الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام
المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة
…
المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام
أدى تغير صورة الجهر العام عن المراحل السابقة إلى أن أخذ طابع الحركة بالدعوة صورا عديدة، منها القديم، وفيها الجديد.
فمع ثبات المضمون الفكري للدعوة إلا أن بقية الجوانب قد تغيرت..
فلقد تنوعت الوسائل، وأصبحت شاملة لكل وسيلة ممكنة، وتغيرت الأساليب، وصارت ملائمة للمدعوين مع تعدد مذاهبهم وأماكنهم ولهجاتهم.
وقد اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه إلى مواجهة الاضطهاد الذي يقع عليهم من أهل مكة بما أمكنهم في إطار ما هم فيه من قلة وضعف.
وذلك سيتناول هذا المبحث المسائل التالية:
المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة
لم تعد وسائل الدعوة قاصرة على الاتصالات الشخصية، والمواجهة المباشرة وإنما رأيناها ظهرت في صور عديدة ومختلفة، ومن أهمها:
أولا: الاتصال بصوره المختلفة:
يرى علماء الاتصال في العصر الحديث أن صورة الاتصال التي يتم بها التوجيه والدعوة تنحصر في ثلاث صور رئيسية هي:
أ- الاتصال الشخصي:
وهو الذي يحدث بين فرد وفرد، أو بين فرد وعدد قليل، وهذا الاتصال يتم بصورة تلقائية، لما بين أفراد هذا الاتصال من معرفة مسبقة وتلاقٍ عادي، كالرجل وبنيه، والإنسان وجاره، والعامل وزملائه، والطالب وإخوانه، وهكذا
…
ويتميز هذا اللون بأنه اتصال هادئ، يقوم على الثقة، وتبادل الرأي في وضوح وبساطة، ورد الفعل واضح عند الطرفين؛ لأنه يتم مباشرة بين الأطراف من غير واسطة، وبلا سابق إعداد، وفي موضوعات شتى، والدعاة إلى الله تعالى يستفيدون بهذا الاتصال، ويجعلونه طريقا لدعوتهم التي يبرزونها لمعاشرتهم بالقول، أو بالعمل، أو بالتأمل والتفكير المشترك..
وهذا الاتصال يفيد في نطاق المجتمع الصغير والبدائي، كالأسرة، ورفاق المسجد، والقرية، وجماعة العمل، وفريق اللعب، وهكذا..
ب- الاتصال الجمعي:
وهو الاتصال الذي يتم بين القائم به وبين جماعة من الناس، بعد إعداد وتنظيم يشمل المكان والزمان والموضوع.
ويتميز هذا النوع بأنه يتم مواجهة وبطريقة مباشرة؛ لأن الإعداد والتنظيم يجمع أفرادا تقاربت ثقافتهم واهتماماتهم ونشاطهم العام، وكل هذا يساعد على وضوح الرؤية، ومعرفة مدى استجابة الجماعة لتوجيهات القائم بالاتصال.. ومن أمثلة هذا الاتصال تجمع الناس لخطبة الجمعة، أو لسماع درس، أو لمناقشة قضية مثارة، أو لحل مشكلة تهم المجتمعين.
ج- الاتصال الجماهيري:
وهم الاتصال الذي يتم بين القائم بالاتصال وبين جمهور عريض غير محدد، وبطريقة غير مباشرة، ويتميز هذا الاتصال بسعته، وسرعة انتشاره، وبتخطيه
للحواجز المادية، ووصوله لكل الناس في مختلف أحوالهم وأماكنهم وأعمالهم، ومن صور هذا الاتصال: النشرات التعليمية، والكتب المؤلفة، وتوجيهات الصحف، وبرامج الإذاعة المسموعة والمرئية، وأشرطة التسجيل، وهكذا..
ومع تميز هذا الاتصال بالسعة والتنوع، فإنه يحتاج لبذل مالي وعملي في إعداد رسائله، ومعرفة مدى استجابة الناس لما يطلب منهم، والوقوف المباشر على تساؤلاتهم
واستفساراتهم، والتأكد من وصول الأفكار إليهم على الصورة المطلوبة.
تلك هي صور الاتصال الممكنة، التي تحدث عنها علماء الإعلام في العصر الحديث، وقد أحاطوها بهالة تفيد أنها من مستحدثات العصر، ومخترعات الحضارة الحديثة، برغم ذلك نقول وبكل وضوح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم هذه الصور الثلاث وهو يدعو الناس خلال مرحلة الجهر بالدعوة..
فبالنسبة للصورة الأولى: نرى أنه صلى الله عليه وسلم استخدم وسيلة الاتصال الشخصي مع أهل بيته وأقربائه وأصحابه الذين أسلموا؛ حيث كان يلتقي بهم بصورة تلقائية عددا من المرات، في اليوم الواحد، وكان صلى الله عليه وسلم يسائلهم عن أحوالهم، ويجيب لهم عما يعن لهم، ويؤمهم في الصلاة، ويبلغهم ما نزل من وحي، ويقرأ عليهم القرآن الكريم، ويحثهم على الصبر والتحمل، ويشد من أزرهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يقابل غير المسلمين المعروفين له، يدعوهم إلى الله تعالى، ويدور عليهم في بيوتهم، وأماكن تواجدهم في مكة أو حولها، وكان كلما قابله واحد يعرفه في الطريق، أو عند البيت، حرا أو عبدا، ضعيفا أو قويا، غنيا أو فقيرا، إلا ويعرض عليه دعوة الله تعالى، ويطلب منه الدخول في دين الله تعالى.
وكان صلى الله عليه وسلم يتبع الناس في مجالسهم، ومحافلهم، وفي المواسم والأسواق؛ ليدعوهم إلى الله تعالى بالحسنى، وبالخلق الكريم.
وكان صلى الله عليه وسلم يشرك من يدعوه في تناول قضية الدعوة من أجل إقناعه بالحسنى، وذلك أمر مهم في حركة الدعوة؛ لأن الدعوة ليست تسلطا واستعلاء، وليست احتقارا لعقل الناس، وليست استهانة بقدراتهم على التصور والحكم السليم.
انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الحصين والد عمران؛ حيث تراه يستدرجه إلى الحق، ويضعه أمام اعتراف صريح بالإيمان، فقد أخرج ابن خزيمة عن عمران بن خالد بن طليق بن عمران بن حصين قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده: أن قريشا جاءت إلى الحصين -وكانت تعظمه-
فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم، فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوسعوا للشيخ"، وعمران وأصحابه متوافرون.
فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك: إنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة وخيرا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا حصين! إن أبي وأباك في النار، يا حصين! كم تعبد من إله؟ ".
قال: سبعا في الأرض وواحدا في السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا أصابك الضر مَن تدعو؟ ".
قال: الذي في السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا هلك المال من تدعو؟ ".
قال: الذي في السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: "فيستجيب لك وحده، وتشركه معهم، أرضيته في الشكر، أم تخاف أن يغلب عليك؟ ".
قال: ولا واحدة من هاتين، وقد علمت أني لم أكلم مثله.
قال صلى الله عليه وسلم: "يا حصين! أسلم تسلم".
قال: إن لي قوما وعشيرة فماذا أقول؟
قال صلى الله عليه وسلم: "قل: اللهم أستهديك لأرشد أمري، وزدني علما ينفعني".
فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم، فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى وقال: بكيت من صنيع عمران، دخل حصين وهو كافر، فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة، فلما أراد حصين أن يخرج قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"قوموا فشيعوه إلى منزله"، فلما خرج من سدة الباب رأته قريش فقالوا: صبأ وتفرقوا عنه1.
ونراه صلى الله عليه وسلم يعيش مع واقع حصين، ويسائله فيها إلى أن تحقق لدعوته ما يريد.
1 حياة الصحابة ج1 ص55.
إن الدعوة في حد ذاتها تقدير للإنسان، وتوجيه أمين للفكر والعقل، وإيقاظ للفطرة وللإنسانية السليمة، وبذلك يتم الإيمان بالاقتناع والفهم، ويرتبط المسلم بدينه حبا وولاء وطاعة.
وبالنسبة لصورة الاتصال الثانية: وهي الاتصال الجمعي نرى أنه صلى الله عليه وسلم استفاد بها، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يتخير الجماعة القليلة العدد، المتفقة اتجاها، الموحدة اهتماما، ويعد لهم اجتماعا منظما، في جو من الود والمحبة لما بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين هذا الجمع من صلات القربى والمعاشرة والقومية وغير ذلك.. كما حدث بعد أن أمر بالجهر بالدعوة، فإن صلى الله عليه وسلم أمر عليا ابن عمه، بأن يعد طعاما وشرابا لأعمامه وعماته، وقد تكرر هذا التجمع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعمامه وعماته، ومن خلال هذا الاتصال اتضحت مواقف كل طرف، وظهر خط كل فرد فقد أعلن أبو لهب عصيانه، وتصديه للدعوة، وأعلن أبو طالب وقوفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحمايته له غير أنه سيستمر على دين أبيه، ومن هذا القبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض الإسلام على من يعرفهم، ولو كانوا أعداء، فلقد اجتمع عند ظهر الكعبة مع صناديد مكة، وهم: عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ورجل من بني عبد الدار، وأبو البختري أخا بني الأسد، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابني الحاج السهميين1.
والاتصال الجمعي: وسيلة تحتاج إلى الإعداد الجيد؛ لأن الرسول أو الداعية يعرف مقدما الهدف الذي من أجله كان تنظيم هذا الاتصال؛ ولذلك لزم إعداد الموضوع، وعرضه بطريقة مقنعة ترضي المستمعين.
وعلى منظم هذا الاتصال أن يتوقع المعارضات العديدة لموضوعه؛ ليستعد بالشرح والتفصيل، وتفنيد المزاعم التي قد تظهر في اجتماعه، انظر إلى رسول الله
1 انظر ص471.
صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أبا جهل ومعه المغيرة بن شعبة.. يقول المغيرة: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة؛ إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل:"يا أبا الحكم، هلم إلى الله ورسوله، أدعوك إلى الله".
فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟.. هل تريد إلا أن تشهد أنك قد بلغت؟.. فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل على أبي جهل فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء، إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل1.
وبالنسبة للصورة الثالثة:
وهي التي تعرف بالاتصال الجماهيري، فقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، ورجا من ورائها أن يصل الإسلام إلى الجماهير الغفيرة من الناس.
لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، ورغب في دعوة أهل مكة جميعا استعان بهذه الوسيلة الجماهيرية، فصعد على الصفا، وأخذ ينادي في الناس فعم وخص، ونادى بطون قريش بطنا بطنا، فجعل الواحد منهم إذا لم يجد وقتا، أرسل من يعرف له الخبر.. وهكذا تواجدت مكة كلها عند الصفا2.
وخرج صلى الله عليه وسلم عند المروة بعد نزول قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ثم قال: "يا آل فهر"، فجاءته قريش، فقال أبو لهب بن عبد المطلب: هذه فهر عندك
1 حياة الصحابة ج1 ص65.
2 انظر ص474.
فقل، فقال:"يا آل غالب"، فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر، فقال:"يا آل لؤي بن غالب"، فرجع بنو تميم الأدرم بن غالب، فقال:"يا آل كعب بن لؤي"، فرجع بنو عامر بن لؤي، فقال:"يا آل مرة بن كعب"، فرجع بنو عدي بن كعب وبنو سهم وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، فقال:"يا آل كلاب بن مرة"، فرجع بنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو تيم بن مرة، فقال، "يا آل قصي"، فرجع بنو زهرة بن كلاب، فقال:"يا آل عبد مناف"، فرجع بنو عبد الدار بن قصي بنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو عبد بن قصي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم الأقربون من قريش، وإني لا أملك لكم من الله حظا، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا: "لا إله إلا الله" فأشهد بها لكم عند ربكم، وتدين لكم العرب، وتذل لكم بها العجم"، فقال أبو لهب: تبا لك فلهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 1.
ووصلت الدعوة إلى كل أهل مكة.. ولذلك عدت هذه الطريقة اتصالا جماهيريا.
وكان صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلى هذه الطريقة ويقول لهم: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب".
1 حياة الصحابة ج1 ص72.
ثانيا: الدعوة بالحوار والمفاوضة
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الوسيلة أملا في إسلام من يفاوضهم ويحاورهم.
وهذه الوسيلة تختلف عن الاتصال الجمعي في أنها قد تكون تلقائية، وقد تكون بإعداد وتوجيه من المدعوين لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يأتي الرسول أو الداعية للمفاوضة، وهو لا يعرف موضوعها، وكل ما في ذهنه، وكل ما يأمله هو عرض الدعوة، وإيمان الناس بها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمل في المفاوضات، ويرجو أن تكون سببا في إسلام أهل مكة..
يروي ابن كثير صورا لهذه المفاوضات، ومنها أن أشراف مكة اجتمعوا عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره شيء، وكان حريصا، يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك1.
ثم عرضوا أن يحققوا له المال، أو الْمُلْك، أو الشرف، أو الزوجة الجميلة، إن كان هو ما يعمل له.. فأجابهم صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي،
1 البداية والنهاية ج3 ص50.
ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".
فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا1، وحاجتنا شديدة إلى المال والماء والعطاء، وأخذوا يطلبون أمورا حسية تأتيهم على وجه خارق للعادة..
فمرة يقولون: سل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنها الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم قصى بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك، وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول2.
ومرة ثانية يقولون: سل ربك أن يبعث لنا ملَكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا، وكنوزا، وقصورا من ذهب، وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنا نراك تقوم في الأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم3.
ومرة ثالثة يقولون: أسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.
واستمر أهل مكة في هذه العروض لا يقصدون من ورائها سوى السخرية، وإضاعة الوقت، والرسول يقول لهم في كل مرة:"ما بهذا جئت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم"4.
1 البداية والنهاية ج3 ص50.
2 البداية والنهاية ج3 ص51.
3 البداية والنهاية ج3 ص51.
4 البداية والنهاية ج3 ص50، 51.
ورغم مقصد أهل مكة من هذا الحوار، إلا أنه يعتمد على أسلوب بياني له فوائده.. فهم يعرضون قضيتهم ومزاعمهم مع شبههم ووجه نظرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع ويرد عليهم في حلم ورفق بما يرد طلبهم، ويحدد لهم ما يدعوهم إليه.
إن وسيلة المفاوضة تتميز بإظهار مراد كل طرف منها، ونظرته إلى الطرف الثاني، ومنهجه في العرض والرد.. ولذلك اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة لعرض الإسلام.
ويبدو أن هذه المفاوضات تعددت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقام بها غير واحد من القرشيين، وكلها تتجه وجهة معينة، فقريش تبرز ما حل بها بسبب الدعوة، وتحاول صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنها بإغرائه بكافة ألوان الإغراء، مع تهديده، وتخويفه، إن لم يتفق معهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يرد بالوحي المنزل عليه، ويقرأ عليهم من القرآن ما يناسب المقام؛ ليبين حقيقة الدين الإلهي، في أنه منزل من الله، وحقيقة القرآن العربي المبين، وحقيقة الرسول الداعية، مع إنذارهم بالويل والثبور إن لم يؤمنوا بالإسلام، وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم، وهم على علم به.
لقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم خلال هذه اللقاءات بالدعوة إلى دينه؛ حيث كان يسمع لمقالة القوم وشبههم ومزاعمهم، ثم يكر بالنقض والرد.
إنه رسول يحمل رسالة، وكتاب ربه معه يهدي به من ضلال، وينقذه من خبال، وإذا كان الله يطلب من عباده أن يستقيموا ويستغفروا، فمحمد الرسول عبد بشر، وهو أول من يستقيم لربه ويستغفر، إنه لا يحتاج لمال، ولا لملك، ولا لجاه، فقد استبان له الطريق، ووضحت أمامه معالم الهدى، وتيقن من كل ما نزل عليه.
إنه صلى الله عليه وسلم متمسك برسالته، ومستمر في الدعوة لها بالحسنى، واللين، والحجة، والبرهان، والبصيرة، والوضوح.
وهكذا كانت المفاوضات وسيلة للدعوة إلى الله تعالى، يقول الإمام ابن كثير:"اعترض المشركون على رسول الله وتعنتوا في أسئلتهم له؛ حيث طلبوا أنواعا من الآيات وخوارق العادات على وجه العناد، لا على وجه الطلب والإرشاد، وكان الرسول يسمع منهم، ويرد عليهم، بالرفق واللين، ويبين لهم خطأ جدلهم وعنتهم"1.
ثالثا: الدعوة بالانتقال إلى القبائل ودعوتهم:
وكان رسول الله يذهب إلى قبائل العرب وبطونهم، يدعوهم إلى الله بالحكمة واللين، وكان ينتهز المواسم والأسواق، ويذهب إلى القبائل في اجتماعهم ويدعوهم، يقول الزهري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض دعوته على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم شريف كل قوم، لا يسألهم من ذلك إلا أن يؤووه ويسمعوا له ويقول:"لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي بالذي أدعوكم إليه فذلك، ومن كرهه لم أكرهه".. فلم يقبل أحد منهم، وما بات أحد من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعرف به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه، ولفظوه2.
وقد ذكر الواقدي البطون والأفراد الذين ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام، وعدهم واحدا واحدا، موضحا مواقفهم.
وأهم هذه الانتقالات من أجل الدعوة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لدعوة بني ثقيف إلى الإسلام؛ حيث عرض عليهم أن يأوي إليهم ويكون معهم إذا أسلموا، لكنهم ردوه ردا قبيحا، وسلطوا عليه سفاءهم وأطفالهم، فرموه بالحجارة، وطردوه من ديارهم وحيدا لا يجد لنفسه نصيرا من الناس، ولا مأوى في ديارهم3.
1 انظر: البداية والنهاية ج3 ص49-53.
2 المرجع السابق ج3 ص140.
3 انظر ص362.
فاتجه إلى الله قائلا: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني! أم إلى عدو ملكته أمري؟!
إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي! أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أم الدنيا والآخرة، أن يحل عليَّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" 1.
وكان نصر الله مع رسوله في هذه الشدة فاستجاب له الدعاء، فآمن به "عداس"، ولما اتجه إلى مكة أجاره "المطعم بن عدي"، فدخل مكة في جواره2.
إن الانتقال بالفكرة برهان على أهميتها، واهتمام صاحبها بها، وهذا في حد ذاته يدفع العقلاء إلى الاستماع والمعرفة والفهم.
وهكذا استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة الانتقال من أجل الدعوة وتبليغ الرسالة لما لها من أهمية في مباشرة التوجيه، ومعرفة موقف المدعوين، والرد على تساؤلاتهم واستفساراتهم، وكان النبي لا يفرق بين قوم وقوم، ولا بين مكان ومكان، بل كان يتجه كلما أمكنه ذلك.. ولعل ذهابه إلى الطائف سيرا على قدمه ذهابا ورجوعا دليل على ذلك، وعلى مدى ما تحمله الرسول للدعوة بهذه الوسيلة.
رابعا: الدعوة بمقابلة الوفود:
استقبال الوفود لإحاطتهم بالأمور التي وفدوا من أجلها أسلوب انتشر بعد صلح الحديبية لكثرة الوافدين، حتى ظن كثير من الناس أن هذه الوسيلة لم تظهر قبل صلح الحديبية.
1 الكامل ج1 ص345.
2 انظر ص376، 378.
لكن ذلك ليس صحيحا، فلقد ظهرت هذه الوسيلة قبل الهجرة..
وأهمية هذه الوسيلة تبرز في أنها تبلغ قوما جاءوا يبحثون عن الحقيقة، ولديهم رغبة في الاستماع إليها، كما أن هؤلاء الوافدين لا يثقون فيما لديهم من مذهب أو خبر، ويريدون أن يسمعوا الحقيقة من مصدرها، وبخاصة أن أهل مكة وأعداء الدعوة أخذوا في ترويج الإشاعات، ونشر الأكاذيب حول محمد ودعوته.. ولذا جاءت الوفود للرسول نفسه بعيدا عن قالة السوء، ومروجي الإشاعات، وناقلي الأخبار الكاذبة.
ومجيء الوفد دليل على رجحان عقل أصحابه ومن وراءهم، فهم من أجل الوصول للحق والصواب جاءوا متحملين للمشاق، باذلين من وقتهم وجهدهم ومالهم الكثير في سبيله.
إن الغالبية العظمى للوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مكة أو في المدينة، كانت خيرا لأصحابها؛ إذ دخلوا في الإسلام بعد أن عرفوه، وعلموا حقيقته.
وأول وفد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وفد نصارى الحبشة؛ حيث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا أو قريبا من ذلك فكلموه، وسألوه، وتحدثوا معه "ورجال من قريش يرقبونهم"، لما فرغوا من أسئلتهم واستفسارتهم، استمعوا لرسول الله يحدثهم فيما أرادوا، ويدعوهم إلى الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، حتى فاضت أعينهم من الدمع، وآمنوا، وصدقوا، ودخلوا في دين الله تعالى، فلما قاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، اعترضهم أبو جهل ونفر من قريش، وقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم، فتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم.
فردوا عليهم: لا نجاهلكم، سلام عليكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا أنفسنا خيرا1.
1 البداية والنهاية ج3 ص82.
ومن أشهر الوفود التي قدمت إلى مكة وفد الأوس والخزرج الذين جاءوا إلى رسول الله وقابلوه عددا من المرات وبايعوه بيعتين عند شعب العقبة، تعرفان بيعة العقبة الصغرى، وبيعة العقبة الكبرى؛ حيث اتفق النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة الثانية على أن يهاجر والمسلمين إلى المدينة، على أن يمنعه أهلها بما يمنعون به نساءهم وأبناءهم وأموالهم، واختار منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، يكونون على قومهم بما بايعوا عليه1.
ويعد وفد الأنصار هذا من أكثر الوفود تأثيرا في مسار حركة الدعوة، فيه نشأت قوة الإسلام في المدينة، وكانت الهجرة، وكانت الدولة الإسلامية.
إن استقبال الباحث عن الحقيقة يحتاج لداعية كفء يفهم قضيته، ويعرف طرق عرضها الحسن، ويجيد التعامل مع الوافد ذي الثقافة المعينة، والبيئة
الخاصة، والتقاليد المتنوعة.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونة الله له يتعامل مع الوفد بطريقة حكيمة حسنة تؤدي إلى النتائج التي يرجوها المخلصون، والبحث عن الحقيقة موجود دائما، وتصورات العقول يشوبها الشك كثيرا وهي تريد الوصول لليقين، والمشكلة تكمن في وجود أشخاص يتعاملون مع الواقع، ويطوعون القضايا، ويوجهونها نحو الصواب، ويجيدون فهم الدعوة، وحسن عرضها على الأفهام.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم نموذجا عاليا في الاستفادة بهذه الوسيلة؛ لأن القبائل كانت تتخير أعلم أبنائها وأعقلهم، ويحددون له الهدف المقصود، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقابلهم وهو يرجوهم للإيمان.
لا بد من معرفة دوافع الوفد للحضور، وكشف خصائص أفراده، ومعرفة من وراءه؛ ولذلك فالاستماع لأفراده ابتداء ضرورة لا بد منها، وكان صلى الله عليه وسلم يستمع للوفد ويجيب على تساؤلات أعضائه، ويكرم وفادتهم، ويقدم لهم النصح
1 انظر تفصيلات وفود الأنصار من ص149 إلى ص170.
ويدعوهم بالحسنى والهدوء؛ ولذلك كان أعضاء الوفود يتأثرون بكرم الخلق، ويندهشون لجلاء الحق، ويؤمنون بدين الله رب العالمين.
خامسا: الدعوة بإرسال الرسائل والدعاة
من الوسائل التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرحلة ما قبل الهجرة إرسال الدعاة والرسائل، وبخاصة إلى الأماكن البعيدة.
ومن الرسائل ما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم وأرسله إلى النجاشي وحمله عمرو بن أمية الضمري وجاء فيه: "من محمد رسول الله، إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك، القدوس، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة، الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى عليه السلام، فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخته، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، فتؤمن بي، والذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءوك فأقرهم، ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى"1.
وقد أسلم النجاشي الأصحم، وأرسل إلى النبي يخبره بذلك، ويعرفه أنه لا يملك إلا نفسه، وهو النجاشي الذي أكرم وفادة المسلمين إليه، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما علم بوفاته.
1 البداية والنهاية ج3 ص83، وفي المرجع تفصيلات واسعة عن أعمال مصعب في المدينة.
وكما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائله خلال هذه المرحلة بعث بعض الدعاة متميزين بالخصائص التي تؤهلهم للدعوة، ومن هؤلاء "مصعب بن عمير"، فلقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عقب بيعة العقبة الأولى، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين.. فنزل مصعب على "أسعد بن زرارة" فكان يصلي بمن أسلم، ويدعو إلى الله تعالى، وسمي رضي الله عنه في المدينة بالقارئ والمقرئ.
وبسبب مصعب دخل الإسلام كل بيوت المدينة، وعلى يديه أسلم زعيما الأوس والخزرج، وخيرة رجال الأنصار.
ولما هاجر المسلمون إلى الحبشة الهجرة الثانية كان معهم جعفر بن أبي طالب أميرا مقدما عليهم، ومتحدثا نيابة عنهم، وقد قام جعفر بدوره كداعية مسلم، يفهم دينه، ويوضحه بالحسنى والحكمة، ذلك أن قريشا أرسلت وفدا من قبلها إلى النجاشي ليعيد المهاجرين إلى ديارهم.
حاول أعضاء وفد قريش إحداث وقيعة بين النجاشي وبين المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، إلا أنها قوبلت بحكمة جعفر الداعية.
يروي ابن إسحاق بروايته عن أبي موسى قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشا، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية، وقدما على النجاشي، فأتياه بالهدية فقبلها، وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك.
قال النجاشي: في أرضي؟!
قالا: نعم..
فبعث النجاشي إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.
فلما انتهينا بدأنا من عنده من الرهبان قائلين: اسجدوا للملك.
فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل.
فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد؟!
قال جعفر: لا نسجد إلا لله.
فقال له النجاشي: وما ذاك؟
قال جعفر: "إن الله بعث فينا رسولا، وهو الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر".
فأعجب النجاشي بقول جعفر.
فقال عمرو بن العاص: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم!
فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟
قال جعفر: يقول بقول الله فيه: "هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، ولم يفرضها ولد".
فتناول النجاشي عودا من الأرض ورفعه وقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ولا وزن هذه.. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، امكثوا في أرضي ما شئتم، ثم رد هدية قريش1.
وتعد الهجرة إلى الحبشة عملا إسلاميا رائدا، يدخل في إطار التبليغ العام للدعوة؛ لأن الإسلام بهذه الهجرة وصل إلى خارج الجزيرة العربية، وبدأ انتشاره عمليا في العالم.
ويخطئ من يتصور الهجرة إلى الحبشة فرارا من الأذى؛ لأنها كانت في الأصل هجرة للدعوة إلى الله تعالى، وفي نفس الوقت راحة من عدوان قريش.
1 البداية والنهاية ج3 ص70.
يدل على أنها كانت هجرة للدعوة إلى الله في الأساس أن أغلب الذين هاجروا كانوا من ذوي القوة والمنعة في مكة، ولهم من عصبتهم من يدافعون عنهم وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب، وله من أبيه وقومه قوة ومنعة، وفي نفس الوقت بقي الموالي والمستضعفون ولم يهاجروا، وبقوا في مكة صابرين محتسبين.
وأيضا فلقد هاجر نسوة من أشراف مكة، والنسوة لا يتعرضن للأذى كما هو عُرْف العرب في الجاهلية..
ويلاحظ أن هذه الهجرة ضمت رجالا من اليمن كذلك.
وهؤلاء لا صلة لهم بما يجري في مكة؛ لأنهم ليسوا منهم، وعلى رأس هؤلاء اليمنيين أبو موسى الأشعري، الذي هاجر إلى الحبشة مع المهاجرين إليها.
ولو كانت الهجرة إلى الحبشة هروبا وفرارا فقط ما حاول أهل مكة أن يستعيدوا هؤلاء المهاجرين الفارين؛ لأنهم بفرارهم قد تخلصوا منهم، ولو كانت الهجرة فرارا وخوفا لعاد المهاجرون عقب الهجرة إلى المدينة مباشرة بعد زوال سبب الخوف، ولكنهم لم يرجعوا إلى المدينة إلا في العام السابع بعد الهجرة.
إن الهجرة إلى الحبشة كانت دعوة ناجحة، وكان أفرادها خير ممثلين للإسلام، وخير دعاة إليه، وبذلك حملوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وسلموها إليه بمجرد وصولهم إلى بلاده.
وهكذا كان دعاة الإسلام الذين أرسلهم رسول الله وهو في مكة إلى المدينة وإلى الحبشة، كانوا قوة في الحق، وصبرا على البلاء، وحكمة في الدعوة، وأفقا واسعا، ودقة عالية في فهم الموقف، والتعامل معه بما يفيد الدعوة، ويؤدي إلى الإيمان..
لم يعرف مصعب رضي الله عنه الانفعال في مواجهة التعنت والإيذاء، وإنما كان رقة في السلوك، وسموا في الأخلاق، وصبرا جميلا في عرض قضيته على الناس.
ولم يفقد جعفر رضي الله عنه رباطة جأشه حينما رأى وفد قريش يجلسون مع النجاشي، ويوجهون له الأسئلة في تحد واستفزاز، وإنما كان متخلقا بخلق الإسلام،
يرد بما علمه الله، ويجيب وفق ما سمع من رسول الله، واثقا في علو الحق وانتصاره، وقد كان له ما تمنى.
إن الدعوة في المجتمعات غير الإسلامية تحتاج إلى مثل هذه النماذج الرائدة من الدعاة المخلصين.
تلك هي أهم الوسائل التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم خلال مرحلة الجهر بالدعوة في مكة، ويلاحظ أن وسائل المرحلة السرية لم تهمل، وإنما كانت وسائل مستمرة لمواقف تحتاجها، وهكذا سائر الوسائل تكون مع حركة الدعوة على طول الزمن.
سادسا: الدعوة بالعمل والتطبيق
حافظ الرسول صلى الله عليه وسلم على تطبيق ما يدعو إليه، والالتزام به على وجه دقيق، وبذلك قدم دعوته للناس بمنهج عملي.
ولذا كان من أوائل الذين عذبوا وأذوا، وحين دعا المؤمنين إلى الصبر والتحمل كان من أوائل الصابرين، وبقي صلى الله عليه وسلم مع قومه محاصرا في الشعب حتى أتاهم الفرج، وحين عرض عليه قومُه الملك والمال والجاه رفض عرضهم، وبين لهم أنه رسول الله إليهم، وإلى الناس كافة، يحمل لهم دين الله تعالى1.
واستمر يقيم في مكة مع كفارها في الوقت الذي وجه أصحابه رضوان الله عليهم بالهجرة إلى الحبشة حيث الأمن والهدوء.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا عمليا في التأسي والقدوة؛ ولذلك جعله الله تعالى مناط الأسوة والاتباع، يقول الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 2.
1 انظر 342 وما بعدها.
2 سورة الأحزاب آية 21.
إن حياة الرسول العملية كانت دعوة حكيمة ناجحة؛ لأن النفوس تتأثر بالأعمال أكثر من تأثيرها بالأقوال؛ لأن دلالة العمل على الصدق أوضح من دلالة القول المجرد، فلربما كان القول لكسب شخصي، أو لغاية قاصرة، أما عمل الرسول والدعاة فهو دليل على إيمانهم اليقيني بما يدعون إليه، وينادون به.
سابعا: الاستفادة من عادات المجتمع الجاهلي
أقام المجتمع القرشي قبل الإسلام عادة جاهلية، وحافظ عليها، وهي عادة الحماية والجوار، ومعناها أن الضعيف إذا لجأ لقوي أجاره، وأعلن حمايته، وحينئذ لا يجرؤ أحد على التعدي عليه، وإن لا قامت الحرب.
ولذلك كان المجير قوي الشكيمة، عزيزا في قومه، متمكنا من حماية من يجير.
وهذه العادة لا صلة لها بفكر المستجير أو ثقافته؛ ولذلك استفاد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحرك بالدعوة في مكة.
وقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية عمه أبي طالب، يقول ابن إسحاق:"وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم"1..
وقد حاول كفار مكة عدة مرات صرف أبي طالب عن حماية محمد فلم يتمكنوا، وكان لحماية أبي طالب أثر فعال في خدمة الدعوة؛ حيث بقي رسول الله يدعو إلى دين الله تعالى وهو يقيم في مكة.
ومن صور الحماية والجوار التي استفاد بها المسلمون ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: "لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج
1 السيرة النبوية ج1 ص284.
أبو بكر مهاجرا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟
فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي.
فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقري الضعيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك.
فرجع أبو بكر، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن إبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟!
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: فاؤمر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر.
فطفق أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فتتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، وقد جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقرآن فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فانهه، فإن أحب على أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبَى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفر ذمتك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.