الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله"1.
ومن صور الإجارة ما سبق ذكره حين عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، فلقد دخل مكة في جوار المطعم بن عدي على نحو ما سبق ذكره2.
ومن المعلوم أن الاستفادة بالواقع الاجتماعي في نجاح الدعوة أمر مباح ما دام لا يمس جوهر الدعوة بصورة ما.. أما إذا أدى إلى أي مساس ضار بالدعوة فإنه لا يجوز؛ ولذلك صاح الرسول صلى الله عليه وسلم في وجه عمه باكيا حينما طلب منه أن يبقي الدعوة على نفسه، قال له:"يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك فيه"3.
وكما فعل أبو بكر رضي الله عنه، فإنه رد جوار ابن الدغنة حين وجده قيدا عليه في الدعوة، واكتفى بحماية الله له.
1 صحيح البخاري - باب الكفالة - باب جوار أبي بكر ج4 ص130، ط. الأوقاف.
2 انظر ص 376.
3 سيرة ابن هشام ج1 ص265.
المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية
تنتقل الأفكار والمعلومات من طرف إلى آخر بواسطة ألفاظ وجمل، تملك قوة التأثير والإقناع، وتحقق الغاية من إطلاقها منطوقة أو مكتوبة أو مصورة.
والبلاغة بفنونها المختلفة هي المورد الفياض الذي يقدم للدعوة أسلوبها المؤثر ومقولتها السديدة.
والقرآن الكريم هو الذروة الأعلى في البلاغة العربية، وهو الأسلوب الذي اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم في عرض دعوته، وتبليغ دين الله تعالى؛ ولذلك حين نبحث في أساليب الدعوة في عصر الرسالة نجد أنفسنا تلقائيا أمام القرآن الكريم نستنطقه فيطلعنا على أسلوب رسول الله في الدعوة، وسنتهديه فيهدينا.
ومن هنا ندرك أن القرآن الكريم هو دستور الدعوة موضوعا، ووسيلة، وأسلوبا، وغاية..
والقرآن الكريم يقدم الفصاحة العالية البليغة، في أسلوبه، ونسقه، ويصور المعنى المقصود تصويرا حركيا؛ حيث يجسد المعنى، ويقدمه مشخصا، ظاهرا؛ حيث نجده يفضل الكلمة المصورة للمعنى أكمل تصوير؛ ليشعرك به أتم شعور وأقواه، وخذ لذلك أمثلة:
كلمة "يسكن" في قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} 1 لما في السكون من الهدوء والثبات، كأنها على الأرض.
وكلمة "تسوروا" في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 2 لدلالة الكلمة على المفاجأة والمخالفة والاستعلاء.
وكلمة "يطوقون" في الآية الكريمة: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3 لأن الطوق يعم ويشمل ما بداخله في إحكام.
وكلمة "يسفك" في آية: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 4 لأن السفك
1 سورة الشورى آية 33.
2 سورة ص آية 21.
3 سورة آل عمران آية 180.
4 سورة البقرة آية 30.
يشير إلى كثرة إسالة الدم والعدوان.
وكلمة "انفجر" في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} 1 لما فيها من المفاجأة والانطلاق والكثرة والدهشة.
وكلمة "يخرون" في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} 2 لدلالة يخرون على الاقتناع والخضوع وقوة الإيمان.
ومن بلاغة القرآن الكريم وتعمقه في التصوير الحركي، نراه يعبر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات، تبين أثر ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس، ذلك أن تصوير الأمر المعنوي في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكنا من النفس، وتأثيرا في الوجدان، ويكفي أن نقرأ قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 3، وقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} 4، لترى قدرة كلمة "ختم" في تصوير امتناع دخول الحق قلوب هؤلاء الناس، وقوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 5 لترى قيمة كلمتي "الظلمات والنور" في إثارة العاطفة وتصوير الحق والباطل، وتلمس من كلمة "يخرجونهم" ففيها دلالة على تصوير
1 سورة البقرة آية 60.
2 سورة الإسراء آيات 107، 108.
3 سورة البقرة آية 7.
4 سورة الجاثية آية 23.
5 سورة البقرة آية 257.
الإخراج بصورة حسية مع أنه مع المعنويات التي يدركها العقل المجرد.
وقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 1 لترى قيمة هذه الصفات التي تكاد تخرجهم عن دائرة البشر إلى عالم لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى؛ بسبب عتوهم وكفرهم.
وقوله سبحانه: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} 2 فكلمات "ينقضون ويقطعون ويوصل" تصور الأمور المعنوية في صور المحس الملموس، وفي القرآن من أمثال ذلك عدد ضخم.
وقد يأتي القرآن الكريم بكلمتين فيهما سر الإيحاء ومصدره، كالجمع بين الناس والحجارة، في قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 3، فهذا الجمع يوحي إلى النفس بالمشاكلة بينهما والتشابه.
وقد تكون العبارة بجملتها هي الموحية، كما نجد ذلك في قوله تعالى:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} 4 أولا تجد هذه الثيات من النار، موحية لك بما يقاسيه هؤلاء القوم من عذاب أليم، فقد خلقت الثياب يتقي بها اللابس الحر والقر، فماذا يكون الحال إذا قدت الثياب من النيران؟!!
ومن هذا الباب قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 5، فإن الظلة إنما تكون ليتقى بها وهج الشمس، فكيف إذا كانت الظلة نفسها من النيران؟!!
1 سورة البقرة آية 18.
2 سورة البقرة آية 27.
3 سورة البقرة آية 24.
4 سورة الحج آية 19.
5 سورة الزمر آية 16.
يقول السيوطي في الإتقان: المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بد من استحضار معاني الجمل، واستحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ ثم استعمال وأفصحها، واستحضار هذا متعذر على البشر، في أكثر الأحوال، وذلك ميسر حاصل في علم الله، فلذلك كان القرآن الكريم أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح؛ ولذلك أمثلة منها قوله تعالى:{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} 1، من جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل.
ومنها قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} أحسن من التعبير بـ"تقرأ" لثقله بالهمزة.
ومنها: {لا رَيْبَ فِيهِ} أحسن من "لا شك فيه" لثقل الإدغام، وهذا كثر ذكر الريب.
ومنها: {وَلا تَهِنُوا} أحسن من "ولا تضعفوا" لخفته.
ومنها: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أحسن من "ضعف" لأن الفتحة أخف من الضمة.
ومنها: "أمن" أخف من "صدق"؛ ولذا كان ذكر الإيمان أكثر من ذكر التصديق.
ومنها: {آثَرَكَ اللَّهُ} أخف من "فضلك".
ومنها: "آتَى" أخف من "أعطى".
ومنها: "أنذر" أخف من "خوف".
1 سورة الرحمن آية 54.
ومنها: {خَيْرٌ لَكُمْ} أخف من "أفضل لكم"، والمصدر في نحو:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} ، {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أخف من "مخلوق" و"الغائب" و"نكح" أخف من "تزوج"؛ لأن فعل أخف من تفعل؛ ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر.
ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ: الرحمة، والغضب، والرضا، والحب، والمقت، في أوصاف الله تعالى مع أنه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنه لو عبر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام، كأن يقال: يعامله معاملة المحب، والماقت، فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة؛ لخفته، واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ، فإن قوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أحسن من "فلما عاملونا معلمة المغضب" أو "فلما آتوا إلينا بما يأتيه المغضب"1. اهـ.
ولم يزد مرور الزمن بألفاظ القرآن إلا حفظا لإشراقها، وسياجا لجلالها، ولم تهن لفظة، ولم تتخل عن نصيبها، في مكانها من الحسن، وقد يقال: إن كلمة الغائظ من قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} 2 قد أصابها الزمن، فجعلها مما تنفر النفس من استعمالها، ولكنا إذا تأملنا الموقف، وأنه موقف تشريع وترتيب أحكام، وجدنا أن القرآن عبر أكرم تعبير عن المعنى، وصاغه في كتابة بارعة، فمعنى الغائط في اللغة المكان المنخفض، وكان يمضون إليك في تلك الحالة، فتأمل أي كناية تستطيع استخدامها مكان هذه الكتابة القرآنية البارعة، وإن شئت أن تتبين ذلك فضع مكانها كلمة تبرزتم، أو تبولتم، لترى ما يثور في النفس من صور ترسمها هاتان الكلمتان، ومن ذلك كله ترى كيف كان موقع هذه الكناية
1 الإتقان ج2 ص125.
2 سورة المائدة آية 6.
يوم نزل القرآن، وأنها لا تزال إلى يوم الناس هذا أسمى ما يمكن أن يستخدم، في هذا الموضع التشريعي الصريح.
وتأتي الفاصلة في القرآن مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة، يتعلق معناها بمعنى الآية كلها تعلقا تاما؛ بحيث لو طرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم، فهي تؤدي في مكانها جزءا من معنى الآية، ينقص ويختل بنقصانها.
وقد يشتد تمكن الفاصلة في مكانها، حتى لتوحي الآيات بها قبل نطقها، كما رُوي عن زيد بن ثابت أنه قال: أملى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، وهنا قال معاذ بن جبل:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاذ: ممَّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: "بها ختمت"1.
وحتى ليأبى قبولها، والاطمئنان إليها، من له ذوق سليم، إذا غيرت وأبدل بها سواها، كما حكي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ:{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، ولم يكن يقرأ القرآن وختم بأن الله غفور رحيم، فقال الأعرابي: إن كان هذا كلام الله فلا، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء عليه2، والآية إنما ختمت بقوله تعالى:{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وخذ الآيات التي تنتهي بوصفه تعالى بالعلم، أو بالقدرة، أو بالحلم، أو
1 الإتقان ج1 ص104.
2 المرجع السابق ج1 ص101.
بالغفران، نجد المناسبة في ذلك الختم واضحة جلية، واقرأ: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 1 فهو يعلم بما يجري في المشرق والمغرب.
وقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2 السميع لنجوانا، والعليم بما تضمره أفئدتنا من الإخلاص لك.
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3 فهو سميع بما تم من وصية، وعليم بمن يبدلها.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4 فالمجيء بالساعة في مثل لمح البصر أو أقرب يستدعي القدرة الفائقة.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5 فإحياء الموتى يحتاج كذلك إلى قدرة خارقة.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6 فمالك السماوات والأرض -لا ريب- يقدر على كل شيء.
1 سورة البقرة الآية 115.
2 سورة البقرة الآية 127.
3 سورة البقرة الآيتان 180، 181.
4 سورة النحل الآية 77.
5 سورة الحج الآية 6.
6 سورة آل عمران الآية 189.
وقد تجتمع فواصل متنوعة، في إطار غاية واحدة، لحكمة يريدها الله تعالى من هذا التنوع في هذا التنوع، ومن ذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} 1، فإن الموضوع عرض لإثبات أدلة وجود الله وقدرته ووحدانيته، ومع ذلك تنوعت الفواصل؛ حيث ختمت آية بـ"يتفكرون" لما أن الاستدلال بإثبات الزرع والثمر على وجود الله وقدرته، ويحتاج إلى فضل تأمل، يرشد إلى أن حدوث هذا النوع يحتاج إلى إله قادر يحدثه، فناسب ذلك ختم الآية بما ختمت به، وانتهت الثانية بـ"يعقلون" لما أن تسخير الليل والنهار لخدمة الإنسان؛ ليرتاح ليلا، ويعمل نهارا، وتسخير الشمس، والقمر، والنجوم، فتشرق وتغرب في دقة ونظام تامين، يحتاج إلى عقل يهدي إلى أن ذلك لا بد أن يكون بيد خالق مدبر، فختمت الآية بـ"يعقلون"، وختمت الآية الأخيرة بـ"يذكرون" لأن الموقف فيها يستدعي تذكر ألوان مختلفة بثها الله في الأرض، للموازنة بين أنواعها، بل الموازنة بين أصناف نوع منها، فلا يلهيهم صنف عن سواه، ولا يشغلهم نوع عن غيره، وهذه الموازنة تقضي إلى الإيمان بقدرة الله، خالق هذه الأنواع المختلفة المتباينة.
1 سورة النحل الآيات 10-13.
هذا..
وقد أبرز القرآن الكريم مع فصاحة الكلمة، وبلاغة الآيات، ودقة الفواصل، وروعة التعبير -صورا تعد قمة في الفصاحة والبلاغة، وتجعل القارئ أو المستمع أمام صورة حسية بارزة، تصورها الكلمات، وتقدمها للعقل في هيئة جميلة، مقبولة، بعيدة عن التجريد العقلي الخالي من الإثارة والتوضيح.
إن الأسلوب التصويري يختلف عن الأسلوب التجريدي في أن التجريد يضع المعنى في صورة معنوية تحتاج لإدراكها إلى عقل واعٍ، وفهم عالم، أما التصوير الحسي فإنها تقدم المعنى في صورة متحركة تلتقي مع الحس، وتثير الوجدان، وتوجد في النفس انفعالا يدفعها إلى معايشة الحدث ومتابعته والتأثر به.
ومن أهم ما قدمه القرآن الكريم في مجال الأسلوب التصويري ما يلي:
1-
التصوير بالألفاظ والعبارات:
ألفاظ القرآن الكريم كلها مختارة ومقدرة لتحتل مكانها في الجملة بحيث لا يغني عنها سواها، ولتنهض بدورها في تأدية المعنى على أكمل وجه، وأتم بيان، وأبلغ صيغة.
والقرآن الكريم لم يبتكر ألفاظا كانت مجهولة قبله، بل الجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف الموارد، وأمسها رحما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها، وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين.
وقد مر بنا منذ قليل عدد من الأمثلة على كلمات قرآنية وضعت في موضعها، ورأينا كيف أنها صورت معناها، وقدمته جليا واضحا شاملا لكل جوانبه وعناصره.
كما شاهدنا تميز الكلمة في موضعها عن سواها المشتمل على نفس المعنى..
وكما بدت البلاغة القرآنية في الكلمة الواحدة، والجملة المركبة، فإنها تتحقق كذلك في الآيات الكثيرة وهي تتحدث عن موضوع ما.. ومن أمثلة ذلك النوع نقرأ قوله تعالى:{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} 1 وهذه الآيات جزء من قصة أصحاب الجنة التي ذكرها القرآن الكريم بيانا لعاقبة البخل؛ ترهيبا منه، وحثا على البذل، ونقف عند الكلمات {فَتَنَادَوْا} و {مُصْبِحِينَ} و {فَانْطَلَقُوا} و {يَتَخَافَتُونَ} فنجدها تصور حركة أصحاب الجنة وهم يتنادون مبكرين قبل أن يستيقظ الفقراء، ثم وهم ينطلقون إلى جنتهم لا يصرفهم شيء عما اعتزموه، ثم وهم يبالغون من التكتم زيادة في الحيطة، ويتخافتون ويسرون بالكلام، وهذا التصوير الذي قامت به الكلمات يثير الخيال، ويجعله يتابع حركتهم، ويستثير في النفس حبها للاستطلاع، ويستولي على مشاعر السامع، فلا يستطيع التحول عن متابعتهم فيرى نهاية أمرهم، ومن ثم يستقر في وجدانه الدرس القيم الذي سيقت القصة من أجله.
ومن أمثلته قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} 2 والآيات الكريمة تخوف من البخل وعاقبته؛ ولذا نقف عند الكلمات {نَارًا} و {تَلَظَّى} و {الْأَشْقَى} و {وَتَوَلَّى} و {وَسَيُجَنَّبُهَا} ففيها من القدرة على التصوير ما يجعلها أبلغ في الترهيب، فالمنذر به {نَارًا} ومن ذا الذي لا يفزع من النار، ويعمل ما يقي نفسه شرها، ثم هي نار {تَلَظَّى} أي: تتسعر، ويشتد لهيبها، ثم
1 سورة القلم الآيات 21-24.
2 سورة الليل الآيات 14-18.
اختيار صيغة المضارع للمبالغة في تأثير التصوير باستحضار المشهد، كأنه واقع وقت التكلم، وما يلقيه المشهد في الحس من الفزع والخوف.
ولو عبر بألفاظ أخرى لا تستطيع هذا التصوير مثل "عذابا شديدا" لما كان له مثل هذا الأثر المناسب للمقام.
وقوله: {الْأَشْقَى} الذي يجعل المستحق لهذا العذاب في قمة الشقاء، وتلك إضافة جديدة تزيد التعبير قدرة على الترهيب، ثم لنتأمل قوله:{وَتَوَلَّى} الذي يصور المكذب في عدم استجابته للدعوة وعناده كأنه يذهب بعيدا عن الدعوة مبالغة في وصفه بالكفر الذي استحق به العذاب.
أما قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} فإنه يصور الأتقى وقد أبعد عن مصدر الخطر، فلم يكتفِ بالوعد بعد تعذيبه، بل أخبر بأنه سيكون بعيدا عن النار زيادة في الاطمئنان، وحثا على البعد عن أسباب الشقاء.
وهكذا يبدو أثر التصوير بالكلمات في تقوية المعاني وزيادة تأثيرها في النفوس تحقيقا لما يرمي إليه الداعية ترهيبا أو ترغيبا.
2-
التصوير بالتشبيه:
أسلوب التشبيه من الأساليب القوية في التأثير لما تملكه من عناصر الحركة والتوضيح، يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني: إن التشبيه يفتح إلى القلب طريقا متصلا بالعين.
وعلى ذلك فهو تحريك للعين والقلب والحواس، ومثاله قوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 1 وقد جاءت هذه الآيات بعد آيات صورت مصير المؤمنين والكافرين بعد استقرارهم في الجنة والنار.
1 سورة المدثر الآيات 49-51.
وقد بدأت الآيات باستفهام إنكاري عن سبب إعراضهم عن الإيمان مع وجود كل دواعي الاستجابة ليقوا أنفسهم هذا المصير الذي ينتظرهم.
والقرآن يصورهم في نفورهم من الدعوة، والإسراع في إبعاد أنفسهم عنها إسراعا يمضون فيه على غير هدى، بالحمر المستنفرة التي تبالغ في الهرب، وتحث نفسها عليه، فرارا من أسد هصور، يبغي اللحاق بها لافتراسها، فكم توحي هذه الصورة بالعجب من أمرهم، والسخرية منهم! ثم ما أعظم ما أبرزته هذه الصورة من أحوالهم، فهم في فرارهم هذا من الدعوة لا يلجئون إلى مأمن من الخطر، بل يفرون على غير هدى ولا بصيرة، ثم إبراز ما في نفوسهم من كراهيتهم العميقة للدعوة في تلك الصورة البالغة التي تحملهم على المبالغة في البعد عنها، وعدم الاستماع إليها فضلا عن تدبرها.
وإذا كنا نركز هنا على أثر التصوير في إبراز المعاني، فإن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى عوامل أخرى تضمنتها الصورة، وضاعفت ما بها من تأثير، فاختيار لفظ "الحمر" وما يوحي به من دناءة وخسة مبالغة في السخرية بهم، ثم اختيار لفظ "قسورة" من بين أسماء الأسد؛ لما يوحي به من القسر والعنف مبالغة في سبب فرارهم، وذلك إشارة إلى ما في نفوسهم من مشاعر عدائية، تحثهم على الفرار من الدعوة، وهكذا يبرز التشبيه المعاني ويثبتها في النفوس، ويوحي بما يحقق الهدف منه، ويتضح هذا بجلاء إذا حاولنا أن نعبر عن هذا المعنى بأسلوب غير أسلوب التشبيه، كأن نقول مثلا: فما لهم يعرضون عن الدعوة كل هذا الإعراض، أو هذا الإعراض الشديد؟!!
3-
التصوير بضرب المثل:
يطلق المثل ويراد به: القول السائر الذي يمثل مضربه بمورده، وحيث لم يكن ذلك إلا قولا بديعا، فيه غرابة، صيرته جديرا بالتسيير في البلاد، وخليقا بالقبول استعير لكل حال أو صفة أو قصة، لها شأن عجيب، وخطر غريب، من غير أن
يلاحظ بينها وبين شيء آخر تشبيه1.
ويطلق بالمعنى الأول على الاستعارة التمثيلية التي اشتهرت وصارت مثلا، وهي كثيرة في القرآن الكريم، ومن المعنى الثاني قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} 2 أي: الوصف الذي له شأن عظيم وخطر جليل، وقوله:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} 3 أي: قصتها العجيبة الشأن.
هذا وأسلوب المثل له خطره بين فنون القول وقدرته على التأثير التي يستمدها من خصائصه المميزة:
أولها: ما يعبر عنه السيوطي في الإتقان بقوله: "ضرب الأمثال يستفاد منه أمور كثيرة، منها: تقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص؛ لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالمشاهد"4.
ويقول عنه صاحب الكشاف: "ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى يريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في محضر المتيقن، والغائب كأنه مشاهد وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبي"5.
وثانيها: أن للأمثال قدرة على الاستحواذ على المشاعر، وإيقاظ النفوس، وتحديد نشاطها، فالإنسان يميل بطبيعته إلى الاستشهاد بالأمثال لما يرى فيها من جمال
1 تفسير أبي السعود ج1 ص40.
2 سورة النحل الآية 60.
3 سورة الرعد الآية 35.
4 الإتقان في علوم القرآن ج2 ص131.
5 تفسير الكشاف ج1 ص195.
حكمتها ورشاقة لفظها، وإصابتها المعنى، وطرافتها التي تتجدد ولا تبلى، مما نرى أثره في وجوه السامعين لها، وإقبالهم عليها، وتسليمهم بحكمها.
وثالثها: أن المثال وسيلة من وسائل الإقناع، فإن المورد للمثل إنما هو في الحقيقة يقيس الأمر الذي يدعيه على أمر معروف عند من يخاطبه، ومسلم لديه، ومن ثم لزم التسوية بينهما في الحكم، وتحقق الإلزام به.
تلك أهم عوامل التأثير في أسلوب ضرب المثل، ولنورد بعض النماذج لها.
يريد القرآن الكريم أن يبين للمشركين تفاهة ما يعبدونه من دون الله وعجزهم المزري، فلا يعبر عن ذلك بوصفهم بالعجز والتفاهة، بل يصوره في هذا المثل المؤثر:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 1.
وأي عجز أبلغ من عجز من يزعمونهم آلهة عن خلق أتفه المخلوقات وأحقرها وهو الذبابة، ولو اجتمعوا، وتعاونوا في ذلك، إنهم يعجزون عما هو أيسر من الخلق، وهو استنقاذ ما يسلبه منهم ذلك المخلوق الضعيف.
أبعد هذه دليل على الجهل والضلال؟! وهكذا يتركهم القرآن الكريم هم وآلهتهم سخرية الساخرين، وحديث المتندرين.
4-
التصوير القصصي:
القرآن في قصصه لا يعمد إلى الحشد من الحوادث والمواقف، فيصوره في تتابع ليأتي عليه كله، بل إن القصص القرآني مرتبط بالغرض الديني فهو يسوق القصة في مقام يقتضيها، ولهدف محدد يرمي إليه، ومن ثم يختار من الحوادث والمواقف ما يحتاجه المقام ويصيب به الهدف المقصود، حيث نرى القصة تركز مرة على الزمن
1 سورة الحج الآية 73.
وأخرى على المكان، وثالثة على الأشخاص، ورابعة على الأحداث، وخامسة على الحوار
…
وهكذا تبعا لما يقتضيه مقام إيراد القصة.
ولهذا نرى القصة الواحدة تكرر مرات عديدة في مقامات مختلفة، ويختار منها في كل مقام ما يناسب الغرض المذكور من أجله، وربما كان الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو قصة يوسف عليه السلام؛ إذ ذكرت تامة كاملة مرة واحدة.
ولنأخذ للتصوير القرآني للمشاهد والمواقف، وما يلابسها من نزعات وعواطف، مثالا من قصة مريم عليها السلام في السورة المسماة باسمها.
والغرض الذي سيقت له القصة هو بيان الحق في شأن عيسى عليه السلام وولادته من غير أب، ونفي ما نسجه النصارى حوله من دعاوى زائفة، رتبوا عليها ادعاء ألوهيته، أو أنه ابن الإله، إلى آخر ما قالوه.
وقد اختار القرآن الكريم في هذه المقام من المشاهد ما يفي بهذا الغرض، معقبا عليه بتقرير الهدف من القصة في قوله تعالى:{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 1.
أما المشاهد التي اختارها القرآن الكريم فهي مرتبة على النحو التالي: تبدأ بمشهد يمثل مريم بعد أن بلغت مبلغ النساء، وقد انتحت مكانا بعيدا واتخذت حجابا يسترها عن أعين الناس لشأن من شئونها، يقتضي ألا يرها أحد، ويفاجئها الملَك وهي في خلوتها فينتابها الفزع، ويدور بينهما حوار ينتهي باستسلامها لأمر الله ويحدث الحمل.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ
1 سورة مريم الآيات 34-36.
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 1.
المشهد الثاني: يصورها وقد حملت بابنها، وخافت أن يطلع أهلها على ما بها، فآثرت البعد عنهم ورحلت إلى مكان بعيد، وهناك تعاني آلاما لا قبل لها بها، فهي تعلم أنها تؤدي دورا اصطفاها الله له، ولكنها تدرك كذلك أن أحدا لن يصدقها فيما ستذكره من تفسير لحملها بهذا الوليد بلا أب، ثم تجتمع عليها الآلام الجسدية والنفسية عند الوضع فتكاد مقاومتها تنهار، وتتمنى لو ماتت قبل أن تتعرض لكل ذلك، ولكن الرحمن يفرج عنها ذلك كله في لحظة ويبرئ جراحها، وترى من الآيات ما يملؤها ثقة به تستهين معها بكل شيء.
المشهد الثالث: يمثلها وقد عادت تحمل ابنها إلى قومها، فيواجهونها بما هو متوقع منهم، بالتأنيب والسخرية، ويقفونها موقف المسئول عن جريمة ارتكبتها، ولكن المعجزة الإلهية تنهي الموقف كله، وينطق الله الوليد ليخبر القوم بالحقيقة.
1 سورة مريم الآيات 16-21.
2 سورة مريم الآيات 22-26.
وتنتهي المشاهد عند هذا الحد، فقد استوفى الغرض المسوقة له القصة ما يحتاجه من بيان، ولم يبقَ إلا أن يعقب القرآن عليها بما يبلور مغزاها ويقرر ما دلت عليه.
والمشاهد كما نرى تنقلنا إلى مسرح الأحداث وتعرضها علينا بعد أن منحتها الحياة، وجعلتها تجري تحت أبصارنا وبصائرنا.
ولنلق نظرة على قدر النص على تصوير المشاعر التي صاحبت هذه الأحداث وجعلتنا نشارك أصحابها انفعالهم ونتجاوب معهم.
فها هي ذي مريم -تلك الفتاة العذراء الطاهرة- تريد الخلوة فتحطاط ألا يراها إنسان، وتتخذ الحجاب، ولكنها تفاجأ بشاب وسيم أمامها، ولنا أن نتخيل أزاء ما أصابها من ذعر وفزع، وماذا تملك وهي فتاة لا حول لها ولا طول، وماذا تفعل؟ فلنستمع إلى القرآن يعبر عن فزعها في قوله:{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} .
وعندما يجيبها الملَك الكريم موضحا مهمته لا يجدي ذلك في طمأنتها ونزع الشك من نفسها، فقد تكون خدعة دبرها ذلك الذي اقتحم عليها خلوتها فنراها
1 سورة مريم الآيات 27-33.
لا تستسلم له، بل تعمد إلى الاستيثاق من الأمر فتسأله:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} ؟
وعندما يقضي أمر الله وتحمل استجابة بقضائه، وترحل بعيدا عن قومها تنتابها الهواجس، وتتداعى عليها الهموم، كيف ستواجه قومها، وهم أهل عبادة وطهر وغيرة على الشرف والعرض؟
وكيف ستفسر لهم ما حدث؟
ثم يضاف إلى آلامها النفسية آلام جسدية مما يصاحب الوضع فتخور مقاومتها، وتهن عزيمتها، ولنستمع إلى القرآن يعبر عن ذلك بقوله على لسانها:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} .
ولكن تطورا مفاجئا يبدل كل شيء، وينهي أزمتها، ويبرئ جراحها المادية والمعنوية، فترى من آيات الله ما يرد إليها يقينها، ويملؤها ثقة تواجه بها العالم، وتتحدى الدنيا، فإذا بها تعود غير مكترثة لشيء تحمل ابنها في اعتزاز وفخر، مؤمنة بأن الله الذي رأت فضله وقدرته لن يتخلى عنها مصدقة بوعده، ملتزمة بأمره، وعندما تبدأ محاكمتها أمام قومها بالسخرية اللاذعة، والتوبيخ المهين، لا يحرك ذلك ساكنا فيها، ولا تهتز ثقتها في الله، ولا تزيد عن أن تشير إلى ابنها {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إنه الاطمئنان القلبي لنصر الله ورعايته.
ولكن قومها معذورون، فهي تحدثهم بما لم يعهدوه، فلا تقنعهم إجابتها، بل يرون فيها تهكما بهم، واحتقارا لهم، فيردون عليها وهم في ذروة انفعالهم منكرين ذلك عليها:{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} ؟!.
تلك قدرة التصوير على إبراز المشاعر والتعبير عن أعمق الانفعالات تجعلنا نشارك أبطال القصة مشاعرهم، فنحس نحو مريم بالإشفاق عليها، والتعاطف معها في
محنتها، والإعظام لشأنها، والإعجاب بقوة يقينها، ونتمنى لو كنا هناك لندفع عنها الأذى ونرده على لائميها.
ونلحظ أن أسلوب القصة القرآنية يتضمن التشويق، وتصوير المشهد، ويمزج الجوانب الدينية بجوانب القصة، ويبرز الحوار الحسن، ويكرر بلا ملل أو سآمة.
5-
التشويق والإثارة في الأسلوب:
يتضمن أسلوب القرآن الكريم الإثارة والتشويق بعدة طرق؛ فمرة يفصل بعد إجمال، ويبين بعد إبهام؛ لأن النفس مع الإجمال والإبهام تتشوق إلى معرفة ما وراء ذلك، وتتنبه لما يأتي عساه يكون شارحا موضحا، ومثاله قوله تعالى:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} 1 هكذا عبر عن جزائهم في إجمال بأن مصيرهم الجنة، ثم فصل ما في الجنة من ألوان النعيم، فيقول ذاكرا أحوالهم فيها:{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} 2.
ومثل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} 3 هكذا يعبر في إجمال، ثم يفصل بعض هذا الملك الكبير والنعيم فيقول سبحانه:{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} 4.
1 سورة الإنسان الآية 12.
2 سورة الإنسان الآيات 13-14.
3 سورة الإنسان الآية 20.
4 سورة الإنسان الآيات 21-22.
ومثل قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 1 فقد بيَّن أن مساعي الناس في الدنيا متنوعة، ثم فصل ذلك بقوله:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 2.
ومثال الإبهام ثم التوضيح قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} 3 فقد ذكر لفظ {مَثَلًا} مبهما ثم فسره بما جاء بعده ليثير النفس إلى معرفة المراد ويشوقها إليه.
ومرة بأسلوب التهييج، ومثاله قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 4 فحاشى لله أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لا يتقون الله حتى يؤمر بها، أو أن يكون مطيعا للكافرين فينهى عن طاعتهم، ولكنه أسلوب الإلهاب والتهييج الذي يراد به الحث على زيادة التمسك والتصلب والثبات على ما هو عليه، ويكون فضل هذه الطريقة في التعبير على قولنا: استمر في التقوى أو ازدد منها، وازدد تمسكا بعدم طاعة الكافرين والمنافقين، هي أنها تفيد مع ذلك الإلهاب والتهييج، وتثير الشعور والوجدان، فتكون النفس أحسن تلقيا وأكثر تمسكا بما هو كائن؛ ولذلك نجد هذا الفن من فنون القول مستعملا في المعاني الهامة التي هي أصول في هذا الدين5.
1 سورة الليل الآية 4.
2 سورة الليل الآيات 5-10.
3 سورة التحريم الآية 10.
4 سورة الأحزاب الآية 1.
5 من أسرار التعبير القرآني.
6-
التأثير الصوتي من خلال الترتيل:
يقول الدكتور محمد دراز: أول ما يلاقيك ويسترعي انتباهك من أسلوب القرآن خاصية تأليفه الصوتي في صورته وجوهره، دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله، نازلا بنفسه على هوى القرآن، لا نازلا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ مكانا قصيا، لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها، وسكناتها، ومداتها، وغناتها، واتصالها، وسكتاتها، ثم ألق بسمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريدا، وأرسلت ساذجة في الهواء، فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب لا تجده في كلام آخر، ستجد اتساقا وائتلافا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر على أنه ليس بأنغام ولا بأوزان.
ثم يقول: وهذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب1.
وقد تحدثنا من قبل عن الألفاظ المصورة بجرسها الخاص، حتى أنها لتكاد ترسم صورة للمعنى بنغمها المميز من أمثال: الصاعقة، والصرصر، وغيرها.
ثم هو في بناء جمله يعمد إلى لون من التوافق تكاد تكون به متوافقة في الوزن، فلنقرأ قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 2 فنجد ذلك الإيقاع المميز الذي يشيع في هذه الجمل، فيجعلها كأنها مضبوطة بتفاعيل، وأوزان متحدة.
وثمة سمة أخرى للتعبير القرآني هي ذلك التشاكل الواقع بين الحروف في أواخر الآي يطلق عليه العلماء الفواصل، وهي تمد التعبير بميزة صوتية أخرى تزيد تأثيره، بجانب وظيفتها المعنوية؛ إذ تساعد على تلاوته مرتلا مجودا، بأنغام آسرة،
1 النبأ العظيم ص101، 102.
2 سورة الليل الآيات 1-4.
ذات إيقاع يتناسب مع الموقف، واتجاه التي تصاحبه؛ ولهذا نرى القرآن الكريم ينتقل من فاصلة إلى أخرى تبعا للموقف، وما يتطلبه من إيقاع يتناسب معه.
ولنقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 1 فنراه يستخدم قافية الراء الساكنة التي يوحي إيقاعها بالحزم والجد الذي يستوجبه سياق هذه الأوامر إلى نبيه الكريم بعد انقطاع الوحي عنه.
فإذا انتقل إلى غرض آخر تغيرت الفاصلة بأخرى ذات إيقاع مغاير: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} 2 فهو هنا يذكر باليوم الآخر وما فيه من أهوال، فيختار الألفاظ المتسمة بالشدة والقافية الموحية بالرهبة العميقة.
ومثل هذا نجده في قصة مريم، فقد التزم في القافية الياء المشددة:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 3 إلى آخر القصة، فإذا انتهت وانتقل إلى تقرير مغزى القصة وبيَّن العبرة من ذكرها نقرأ قوله تعالى:{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 فتتغير القافية كما ترى، وكأنما هذه
1 سورة المدثر الآيات 1-7.
2 سورة المدثر الآيات 8-10.
3 سورة مريم الآيتان 16، 17.
4 سورة مريم الآيات 34-36.
الآيات الأخيرة تصدر حكما مستمدا منها، ولهجة الحكم تقضي أسلوبا موسيقيا غير أسلوب الاستعراض، وتقضي إيقاعا رصينا قويا بدل إيقاع القصة الرضي المسترسل، وكأنما لهذا السبب كان التغيير1.
وهكذا يستخدم القرآن الكريم الخصائص الصوتية كوسيلة للتأثير كما سبق أن بينا، فيختار لكل مقام ما تستوجبه البلاغة في التعبير عنه.
7-
إظهار عوامل الطاعة:
يعمل أسلوب القرآن الكريم على إبراز عوامل الطاعة في النفس البشرية، ويورد لذلك عديدا من ألوان الترغيب والترهيب2.
ويحيط الإنسان بمدى علم الله وقدرته، ويدعو دائما إلى النظر في الآيات الكونية والإنسانية.
1 التصوير الفني في القرآن ص90، 91.
2 سوف نفصل هذا الجانب في الجزء التالي بإذن الله تعالى.