الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذه الصلة الصادقة مع الله تكتمل عقيدة الداعية، فيكون خيرا في كافة الجوانب، ويملك القدرة على الدعوة والبلاغ، وحينئذ يمكنه أن يفيض على الناس بما امتلأ به، فكل إناء بما فيه ينضح، والظل في استقامته وامتداده يشبه أصله.
إن داعية متمتعا بهذا اليقين يخدم الدعوة أكثر من آلاف ضعف إيمانهم، وهذلت عقيدتهم؛ لأن هؤلاء الآلاف يضرون ولا يفيدون، وقد أتى الإسلام من قبلهم.
ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس
لا يقف أمر الداعية عند تحسين صلته بالله على نحو ما سبق، فإن ذلك يفيد شخصه أولا وهو مستوى يحتاج إليه كل من أسلم وجهه لله وهو محسن، وإنما على الداعية أن يحسن صلته بالناس، فمعهم تكون دعوته، ولهم ينشرها، وبهم يحقق نصرها وفوزها، وهذه الصلة الاجتماعية ضرورية للداعية؛ لأنه:
أولا: أخ للناس استظهر عليهم بالنصح والتوجيه.
ثانيا: محل الثقة والنظر لما له من صفات ولما ينادي من مبدأ.
ثالثا: رائد الجماعة وزعيمهم؛ ولذلك وجب أن يتحلى بصفات تجعله يعيش وسط الناس في فهم وتقدير، ويتآلف معهم في مودة، ويتجلى بما يضعه في الريادة من غير منازعة وشكوك.
والناس جميعا إخوة، ومردهم جميعا إلى عنصر واحد، وهو آدم أبو البشر أجمعين، وعلى الداعية أن يتيقن ذلك، ويعمل على أساس أنه ليس هناك فرق بين إنسان وإنسان بسبب لونه أو طبيعته أو عنصره، وإنما التفاوت بشيء خارج عن ذات الشخص وعنصره؛ كإيمان، أو عمل، أو إخلاص، وهو تفاوت لا يمس الإنسانية في شيء، وقد وضح الله هذه الحقيقة بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1.
1 سورة الحجرات الآية 13.
يقول الزمخشري: إن معنى الآية: فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب1، وذلك شيء طبيعي؛ لأن الإنسان خلق مكرما، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 2، يقول الألوسي: أي جعلناهم قاطبة -برهم وفاجرهم- ذوي كرم أي شرف ومحاسن3، ولهذه الكرامة الإنسانية جاءت النداءات في القرآن الكريم مصدرة بـ {يَا بَنِي آدَمَ} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} تنويها بهذه الصفة العامة التي يأخذ منها أي إنسان بقدر ما يأخذ الآخرون سواء بسواء.
إن هذا الفهم عند الداعية يجعله لا يفرق بين إنسان وإنسان في دعوته، ولا يفرق بينهم بسبب غنى أو حسب أو ما شاكل ذلك، فلا يدعو القوي تاركا الضعيف، أو يخص غنيا مهملا الفقير، أو يقصر دعوته على الرجال دون غيرهم؛ وذلك لأن دعوته عامة للجميع، وهو المكلف بنشر هداية الله بينهم، والكل متحاج إليها، بل إن الضعيف الضال أحوج إليها من سواه؛ ولذلك فالإعراض عنه ليس من صفات الداعية المثالي، ولقد أودع الله للدعاة درسا في هذا الباب بما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله ابن أم مكتوم، فرغم أن عبد الله كان أعمى مما جعله لا يتحقق عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فدخل عليه طالبا التعليم، في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا فيه بتعليم غيره من صناديد قريش، وكونه أعمى يعطيه العذر في عدم تقدير الوقت المناسب للسؤال، وسبق القرشيين في الحضور يعطي النبي صلى الله عليه وسلم عذرا في إمهال عبد الله، خاصة وأن عبد الله أسلم من قبل، والقرشيون لم يسلموا بعد، وفي إسلامهم إسلام غيرهم، رغم ذلك فقد عوتب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف
1 تفسير الكشاف ج1 ص569.
2 سورة الإسراء الآية 70.
3 روح المعاني ج15 ص117.
حتى لا يقال: إنه أهمل عبد الله لفقره وعماه، واهتم بغيره لجاهه وغناه، ولا يبقى هذا القول بعد ذلك بداية سيئة يهتم فيها الدعاة بالأشياء الظاهرة ويفرقون بين بعض الخلق وبعض بما ليس لهم به سبب، فقال تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} 1.
إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كله كان يعمل للدعوة، ويسعى إلى إسلام القوم وتزكيتهم، باذلا من نفسه جهدا وعملا، كما تفيده التاء في "تصدى"، والقوم الذين تصدى لهم النبي صلى الله عليه وسلم هم: عتبة، وشيبة -ولدا ربيعة- وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وهم قادة مكة ورؤساؤها، مما جعل الرسول يرجو من إسلامهم إسلام غيرهم2؛ ولذلك بقي مستمرا في دعوتهم، فلما جاءه عبد الله ودعاه لم يقطع حديثه معهم، وإنما أعرض عنه، فكان العتاب موعظة ترسي مبدأ إسلاميا؛ هو الحرص على كرامة الإنسان مطلقا، يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
1 سورة عبس الآيات 1-10.
2 تفسير الكشاف ج4 ص218.