المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: كثرة المبشرات - السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي

[أحمد أحمد غلوش]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: "العرب

- ‌المبحث الثاني: الروم:

- ‌المبحث الثالث: الفرس

- ‌المبحث الرابع: الهنود

- ‌المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام

- ‌أولا: شيوع الضلال الديني

- ‌ثانيا: هوان الإنسان

- ‌ثالثا: سهولة التواصل

- ‌رابعا: تعدد الصراع

- ‌خامسا: النضج الفكري

- ‌سادسا: انتظار رسول جديد

- ‌الفصل الثاني: السيرة النبوية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: النسب الشريف

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى: أصالة النسب

- ‌المسألة الثانية: بعد آبائه عن الشرك وعبادة الأصنام

- ‌المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر بطون العرب

- ‌المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها

- ‌المبحث الثالث: ميلاد اليتيم محمد

- ‌المبحث الرابع: محمد في ديار بني سعد

- ‌المبحث الخامس: شق الصدر:

- ‌المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا

- ‌المبحث السابع: زواج محمد صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثامن: بناء الكعبة

- ‌المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

- ‌أولا: كثرة المبشرات

- ‌ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة

- ‌ثالثا: منع الجن من الاستماع

- ‌رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر: بدايات الوحي

- ‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي

- ‌المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة

- ‌أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام

- ‌ثانيا: صلته بأعمامه

- ‌ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة

- ‌المبحث الثالث عشر: عام الحزن

- ‌المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة

- ‌أولا: سودة بنت زمعة رضي الله عنها

- ‌ثانيا: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها

- ‌ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى

- ‌النصر الأول: إسلام عداس

- ‌النصر الثاني: إسلام الجن

- ‌النصر الثالث: إجارة المطعم بن عدي

- ‌النصر الرابع: أضواء وسط ظلام القبائل

- ‌النصر الخامس: الإسراء والمعراج

- ‌النصر السادس: إسلام الأنصار:

- ‌الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى في مكة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة

- ‌أولا: منهج الدعوة

- ‌ثانيا: المضمون الفكري للحركة

- ‌ثالثا: أسلوب الدعوة

- ‌رابعا: وسائل الدعوة

- ‌المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية

- ‌مدخل

- ‌أولا: اقتصار الدعوة على العقيدة:

- ‌ثانيا: قيام الدعوة على الاتصال الفردي

- ‌ثالثا: تخير المدعوين:

- ‌رابعا: تجنب ضلالات القوم:

- ‌خامسا: دعوة الأقربين الذين يعاشرهم

- ‌سادسا: إسلام الضعفاء فقط

- ‌سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه

- ‌ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه

- ‌تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة:

- ‌المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الخامس: المرحلة الأولي للجهر بالدعوة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌أولا: ظهور الجماعة المؤمنة

- ‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

- ‌المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة

- ‌المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام

- ‌المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة

- ‌المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية

- ‌المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع

- ‌المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية إيمان المعذبين

- ‌ثانيا: تحرير الأرقاء:

- ‌ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة

- ‌رابعا: انتهاء المقاطعة

- ‌المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة

- ‌المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية

- ‌الفصل الرابع: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المكية

- ‌تمهيد:

- ‌الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين

- ‌الركيزة الثانية: دور الداعية

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية صلته بالله

- ‌ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس

- ‌الركيزة الثالثة: صفات الدعاة

- ‌مدخل

- ‌أولا: صفات التكامل الذاتي

- ‌ثانيا: صفات الترابط والمودة

- ‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه:

- ‌الركيزة الرابعة: الملاءمة بين الدعوة والواقع

- ‌الركيزة الخامسة: إدراك مسئولية الدعوة

- ‌الركيزة السادسة: دور المرأة المسلمة في الدعوة

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌أولا: كثرة المبشرات

‌المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

‌أولا: كثرة المبشرات

المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

بعدما تزوج محمد صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها لم يعد محتاجا لمال يسعى لتحصيله، أو ينشغل في العمل من أجل كسبه، فلقد أغناه الله بمال خديجة رضي الله عنها، وأغناه كذلك برضى النفس، وهدوء البال، وأغناه بالميل نحو التأمل والتفكير، أكثر من ميله للكسب المادي، وبذل الجهد والعمل.

ولذلك نراه صلى الله عليه وسلم يبدأ حياة التأمل، ويتفرغ للتحنث بعيدا عن صخب الحياة، وضجيج العمل، وفي فترة ما قبل البعثة عاش محمد صلى الله عليه وسلم -وعاش العالم كله- مقدمات البعثة، المتمثلة في النقاط التالية:

أولا: كثرة المبشرات

تمتلئ كتب السيرة والتاريخ بالمبشرات الكونية والإنسانية، التي أشارت إلى قرب ظهور نبي في بلاد العرب، يُبعث للعالم كله؛ لنشر العدل، وتحقيق الأمن والسلام، وقد أتت أغلب هذه المبشرات من أحبار اليهود، ورهبان النصارى، وكهان العرب.

وسوف أورد هنا شيئا منها؛ لثبوتها بتصديق القرآن الكريم لها، ولأن ثبوت صدقها إثبات للإرهاصات العديدة التي صاحبت مولد محمد صلى الله عليه وسلم ونشأته وحياته كلها.

إن مبشرات أهل الكتاب من اليهود والنصارى هي مبشرات صحيحة لشهادة القرآن الكريم؛ حيث بيَّن الله تعالى بصورة قاطعة معرفة الأحبار والرهبان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحديد مواصفاته، ومكان ظهوره، وطبيعة رسالته العالمية.

ص: 261

يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، ودلالة الآية صريحة في أن أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، يعرفون محمدا ورسالته معرفة تفصيلية، ومع ذلك فقد جحد فريق منهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكتم ما يعرفه، وأنكر ما هو صحيح لديه.

جاء في تفسير الطبري أن أحبار اليهود وعلماء النصارى كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل

، فأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته بكتمانهم ذلك عن علم ومعرفة، وليس لهم ذلك2.

وإنما شبه معرفتهم له صلى الله عليه وسلم بمعرفتهم بأبنائهم، ولم يشبهه بمعرفتهم بأنفسهم؛ لأن الوالد يعرف ابنه في كل وقت وفي كل حال، وقد يغفل عن نفسه أحيانا، وأيضا فإن المعرفة الكاملة للنفس أمر مستحيل بينما المعرفة للولد تكون أكمل. قيل لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا كما تعرف ابنك؟ قال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه، بنعته، فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه3!!

ويقول الله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} 4، فهو صلى الله عليه وسلم موجود في التوراة والإنجيل بوصفه ورسالته.

يروي البخاري بسنده أن عطاء بن يسار لقي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقال له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة.

1 سورة البقرة آية 146.

2 تفسير الطبري ج3 ص146، ط. دار المعارف.

3 تفسير القرطبي ج2 ص163، ط. دار الكتب.

4 سورة الأعراف آية 157.

ص: 262

فقال عطاء: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، ومبشرا، ونذير، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا1.

ويقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2، والآية تبين أن عيسى عليه السلام بشر أتباعه -وعلى رأسهم الحواريون- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وحدد لهم اسمه ووصفه.

ويقول سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3، والآية صريحة في أن الله تعالى بيَّن لأهل الكتاب رسالة محمد ووضحه لهم بالتمثيل والتشبيه الذي يقرب المعنى، ويسهل المفاهيم الصعبة، فمثل محمد وأصحابه في التوراة أنهم متعاونون، يجب بعضهم بعضا، ويواجهون الكفار بقوة وشدة، وأنهم عابدون لله، راكعون، ساجدون، في وجوههم

1 صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب كراهية السخب في السوق ج4 ص46.

2 سورة الصف آية 6.

3 سورة الفتح آية 29.

ص: 263

علامات السجود، وهم يدعون ربهم، ويطلبون منه الخير، والفضل دائما.. ومثلهم في الإنجيل كزرع يانع، بلغ غاية النمو والثمر، بمنظر بهيج، وفائدة واضحة، ينفع نفسه وغيره.

وضَرْب المثال بعد التصريح لزيادة التعريف والتوضيح؛ ولذلك كان عتاب الله لأهل الكتاب لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم آيات الله التي جاءت معه صلى الله عليه وسلم، ولا عذر لهم في ذلك..

يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 1؟!!..

ويقول سبحانه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2؟!!..

وقد جاءت الآيتان بصيغة الاستفهام الإنكاري لإظهار خطأ أهل الكتاب فيما هم فيه من الكفر والعناد، بعدما رأوا الآيات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته، وقد رأوها بأعينهم، وتيقنوها بأفئدتهم.

لقد كان اليهود في المدينة المنورة يخوفون الأوس والخزرج قبل الهجرة بقرب ظهور نبي يتبعونه، ويتقوون به، حتى يتمكنوا من قتل العرب قتل عاد وإرم، الأمر الذي دفع أهل المدينة إلى الإسراع في الدخول في الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يسبقهم اليهود إلى الإيمان به.

يروي ابن إسحاق أن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه أنهم قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه لنا، ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا

1 سورة آل عمران آية 70.

2 سورة آل عمران آية 71.

ص: 264

وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزل قول الله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1..

وخلاصة المبحث هو تأكيد صدق أخبار اليهود ورهبان النصارى في البشارات العديدة التي تحدثوا عنها، وأكدوا ضرورة وقوعها في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم لم يؤمنوا بدعوة محمد

صلى الله عليه وسلم حين جاءتهم؛ حقدا وحسدا..

- يقول سفيان بن حرب: إن أمية بن أبي الصلت ذهب إلى عالم من علماء النصارى، انتهى إليه علم الكتاب، وسأله عن النبي المنتظر.

فقال له: أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر.

فأجابه: هو رجل من العرب.

قال له: من أي العرب؟

فأجابه: من أهل بيت يحجه العرب من إخوانكم من قريش.

قال له: صفه لي.

فأجابه: رجل شاب حين دخل في الكهولة، بدء أمره يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، وهو محوج، كريم الطرفين، متوسط في العشيرة، أكثر جنده الملائكة2.

- ويروي ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال: سافرت إلى اليمن

1 سورة البقرة آية 146.

2 سبل الهدى ج2 ص256.

ص: 265

قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، فنزلت على عثكلان بن عواكن الحميري، وكان شيخا كبيرا، وكنت لا أزال إذا قدمت اليمن أنزل عليه، فيسألني عن مكة، وعن الكعبة وزمزم ويقول: هل ظهر فيكم رجل له ذكر؟ هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم؟ فأقول: لا، حتى قدمت المرة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته قد ضعف، وثقل سمعه، فنزلت عليه، فاجتمع عليه ولده، وولد ولده، فأخبروه بمكاني وأتوني له، وقد شدت عصابة على عينيه، وأسند فقعد، فقال لي: انتسب يا أخا قريش.

فقلت: أنا عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عدي بن الحارث بن زهرة.

قال: حسبك يا أخا زهرة، ألا أبشرك ببشارة هي خير لك من التجارة؟

قلت: بلى.

قال: أنبئك بالمعجبة، وأبشرك بالمرعبة، إن الله تعالى بعث في الشهر الأول من قومك نبيا، ارتضاه صفيا، وأنزل عليه كتابا، وجعل له ثوابا، ينهى عن الأصنام، ويدعو إلى الإسلام، يأمر بالحق ويفعله، وينهى عن الباطل ويبطله.

فقلت له: ممن هو؟

قال: لا من الأزد ولا ثمالة، ولا من سرو ولا تبالة، هو من بني هاشم، وأنتم أخواله يا عبد الرحمن، أحسن الوقعة، وعجل الرجعة، ثم امض وآزره، وصدقه1.

- ويقول عروة بن مسعود الثقفي: بلغت نجران وكان أسقفها صديقا لي، فلما رآني، قال لي: يا أبا يعفور، هذا حين خروج نبي من أهل حرمكم، يهدي إلى الحق، وحق المسيح إنه لخير الأنبياء وآخرهم، فإن ظهر فكن أول مَن يؤمن به2.

- ويُروى أن أبا ثور عمرو بن معدي كرب رضي الله عنه قال: فزعنا إلى كاهن

1 سبل الهدى ج2 ص258.

2 سبل الهدى ج2 ص259.

ص: 266

لنا في أمر نزل بنا، فقال الكاهن: أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، إن هذا لإمراج، ولقاح ذي نتاج.

قالوا: وما نتاجه؟

قال: ظهور نبي صادق، بكتاب ناطق، وحسام ذالق.

قالوا: أين يظهر؟ وإلامَ يدعو؟

قال: يظهر بصلاح، ويدعو إلى فلاح، وينهى عن الراح والسفاح، وعن كل أمر قباح.

قالوا: ممن هو؟

قال: من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، ومطعم الطير المحوم، والسباع الضرم.

قالوا: وما اسمه؟

قال: محمد، وعزه سرمد، وخصمه مكمد1.

- ويروي ابن هشام أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله، ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي فعثر فقال ابنه: تعس الأبعد، يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوه: لا تفعل، فإنه نبي، واسمه في الوضائع -يعني الكتب- فلما مات لم يكن همه إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه2.

وهكذا نرى كثرة المبشرات، وانتشارها في كل أرجاء الأرض، وكلها تشير إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وكان الأمل أن يسارع أهل الكتاب إلى الإيمان والتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم العارفون بها وبصدقها، وقد بشروا الناس بها، لكن الحقد أعمى قلوبهم، وصرفهم

1 سبل الهدى ج2 ص260، وصلاح اسم من أسماء مكة.

2 سبل الهدى ج2 ص262.

ص: 267

عن اتباع الحق، وكَبُرَ في نفوسهم أن يكونوا تابعين لغيرهم..

ومع أنهم لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أبقوا في أفهام الناس هذه المبشرات، وهيئوا العقول الصالحة للإيمان، مما جعل الكثير ينتظر هذا النبي المبعوث بدين الله تعالى.

وقد سبق ذكر ما قاله كاهن عمورية لسلمان الفارسي، وما قاله بحيرى لأبي طالب، وما قاله نسطورا لميسرة

1.

هذا بعض ما قاله الرهبان..

ومما قاله الأحبار ما رواه ابن سعد بسنده عن أبي بن كعب، قال: لما قدم تبع المدينة، ونزل بقناة، بعث إلى أحبار اليهود وقال لهم: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية، ويرجع الأمر إلى دين العرب، فقال له سامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك، إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده مكة اسمه أحمد، وهذه دار هجرته2.

- وعن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: كان الزبير بن باطا -وكان أعلم اليهود- يقول: إني وجدت سفرا كان أبي يختمه عليَّ، فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض القرظ صفته كذا وكذا3.

- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخبير يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قبيل أن يُبعث، ويعلمون أن دار هجرته بالمدينة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أحبار اليهود: ولد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع، فلما تنبئ قالوا: قد تنبئ أحمد، قد طلع الكوكب الذي يطلع، كانوا يعرفون ذلك، ويقرون به، ويصفونه، لولا الحسد والبغي4.

1 انظر ص87.

2 الطبقات الكبرى ج1 ص159.

3 الطبقات الكبرى ج1 ص159.

4 الطبقات الكبرى ج1 ص159.

ص: 268

- وعن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته، فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.

قلت: هلم!

قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منه، ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبقَ نبي غيره، يقول عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه السلام ورحمة الله عليه وقال:"وقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا"1.

1 الطبقات الكبرى ج2 ص161.

ص: 269