الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وَلَقَد أوذي فِي الله بِلَال بن رَبَاح، كَانَ مَمْلُوكا لأمية بن خلف الجُمَحِي فَكَانَ يَجْعَل فِي عُنُقه حبلا ويدفعه إِلَى الصّبيان يَلْعَبُونَ بِهِ وَهُوَ يَقُول: أحد أحد، وَلم يشْغلهُ مَا هُوَ فِيهِ عَن تَوْحِيد الله، وَكَانَ أُميَّة يخرج بِهِ وَقت الظهيرة فِي الرمضاء وَهِي الرمل الشَّدِيدَة الْحَرَارَة لَو وضعت عَلَيْهَا قِطْعَة لحم لنضجت، ثمَّ يَأْمر بالصخرة الْعَظِيمَة فتوضع على صَدره ثمَّ يَقُول: لَا تزَال هَكَذَا حَتَّى تَمُوت أَو تكفر بِمُحَمد، وَتعبد الللات والعزى فَيَقُول: أحد أحد، رضي الله عنه وأرضاه.
ورضوان الله عَن خباب بن الْأَرَت إِذْ يَقُول: أتيت النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَهُوَ مُتَوَسِّد برده وَهُوَ فِي ظلّ الْكَعْبَة، وَلَقَد لَقينَا من الْمُشْركين شدَّة، فَقلت: أَلا تَدْعُو الله - يَعْنِي على الْكفَّار - قَالَ: فَقعدَ وَهُوَ محمر وَجهه فَقَالَ " لقد كَانَ من قبلكُمْ ليمشط بمشاط الْحَدِيد مَا دون عِظَامه من لحم أَو عصب مَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه، وَيُوضَع الْمِنْشَار على مفرق رَأسه فَيشق بِاثْنَيْنِ مَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه " الحَدِيث، وَعنهُ فِي رِوَايَة:" شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] قُلْنَا لَهُ: أَلا تَدْعُو لنا؟ قَالَ: كَانَ الرجل فِيمَن كَانَ قبلكُمْ يحْفر لَهُ فِي الأَرْض فَيجْعَل فِيهِ فيجاء بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع على رَأسه فَيشق بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يصده ذَلِك عَن دينه ".
رضي الله عنه كَانَت مولاته تعذبه بالنَّار، فتأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظَهره فَلَا يزِيدهُ ذَلِك إِلَّا إِيمَانًا بِاللَّه وحبا فِي رَسُوله [صلى الله عليه وسلم]، وتحيات رَبِّي ورحماته على الْقُرَّاء السّبْعين الْقَتْلَى فِي سَبِيل الله ببئر مَعُونَة؛ الْقَائِلين عِنْد مَوْتهمْ: أَلا بلغُوا قَومنَا أَن قد لَقينَا رَبنَا فرضى عَنَّا ورضينا عَنهُ اللَّهُمَّ ارْض عَن الْمُؤمنِينَ مِنْهُم وَالْمُؤْمِنَات مِنْهُنَّ، وَعَن عَائِشَة وَأم سليم، فَلَقَد كَانَتَا كَمَا قَالَ أَبُو طَلْحَة: رأيتهما وإنهما لمثمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان الْقرب على
متونهما تفرغانها فِي أَفْوَاه الْقَوْم ثمَّ تَرْجِعَانِ فتملآنها ثمَّ تجيئان فتفرغانها فِي أَفْوَاه الْقَوْم فرضى الله عَنْهُمَا وَعَن زنيرة الَّتِي عذبها الْمُشْركُونَ فِي الله حَتَّى عميت فَلم يزدها ذَلِك إِلَّا إِيمَانًا وَكَذَا أم عنيس كَانَت أمة لبني زهرَة، وَكَانَ يعذبها الْأسود بن عبد يَغُوث حَتَّى أعْتقهَا الصّديق رضي الله عنه وعنهما.
وَرَضي الله عَن لبينة أسلمت قبل عمر وَكَانَ عمر يعذبها حَتَّى يسأم، وَيَقُول لَهَا: إِنِّي لم أدعك إِلَّا سآمة، فَتَقول: كَذَلِك يفعل الله بك إِن لم تسلم؛ ورضى الله عَن أم يَاسر أغلظت القَوْل مرّة لأبي جهل فَطَعَنَهَا فِي قبلهَا بِحَرْبَة فِي يَده فَكَانَت أول شهيدة فِي الْإِسْلَام فرضى الله عَنْهَا، ولعنات الله عَلَيْهِ، وقف طريد الله على بَاب أبي بكر فَقَالَ لابنته: أَيْن أَبوك؟ فَقَالَت: لَا أَدْرِي، فَرفع يَده فلطم خدها لطمة طرح مِنْهَا قُرْطهَا، فرضى الله عَنْهُم وعنهن أَجْمَعِينَ. وَعَن الْأَنْصَار مِنْهُم والمهاجرين، وَعَن كَبِيرهمْ وصغيرهم وَذكرهمْ وأنثاهم، وحرهم وعبدهم، وعربيهم وعجميهم، وفارسيهم وحبشيهم، نصروا الله فنصرهم، وأعزوا دينه فأعزهم قَالَ المُنَافِقُونَ {لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} فكذبهم الله وسفه أحلامهم، فَقَالَ:{وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ} .
فهم لَا غَيرهم حزب الله الَّذين بشروا بقول الله: {أَلا إِن حزب الله هم المفلحون} وهم لَا غَيرهم الموصوفون بقوله تَعَالَى {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون} .
فسبحان من اجتباهم واصطفاهم واختارهم وارتضاهم جندا وحزبا وعسكرا وأنصارا وعبادا لَهُ، وتكفلهم بِنَفسِهِ فَقَالَ:{يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} نَصرهم على ضعفهم وقلتهم وبشرهم بِأَنَّهُم لَا غَالب لَهُم، فَقَالَ:{إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم} وَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تنصرُوا الله ينصركم وَيثبت أقدامكم وَالَّذين كفرُوا فتعسا لَهُم وأضل أَعْمَالهم} .
فهم لَا غَيرهم المخاطبون أَولا بقول الله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون} فَكَانُوا كَمَا أحب الله مِنْهُم وَأَرَادَ وهم هم الَّذين قَالَ لَهُم {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخْوَانكُمْ أَوْلِيَاء إِن استحبوا الْكفْر على الْإِيمَان وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} فَكَانُوا وَالله كَمَا أحب الله مِنْهُم وَأَرَادَ، فَكَانُوا يُقَاتلُون أَبْنَاءَهُم وإخوانهم وأقاربهم وأعز النَّاس إِلَيْهِم من أهل الْكفْر والطغيان، وَكَانَت أَمْوَالهم كلهَا تنْفق فِي سَبِيل الله، ذَلِك بِأَنَّهُم هم {الْمُؤْمِنُونَ الَّذين اشْترى الله مِنْهُم أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَمن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الَّذِي بايعتم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} .
(فرضى الله عَنْهُم جَمِيعًا وَعَن الْفُقَرَاء والمهاجرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ
وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله وَرَسُوله؛ أُولَئِكَ هم الصادقون} ورضى الله عَمَّن خاطبهم الله بقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} رضى الله عَنْهُم لما حرضهم على الْجِهَاد بقوله: {وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون، وترجون من الله مَالا يرجون وَكَانَ الله عليما حكيما} فاستجابوا لرَبهم: {فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم فِي سَبِيل الله وَمَا ضعفوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يحب الصابرين، وَمَا كَانَ قَوْلهم إِلَّا أَن قَالُوا رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي أمرنَا، وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين، فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار، رحماء بَينهم} الْآيَات.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} . وَلِهَذَا قَالَ الله فيهم {لقد رضى الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا، ومغانم كَثِيرَة يأخذونها وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما} .
وَلِهَذَا قَالَ فيهم الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] كَمَا فِي البُخَارِيّ: " لَا تسبوا أَصْحَابِي فَلَو أَن أحدكُم أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه " وَلِهَذَا قَالَ فيهم الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] كَمَا فِي البُخَارِيّ أَيْضا: " خير النَّاس قَرْني؛ ثمَّ
الَّذين يَلُونَهُمْ؛ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ؛ ثمَّ يَجِيء قوم تسبق شَهَادَة أحدهم يَمِينه؛ وَيَمِينه شَهَادَته ".
وَقَالَ فيهم الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] كَمَا فِي البُخَارِيّ أَيْضا " لَعَلَّ الله اطلع إِلَى أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد وَجَبت لكم الْجنَّة. أَو فقد غفرت لكم " فهنيئا لكم ثمَّ هَنِيئًا لكم فرضى الله عَنْكُم وأرضاكم؛ فرحمات رَبِّي وَبَرَكَاته وتسليماته وزاكياته عَلَيْكُم أَصْحَاب مُحَمَّد رَسُول الله؛ الحمادين لله؛ وَالصَّابِرِينَ؛ فِي البأساء وَالضَّرَّاء؛ والمجاهدين فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم؛ المحبين للرسول الْأَعْظَم حبا هُوَ أكبر وَأَرْفَع وَأجل من أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ. بل وَمن أنفسهم الَّتِي بَين جنُوبهم.
أما بعد. فَيَقُول مُحَمَّد بن أَحْمد عبد السَّلَام. رحمه الله وهداه ووفقه إِلَى سبل السَّلَام. واسكنه وَذريته وعشيرته دَار السَّلَام. مُخَاطبا كَافَّة عُلَمَاء الْإِسْلَام الْخَاص مِنْهُم وَالْعَام. وَفِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا.
أَيهَا السَّادة الْكِرَام. وَالْأَئِمَّة الْأَعْلَام. السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. وَبعد: فَإِن أمتنَا هَذِه الْأمة الإسلامية، قد بلغت قَدِيما من الْفَخر وَالْمجد. والرفعة والارتقاء مَا لم يسْبق لَهُ نَظِير. وَلَا يشْهد التَّارِيخ بِمثلِهِ. ملكو على ضعفهم وَقلة عَددهمْ ممالك مُلُوك الأَرْض. فَكَانُوا يرسلون رسلهم إِلَى أعاظم الْمُلُوك يخيرونهم بَين ثَلَاثَة أُمُور: إِمَّا الْإِسْلَام. وَإِمَّا أَن يدفعوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون. وَإِمَّا إيقاد نَار الْحَرْب بَينهم حَتَّى ترفع راية التَّوْحِيد فَوق الرُّءُوس. وتنكص راية الشّرك تَحت الْأَقْدَام. ملؤا الأَرْض توحيداً وإيمانا. وعلما وَحكما وَحِكْمَة. وعدلا. ملؤا الأَرْض بالعلوم والمعارف. وَالصَّدقَات والصلوات والأذكار. وبعبادة الله الْوَاحِد القهار {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} .
أما نَحن الْآن أَيهَا السَّادة الْعلمَاء فقد أَصبَحت حَالنَا تدمى الْعُيُون وَتسقط
الْقُلُوب وتفتت الكبود، بل وَتقتل النُّفُوس الْحَيَّة قتلا، وإليكم أَشْيَاء أذكرها لكم تبين لكم مَا حل بِهَذِهِ الْأمة من الْجَهَالَة والضلالة والغباوة الَّتِي أضاعتها وأسقطتها بَين سَائِر الْأُمَم بعد أَن كَانَت أعظم أمة وسيدة الْأُمَم كلهَا.
(1)
الْعلمَاء كَثِيرُونَ جدا لَا سِيمَا فِي زَمَاننَا هَذَا، وكثرتهم كعدمها لأَنهم تركُوا الْجِهَاد فِي الله الَّذِي هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، اللَّذَان هما روح هَذَا الدّين وَبِهِمَا قوامه ورقي أَهله وتقدمهم على أقرانهم بِالْعلمِ وَالْعَمَل، ثمَّ إِن من أَمر وَنهي وَوعظ مِنْهُم وَذكر، وهم قَلِيلُونَ جدا لَا تراهم أبدا يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا رَأَوْا النَّاس قد وَقَعُوا فِيهِ من المخالفات والمنكرات وينبهونهم على التَّمَسُّك بمجد أسلافهم الَّذِي كَانَ سَببا لرقيهم وتفوقهم على سَائِر أقرانهم، فَلَا تراهم يعظون بعظات الْقُرْآن الْقيمَة النافعة المؤثرة أبدا، فَإِن وعظ بِالْقُرْآنِ مِنْهُم واعظ لَا ترَاهُ إِلَّا قد أضاع ثَمَرَة وعظه بِذكر أوجه الْإِعْرَاب والنحو وَالصرْف بَين الْعَوام والجهلة كَأَنَّهُ لَا يُرِيد مِنْهُم إِلَّا أَن يَقُولُوا فِيهِ: هُوَ عَالم كَبِير، فَيقومُونَ وَلم يستفيدوا مِنْهُ شَيْئا، بل قد استفادوا أَنهم أبعد النَّاس عَن فهم مَعَاني كتاب الله، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهلا لَهُ وَأَن هَذَا شَيْء يتْرك لأربابه لصعوبته، مَعَ أَن الْمَسْأَلَة بِالْعَكْسِ، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول:{وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} وَيَقُول: {كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعلمُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا قد فصلنا الْآيَات لقوم يذكرُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك لتَكون من الْمُنْذرين بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} أَي بَين ظَاهر وَاضح، وَمَعَ وضوحه هَذَا فقد أرسل الله رَسُوله [صلى الله عليه وسلم] ليزيده بَيَانا ووضوحا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون} .
إِنَّك لَا تراهم أبدا يقرءُون على النَّاس حَدِيثا من أَحَادِيث الرَّسُول. فَإِن قَرَأَ مِنْهُم قَارِئ فعلى النظام الْمُتَقَدّم ذكره، بل قد سمعنَا كبراءهم يَقُولُونَ: إِنَّا
لسنا أَهلا لفهم كَلَام الرَّسُول فَلَا نقرأه إِلَّا تعبداً، وَيَكْفِينَا من قِرَاءَة الحَدِيث أَنا نصلي على النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] كلما ذكر، بل قد أنكر علينا بعض كبار وعاظ المديريات أَنا نلقن ونحفظ إِخْوَاننَا الْعَوام الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة بِحجَّة أَنهم رُبمَا يستشهدون بِالْحَدِيثِ فِي غير مَوضِع الاستشهاد بِهِ. فَقلت: يَا سُبْحَانَ الله! أَفلا ننهى النَّاس عَن قِرَاءَة الْقُرْآن لِئَلَّا يستشهدوا بِهِ فِي غير مَوضِع الاستشهاد فنكون قد أضعنا الدّين كُله؟ عياذا بِاللَّه.
ثمَّ إِن وعظهم وتذكيرهم على المنابر لَا يخرج عَن قِرَاءَة مَا سطر فِي دواوين من قبلهم وَهِي لَا تفِيد النَّاس شَيْئا وَإِنَّمَا يفيدهم وعظهم بِكَلَام رَبهم وَكَلَام نَبِيّهم. وَأَن تدريسهم لَا يخرج عَن قِرَاءَة حَوَاشِي وشروح الْمُتَأَخِّرين وَهِي على بعْدهَا عَن الْهَدْي النَّبَوِيّ وتبعيدها لِقَارِئِهَا لَا تفيده شَيْئا من الْحَقَائِق الدِّينِيَّة إِذْ أَن معظمها آراء وأفهام، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أصل، وَمِنْهَا مَاله أصل ضَعِيف لَا يعول عَلَيْهِ. فَهِيَ عُلُوم لَا ترقى النُّفُوس وَلَا تهذب الْأَخْلَاق وَلَا تنهض بهَا لَا نهوضا دينيا وَلَا دنيويا. وَلِهَذَا تَجِد الْكثير مِنْهُم لَا يخَاف الله وَلَا يخشاه، وَلَا يستحي من النَّاس.
وَقد سمعنَا من طلاب الْعلم الأتقياء الصلحاء أَن من كبار مدرسي الْأَزْهَر من يتركون الصَّلَاة جهاراً من غير مبالاة وَالْعِيَاذ بِاللَّه، وَإِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْعَظِيم وَالْفساد الْكَبِير، وَالشَّر المستطير، وَإِن أردْت أَن تقف على حقائق مجاهرتهم بالعصيان فجالسهم فِي الأرياف تَرَ وَتسمع عَنْهُم مَا لم يكن يخْطر لَك على بَال وَذَلِكَ كُله بِسَبَب أَنهم لم يطلبوا الْعلم لله وَإِنَّمَا طلبوه للوظائف والمرتبات الضخمة فَلَمَّا تحصلوا على مطالبهم أَعرضُوا ونأؤا بجانبهم عَن خالقهم ورازقهم ثمَّ هم مُخْتَلفُونَ على الدَّوَام، فَلَا تراهم أبدا إِلَّا ويطعن بَعضهم على بعض، ونيران الْخلاف والنزاع موقدة بَينهم، وَقد أَمرهم الله سُبْحَانَهُ بِأَن يعتصموا بحبله جَمِيعًا
وَلَا يتفرقوا، ونهاهم عَن التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف والنزاع فَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم} . وَقَالَ: {وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم} فَأَبَوا إِلَّا مُخَالفَة الْقُرْآن الْكَرِيم، والنزاع الشَّديد الَّذِي أدّى الْكثير من النَّاس إِلَى الشَّك والارتياب وَالِاضْطِرَاب، هَذَا مَعَ أَن اتِّفَاقهم سهل وَقَرِيب جدا لَو جانبوا الْهوى والتعصب المذموم، وَاتبعُوا كتاب الله وَمَا جَاءَ عَن رَسُوله. قَالَ تَعَالَى:{وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} ، وَقَالَ:{فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} ، وَقَالَ:{اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} ، وَقَالَ:{وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} ، {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} ، فالرجوع إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام أَئِمَّة السّلف الصَّالح يحسم كل نزاع، وَيبين كل مُشكل، فَإِن الْكتاب وَالسّنة لم يتركا شَيْئا من أصُول الدّين وَلَا من فروعه إِلَّا بَيناهُ. قَالَ تَعَالَى فِي وصف كِتَابه:{ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبياناً لكل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة وبشرى للْمُسلمين} ، وَقَالَ [صلى الله عليه وسلم] :" فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ. وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة "، فَهَذَا الدَّاء والدواء فلماذا استحبوا الدَّاء على الدَّوَاء والعمى على الْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة؟ فَإنَّا لله! .
(2)
الْقُرَّاء حَملَة الْقُرْآن، وهم أَجْهَل النَّاس وأبعدهم عَن فهم مَعَاني الْقُرْآن وتدبر آيَاته وعظاته وَأَحْكَامه والاستنارة بأنواره، والاهتداء بهدايته فَلَا يفهمون مِنْهُ قَلِيلا وَلَا كثيرا، وَلم يَذُوقُوا لطعمه وحلاوته كَبِيرا وَلَا صَغِيرا وَلِهَذَا تراهم يقعون فِي الجرائم والموبقات وكبائر الذُّنُوب، هم وَأَوْلَادهمْ وعشائرهم، فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَلَا ألوم إِلَّا الْعلمَاء إِذا لم يرشدوهم.
(3)
عوام الْمُسلمين وهم أَكثر الْأمة، وَهَؤُلَاء قد استعبدهم واستذلهم
جمَاعَة الإفرنج وَأَصْحَاب المعامل مِنْهُم بل واشتروهم بأبخس الْأَثْمَان وَأعرف مِنْهُم أَكثر من مائَة ألف فِي فابريقات السكر والسبرتو والأسمنت والنور والترام، والمعامل الْأَجْنَبِيَّة نذْكر عَنْهُم بعض مَا نشاهده من أَحْوَالهم وأهوالهم وبلاياهم الَّتِي يعيشون فِيهَا أَبَد الآبدين هم وذرياتهم وَمن خلف مِنْهُم.
هَؤُلَاءِ أَجْهَل مِمَّن قبلهم بِكَثِير، وَأَكْثَرهم لَا يعْرفُونَ دينا وَلَا صَلَاة وَلَا جُمُعَة وَلَا جمَاعَة، وَلم يشموا رَائِحَة الْحُرِّيَّة الْعَرَبيَّة الإسلامية، وَلذَا تراهم يعْملُونَ فِي هَذِه المعامل أعمالا لَا تطيقها الفيلة بأبخس الأجور، أعرف مِنْهُم ألوفاً يخرجُون من بُيُوتهم فِي الشتَاء بعد نصف اللَّيْل بساعتين فَلَا يزالون فِي كرب وعناء وشقاء إِلَى غرُوب شمس الْيَوْم الثَّانِي، يعْمل أحدهم فِي الْيَوْم أَكثر من عشر ثيران، وأجرهم مَا بَين أَرْبَعَة قروش إِلَى سِتَّة قروش إِلَى عشرَة، والدون جدا من اللبَاس، وَالْعشرَة لمن بلغ من سنه الْخمسين أَو السِّتين سنة يعْمل، والأدهى أَنهم فِي أثْنَاء عَمَلهم لَا يستريحون وَلَا لحيظة وَاحِدَة. وَلَا يلبسُونَ إلاّ الخيش، وَلَا يَأْكُلُون إِلَّا الذّرة واللفت والمش والبصل والدون من الطَّعَام، وَلَقَد ألقينا مَرَّات عديدة لكلاب الإفرنج طَعَاما من عيشهم فَكَانُوا يشمونه ثمَّ يتولون.
والإفرنج قد سلطوا على هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين وحشا من جنسهم من أحقرهم وأجهلهم يسومهم سوء الْعَذَاب، ويحملهم على الْعَمَل مَا لَا يُطِيقُونَ، ويضربهم على أقفائهم ووجوههم لأدنى الْأَسْبَاب ليرضي سادته الفجرة من الإفرنج الَّذين صَار لديهم بِفِعْلِهِ هَذَا فِي أَبنَاء جنسه أعز الأحباب لَا رَاحَة لهَؤُلَاء أبدا أسبوعية وَلَا شهرية وَلَا سنوية إِلَّا أَن من كسر مِنْهُم عالجوه، ثمَّ فِي أحط الْأَعْمَال
الدنيئة الْأجر نقلوه، فَإِن حرك فَاه ببنت شفة أَخْرجُوهُ وطردوه، فَيرى نَفسه الْمِسْكِين كسير الذِّرَاع أَو الرجل أَو مَقْطُوع الْيَد أَو الْأَصَابِع أَو الْقدَم لَا يُمكنهُ أَن يعْمل لمصْلحَة نَفسه وَلَا يقبله أحد يعْمل عِنْده، فَيرجع إِلَى " العلج " مُقبلا نَعله قَائِلا لَهُ: معليهش اعْمَلْ مَعْرُوف يَا خواجة أَنا عِنْدِي أُمِّي وأختي وَابْني وامراتي أكلني عَيْش عنْدك وَالْحق على سقت عَلَيْك النَّبِي، لَا يمر شهر وَاحِدًا أبدا وَإِلَّا وَيكسر من هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين كسير أَو يقتل مِنْهُم قَتِيل يضيع دَمه هدرا.
ومحال ثمَّ محَال أَن إفرنجيا يبْدَأ عَرَبيا بالتحية، بل هِيَ فرض وَاجِب على الْعَرَبِيّ يُؤَدِّيهَا للإفرنجي فِي جَمِيع حركاته وَإِلَّا فَهُوَ " هُوَ مار ابْن كالب " لقد أداهم الذل إِلَى أَن أحدهم يصفع على وَجهه وَقَفاهُ فَلَا يُمكنهُ أَن يَقُول لضاربه الإفرنجي: لم ضربتني؟ ؟ بل لَا يُمكنهُ أَن ينظر إِلَيْهِ بِعَيْنِه، بل قد رَأَيْت إفرنجيا مرّة يضْرب مصرياً على وَجهه ضربا شَدِيدا ثمَّ جَاءَهُ أَخُوهُ الْمصْرِيّ فزاده ضربا، فَسَأَلت عَن السَّبَب فَقيل لي: كَانَ وَاقِفًا مُتكئا على رجله ورئيسه الإفرنجي مار بِهِ فَلم يعتدل، فَقلت: أُفٍّ أُفٍّ.
وَلَقَد رَأَيْت الإفرنج يضْربُونَ كبار موظفي الْعمَّال على وُجُوههم حَتَّى تلقى عمائمهم بِالْأَرْضِ قلا يَتَكَلَّمُونَ كلمة، وَلَقَد بلغ بهم الرعب إِلَى أَن الْعشْرين أَو الثَّلَاثِينَ مِنْهُم إِذا كَانُوا جالسين يفرون هاربين عِنْدَمَا يرَوْنَ شخصا مَا يضاهي لِبَاسه لِبَاس الإفرنجي، وَلَو كَانَ المرئي بريق نعل.
وَوَاللَّه الَّذِي لَا رب غَيره إِن طَعَام كلاب الإفرنج لخير من طَعَام هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين المتاعيس بِكَثِير، وَإِن نفوس كلاب الإفرنج لأعز من نفوس هَؤُلَاءِ المحاويج، وَأَن أَحْقَر إفرنجي لَهو خير وَأعظم من مِائَتَيْنِ أَو أَكثر من هَؤُلَاءِ المتاعيس، ذَلِك لِأَن الإفرنجي لَو جرح لكوفئ بِكَثِير من الجنيهات