الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعاشت في نفوسهم وأحلامهم؛ ولذلك كانت نهايتها أمنية صادقة على مستوى هذا الشمول وهذا العمق، فلما جاءت الدعوة الإسلامية هادفة إلى تغيير جذري في المجتمع، وإزالة الصراع والآلام من حياة الناس، وتحرير العبيد، والمنبوذين، والأُجَراء من وضعهم البائس، ووضعهم في الإطار النظيف الذي وضعته للناس أجمعين بما فيه من كرامة وحرية ومساواة، لما جاءت هكذا آمن بها الجميع وانتشرت بسرعة عجيبة قوية.
خامسا: النضج الفكري
شاهد القرن السادس الميلادي تطورا عقليا في كل أرجاء المعمورة بشكل لم يعهده الناس من قبل حتى كأن البشر قد ترقوا من طفولتهم الذهنية إلى مرحلة بلغ فيها الإنسان أشده -كما يقول الشيخ/ محمد عبده1- ولعل المراد من النضج العقلي المذكور هو وصول الإنسان إلى التفكير الكلي المنظم، الذي يستنتج من المحسوس، ومن القضايا العقلية أشياء أخرى غيرها، وينظر الحياة نظرة فيها الرضى القائم على التحليل والنقد، أو السخط المعتمد على الدليل والمناقشة، ويحاول دائما السمو إلى العلا والتقدم.
إن طفولة الإنسان كانت تقوم على المحسوس فقط، تنبهر بالعجائب، وتندهش بالظواهر الخارقة كعهدها مع الرسالات السابقة؛ لأن الخوارق إليهم كانت حسية، كانوا يؤمنون بعدها خائفين ومندهشين، كما حدث لما أحيا المسيح شابا في مدينة "نايين" فقد أخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قدم قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه2.
ولقد كان عصر الدعوة الإسلامية يوافقه عصر نضج عقلي واضح، ساد العالم كله، وقد تجلى هذا الواقع في نقد ظهر في كل مكان، متجها إلى العقيدة
1 رسالة التوحيد ص155.
2 إنجيل لوقا - الإصحاح السابع - فقرات 14-16.
الدينية وأوهامها، ولم تجد العلماء مشقة أمام الخوض فيما كان ممنوعا من قبل باسم الحق المقدس لرجال الدين وعقائدهم على اختلاف أممهم وأديانهم.
ففي العالم المسيحي الواسع بدأت الأصوات ترتفع ضد أوضاع لا تتفق مع الطبيعة العقلية، من أمثال المناداة بألوهية المسيح، وتركبه من طبيعتين، مع إصرار هذه الأصوات على مذهب الفطرة القائل ببشرية المسيح، وتكونه من طبيعة إنسانية واحدة، وقد اختار الله ليكون رسولا نبيا، من قبل الإله الواحد، وأحاطه بالخوارق التي لا توجد مع الناس دفعا إلى تصديقه في دعواه، وما دفعهم إلى هذا الرأي إلا عقلهم الذي أبى التصديق بما هو وهم وخيال، ولأن تصور أصحاب مذهب الطبيعتين تصور ينهار أمام النظرة الفاحصة، وقد حدثت لهذه المعارضات أحداث خطيرة في كل العالم المسيحي انعقدت لها مجامع عدة، على النحو الذي سبق ذكره.
ولم يكن المنادون بمذهب التوحيد عددا قليلا، يقول إن البطريق:"إن الذنب ليس على "أريوس"، وهو رأس المنادين بالتوحيد، بل على فئات أخرى سبقته فأخذ هو عنها، ولكن تأثير تلك الفئات لم يكن شديدا كما كان تأثير "أريوس" الذي جعل الكثيرين ينكرون سر الألوهية، حتى انتشر هذا الرأي وعم"1، وهذا دليل على نضج عقلي وجد بين المسيحيين، جعلهم يحاولون إصلاح معتقداتهم.
ومن الملاحظ أن المسيحيين الذين عارضوا الإصلاح احتموا أيضا بعقلهم وحاولوا التدليل على صدق معتقدهم بأدلة جدلية في صورة تشبيه عقلي، وهذه إن دلت فإنها تدل على تقدم ذهني، وفهم إدراكي، فيه نوع من التجريد والعقل، يقول الشهرستاني عنهم: "ولهم في كيفية الاتحاد والتجسد كلام، فمنهم من قال: أشرف على الجسد إشراق النور على الجسم المشف، ومنهم من قال: انطبع فيه انطباع النقش في الشمع، ومنهم من قال: ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني،
1 محاضرات في النصرانية ص123.
ومنهم من قال: تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء، والماء اللبن"1.
فهذه الأدلة مع ما فيها تدل على تقدم فكري معين، ويكفي أنها من أنصار التعصب المسيحي الذين آمنوا بألوهية المسيح، وحاولوا جعل هذه الألوهية فكرة مستساغة أمام العقل، فأتوا بهذه التشبيهات ليقربوا فكرة اتحاد الألوهية مع الإنسانية.
ولو تركنا عالم المسيحية إلى غيرها لوجدنا أن الهنود قد أيدوا ثورة "بوذا" على الهندوكية في بعض تعالميمها، ومحاولتها تبسيط العقائد، والاهتمام بالأخلاق والعودة إلى الفطرة، كما أن الهنود قبيل مجيء الدعوة الإسلامية كانوا يتجهون لواحد من الآلهة، ويخصونه باسم:"رب الأرباب" و"إله الآلهة"2، وهذا نوع من التوحيد لم يعهده الهنود من قبل، فلقد كانوا دائمًا يعددون الآلهة، ويقدسون كثيرًا من مظاهر الطبيعة، بلا التفات إلى حقيقتها، أو فهم لمعنى عبادتهم لها، إلا أنهم في هذا العصر بسبب النضوج تمكنوا من تخطي الردة العقلية، والقرب من توحيد الآلهة.
وفي الجزيرة العربية وعلى الرغم من تعمق القوم في تقديس الأصنام، وتعظيم الحجر، فإن النضج الذي اتسم به العصر بدأ يظهر في العرب؛ إذ اتجهوا بعقولهم إلى حياتهم ينظرون فيها، ويضعون لها نظامًا يكفل الأمن والسلام، ويقلل الصراع والشرور؛ ولذلك نظموا نشاطهم خلال السنة فأحاطوا بفصولها، ونظموا التجارة على وفق هذه الفصول، وأقاموا أسواقًا تدور مع أيام السنة، وفي جميع أماكن الجزيرة، وحتى يحققوا أكبر فائدة من هذه الأسواق جعلوها مكانًا للكسب المادي، وتقوية للشعور القومي، وللتسابق اللغوي والأدبي، وكأنها مؤتمرات تمهد لوحدة مقبلة.
وظهرت دقة تنظيم هذه الأسواق في اختيار الأمكنة والأزمنة، فعن الأمكنة وزعوها في ملتقى جميع أبناء الجزيرة، وعن الأزمنة جعلوها في الأشهر الحرم، وبهذه
1 الملل والنحل ج1 ص201.
2 ملامح الهند والباكستان ص143.
الدقة ضمنوا لأنفسهم الحركة الآمنة، والقول الجريء، والنقد الحر، وكل هذه أسباب تجعل العقل ينمو باطراد، وخصوا الأسواق الهامة بشهري ذي القعدة وذي الحجة؛ إذ جعلوا سوق "عكاظ" في أول شهر ذي القعدة، و"المجنة" في آخره، وذي المجاز وعرفة في شهر ذي الحجة1؛ ربطا للدنيا بالدين؛ إذ يُقْدِم الحجاج في هذا الوقت من كل صوب قاصدين مكة، والكعبة، فيعيشون هذه الأسواق، ويكتسبون مع شعورهم الديني بعض معاشهم.
ولعل أوضح مظاهر النضج العقلي عند العرب ظاهرة الحنفاء، الذين أخذوا يحللون بعمق وفهم فساد ما عليه الناس، ويبينون الحاجة إلى دين يعرف بالخالق، ويكتشفون الطريق إليه، مدللين على اتجاههم بما وقعت عليه حواسهم من مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، وليل داج، ونهار ساج، وقد وصلت هذه الجماعة برجاحة عقلها إلى بعض شريعة إبراهيم عليه السلام.
وفي الحق لقد وصل النضج الفكري إلى مستوى ممتاز، ناسب ظهور الدعوة الخاتمة بمعجزتها التي جعلها الله تعالى في قرآنه الكريم، الذي نزل للناس، يؤمن بالكلمة ويخاطب العقول، ويهتم بالمعاني والأفكار، وينقل الإنسان من عالم الحس إلى عالم الغيب والإيمان به، مع اشتماله على وسائل تتعدد أمام الفكر، تؤكد وتجادل، وتقرب وتيسر، قاصدة الإقناع العقلي، واليقين النفسي، والثبات مع الروح والوجدان، أكثر من ثباتها مع الانفعالات والأحاسيس.
يقول الشيخ/ رشيد رضا: إن الله جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها؛ لأن البشر قد بدءوا يدخلون بها في سن الرشد والاستقلال النوعي، الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع من تصدر منهم أمور مخالفة للنظام الكوني، وإنما جعل الله تعالى حجة نبيه كتابه المعجز للبشر، بهدايته
1 أخبار مكة ج1 ص121، 122 بتصرف.
وعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي؛ ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال1.
وقد جعل الله معجزة الإسلام هكذا لتتلاءم مع طبيعة البشر العقلية، ودائما يجعل الله المعجزة من جنس ما تفوق فيه البشر الذين تأتيهم هذه المعجزة، حتى يتمكنوا من تبيان صدق الرسول في دعواه، وينظروا إلى ما جاءهم به، ويعلموا أنه وحي من الله، ودليلهم المعجزة التي يعرفونها يقينا؛ حيث تفوقوا في جنسها ونوعها كما ظهرت لهم.
إن معجزة موسى عليه السلام في قوم اشتهروا بالسحر كانت قلب العصا ثعبانا، وإخراج اليد بيضاء من تحت الجناح، ومعجزة عيسى عليه السلام إلى قوم اشتهروا بالطب هي إحياء الموتى وإبراء الكمه والأبرص، فكان لزاما أن تأتي معجزه الإسلام على هذه السنة، ما دام العالم كله على وجه العموم في موجة رشيدة من النضج الفكري.
وكان العرب على الخصوص أكثر اهتماما بصناعة اللسان، وعلوم البلاغة والفصاحة2؛ ولذا كانت المعجزة هي القرآن الكريم مناسبة لهذا النضج، ومراعاة للبلاغة والفصاحة، ليؤمن العرب سراعا بها وينطلقوا حاملين الدعوة إلى كل العالم مقدرين نضجه الذي ساعد على أن تكون الرسالة عامة وخاتمة.
ومع ما في القرآن الكريم من إعجاز لغوي ناسب العرب الذي نزل بلغتهم، فإنه يشتمل على وجوه عدة للإعجاز تناسب كافة الأمم؛ لأن الرسول بعث للعالم كله، ففي القرآن من وجوه الإعجاز الكثير، منها:
- الإعجاز التاريخي بما فيه من بيان لتاريخ السابقين وآثارهم ومللهم ونحلهم؛ ليناسب أهل الحضارات المهتمين بالتاريخ.
1 الوحي المحمدي ص61.
2 توضيح العقائد ص172.