الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطريق المستقيم لدعوته، وحصن نفسه بأخلاق الألفة والريادة، ولا عليه بعد ذلك إلا أن يملك أفقا يمكنه من فهم الواقع ويستطيع به عرض دعوته على وجهها السليم.
الركيزة الرابعة: الملاءمة بين الدعوة والواقع
مرت الدعوة في مكة بمراحل متعددة تدور بين السرية في الدعوة، والجهر الخاص، والجهر العام، وكان لكل مرحلة ظروفها الذي حتم صورا معينة في أساليب ووسائل الدعوة.
وحين ننظر إلى الدعوة في العصر الحديث، ونتأمل واقع العالم المعاصر، نرى أنفسنا أمام مجموعة من الحقائق، أهمها:
أولا: يموج العالم بموجات عديدة، ومتعارضة في المذهب، والفكر، والسلوك.
فمن الناحية الفكرية والمذهبية، نرى في كل دين أقلية تلتزم به، وأكثرية تدعيه وتطبق ما يعارضه، وتكتفي بمسميات لا مضمون لها.
والذين يتمسكون بدينهم منقسمون إلى جماعات مختلفة كل منها يدعي الحق لنفسه فقط، ويرى أن ما عداه باطل، ولو كان هذا الانقسام في الفروع لهذا الأمر، لكنه كثيرا ما يكون في الأصول مع أنها واحدة لا تتنوع.
ثانيا: تكتفي الدول الإسلامية برموز إسلامية على أساس أنها الإسلام، فتحافظ على الشعائر الدينية؛ كالصلاة، والصوم، والحج، وتنظم الأحوال الشخصية؛ كالزواج، والطلاق، والميراث، وفق شرع الله تعالى، وتترك ما عدا ذلك لقوانين البشر التي وضعها الناس؛ لأنها تتصور أن تطبيق كافة أحكام الشريعة أمر مستحيل، أو يذهبون إلى عدم تقبل الناس لها.
ثالثا: سيطرت صورة الحياة الغربية القائمة على الفكر الوضعي على الاتجاهات الثقافية والفنية ومختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وتقبل الجمهور ذلك وإن خالف تعاليم الإسلام مخالفة ظاهرة.
رابعا: تعمل أجهزة التوجيه والتثقيف بعيدا عن قيم الإسلام غالبا؛ حيث ترى في أجهزة الإعلام الصور الخليعة، والمسلسلات الهابطة، والقصص والأفلام بمحتواها الضار؛ ولذلك أثره السيئ في التوجيه.
خامسا: برزت طبقات في المجتمع الإسلامي تنسلخ عن الإسلام باسم التنوير والتجديد، وأصبح له صوت وأتباع، وهي ترحب بالفكر الوضعي، وتدافع عنه.
سادسا: تمكن الغرب المسيحي القوي والغني من فرض أنماطه الحياتية على العالم الإسلامي الضعيف، ولم يجد المسلمون أمامهم إلا الخضوع للقوة التي تملك المال والصوت، وكل ما يحتاجه الضعفاء.
وكل مخلص لإسلامه يجد نفسه أمام قوة ترقب عمله، وتحاول هدمه بأساليبها ودهائها.
سابعا: يجد الدعاة أنفسهم تحت المراقبة الدقيقة لقوى العالم المختلفة؛ حيث تحلل كلماتهم، وتقرأ كتبهم، وتتابع حركاتهم وأعمالهم، بحيث لو رأوا خطرا في دعوتهم وعملهم، فإن التصدي لهم يأتي سريعا تحت مسميات عديدة تجعلهم في مصاف الذين يعتدون على حرية الآخرين.
ثامنا: أَلِفَ العامة في المجتمع الإسلامي البعد عن تعاليم الإسلام، وجهلوا الإسلام كله، وصار علمهم بالأفلام والأغاني والأزياء والألعاب الرياضية هو اهتمامهم، وهو ثقافتهم.
لقد راعني شباب وجدتهم يعرفون أسماء ومراكز اللاعبين في الأندية الأوربية وغيرها، وفي نفس الوقت لا يعرفون عن الإسلام إلا قليلا، وجدتهم فخورين بهذه المعرفة، غير عابئين بجهلهم أمور دينهم.
هذا هو الواقع..
بينما الدعوة حقيقة ربانية، حفظها الوحي، وصانتها قلوب قلة مؤمنة، وتحتاج إلى مَن يتحرك بها، ويبلغها للناس بالحسنى وبصورة محببة، وبمنهج يجعلها تفتح العقول والقلوب، بعيدا عن التصادم والعنف والعدوان.
فهل يا ترى:
يطبق الدعاة منهج المرحلة السرية بما فيها من التخير والانتقاء، وترك العلن، والاكتفاء بالاتصالات الفردية، حتى لا يحدث تعارض ومخالفة.
أم يتبع الدعاة منهج الدعوة الجهرية الأولى بما فيها من الدعوة العلنية مع بقاء جمهور المسلمين في صمته، كل في عمله، لا يشعر بمسئوليته المباشرة تجاه الآخرين.
أم نتبع منهج الجهر العام ليقوم كل مسلم بإعلان الإسلام، والدعوة إليه، وتحمل مسئولية تجاه دين الله تعالى؟
إن الأمر ليس بهذه البساطة التي يتصورها بعض الناس؛ لأنه يحتاج إلى دقة النظر، والتأمل في النتائج، وتحليل الموقف؛ لتكون الدعوة إلى الله متلائمة مع الواقع، ولتخذ الدعاة لكل حالة منهجها المناسب.
فهناك حالات تحتاج إلى السرية، وأخرى يناسبها الجهر الخاص، وثالثة تحتاج إلى الجهر العام.
والداعية هو صاحب القرار في ذلك..
وليكن قرار الداعية واضحا وهو يتخير الموضوع والوسيلة والأسلوب..
فمن ناحية اختيار موضوع الدعوة عليه تحديد ما يريد، وليركز على العقيدة؛ لأنها أساس الدعوة، وعليه أن يكون مع العقيدة ملتزما بقول الله تعالى:
1 سورة العنكبوت الآية 46.
وحين يتكلم في العقيدة، فإن من الأولى أن يبدأ بالأهم ثم المهم بعده، على ضوء ما يراه مناسبا لدينه، ولمن يدعوهم.
إن غرس التوحيد في القلوب هو أساس العقيدة، وبعده يأتي إثبات الرسالة وأركان العقيدة كلها.
وإذا ما اعتقد الإنسان أطاع كل ما يتفق مع عقيدته؛ لأن أساس البناء هو العقيدة.
ولتكن الصورة البيانية الحسنى هي لباس العرض، وأسلوب الدعوة..
وعلى الداعية أن يدرك أن الدعوة السليمة لا تحتاج إلى السب واللعن، وليس منها العدوان، وسوء الخلق.. مع كافة المدعوين.
وحين يختار الوسيلة فعليه أن يجعلها مناسبة للناس، فمع العلماء يكون الكتاب والمحاضرة والندوة..
ومع متوسطي الثقافة تكون الصحيفة والبرامج التوجيهية..
ومع العامة يكون الجدل، والحوار، والمقارنة
…
وهكذا.
ومع الأسلوب عليه أن يعود للقرآن الكريم يأخذ منه، فلقد كان القرآن الكريم يخاطب بأسلوبه الكفار والمنافقين والمؤمنين، ويناقش الملأ والفقراء، ويتحدث إلى الرجال والنساء، والكبار والصغار
…
وهكذا.
ولذلك كانت الملاءمة بين الدعوة والواقع ضرورة أساسية لنجاح الدعوة.
إن العقيدة أساس البناء، وغرسها في القلوب مهمة الدعاة.. وليكن معلوما للجميع أن الشريعة تأتي تابعة للعقيدة الصحيحة بصورة تلقائية.
1 سورة آل عمران الآية 64.