المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ال‌ ‌مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا - السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي

[أحمد أحمد غلوش]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: "العرب

- ‌المبحث الثاني: الروم:

- ‌المبحث الثالث: الفرس

- ‌المبحث الرابع: الهنود

- ‌المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام

- ‌أولا: شيوع الضلال الديني

- ‌ثانيا: هوان الإنسان

- ‌ثالثا: سهولة التواصل

- ‌رابعا: تعدد الصراع

- ‌خامسا: النضج الفكري

- ‌سادسا: انتظار رسول جديد

- ‌الفصل الثاني: السيرة النبوية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: النسب الشريف

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى: أصالة النسب

- ‌المسألة الثانية: بعد آبائه عن الشرك وعبادة الأصنام

- ‌المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر بطون العرب

- ‌المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها

- ‌المبحث الثالث: ميلاد اليتيم محمد

- ‌المبحث الرابع: محمد في ديار بني سعد

- ‌المبحث الخامس: شق الصدر:

- ‌المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا

- ‌المبحث السابع: زواج محمد صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثامن: بناء الكعبة

- ‌المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

- ‌أولا: كثرة المبشرات

- ‌ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة

- ‌ثالثا: منع الجن من الاستماع

- ‌رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر: بدايات الوحي

- ‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي

- ‌المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة

- ‌أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام

- ‌ثانيا: صلته بأعمامه

- ‌ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة

- ‌المبحث الثالث عشر: عام الحزن

- ‌المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة

- ‌أولا: سودة بنت زمعة رضي الله عنها

- ‌ثانيا: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها

- ‌ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى

- ‌النصر الأول: إسلام عداس

- ‌النصر الثاني: إسلام الجن

- ‌النصر الثالث: إجارة المطعم بن عدي

- ‌النصر الرابع: أضواء وسط ظلام القبائل

- ‌النصر الخامس: الإسراء والمعراج

- ‌النصر السادس: إسلام الأنصار:

- ‌الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى في مكة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة

- ‌أولا: منهج الدعوة

- ‌ثانيا: المضمون الفكري للحركة

- ‌ثالثا: أسلوب الدعوة

- ‌رابعا: وسائل الدعوة

- ‌المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية

- ‌مدخل

- ‌أولا: اقتصار الدعوة على العقيدة:

- ‌ثانيا: قيام الدعوة على الاتصال الفردي

- ‌ثالثا: تخير المدعوين:

- ‌رابعا: تجنب ضلالات القوم:

- ‌خامسا: دعوة الأقربين الذين يعاشرهم

- ‌سادسا: إسلام الضعفاء فقط

- ‌سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه

- ‌ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه

- ‌تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة:

- ‌المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الخامس: المرحلة الأولي للجهر بالدعوة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌أولا: ظهور الجماعة المؤمنة

- ‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

- ‌المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة

- ‌المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام

- ‌المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة

- ‌المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية

- ‌المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع

- ‌المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية إيمان المعذبين

- ‌ثانيا: تحرير الأرقاء:

- ‌ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة

- ‌رابعا: انتهاء المقاطعة

- ‌المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة

- ‌المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية

- ‌الفصل الرابع: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المكية

- ‌تمهيد:

- ‌الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين

- ‌الركيزة الثانية: دور الداعية

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية صلته بالله

- ‌ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس

- ‌الركيزة الثالثة: صفات الدعاة

- ‌مدخل

- ‌أولا: صفات التكامل الذاتي

- ‌ثانيا: صفات الترابط والمودة

- ‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه:

- ‌الركيزة الرابعة: الملاءمة بين الدعوة والواقع

- ‌الركيزة الخامسة: إدراك مسئولية الدعوة

- ‌الركيزة السادسة: دور المرأة المسلمة في الدعوة

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ال‌ ‌مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا

ال‌

‌مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد،،،

فإن دين الله واحد، ورسله جميعًا يتحركون بعقيدة واحدة، يعلنون كلمة الله، ويعملون لنقل الناس من الضلال إلى الهدى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، يقول تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1، ويقول تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} 2، ويقول تعالى:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3.

والآيات واضحة الدلالة في إثبات وَحْدَة الدين، الذي جاء به الرسل أجمعين، وهذه الوحدة بادية في أركان العقيدة، فهي عقيدة واحدة معلومة من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، تناسب الفطرة البشرية، وتتسم بالصدق والحق والواقعية.

ولو كان الإنسان واحدًا، والواقع البشري ثابتًا، لجاء للناس رسول واحد، صالح للناس أجمعين.

1 سورة الشورى الآية 13.

2 سورة آل عمران الآية 19.

3 سورة آل عمران الآيتان 84، 85.

ص: 7

لكن الإنسان ليس واحدا، وإنما هو متعدد النزعات، متنوع الفكر، يتأثر واقعه دائما بعوامل جغرافية، وبيئية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية

إلخ؛ ولذلك قضى الله بحكمته أن يبعث رسولًا لكل أمة يبلغها بالعقيدة الدينية الواحدة، وبأسلوب يتلاءم معها، وبمنهج يقربها من دعوته، مع تكليف الناس بأعمال وتطبيقات تطهر حياتهم، وتقوي عقيدتهم، وتساعد في القضاء على مواريث الجهل والضلال، وبناء الحياة على الحق والصواب.

وقد رأينا في الكتاب الأول الخاص بدعوة الرسل عليهم السلام أن كل رسول دعا قومه بمنهج خاص، وبطريقة خاصة، مع اتحادهم في العقيدة الواحدة.

ورأينا -كذلك- أن كل رسول بُعث لقوم معينين، سواء تتابعوا زمنيًّا، أو بعثوا في وقت واحد كإبراهيم ولوط عليهما السلام.

ورأينا -أيضًا- أن كل رسالة كانت تراعي أحوال المدعوين، وتلاحظ مستواهم العقلي والحضاري في التوجه والمناقشة.

إن هذا الموكب الطويل من الرسل جاءوا للناس بصورة واحدة للاعتقاد الصحيح، القائم على التوحيد الخالص، التوحيد المطلق، الناصع، القاطع، توحيد الألوهية التي يجب أن يتوجه إليها البشر جميعًا، كما يتوجه إليها سائر الخلائق بالتسليم والخضوع والعبودية.

إن هذا التوحيد يعني أن القوامة المطلقة لله لازمة على خلقه جميعًا، فلا يقوم شيء إلا لله، ولا سيادة على الخلق إلا من الله، ومن ثَم فإن الاستسلام كله من البشر يجب أن يكون لله، صاحب الحول والطول، ورب العالمين.

وقد علَّم الله رسله أن يتلاءم كل منهم مع واقعه في الشريعة، وإن اختلفت عن الشرائع الآخرى، يقول تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 1.

1سورة المائدة الآية 48.

ص: 8

وقد رأينا لكل رسول شريعته المناسبة لقومه، فيها الحلال، وفيها الحرام، وفيها التكاليف العملية المتنوعة، وهي مع اختلافها مع كل رسول فهي منزلة من الله؛ ولذلك اتسقت مع العقيدة الربانية الواحدة، التي تلزم المعتقد بضرورة التلقي من الله الواحد، والتحاكم إلى الوحي المنزل، والأخذ من توجيهات النبي المبعوث، وبذلك يتحد الضمير الخفي مع الواقع العملي، ويعيش الناس -كل الناس- مع رسلهم مؤمنين مخلصين، مطيعين لله رب العالمين.

وكما اختلف الرسل في الشريعة اختلفوا كذلك في المنهج والأسلوب؛ ليتحقق المراد من الدعوة، يقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1.

إن طريقة التوجه لقوم ما لا تتناسب مع التوجه لغيرهم؛ لما بين الفريقين من اختلاف تنوع، وتلك دروس مستفادة من تاريخ دعوة رسل الله تعالى.

وقبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم اقترب الناس فكريًّا، وترقت عقولهم حتى وصلت إلى التصور المجرد، والقدرة على مناقشة الدليل، إلا أنهم مع ذلك كانوا مختلفين واقعًا وسلوكًا وعقيدة.

ووسط هذا الحال بُعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا للعالم كله، بالعقيدة الإلهية الواحدة، والشريعة الملائمة للناس أجمعين، والصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.

إن الواقع البشري يلتقي مع العقيدة الإلهية؛ لأنها نفس العقيدة التي نادى بها جميع الرسل، وخوطب بها سائر الأقوام، وآمن بها الكثيرون فيما مضى من الزمان.

وسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات، فلا دين بعده، ولا رسول بعده؛ ولذلك جاء الإسلام -بعقيدته وشريعته- صالحا لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة.

وحتى تلتقي الشريعة الإسلامية الواحدة مع جميع الناس، وعلى امتداد الزمن

1 سورة إبراهيم آية 4.

ص: 9

جعلها الله على نوعين:

النوع الأول: ما يتصل بالعبادات المشروعة، والأعمال التامة، والأحكام الثابتة، وهذه فصَّلها الإسلام تفصيلًا لا يقبل تغييرًا أو تبديلًا، وقد شرعها الله بهذه الدقة والدوام لتنظيم حياة الناس جميعًا إلى يوم القيامة، وهي المعروفة بالثوابت في الإسلام؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وأحكام النكاح، والطلاق، والميراث

وهكذا.

النوع الثاني: وهو ما يتصل بالأعمال التي تختلف من مكان إلى مكان، وتتغير من زمن لزمن آخر، ومن جماعة لغيرها؛ كصورة الشورى، ومناهج العمل اليومي، والطبائع المرتبطة بالعادات والتقاليد، ومع هذا النوع كان وضع القواعد العامة المنضبطة بالأصول الشرعية؛ لتكون إطارًا للمتغيرات، تأخذ الحكم منها بواسطة اجتهاد علماء الإسلام

ومن أمثلة ذلك القوة فهي تختلف نوعًا وصورة، فهناك القوة الخَلْقية، وهناك القوة الإيمانية، وهناك القوة العلمية، وهناك القوة العسكرية، من سيف، ورمح، ومدفع، وصاروخ، وطائرة

إلخ، وأمام هذا التنوع للقوة يضع الله تعالى مبدأ كليًّا حيث يقول تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 1، وعلى مثال ذلك وضعت المبادئ الكلية للمتغيرات العملية.

وهكذا ملكت الشريعة القدرة على الالتقاء مع الناس جميعًا، وهي تنظم لهم كافة جوانب الحياة مع اختلافهم وتنوعهم.

والعالم كله لا يجتمع على منهج واحد؛ ولذلك احتاجت الرسالة المحمدية إلى عديد من المناهج لتتوجه إلى الناس، أينما كانوا، وكيفما كانوا، وبخاصة أنها

1 سورة الأنفال الآية 60.

ص: 10

تمتد إلى آخر الزمان، وتشمل العالم كله، ولم يكن المطلب عسيرا أبدا، فقد قص الله تاريخ الأنبياء، وسحل حركة الدعوة الإسلامية من خلال الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليقدم العديد من المناهج والوسائل للقائمين بأمر الدعوة إلى الله تعالى.

إن مناهج الرسل تعد طرقا عملية، تطبيقية للدعوة، تحتاج إلى من يفهمها ويطبقها في حركة الدعوة للناس.

ولم يبقَ تعدد اللغات واللهجات عائقا أمام الدعوة، بعدما هيأ الله من المسلمين دعاة يتقنون كافة اللغات، ويعرفون الجوانب النفسية والفكرية التي تساعد في نجاح الدعوة.

وهكذا..

جاء الإسلام للناس صالحا لكل زمان ومكان..

ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول المختار لتبليغ دعوة الإسلام للناس؛ ولذلك أنزل الله عليه القرآن الكريم محكما، مفصلا، قيما، مهيمنا، لا عوج فيه، ولا ريب.

وقد استمرت البعثة المحمدية ثلاثا وعشرين سنة، أقام خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، والمدة الباقية عاشها في المدينة المنورة بهجرته صلى الله عليه وسلم إليها.

في مدة البعثة نزل وحي الله للناس، وكمل الدين، وتمت النعمة، وأصبح الإسلام دين البشرية جميعا، في كافة أرجاء الأرض، وعلى طول الزمن إلى يوم القيامة.

وقد هيأ الله محمدا صلى الله عليه وسلم للدعوة، وصنعه للرسالة، وأمده بكل ما يحتاجه لتصل الدعوة إلى الناس على وجه صحيح واضح، قطعا للأعذار {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .

ص: 11

وقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته رصيدا هائلا، يمكِّنهم من نشر الدين، وتبليغه إلى العالم، والتعامل مع كل إنسان بواقعه ولغته؛ لأن هذا الرصيد كما يقدم موضوعه يقدم معه الأسلوب الأمثل والطريق السديد.

وقد أعانني الله تعالى فكتبت في تاريخ دعوة الرسل عليهم السلام وفيه حاولت إبراز منهجهم في الحركة بالدعوة، وتوضيح أهم الركائز المستفادة من تاريخهم، من أجل أن تكون أسسا للدعاة إلى الله من بعدهم وإلى يوم القيامة.

وأصبحتُ أمام الدعوة المحمدية لأكتب بعون الله فيها، ورأيتُ ضرورة اتباع المنهج الذي اتبعته مع تاريخ الرسل؛ حيث الأسس التالية:

أولا: التعريف بقوم الرسول، من ناحية: موطنهم وحضارتهم، وأديانهم، ومستواهم الفكري؛ لأن هذا يساعد على اكتشاف الجوانب الفنية التي واجه بها الرسول قومه منهجا وأسلوبا، وحتى يتمكن دعاة العصر من الاستفادة بهذه الناحية؛ كاختيار الموضوع المناسب، والطريقة اللائقة، والأسلوب المفيد

وهكذا.

ثانيا: التعريف بالرسول نفسه، من ناحية: أصله ونشأته، ورحلاته، وكافة المؤثرات في شخصيته، وصفاته، وكلها عوامل نجاح في تكوين الدعاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قائدهم ورائدهم، يقول تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1.

ثالثا: تتبع حركة الرسول بالدعوة، وإبراز كيفية مواجهته للناس على اختلافهم، فمنهم الملأ، ومنهم الضعفاء، منهم السادة، ومنهم العبيد، وبذلك دعا الرسول قومه جميعا، ووصل إلى عقولهم، وناقش حججهم، وهدم ضلالهم، وبذلك ظهرت منهجية الدعوة، والطريقة المثلى للحركة بها مع الطوائف المختلفة وأصحاب المذاهب والملل المحرَّفة.

1 سورة الأحزاب الآية 21.

ص: 12

رابعا: استنباط أهم الركائز المستفادة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتكون ركيزة يستفاد بها في الدعوة إلى الله تعالى.

خامسا: المحافظة مع الأسس المذكورة على ذكر الوقائع ورواية الأخبار وتصحيح الخطأ للمحافظة على التاريخ وأحداثه، وبخاصة أنه تاريخ الدعوة.

إن اتباع هذا المنهج مع الدعوة الإسلامية دفعني إلى عدة أمور:

الأمر الأول: التعريف بأمم العالم كله، فإليها جاء الإسلام، ومن أجلها بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 1، ويقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} 2، ويقول سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3، ويقول سبحانه:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 4، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"كان كل نبي يُبعث لقومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة" 5، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة"6.

وهذا التعريف بالعالم له أهميته؛ لأنه يعرف بمدى حاجة العالم إلى الدعوة، ويبين الحكمة في تنوع المناهج والطرق والأساليب التي وجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى

1 سورة الفرقان الآية 1.

2 سورة الأنبياء الآية 107.

3 سورة سبأ الآية 28.

4 سورة الأنعام الآية 19.

5 صحيح البخاري - كتاب التيمم ج1 ص436 بشرح فتح الباري.

6 المرجع السابق - كتاب التفسير - باب سورة المسد ج1 ص737.

ص: 13

استخدامها في مجال الدعوة، ويشير إلى السر في تكليف الرسول أصحابَه بحمل الدعوة في حياته، وتحميلهم مسئولية التبليغ من بعده إلى أن تقوم الساعة.

الأمر الثاني: في قضية التعريف بالرسول وجدت نفسي أمام السيرة النبوية، ولاحظت أن مرحلة ما قبل البعثة؛ حيث التنشئة والتربية والتكوين الشخصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لها ارتباط وثيق بالبيئة والواقع؛ ولذا كان الاهتمام بدراستها لما لهما من تأثير في التربية الإسلامية، ولإظهار قيمة الحق والصواب ومكارم الأخلاق الذي عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط واقع مليء بالفساد والضلال.

إن مرحلة ما قبل البعثة المحمدية تعد دراسة للسيرة، ولها صلة مباشرة في التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الممكن الاستفادة بأحداث هذه المرحلة وأثرها في نشأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في: اختيار الدعاة، وتربيتهم، وتكوين شخصياتهم النفسية، والاجتماعية، والخلقية، والقيادية؛ ليتمكنوا من حمل الدعوة، وتبليغ الإسلام على الوجه المطلوب.

أما مرحلة ما بعد البعثة، فقد لا حظت أن تاريخ السيرة وتاريخ الدعوة متداخلان بحيث يصعب الفصل بينها، فقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم خلالها حركة دائمة للدعوة؛ حيث عد نومه صلى الله عليه وسلم، ومشيه، وصمته، وحياته في بيته، ومع الناس، جزءًا من حركته صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وقد اعتبرها المسلمون ركائز يأخذون منها، ويستفيدون من توجيهاتها وإيحاءاتها.

وتبعا لهذه الحقيقة سأعيش مع السيرة النبوية في مرحلة ما قبل البعثة، وأدرسها دراسة تفصيلية، وآخذ منها الركائز التربوية في مجال التكوين والتنشئة.

أما مرحلة ما بعد البعثة فسأوردها مجملة، مع التركيز على الأحداث المتصلة بشخصية محمد الرسول صلى الله عليه وسلم، تاركا تفصيل الجانب الحركي لمبحث حركة الرسول بالدعوة، مع أن هذه الحركة جزء من شخصيته صلى الله عليه وسلم العملية، وإظهار لرسالته

ص: 14

مع الناس.

الأمر الثالث: سأحاول مستعينا بتوفيق الله تعالى إبراز الركائز التي فيها فائدة للدعوة والدعاة، متصلة بكل دراسة، سواء كانت الدارسة للواقع البشري، أو في السيرة قبل البعثة، أو الحركة بالدعوة بعد البعثة، على أن تكون هذه الركائز في فصل مستقل يجمعها جميعا.. وبذلك التزم نفس المنهج الذي اتبعته مع تاريخ رسل الله تعالى.

ونظرا لطول دراسة تاريخ الدعوة خلال البعثة المحمدية، فقد قسمتها إلى قسمين:

القسم الأول: ويشمل دراسة المرحلة المكية قبل الهجرة، بحيث يتكون منه الكتاب الثاني من سلسلة تاريخ الدعوة.

القسم الثاني: ويشمل دارسة المرحلة المدنية الذي ستصدر بإذن الله تعالى في كتاب مستقل، يمثل الكتاب الثالث في سلسلة تاريخ الدعوة.

وسيتضمن تاريخ المرحلة المكية -بعون الله تعالى- النقاط التالية تبعا للمنهج الذي رجوته في دارستي لتاريخ الدعوة، وهي كما يلي:

الأولى: التعريف بالعالم قبيل ظهور الإسلام، وسيشمل دراسة أوضاع أقاليم العالم المختلفة؛ لأن مواطن الدعوة الإسلامية هو العالم كله.

الثانية: التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى الهجرة.

الثالثة: الحركة بالدعوة في مرحلة ما قبل الهجرة.

الرابعة: إبراز الركائز المستفادة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحركته بالدعوة، وبخاصة ما لها صلة بالدعوة والدعاة في العصر الحديث.

وسوف أورد كل نقطة من هذه النقاط في فصل مستقل؛ لما لكل منها من دراسة مطولة، وعمق علمي، وفوائد عديدة.

ص: 15

وبهذا التقسيم أكتب في السيرة، وهو الأمل الذي كنت أتمناه، كما أكتب في تاريخ الدعوة الذي أرجو له أن يصير علما شامخا بين سائر العلوم الإسلامية، وأكتب للدعاة الذين هم أمل الأمة في النهوض والتقدم، ولسوف أستفيد من سائر العلوم الإنسانية والدينية؛ لأن الدعوة في الحقيقة هي غاية كل العلوم، والحركة بها تحتاح لدراسات عديدة.

إن الدعوة إلى الله تعالى من أهم علوم الإسلام في أي جانب من جوانبها، ويكفي شهادة على ذلك موقف القرآن الكريم معها، فهو الذي حدد موضوعها، ورسم مناهجها، وقص تاريخها، وأنزل العديد من أساليبها ووسائلها..

ومن المعلوم أن كل العلوم الإسلامية نشأت لخدمة القرآن الكريم، وخدمة أهدافه، والدعوة هي هدفه الأول، وغايته الأساسية..

وأملي في الله، ودعائي له أن يهيئ العلماء المخلصين، وييسر لهم العمل لإبراز علوم الدعوة، متميزة بموضوعها، ومنهجها، وغايتها، وشرفها؛ ليتتلمذ بها ومعها وعليها المؤمنون المخلصون.

يقول الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1، ويقول سبحانه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} 2، ويقول سبحانه:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 3.

فالقرآن الكريم هو كتاب الدعوة، ولا جديد في الدعوة بعد القرآن الكريم، اللهم إلا اجتهادات عقلية في مجال التطبيق، والملاءمة بين القضية والواقع في إطار

1 سورة الأنعام الآية 19.

2 سورة الكهف الآيات 1-4.

3 سورة الفرقان الآية 1.

ص: 16

مفهوم القرآن الكريم.

والرسول صلى الله عليه وسلم بُعث للدعوة، فهي مسئوليته ووظيفته، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1، ويقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا، وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} 2.

هذا التزاوج الواضح بين القرآن الكريم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الدعوة، وكذا الصلة الوثيقة بينهما، فالقرآن الكريم دعوة تعليمية توجيهية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة تطبيقية عملية، وبهذا التلاقي تحققت المثالية الإسلامية في مجال الواقع، والتقت الفطرة البشرية مع الوحي الإلهي العظيم، وتجسدت في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعل القرآن تطبيقا عمليا في خُلُقه وسلوكه.

يروي مسلم بسنده عن سعد بن هشام قال: "قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: ألست تقرأ القرآن؟

قلت: بلى.

1 سورة المائدة الآية 67.

2 سورة الأحزاب الآيات 45-48.

ص: 17

قالت: فإن خُلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"1.

ومن هنا تكون السيرة إبرازا لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في خصائصها وكمالاتها، ويكون تاريخ الدعوة إظهارا لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحمل مشاق الدعوة وهو يتحرك بها مع الناس.

ولي قصة مع السيرة أحب أن أذكرها هنا:

فلقد كان شيخاي اللذان حفظت القرآن الكريم على يديهما، وهما الشيخ/ عيسى أحمد طه، والشيخ/ إبراهيم ويح2، يحكيان لي ولزملائي نُتَفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقرأ على أحدهما سورة من السور التي تتحدث عن رسول الله مثل سورة "الضحى" و"الانشراح" و"الفيل"، وكان الشيخ يشرح لنا خواطره بأسلوب مبسط، مما حببني في السيرة منذ الصغر؛ حيث كنت مع زملائي الصغار، نتداول كلام الشيخ، ونسعد معه بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتمثله حركة معجبين بها.

ولما انتسبت للأزهر الشريف، ودخلت المرحلة الابتدائية على النظام القديم3، صارت السيرة مقررا دراسيا، يعيش تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم من

1 فيض القدير ج5 ص170.

2 ولد الشيخ عيسى أحمد طه ونشأ بقرية "مدينة مسير" من أعمال محافظة كفر الشيخ، وأسس كُتَّاب القرية، واهتم به مع زميل هو الشيخ/ إبراهيم ويح -عليهما رحمة الله- وقد بارك الله في عملهما، وتخرج من هذا الكُتَّاب علماء أفذاذ، وظهر جيل من علماء القرية يدين لهما بالفضل، ويكفي أن قرية ريفية صغيرة هي قرية "منية مسير" تخرج من أبنائها أكثر من ثلاثين أستاذ بجامعة الأزهر يدينون لكُتَّاب القرية بالفضل، ومن الواضح أن أبناء هذه القرية قد بارك الله لهم وحبب أبناءهم في العلم والتعلم.

3 كان النظام القديم في الأزهر يقصر الدراسة قبل الجامعة على مرحلتين: المرحلة الابتدائية ومدتها أربع سنوات، والمرحلة الثانوية ومدتها خمس سنوات، على أن يكون التحاق الطالب بالمرحلة الابتدائية بعد امتحان للقبول في مستوى نهاية التعليم الأساسي، وحفظ القرآن الكريم كله.

ص: 18

مولده إلى لقائه ربه، ونالت مقررات السيرة اهتمامي؛ إذ كنت أحفظها مع بداية الدراسة، وأذكر أن بعض زملائي كان يشيد بذلك عند الأساتذة.

ولما بدأت في دراسة المرحلة الثانوية القديمة، لاحظت أننا في الدراسة كلها نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالتفسير بيان لوحي الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

والحديث شرح لأقوال رسول الله وأفعاله صلى الله عليه وسلم.

والفقه أحكام مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعلوم اللغة تدور كلها حول القرآن؛ لمعرفة معانيه، وبيان إعجازه، وإظهار سمو الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأذكر أن مدرس الخط كان يورد الآيات والأحاديث، ويكلفنا بكتابتها رحمه الله ويشرح لنا معناها، وما يستفاد بها؛ وبذلك عملت المقررات كلها في بناء الصورة الإسلامية، وكان الأساتذة خير مَن يتفاعلون مع أهداف هذه المناهج، وتحويلها إلى عنصر يتفاعل معه الطالب الأزهري في النظام القديم.

ومن هنا لم تعد السيرة مجرد تاريخ، وإنما صارت الدين كله، مما رغبني في أن أكتب فيها منذ صغري، وأذكر هنا أني كتبت عن محمد اليتيم، وعن غزوة أحد، وغزوة الحديبية.. وغير ذلك وأنا في المرحلة الثانوية.

وكلما تقدم بي السن كبر معي الأمل، وأخذت أتصور نفسي أمام مؤلَّف ضخم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتناول فيه كافة جوانب شخصيته صلى الله عليه وسلم.. فأخذت أقرأ، وأطلع..

ومع القراءة، وعمق النظرة، وتكشف الحقيقة، أخذت أستشعر ضآلة همتي أمام هامة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبان لي أني كنت في أمنية حالمة، صعبة المنال، لكني لم أفقد الرغبة، ولم يملكني اليأس والقنوط، عشت مع أمنيتي راجيا مؤملا في توفيق الله

ص: 19

أن يسدد الْخُطَى، وييسر الصعب، ويقرب البعيد، والله على كل شيء قدير.

وزاد من تباعد الأمنية بروز المؤلفات الضخمة العديدة حول شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم، متناولة أهم جوانب العظمة في السيرة النبوية، حتى خُيل إليَّ أن هذه المؤلفات لم تترك لي ولمن يأتي بعدي مجالًا نبرزه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحمدت الله، ولجأت للسكوت الهادئ، واكتفيت بالقراءة والتعلم، وقلت لنفسي: لأكن متعلمًا ما دمت قد عجزت عن أن أكون عالِمًا معلِّمًا.

ولم يطل بي الحال إذ وقع أمر قدري أعاد لي الأمل مرة أخرى، حين حدث حِوار علمي حول ماهية الفروق بين السيرة النبوية، وبين تاريخ الإسلام في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو بين فقه السيرة النبوية، وبين الدعوة في عصر النبوة، ووجدت نفسي في خضم المناقشة أؤكد أن السيرة النبوية لا بد معها من فقه يعيش مع الحدث ويأخذ العبرة حتى لا تروى السيرة في صورة جامدة خامدة، لا تليق برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أفنى حياته في خدمة الإسلام، وتبليغ الدعوة، والدفاع عن دين الله تعالى، وتلك كانت مهمته، يقول تعالى:{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1.

إن السيرة النبوية إذا درست مع التحليل واستنباط العبر، فإنها تعد تاريخا للدعوة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي زيارة لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفت أمام قبره صلى الله عليه وسلم، وجاشت الخواطر في ضميري، ودارت تصوراتي دورة سريعة حول حياة وجهاد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقلت لنفسي: إني أقف أمام محرك البشرية كلها، وأرى الآن التاريخ مجسدا في قوته النابضة، وألفت ضميري يلتصق بعالم اللاشعور الخفي، متنقلا بين روابي مكة، وبادية بني سعد، وفي غار حراء، وثور، وعند بدر، وأُحُد،

1 سورة العنكبوت الآية 18.

ص: 20

والأحزاب، وتبوك، وأخذت أتصور المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يواجهون الطواغيت وهم يعملون للقضاء على الإسلام وتضليل المسلمين.

وسرح خاطري بعد ذلك إلى واقع المسلمين المعاصر، ورأيت ما فيه من تباعد عن المجتمع الإسلامي الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم، وقلت متسائلا:

- لِمَ كل هذا التباعد الذي ألحقه المسلمون بأنفسهم؟!

- وما أسباب هذا التباعد؟!

- وهل من عودة مرة أخرى إلى حيوية الإسلام، وعظمة الحياة فيه؟!

- ألم يتأكد المسلمون من فشل كافة السبل اللاإسلامية؟

- وهل يتصور المسلمون نصرهم في غير الإسلام وهم مسلمون؟!

- وهل يضع مجد الإسلام غير المسلمين؟!

- ما هي العراقيل؟ وكيف نتغلب عليها؟!

- ومن الإسلام في عالم اليوم؟!

وهكذا:

عشت الإسلام كله، ونظرت أمامي إلى قبر حبيبي وسيدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودعوت الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين الجزاء الأوفَى.

وعشت مع المسلمين ودعوت لهم بالفوز والفلاح..

وفي هذه اللحظات عشت السيرة كلها، بأحدائها، وحركتها، وقيمتها، وقيمها.. وتأكدت أن أملي القديم ضرورة نفسية تسرني وتسعدني.

وهو في الوقت نفسه ضرورة إيمانية؛ لأن العصر الأول -سيرة ودعوة- هو منهج الإسلام وعبرة التاريخ للمؤمنين..

كما أنه ضرورة الاجتماعية يحتاجها الناس في وقت تتنازع فيه المذاهب، وتكثر المعارضات، وتشتد الحاجة إلى العلم والمعرفة بالإسلام؛ لأن به وَحْدَة النصر،

ص: 21

والفوز، الفلاح.

إن عرض السيرة بصورة حركية ومنهجية فنية ضرورة ليعيش الناس السيرة، ويجيوا بها، ويعيدوا الإسلام للحياة كما حققه النبي صلى الله عليه وسلم للناس.

وزاد اقتناعي بهذا التصور بعد أن اطلعت على مناهج أقسام وكليات الدعوة في الجامعات التي قمت بالتدريس فيها1، ورأيت أنها تهتم بدراسة تاريخ الدعوة، وتخص عصر النبوة بالدراسة الموسعة، وشرفني الله تعالى فقمت بتدريس مقررات تاريخ الدعوة، لسنوات عديدة في جامعات مختلفة، الأمر الذي أحيا الأمل القديم مرة أخرى في أن أكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الزاوية المنهجية، وبذلك أكتب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأؤرخ للدعوة في عصره صلى الله عليه وسلم، وأقدم للدعوة والدعاة الفوائد والعبر المأخوذة من السيرة النبوية، وتاريخ عصر النبوة، وأوضح منهج التقدم للمجتمع كله.

إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم غنية بالأحداث، مليئة بالوقائع، متنوعة في العطاء رائدة في التربية والتوجيه، وعلى دارسها أن يوسع اهتمامه ليشمل جوانبها جميعا: من شخصية، وسياسية، ودعوية، واجتماعية

إلخ.

وسأحاول بإذن الله تعالى أن أكتب في الجوانب كلها؛ إيفاء لحق السيرة النبوية، وإبرازا للدعوة في إطار السيرة الكاملة..

وسوف أعمل على إيراد الحقائق المدعمة بالدليل، الخالية من المبالغة أو التهويل.. ولن أقف موقف الدفاع أمام أكاذيب أعداء الإسلام، وسأترك الحقيقة التاريخية تعلو بصدقها وأحقيتها، فليس أقوى من الحق نصرا للحقيقة في مجال المنازعة العلمية، وفي كل مجال.

ولن أجري وراء المبالغة والتهويل في ذكر الحوادث والوقائع، حتى لا أتعارض مع مسلمات العقل، وأكون كالدبة التي قتلت صاحبها وهي تحبه.

1 قام المؤلف بتدريس مقررات تاريخ الدعوة في قسم الدعوة بكلية أصول الدين - جامعة الأزهر، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وجامعة الملك سعود بالرياض، وفي كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر بالقاهرة.

ص: 22

لقد كان صلى الله عليه وسلم في حركته بالدعوة واقعيا، ربَّى أصحابه على الصبر وتحمل المشاق، وتحمل صلى الله عليه وسلم من أذى أعدائه ما لا يتصوره عاقل، وبذلك بنَى أمته على الإيمان بسنن الله في الحياة والأحياء، وأبعدها عن الجري وراء الخيال والأوهام.

إن الحقيقة يجب أن تعرض في ثوب يليق بها، ثوب خالٍ من المبالغة والتهويل، بعيد عن الإخفاء والصمت؛ لأن كل ذلك يبعدها عن صورتها المستقيمة.

والسيرة النبوية هي شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقية، وتاريخ الدعوة هو الحركة الحقيقية بدين الله تعالى وتبليغه للناس.

وهاتان القضيتان -السيرة وتاريخ الدعوة- من أمهات الحقائق التي يجب أن يعيشها الناس، بعقل مفتوح، وتأمل دقيق، وتفهم واعٍ، من أجل أن تظهر فترة الدعوة المكية والمدنية -كما كانت- بنبضها الحي، وقوتها المتدفقة.

ومن أفضل السبل لعرض حقائق السيرة والدعوة أن نأخذ من المؤرخين القدامى والمحدثين ما يفيد، فمن القدامى نأخذ: حشد الآثار، وتمحيص الأسانيد، وحقائق الوقائع والأحداث.. ونأخذ من المحدثين: التفحص، والتحليل، والموازنة، واستنباط الدروس، والعبر.

وبذلك نعرض أحداث السيرة، ووقائع الدعوة بوسطية حية، محببة، يتأسى بها من كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا.

إنني أكتب في السيرة كمؤمن محب لصاحب السيرة، سيدي محمد صلى الله عليه وسلم، تدفعه عواطفه المحبة إلى مواصلة المديح والإشادة، ويدفعه إيمانه إلى التزام الدقة والصدق، الذي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله أن رواية الصدق لا تُظهر إلا عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأكتب في الدعوة كذلك كعالِم شرفه الله بالتخصص في علوم الدعوة، وقدر الله تعالى -بفضله ومننه- عليَّ العمل لها؛ ولذلك فإني أود أن آخذ من السيرة الدروس المفيدة للدعوة والدعاة، وأحبب الدعاة في أن يعيشوا مع السيرة فهما واستفادة وعملا.

ص: 23

وليس من اللائق أن يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الكتب حبيسا، أو في ثنايا الألسنة ذكرا وفقط، وإنما الواجب أن يصير عملا وسلوكا وقدوة؛ لتحيا الأمة مرة أخرى، ويعيش الإسلام حاضره العظيم.

لقد عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثلوها في نومهم، ويقظتهم، وحركتهم، وسكونهم.. وهو الأمل الذي أرجوه لنفسي وللمسلمين أجمعين؛ ولذلك جعلت دراستي للسيرة والدعوة في إطار واحد.

وبذلك أكون قد سلكت منهجا وسطا، لا إفراط فيه ولا تفريط؛ لتتحقق الفائدة، ويبدو الإسلام بواقعيته وشموخه.

وبهذه الوسطية المنهجية أشعر أني من الحق والصواب، أورده بدليله الصحيح بعيدا عن الشطط الذي لا أرتضيه، سواء كان مدحا أو ذما.. وبذلك ألتزم مع السيرة والدعوة بالصدق والأمانة، واضعا أمام عيني قول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"1.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني في مقصدي، ويبارك لي فيه، ويجعله ذخرا لي في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.

أ. د/ أحمد أحمد غلوش

مدينة نصر 11/ 3/ 1424هـ

12/ 5/ 2003م

1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب العلم - باب إثم مَن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص202.

ص: 24