الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[صلى الله عليه وسلم] قَالَ: " مَرَرْت لَيْلَة أسرِي بِي على قوم تقْرض شفاههم بمقاريض من نَار: قَالَ: قلت، من هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا خطباء أمتك من أهل الدُّنْيَا مِمَّن كَانُوا يأمرون النَّاس بِالْبرِّ وينسون أنفسهم وهم يَتلون الْكتاب أَفلا يعْقلُونَ " وذكرهما الْبَغَوِيّ وَابْن كثير فِي تفسيريهما. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه: لَا يفقه الرجل كل الْفِقْه حَتَّى يمقت النَّاس فِي ذَات الله ثمَّ يرجع إِلَى نَفسه فَيكون لَهَا أَشد مقتا. فَالْوَاجِب عَلَيْكُم أَيهَا الْعلمَاء أَن تقتدوا بِنَبِي الله شُعَيْب إِذْ كَانَ يَقُول لِقَوْمِهِ: {وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ إِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت} .
وَأَن لَا تنسوا نِدَاء الله سُبْحَانَهُ وخطابه لكم بقوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كبر مقتا عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، وَأَيْضًا آيَة {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون أَنفسكُم} . وَحَدِيث:" مثل الْعَالم الَّذِي يعلم النَّاس الْخَيْر وَلَا يعْمل بِهِ كَمثل السراج يضيء للنَّاس وَيحرق نَفسه "، ذكره ابْن كثير: وَقَالَ، هَذَا حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه.
فصل
قَالَ تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} ، قَالَ إِمَام الْمُفَسّرين الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره: وَهَذِه الْآيَة وَإِن كَانَت نزلت فِي خَاص من النَّاس فَإِنَّهَا معني بهَا كل كاتم علما فرض الله تَعَالَى بَيَانه للنَّاس. وَذَلِكَ نَظِير الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَن رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] أَنه قَالَ: " من سُئِلَ عَن علم فكتمه، ألْجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار " ثمَّ ذكر بالسند إِلَى ابْن شهَاب أَنه قَالَ: " قَالَ ابْن الْمسيب: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لَوْلَا آيَتَيْنِ أنزلهما الله فِي كِتَابه مَا حدثت شَيْئا {إِن الَّذين يكتمون} الْآيَة، الْآيَة الْأُخْرَى (وَإِذ أَخذ الله
مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس} إِلَى آخر الْآيَة أه. فَفِي الْآيَة أكبر دَلِيل على وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وفيهَا أكبر وَعِيد، وأفظع وأشنع تهديد لكل كاتم مَا أنزل الله من الْبَينَات وَالْهدى، فَكيف حالكم أَيهَا الْعلمَاء عِنْدَمَا تقرءون هَذِه الْآيَة؟ وَمَا الَّذِي تقولونه فِي أَنفسكُم، وَمَا الَّذِي تفكرون فِيهِ عِنْد مروركم بهَا؟ أَو {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا؟} .
قَالَ شَيخنَا السَّيِّد الإِمَام الْأُسْتَاذ الْجَلِيل الشَّيْخ مُحَمَّد رشيد رضَا عَفا الله عَنَّا وَعنهُ وَغفر لنا وَله فِي تَفْسِيره: ثمَّ إِن الْعبْرَة فِي الْآيَة هِيَ أَن حكمهَا عَام، وَإِن كَانَ سَببهَا خَاصّا فَكل من يكتم آيَات الله وهدايته عَن النَّاس فَهُوَ مُسْتَحقّ لهَذِهِ اللَّعْنَة، وَلما كَانَ هَذَا الْوَعيد وأشباهه حجَّة على الَّذين لبسوا لِبَاس الدّين، وانتحلوا الرِّئَاسَة لأَنْفُسِهِمْ بِعِلْمِهِ حالوا التفصي مِنْهُ، فَقَالَ بَعضهم: إِن الكتمان لَا يتَحَقَّق إِلَّا إِذا سُئِلَ الْعَالم عَن حكم الله تَعَالَى فكتمه، وَأخذُوا من هَذَا التَّأْوِيل قَاعِدَة هِيَ أَن الْعلمَاء أَن لَا يجب عَلَيْهِم نشر مَا أنزل الله تَعَالَى، ودعوة النَّاس إِلَيْهِ، وَبَيَانه لَهُم وَإِنَّمَا يجب على الْعَالم أَن يُجيب إِذا سُئِلَ عَمَّا يُعلمهُ، وَزَاد بَعضهم إِذا لم يكن هُنَاكَ عَالم غَيره، وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَن يحِيل على غَيره، وَهَذِه الْقَاعِدَة مسلمة عِنْد أَكثر المنتسبين للْعلم الْيَوْم وَقبل الْيَوْم بقرون، وَقد ردهَا أهل الْعلم الصَّحِيح فَقَالُوا: إِن الْقُرْآن الْكَرِيم لم يكتف بالوعيد على الكتمان بل أَمر ببيانه للنَّاس، وبالدعوة إِلَى الْخَيْر وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وأوعد من يتْرك هَذِه الْفَرِيضَة، وَذكر لَهُم العبر فِيمَا حَكَاهُ عَن الَّذين قصروا فِيهَا قبل كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} الخ، وَقَوله:(ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر - إِلَى قَوْله فِي المتفرقين عَن الْحق - وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم)، وَقَوله: (لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم - إِلَى قَوْله فِي عصيانهم الَّذِي
هُوَ سَبَب لعنتهم - كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ} ، فَأخْبر تَعَالَى أَنه لعن الْأمة كلهَا لتركهم التناهي عَن الْمُنكر.
نعم إِن هَذَا فرض كِفَايَة، إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ، وَلَكِن لَا يَكْفِي فِي كل قطر وَاحِد، كَمَا قَالَ بعض الْفُقَهَاء، بل لَا بُد أَن تقوم بِهِ أمة من النَّاس لتَكون لَهُم قُوَّة، ولنهيهم وَأمرهمْ تَأْثِير، وَذهب بعض المأولين مذهبا آخر فَقَالَ: إِن هَذَا الْوَعيد مَخْصُوص بالكافرين، فَترك الْمُؤمن فَرِيضَة من الْفَرَائِض كالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، لَا يسْتَحق بِهِ وَعِيد الْكَافرين فليحقه بالكفار، وَهَذَا كَلَام قد ألفته الأسماع، وَأخذ بِالتَّسْلِيمِ وَاسْتعْمل فِي الإفحام والإقناع، فَإِن الَّذِي يسمعهُ على علاته يرى نَفسه ملزماً برمي تاركي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والدعوة إِلَى الْخَيْر وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بالْكفْر، وَذَلِكَ مُخَالف للقواعد الَّتِي وضعوها للعقائد، فَلَا يَسْتَطِيع أَن يَقُول ذَلِك، وَلكنه إِذا عرض على الله فِي الْآخِرَة. وعَلى كِتَابه فِي الدُّنْيَا يظْهر أَنه لَا قيمَة لَهُ، وَإِذا بحثت فِيهِ يظْهر لَك أَن الَّذِي يرى حرمات الله تنتهك أَمَام عَيْنَيْهِ، وَدين الله يداس جهاراً بَين يَدَيْهِ، وَيرى الْبدع تمحو السّنَن، والضلال يغشى الْهدى، وَلَا ينبض لَهُ عرق، وَلَا ينفعل لَهُ وجدان وَلَا ينْدَفع لنصرته بيد وَلَا بِلِسَان، هُوَ هَذَا الَّذِي إِذا قيل لَهُ: إِن فلَانا يُرِيد أَن يصادرك فِي شَيْء من رزقك كالجراية مثلا - أَو يحاول أَن يتَقَدَّم عَلَيْك عِنْد الْأُمَرَاء والحكام، تجيش فِي صَدره المراجل ويضطرب باله، ويتألم قلبه، وَرُبمَا تجافى جنبه عَن مضجعه، وهجر الرقاد عَيْنَيْهِ، ثمَّ إِنَّه يجد ويجتهد وَيعْمل الْفِكر فِي استنباط الْحِيَل وإحكام التَّدْبِير، لمدافعة ذَلِك الْخصم أَو الْإِيقَاع بِهِ.
فَهَل يكون لدين الله تَعَالَى فِي قلب مثل هَذَا قيمَة، وَهل يصدق أَن الْإِيمَان تمكن من قلبه؟ والبرهان عَلَيْهِ قد حكم عقله؟ والإذعان إِلَيْهِ قد ثلج صَدره؟ يسهل على من نظر فِي بعض كتب العقائد الَّتِي بنيت على أساس الجدل أَن يُجَادِل