الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين
من أساسيات النجاح في تبليغ الدعوة على وجهها الصحيح معرفة المدعوين والإحاطة بالواقع النفسي والفكري والاجتماعي لهم؛ لأن ذلك ييسر عملية الدعوة، ويمكِّن القائمين على شئونها من وضع الخطط الملائمة للمدعوين، ومراعاة ما هم عليه من فكر ودين واتجاه.
إن المعرفة بالمدعوين تمكن الدعاة من مخاطبة القوم بلغتهم، والدخول إلى عقولهم من الجوانب المؤثرة التي تدفعهم إلى النظر والتفكير.
إن كل جماعة لها خصائصها النفسية، واتجاهاتها العقلية، ونشاطها العملي، وفي هذه الجوانب توجد مفاتيح الولوج لشخصية الجماعة، ولذاتية الفرد وسط الجماعة.
والمقصود بالجماعة الطائفة من الناس التي تكون مجتمعا متماسكا مترابطا بواسطة انتماءات خاصة؛ كالوطن أو الدين أو التحزب، مما يؤلف بين أفرادها جماعة يشملهم تماسك نفسي، وولاء وجداني.
إن أي جماعة تعيش مدة ما في إطار انتماء معين، تكتسب صفات خاصة، واتجاهات جديدة، وتعيش بشعور واحد، وآمال واحدة.
إن الفرد يكتسب من الجماعة بفعل العدد شعورا بقدرة لا تقهر، بينما الفرد وحده يردع غرائزه ويخضعها لعقله، لشعوره بالمسئولية.
إن الفرد وسط الجماعة يذعن لغرائزه طوعا؛ نظرا لزوال الشعور بالمسئولية ما دامت الجماعة غفلا، وغير مسئولة.
إن الفرد في الجماع تسري إليه بالعدوى المشاعر الجماعية، بطريقة لم يتوصل إلى تفسيرها، وإن كانت موجودة، وتسهل ملاحظتها، وانتقال شعور الجماعة إلى الفرد بالعدوى يُسَهِّل للفرد أن يضحي بمصالحه الشخصية في سبيل الجماعة العامة،
وهذا استعداد مخالف لطبيعة الفرد، لا يقدر عليه الإنسان إلا إذا كان جزءا من جماعة.
لهذا كان فهم المدعو من أسياسات تكوين الدعاة؛ ليتخيروا المنهج الذي يتبعونه حين الدعوة؛ لأن أملهم النجاح، وتحقيق ما يرجون من غايات.
ولعل الحادثة التالية أوضح دلالة على ما نحن بصدده من تأثير الجماعة، فصاحبها اتخذ موقفا من الدعوة، وكادت تصل إلى أعماقه، ويستسلم لها عندما احتكم إلى طبيعته الخاصة، لكنه لحظه العاثر قدر له أن يضع نفسه مرة أخرى في غمار الجماعة، ويقع تحت تأثيرها، ذلكم هو الوليد بن المغيرة؛ فقد روت كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في المسجد يصلي، والوليد قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه، أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال:"والله لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه"، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها، فأوفدوا إليه أبا جهل يحتال لصرفه عن الإسلام إن كان قد نوى الدخول فيه، وما زال به حتى قام معه إلى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم مجنون، فهل رأيتموه يحنق قط؟
تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن؟
تزعمون أنه شاعر وما فيكم أعلم بالشعر مني، فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟
تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذبا؟
يسألهم ويجيبونه: كلا، في كل سؤال، حتى أعياهم أن يردوا كلامه، فقال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
فقال: دعني حتى أتفكر.
ثم قال: ما هو إلا سحر يؤثر، أَمَا رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر، وهذا هو السحر المبين.
ومن هنا كان لا بد من تثبيت الإيمان في القلوب، ومنحه القدرة على مغالبة هذه الموانع النفسية، ولا نكتفي بجعله إيمانا عقليا باردا، لا بد أن يتحول اليقين إلى إيمان وجداني، حاكم على القلب، راجح على ما يخالفه من رغب ورهب وأمل وألم، ولن يتهيأ ذلك إلا بأن نتوجه إلى كل منافذ التأثير في الإنسان، وهو وحده، أو وهو في جماعة، لنصل من خلالها إلى ما نريده من جعل الدعوة في قرار مكين، وأن نغير بها النفوس قبل أن نغير بها السلوك.
يقول الدكتور/ محمد رجب البيومي: إذا كان القرآن الكريم قد أوتي الإقناع المنطقي الملزم، فإنه لا يتجه بحديثه إلى الفكر وحده، فيلزمه الحجة، مكتفيا به عن سواه؛ إذ إن فاطر السماوات والأرض يعلم أن المعرفة العلمية وحدها لا تكفي في الجذب والتأثير، فلا بد معها من غزو مناطق الشعور، وبعث كوامن العواطف، حتى يتهيأ السامع إذا سمع، والقارئ إذا تلا، إلى انجذاب نفسي يدفعه إلى أشرف المبادئ وأحكم المثل.
ولو كانت المعرفة وحدها كافية للهداية لكانت كتب العلوم الأرضية المخلصة دليل المهتدي، إذا قرئت ودرست، ولكنك تشاهد الناس يقرءونها مقتنعين، ثم يحيدون عن أكثر ما تهدي إليه؛ إذ إن العلم شيء والسلوك الإنساني شيء آخر؛ لذلك اتجه القرآن إلى التأثير الوجداني بعد الحجة والبرهان؛ ليغزو مناطق الشعور الإنساني بتصويره، كما غزا مناطق التفكير العقلي بحججه، فجاء التصوير البياني في القرآن الكريم آية الآيات في الروعة والإعجاز1.
والإنسان سواء أكان منفردا أم في جماعة يجمع في طبيعته من الملكات المتعددة ما يجعل إهمال بعضها إهدارا لجانب من الطبيعة الإنسانية، خلقه الله تعالى ليقوم بدوره، ويؤدي وظيفته.
1 البيان القرآني ص78.
وحين اتجه علماء الكلام إلى العقل وحده، ماذا كانت الثمرة التي جناها الإسلام من وراء جهودهم الخارقة التي ظلت قرونا وقرونا تبدئ وتعيد، في حجج عقلية باردة، لا تثير وجدانا، ولا تدفع إلى عمل؟!!
إن علينا أن نلتقي بالإنسان في قواه المختلفة، وأن نتعامل معها جميعا، نتعامل مع العقل بما له من قوة الإدراك والتمييز، ونتعامل مع الوجدان باعتباره وعاء الأحاسيس والمشاعر، التي تنشأ عن التأثير بما يسر ويؤلم، ونتعامل مع الإرادة باعتبار ما تتخذه من قرارات هي النتيجة النهائية لاستجابتها أو رفضها للدعوة، ذلك أن الصفات النفسية للإنسان مرتبط بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض، والإيمان هو حالة نفسية، مرتبط بالجوانب النفسية كلها، يتأثر بها ويؤثر فيها.
يقول الدكتور/ محمود حب الله: فالعقائد الدينية لا تعتمد على جانب واحد من جوانب الحياة النفسية للإنسان -الوجدانية والإرادية والعقلية- ولكنها تتصل بها كلها اتصالا وثيقا، ولا ترضى نفس المرء ولا تكتمل شخصيته إلا إذا تضامنت شخصيته ونواحيه النفسية كلها، وعملت معا على تقبل كل عقيدة من عقائده، فلا يوجد شيء من التضارب بين قواه المتعددة، حول عقيدة من العقائد، بل انسجام ووئام، فيوجد قبول عقلي، واطمئنان قلبي، والتقاء مع الإرادة، وذلك هو كمال الشخصية وكمال العقيدة1.
ثم يقول: وما دامت العقائد الدينية متصلة بكل من العقل والوجدان والإرادة احتاجت في وسائل نشرها إلى الاعتماد على كل هذه القوى2.
وما دام هذا شأن من توجه له الدعوة وطبيعته، فلا بد لنا -كي نصل إلى التأثير فيه- أن نلاحظ طبيعته بكل جوانبها؛ لأن الفرد في جماعة يواجه واقعا يحدث
1 الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية ص268، 269.
2 المرجع السابق ص274.
في طبيعته بعض التعديل عنه وهو وحده؛ حيث ينشط جانبه الوجداني، بسبب تفاعل مع الجماعة، واستهوائها له، وسيطرة روحها العامة على ملكاته الخاصة.
وقد سبق أن رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى العالم كله؛ ولذلك عرفه الله بطبائع الناس، وواقع المجتمعات المختلفة عن طريق القصص القرآني الذي نزل أغلبه في مكة قبل الهجرة.
وقد احتوى القصص القرآني على نماذج من المجتمعات البشرية، ووضح خصائصهم، وحدد أساليب مخاطباتهم؛ حيث نراه يصور الملأ والضعفاء، ويجلي حقيقة المنافقين والمشركين، ويبين دور السفهاء والمترفين بين الناس
…
إلخ.
وبذلك قدم القصص القرآني تحليلا صحيحا للنفوس والعقول للناس أجمعين.
إن الهيكل العام للقصة القرآنية يأخذ صورة واحدة، فهو قائم على دعوة الله يقدمها الرسول إلى قومه، إلى من أرسل إليهم، فيقف المدعوون موقف المعارضة والإنكار، فيأخذ الرسول في محاورتهم، والرد عليهم، ويناقشهم في شبههم ومعارضاتهم، ويبين لهم الصدق بأدلته، ويحدد لهم بطلان ما هم عليه ببراهينه، ويطوف بهم خلال الحوار مع طبيعة النفوس، واتجاهات العقول، وميول الوجدان.
إن القصص القرآني يبرز ملامح أشخاصه ومنهجهم في الجدل والحوار، وموقفهم من الحق، وبذلك يقدم للدعوة والدعاة صورة حقيقية للمدعوين.
وينتهي القصص القرآني دائما ببيان عاقبة المؤمنين، ومصائر الضالين المكذبين.
والواضح من هذا ما رأينا في تنشئة النبي صلى الله عليه وسلم فلقد عاشر الرعاة، وعاش مع فئة العمال والأجراء، وتعامل مع التجار وسادة الناس، وكان له مع الملأ مواقف وتصرفات، وانتقل إلى عديد من الأماكن؛ حيث سافر إلى المدينة، وإلى بلاد الشام، وتربَّى في بادية بني سعد.
ويكفي حياته المكية؛ لأن مكة في ذلك الزمان كانت تحتوي على كافة أنماط المجتمع البشري؛ حيث جعلها الله بوتقة تضم كل ألوان وأطياف البشر؛ لتكون معمل الخبرة والتجربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللدعوة إلى الله تعالى.
إن معرفة المدعوين، والوقوف على المثيرات الوجدانية والعقلية، ضرورة للدعوة، وحتى لا يحدث انفصال بين الداعية والناس.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث كل قوم بلغتهم، وفي كل أمر يهمهم، وحين يقدم لهم الآيات الدالة على صدق الدعوة اختار الأدلة المناسبة، فإن كانوا من أهل الزرع خاطبهم في الأشجار والنبات والثمار، وإن كانوا من أهل البحر خاطبهم بالماء والسفن واللؤلؤ والمرجان
…
وهكذا.
إن خطاب العالم يختلف عن خطاب العامي بالضرورة، كما أن الحديث مع الكبير ليس كالحديث مع الصغير، والقضايا التي تحرك الرجل ليس هي التي تحرك المرأة.
والإنسان كما يتاثر بالجماعة يتأثر بالبيئة والثقافة والتوجه العام للمجتمع، فالإنسان الشرقي يختلف عن الإنسان الغربي، والعربي غير العجمي، ومن ثقافته علمية ليس كمن ثقافته فنية أدبية.. والإنسان في مجتمع مستقر يفكر بطريقة تغاير الإنسان في مجتمع مضطرب قلق.
وهذه نماذج لمدى تنوع الناس، وتعدد بؤر التأثير فيهم، مما يؤكد ضرورة تفاعل الدعاة مع المخاطبين، ومخاطبتهم بما يناسبهم1.
وفي العصر الحديث رأينا مدى تأثير الدعاة في أقوام يتفاعلون معهم، وما كان ذلك إلا بسبب معرفة الدعاة الشاملة بواقع المدعوين وطبائعهم.. الأمر الذي مكنهم من مخاطبتهم الحسنى، ومناقشتهم بالدليل المقنع، والبرهان السديد.
1 لقد عاصرت مجموعة من الدعاة أرسلهم الأزهر الشريف -مشكورا- للدعوة في بعض البلدان الإفريقية، لكنهم لعدم معرفة لغة وأحوال الناس ظلوا مدة طويلة يعلمونهم مبادئ اللغة العربية، ولم يتمكنوا من تبليغهم دين الله تعالى.