقًّا أُخْرَوِيًّا أَهَمَّ مِنْهُ، وَالْحَاصِلُ فِي كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَة أَوْجُه: الْأَوَّل: إِنْفَاقُه فِي الْوُجُوهِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا ، فَلَا شَكَّ فِي مَنْعه.
وَالثَّانِي: إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَحْمُودَة شَرْعًا ، فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُور.
وَالثَّالِث: إِنْفَاقُهُ فِي الْمُبَاحَاتِ بِالْأَصَالَةِ ، كَمَلَاذِّ النَّفْس، فَهَذَا يَنْقَسِم إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ وَبِقَدْرِ مَاله، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَلِيقُ بِهِ عُرْفًا، وَهُوَ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهمَا: مَا يَكُونُ لِدَفْعِ مَفْسَدَة ، إِمَّا نَاجِزَةٍ أَوْ مُتَوَقَّعَة، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ وَالثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَاف. وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّة بِمَنْعِ اِسْتِيعَاب جَمِيع الْمَال بِالصَّدَقَةِ ، قَالَ: وَيُكْرَه كَثْرَة إِنْفَاقه فِي مَصَالِح الدُّنْيَا، وَلَا بَأس بِهِ إِذَا وَقَعَ نَادِرًا لِحَادِثٍ يَحْدُث ، كَضَيْفٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ وَلِيمَة.
وَمِمَّا لَا خِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْبِنَاءِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَة، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَالَغَة فِي الزَّخْرَفَة ،
وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْمَالِ فِي الْمَعْصِيَة ، فَلَا يَخْتَصُّ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِش، بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا سُوءُ الْقِيَامِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالْبَهَائِم حَتَّى يَهْلِكُوا، وَدَفْعُ مَالِ مَنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ إِلَيْهِ، وَقَسْمُهُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِجُزْئِهِ ، كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَة ، فَظَاهِر قَوْله تَعَالَى:{وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا} أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِق إِسْرَاف.
قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْخُلُق، فَقَدْ تَتَبَّعَ جَمِيعَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَة ، وَالْخِلَالِ الْجَمِيلَة. فتح الباري (ج 17 / ص 98)
(حم)، وَعَنْ عَمْرو بن مُرَّة الجُهَني قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زَكَاةَ مَالِي وصُمْتُ شَهْرَ رمضانَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا، كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا - وَنَصَبَ إِصْبَعَيْهِ - مَا لَمْ يُعَقَّ وَالِدَيْهِ "(1)
(1)(حم) ج29ص522 ط الرسالة (في الملحق المستدرك من مسند الأنصار - بقية حديث عمرو بن مرة الجهني)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 2515