الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع
حين نعيش مع أسلوب الدعوة في عصر الرسالة نلحظ دقة التوافق بين الأسلوب والموضوع.
الدعوة إلى العقيدة: إذا كان الموضوع دعوة إلى العقيدة نرى الأسلوب يتجه إلى قدرات الإنسان المختلفة بالإقناع والدليل.
فمرة يتجه إلى العقل، فيجادله ليكشف له عن زيف ما هو عليه من عقيدة فاسدة، وأنها متهافتة لا تقوم على أساس ولا يقرها منطق سليم، وليسوق له بعد ذلك الأدلة القاطعة على صحة العقيدة الجديدة، وشهادة المنطق لها، واطمئنانه إليها، وهو في جدله ذاك يسوقه في أسلوب تجتمع له جوانب الإقناع العقلي، والتأثير الوجداني، مما يجعله جديرا بأن يطلق عليه المنطق الوجداني كما سبق.
فقد جادل المشركين، وركز في جدله على إثبات عجز هؤلاء الشركاء المزعومين، وعرض ذلك في أساليب متعددة.
مرة بالتلطف والاستدراج، وإشراكهم في استنباط النتائج، والوصول إلى الحق، كما فعل إبراهيم عليه السلام في إبطال عبادة الكواكب، وكيف استعرضها إبراهيم عليه السلام واحد واحدا؛ ليثبت عدم أحقيتها للألوهية، حتى إذا انتهى منها جميعا صدع بالحق الذي يريده قائلا:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.
ومرة بأسلوب المواجهة الصريحة، التي تقطع كل حجة، وتنهي كل جدل، كما في تلك التجربة العملية التي قام بها إبراهيم؛ ليثبت لقومه أن أصنامهم عاجزة، لا عن النفع والضر فقط، بل عاجزة أيضا عن أن تدفع عن نفسها، وذلك عندما
1 سورة الأنعام الآيات 78، 79.
حطمها وجعلها جذاذا متناثرا تطؤه الأقدام.
ومرة بأسلوب التقرير الذي يجبرهم على النطق بالحق الذي لا يدفع: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 1.
ومرة بالسخرية منهم وتصويرهم في صورة العاجز عن أتفه الأمور، كما رأينا في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2.
ومرة بمطالبتهم بالدليل على دعواهم حتى إذا عجزوا كان ذلك قاطعا في بطلانها؛ لأنها لا تعتمد على دليل.
ومرة يحثهم على تدبر ما في الكون من دلائل على وحدانية الله، وهو في هذا المجال يعرض عليهم صفحات ناطقة من كتاب الكون الدالة على ألوهية الله ووحدانيته، فليس عليهم إلا أن يعملوا عقولهم ويتدبروا، وستبدو الحقيقة لبصائرهم جلية لا تحتاج إلى دليل.
ويتجه القرآن الكريم إلى الوجدان كذلك باعتباره وعاء الشعور الإنساني ومجمع غرائزه ونزعاته وحوافز إرادته؛ حيث نراه:
1 سورة يونس الآيتان 34، 35.
2 سورة الحج الآية 73.
- يثير غريزة حب الذات بالترغيب، فالإنسان مجبول على حب الخير لنفسه والسعي لما يحققه، فيعده بالخير في الدنيا والآخرة، ويعرض عليه صورا وألوانا منه، مستخدما كل وسائل التأثير، من تصوير معجب، وتأكيد قوي، وتشويق يثير الكوامن، فيريه الجنة كأنه يرى مباهجها، ويستروح نسماتها، ويزين له ما يصنعه الإيمان في القلوب من شعور بالمن وشعور بالرضا إلى آخر تلك المعاني التي تلمس الوجدان وتفتح مغاليق القلوب.
- يثير غريزة الخوف بالترهيب مما سيترتب على عدم الاستجابة من ويل وبلاء في الدنيا والآخرة أيضا، فيعرض عليه صور العذاب في الآخرة، ويذكره بما أصاب الأمم السابقة في الدنيا عندما تولت عن دعوة الله، في أساليب تجعله يرى مصارع القوم، ويسمع أناتهم، مما يهز القلوب، ويزلزل النفوس لتنقاد وتلين.
- يثير غريزة التدين في الإنسان التي تدفعه إلى البحث عن الحق، فيلقنه إياه، في أسلوب أخاذ يحثه فيه على النظر في آيات الله، ويعرض عليه من ذلك ما يمتع الحس والعقل معا.
- كما يثير فيه مشاعر الهيبة والإجلال لله، بما يعرضه عليه من صفات جلاله، وعظائم آياته الدالة على قدرته، كما يثير مشاعر الحب لله، ورجاء فضله، والتودد إليه، والتوكل عليه، والثقة في رعايته وحمايته، بما يعرضه من ألوان نعمه، وعميم فضله، وسابغ رحمته، فهو الرحمن، الرحيم، الودود، الغني، الباسط، الجواد، أسبغ نعمه على الناس ظاهرة وباطنة.
تلك المعاني التي تمثل رباطا روحيا محكما يشد الإنسان إلى ربه، يكررها القرآن ويؤكدها حتى تستقر في النفوس فترقق العواطف وتلين القلوب وتجذبها نحو الحق جل وعلا.
كما يستجيش القرآن شعور الكرامة الإنسانية، فيربأ به أن يذل لمخلوق مثله، وأن يعنو وجهه لما لا يملك لنفسه شيئا، ويزكي فيه شعور الاعتزاز بما فضل به
على سائر خلقه، من اصطفائه للخلافة في الأرض وحمل الأمانة، وتلك المنزلة العالية لا يصح أن يهدرها الإنسان فيسجد لحجر، أو يطلب العون من جماد.
هذه الغرائز وتلك المشاعر التي يتجه إليها القرآن ليجد الحق طريقه إلى القلوب من خلالها، يختار في التعامل معها منا يناسبها من الأساليب المؤثرة التي تؤجج أوارها، وتزكي حميتها.
الدعوة إلى العبادة:
إذا كانت الدعوة إلى العبادة نرى القرآن الكريم يتجه إلى غريزة حب الذات بالترغيب، فيعرض ألوانا مما تحققه العبادات للمسلم في الدنيا، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعند حديثه عن الحج يشير إلى أنه فريضة ليشهد المؤمنون منافع لهم، والزكاة تطهر المال، وتزكي النفوس، وتحقق الخير للمجتمع كله، وتربط بين الغني والفقير برباط الحب والإخاء، ثم يسوق ألوانا من الجزاء في الدنيا بمضاعفة الخير، وتحقيق الجزاء الأوفَى في الآخرة، ويعرض ذلك في صورة آسرة تدفع النفوس دفعا للطاعة.
ويتوجه إلى غريزة الخوف بالترهيب، فيوعد المقصرين بكل ألوان العذاب.
ويتوجه إلى غريزة الملكية فيقلل من حدتها، كما في تسميته الصدقة قرضا فهي لن تضيع بل تتضاعف، ويؤكد أن ما ينفقه المسلم اليوم سيضاعفه له الله غدا، ويذكر بأن المال الذي في يد الأغنياء إنما هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه، فهو يطالبهم بإعطاء الفقراء بعض ما أعطاهم من مال.
ويتوجه إلى النفس الإنسانية فيعالج أدواءها من بخل وشح وحب للجاه والاستعلاء والمن والأذى.
كل ذلك لاحظه الإسلام في دعوته للعبادات؛ لأن طبيعة الموضوع تقتضيه، وساقه في أساليب زاخرة بألوان من وسائل التأثير.
الدعوة إلى المعاملات: إذا كانت الدعوة إلى المعاملات نرى القرآن يتجه إلى الألفاظ فيختار أدقها وأحكمها في الدلالة على المعنى المراد، ويكون استعماله للألفاظ استعمالا
حقيقيا، فإذا أطلق لفظا إطلاقا مجازيا لغرض ما، كان ذلك واضح المأخذ قريبا، شديد الظهور، كما في تسميته المرضعة أُمًّا، والمشاركة للطفل في الرضاعة من الأم أختا.
وفي الصياغة القرآنية تقصد الآيات إلى تقرير الحقائق الدينية، والأحكام الشرعية دون مبالغة، أو تجوز، فلا يستعمل الخيال في أصول المعاني المرادة، وإنما يكون التعبير الحقيقي المفصل الواضح، إذا كان المقام يستدعي التفصيل أو المجمل الجامع إذا كان المقام له.
ويؤثر غالبا المعاني الوجدانية لبعث الثقة فيها؛ لأنها حكم الله العليم بما يصلح الناس، أو التذكير برقابة الله واطلاعه على الأعمال أو التحذير من مخالفتها، وإثارة شعور التقوى في النفس، أو الترغيب في الطاعة، والوعد بجزيل الأجر، وحسن المثوبة، كما يستخدم وسائل التأثير الأخرى؛ كالتوكيد، وتكرير صفات الله في الفواصل، أو إثارة الشعور الأخلاقي في النفس، وباللمسات الوجدانية التي توحي بها الألفاظ والتعبيرات.
وهكذا..
ويتوافق أسلوب القرآن الكريم مع الموضوع الذي يدعو إليه، بدقة بليغة تحقق المقصود من الأسلوب.