المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه: - السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي

[أحمد أحمد غلوش]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: "العرب

- ‌المبحث الثاني: الروم:

- ‌المبحث الثالث: الفرس

- ‌المبحث الرابع: الهنود

- ‌المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام

- ‌أولا: شيوع الضلال الديني

- ‌ثانيا: هوان الإنسان

- ‌ثالثا: سهولة التواصل

- ‌رابعا: تعدد الصراع

- ‌خامسا: النضج الفكري

- ‌سادسا: انتظار رسول جديد

- ‌الفصل الثاني: السيرة النبوية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: النسب الشريف

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى: أصالة النسب

- ‌المسألة الثانية: بعد آبائه عن الشرك وعبادة الأصنام

- ‌المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر بطون العرب

- ‌المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها

- ‌المبحث الثالث: ميلاد اليتيم محمد

- ‌المبحث الرابع: محمد في ديار بني سعد

- ‌المبحث الخامس: شق الصدر:

- ‌المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا

- ‌المبحث السابع: زواج محمد صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثامن: بناء الكعبة

- ‌المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

- ‌أولا: كثرة المبشرات

- ‌ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة

- ‌ثالثا: منع الجن من الاستماع

- ‌رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر: بدايات الوحي

- ‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي

- ‌المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة

- ‌أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام

- ‌ثانيا: صلته بأعمامه

- ‌ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة

- ‌المبحث الثالث عشر: عام الحزن

- ‌المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة

- ‌أولا: سودة بنت زمعة رضي الله عنها

- ‌ثانيا: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها

- ‌ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى

- ‌النصر الأول: إسلام عداس

- ‌النصر الثاني: إسلام الجن

- ‌النصر الثالث: إجارة المطعم بن عدي

- ‌النصر الرابع: أضواء وسط ظلام القبائل

- ‌النصر الخامس: الإسراء والمعراج

- ‌النصر السادس: إسلام الأنصار:

- ‌الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى في مكة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة

- ‌أولا: منهج الدعوة

- ‌ثانيا: المضمون الفكري للحركة

- ‌ثالثا: أسلوب الدعوة

- ‌رابعا: وسائل الدعوة

- ‌المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية

- ‌مدخل

- ‌أولا: اقتصار الدعوة على العقيدة:

- ‌ثانيا: قيام الدعوة على الاتصال الفردي

- ‌ثالثا: تخير المدعوين:

- ‌رابعا: تجنب ضلالات القوم:

- ‌خامسا: دعوة الأقربين الذين يعاشرهم

- ‌سادسا: إسلام الضعفاء فقط

- ‌سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه

- ‌ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه

- ‌تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة:

- ‌المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الخامس: المرحلة الأولي للجهر بالدعوة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌أولا: ظهور الجماعة المؤمنة

- ‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

- ‌المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة

- ‌المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام

- ‌المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة

- ‌المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية

- ‌المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع

- ‌المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية إيمان المعذبين

- ‌ثانيا: تحرير الأرقاء:

- ‌ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة

- ‌رابعا: انتهاء المقاطعة

- ‌المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة

- ‌المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية

- ‌الفصل الرابع: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المكية

- ‌تمهيد:

- ‌الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين

- ‌الركيزة الثانية: دور الداعية

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية صلته بالله

- ‌ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس

- ‌الركيزة الثالثة: صفات الدعاة

- ‌مدخل

- ‌أولا: صفات التكامل الذاتي

- ‌ثانيا: صفات الترابط والمودة

- ‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه:

- ‌الركيزة الرابعة: الملاءمة بين الدعوة والواقع

- ‌الركيزة الخامسة: إدراك مسئولية الدعوة

- ‌الركيزة السادسة: دور المرأة المسلمة في الدعوة

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه:

ومن هنا نجد القرآن الكريم يعلم المؤمنين الالتزام بمكارم الأخلاق، غير عابئين بما يعترضهم من عقبات، ويعد الكرم أحد الاسباب التي حببت الناس في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول علي:"كان رسول الله أجود الناس كفا"، ومن المعروف أن الإنسان عبد الإحسان؛ ولذلك يُروى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه مسلما وهو يقول لهم:"أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء ما يخشى فيه الفاقة"1.

1 الشفا ج1 ص238.

ص: 596

‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه:

والداعية لا يكتفي بالمودة مع الناس؛ لأنه صاحب رسالة يعمل لنشرها فيهم، ويهديهم بها، وذلك لا يتأتى له إلا إذا تمتع بشخصية مؤثرة فيها قدرة الجذب النفسي، ومنها يقبل التوجيه والريادة، على أن هذه الشخصية لا بد أن تمتلك مجموعة من الصفات ذات التأثير والريادة، ومنها:

1-

المشاركة الوجدانية:

وهي صفة هامة للداعية، تجعله يعيش حياة الناس؛ ليشعر بشعورهم، وينفعل مع آرائهم وحياتهم، ويتداخل في تقاليدهم وكافة شئونهم بصدق وفهم وتحليل، ويجب أن تأخذ هذه الصفة عنده شكلا عاما بمعنى تواجدها تلقائيا مع الجميع بلا تفرقة بين غني وفقير، أو رئيس ومرءوس، ورفيع أو وضيع؛ لكي يصل بالدعوة إلى الجميع، فإن المشاركة تضفي إحساسا عمليا له قوته في الوصل والتأثير، ومن المعروف أن المشاركة الوجدانية هي الرباط الحريري الذي يصل القلب بالقلب ويربط العقل بالعقل والجسم بالروح1، وهي التي تنشئ كل التصرفات الحسنة والسلوك القويم، وتأثيرها في الحياة الاجتماعية مؤكد بسبب خلوها من الزيف والتصنع، ولأنها

1 الشخصية ص40.

ص: 596

تظهر مع أول مقتض، ولكل أمر، ولا تحتاج إلى عناء كبير لكي تعرف وتدرك؛ لملازمتها القول والسلوك والعمل.

والداعية بها ينتظره الناس ويقدمونه عليهم، فيأخذون رأيه، وينهجون نهجه ويجعلونه رائدهم، وما استحق ذلك عندهم إلا بعد أن تأكدوا من الصور العملية لهذه الصفة، فهو حبيب يتمنى الخير للجميع، كما يتمناه لنفسه، فيصل الرحم، ويكرم الجار، ويقري الضيف، ويخلص للجميع، ولا يترك أمرا فيه مصلحتهم إلا ويحث عليه ويبعدهم عن سواه، ودائما تلقاه مهتما بالخير والنفع، فيكرر النصيحة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وتعاونه مع الجميع يلمسه الجميع، في كثرة ووضوح، وهو في هذا لا ينتظر من الناس جزاء أو شكورا، وكل ما يتمناه أن يجعل الأفهام متفتحة لدعوة الله مقبلة على تدبرها واليقين بها.

والداعية يطبق أشكال هذه الصفة عن اقتناع بها؛ لأنها أوامر دينه إليه، وحياة رسوله صلى الله عليه وسلم مع الناس، وإذا كانت هذه مصادر دعوته فهو أحق الناس بتطبيقها.

إن الدروس المستفادة من فهمه لحقيقة الإنسانية، ودعوة الإسلام للتعارف، تحتم المشاركة الصادقة، وجدانيا، وعقليا، وحسيا، ليصنعوا جميعا ما يفيدهم وينفعهم، وآيات القرآن تؤكدها وتحث عليها، انظر قوله تعالى حينما يخاطب القوم بصيغة الجماعة، فإنه لا يفرق بين إنسان وإنسان، ولا بين مؤمن ومؤمن، فالخطاب واحد للجميع؛ إذ ينادي:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وهذا يعلم المشاركة، بل إن القرآن يعلم الناس أن يكون دعاؤهم لأنفسهم ولغيرهم؛ إذ يقول:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، وهو دعاء في سورة الفاتحة يقرؤه المسلم كل يوم داعيا بصيغة الجماعة إيثارا لغيره، وتبرئة لنفسه من الأنانية، ولأنه شيء يحبه الله ورسوله؛ حيث يقول تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 1، ويقول إخبارا

1 سورة محمد الآية 19.

ص: 597

عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} 1، وذلك ليس بدعا، فإن القرآن يمتدح المؤمنين الأُوَل؛ لأنهم تركوا أنانية الذات إلى حب الجميع؛ حيث كانوا لا يدعون للأحياء وحدهم؛ بل يقولون:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} 2، ولم يكن بالقول فقط وإنما بالعمل كان إيثارهم كما يفيده قوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، فترى الأنصاري ساكن المدينة يحب المهاجر إليه من مكة، بكل صفاء، ويؤثره على نفسه خاصة، وسبب ذلك أن وجداناتهم قد آمنت بهذه المشاركة عن اقتناع، فتمكنوا بعد ذلك من تأسيس مجتمعهم على الحب والخير والمشاركة، وكل ما حرصوا عليه هو أن ينمحي الغل من قلوبهم، وأن يوقفوا شح النفس ليصلوا إلى الفلاح، وذلك درس للداعية.

إن الداعية ملتزم بأن يحسن صلته مع الجميع تنفيذا لأمر الله القائل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 4.. يبين الزمخشري في تفسيره هذه الطوائف فيذكر أن ذا القربى كل ما بينك وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما، والجار ذي القربى هو من قرب جواره، والجار الجنب من بعد جواره، وهو أجنبي، والصاحب بالجنب الذي

1 سورة إبراهيم الآية 41.

2 سورة الحشر الآية 10.

3 سورة الحشر الآية 9.

4 سورة النساء الآية 36.

ص: 598

صحبك في أمر ما أو المرأة، وابن السبيل المسافر المنقطع أو الضيف1، ويجب أن تأخذ هذه الصلة الحسنة أشكالها المتعددة، فهي على الخير والبر المأمور بهما في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 2، وهي نصيحة خيرة وتواص به؛ لأنها من صفاتهم {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} 3، وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، اللذان هما أساس خيريتهم كما أخبر الله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 4، وسبب فلاحهم الذين أمروا به في قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5.

ويجد الداعية أمامه كذلك صورة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقاته لهذه الصفة، فلقد كان قبل البعثة كما وصفته زوجته خديجة:"إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق"6، وكان يشارك قومه أحداثهم الكبرى، فساهم في حرب الفجار، وحلف الفضول، وبناء الكعبة، وعاشر الرعاة والتجار، والأثرياء، والكبار، والصغار، وكان الجميع يذكرونه ويتوددون إليه، فلما بعث عليه الصلاة والسلام تضاعفت اهتماماته بالناس كما وصفه الله:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 7.

وكان يوالي الناس بالنصح والإرشاد قاصدا نجاتهم وسعادتهم، وكان صلى الله عليه وسلم يسبقهم في كل أعمالهم، ألا تراه في يوم "بدر" يترك ابنته مريضة في المدينة ويذهب إلى الحرب لا ليجلس في العريش

1 تفسير الكشاف ج1 ص526.

2 سورة المائدة الآية 2.

3 سورة العصر الآية 3.

4 سورة آل عمران الآية 110.

5 سورة آل عمران الآية 104.

6 صحيح البخاري ج9 ص38 - كتاب التعبير.

7 سورة التوبة الآية 128.

ص: 599

الذي بناه له الصحابة خلف الصفوف، بل ليكون في الصفوف، يرمي بالحصا، ويناشد الله، وينظم الصف، حتى أشفق عليه الصديق أبو بكر رضي الله عنه فقال له: بعض مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعد، وتنتهي المعركة، ويأتيه خبر وفاة ابنته وهو عائد إلى المدينة.

وكان صلى الله عليه وسلم يحاول دائما مصلحة الناس ويتصرف وفق ذلك، ومن ذلك ما ذكره صلى الله عليه وسلم:"يا سعد، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار" 1، فهو يعطي هذا إنقاذا له من النار ويترك غيره الأحب.

إنه صلى الله عليه وسلم في موالاته النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد ترك للمسلمين عموما وللدعاة على الخصوص ثروة طائلة تمدهم بالدين كله.

وعلى الجملة، فإن هذه المشاركة بكل جوانبها ضرورية لمن وقف نفسه لدعوة الله حتى يأخذ الصدارة، ويتقدم الصفوف، ويكون ثقة القوم وأملهم، ويبعد عن تهمة الحاقد، وينجو من عداوات المعارضين.

2-

القوة والشجاعة:

وهذه صفة أخرى تساعد على الثقة والقيادة، وهي صفة تنبني على تقدير الشخص لنفسه وفهمه لواقع حياته وأتباعه لتعاليم دينه المؤكدة، فبذلك يبعد تلقائيا عن الذل والضعف، وعن الخوف والاضطراب؛ لأنه يثق في المفاهيم التالية:

أولا: المؤمن يجب أن يكتسب من إيمانه الثقة ويشعر بالتفضيل والكرامة؛ لأنه بالإيمان يؤدي ما عليه ويترك ما عدا ذلك لله الذي يصرف كل شيء: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} 2.

1 صحيح مسلم ج1 ص91 - كتاب الإيمان- باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه.

2 سورة الرعد الآية 8.

ص: 600

ثانيا: الخلق كله بقبضة لخالق سبحانه وتعالى، وبيده وحده النفع والضرر، وكل الخلق خاضع له، وما على المؤمن إلا أن يقصر خوفه على الله، كما قال تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.

ثالثا: الأجل والرزق محددان تماما بحيث {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون} {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 3، وقد ثبت أن رزق الرجل يكتب بعد نفخ الروح في المضغة كما يكتب أجله وعمله4.

وما دامت هذه المفاهيم قد ثبتت عند الداعية فما عليه إلا أن يظهر العزة في كل حياته {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 5، وهي عزة ناشئة من الإحساس بالكرامة التي أولاها الله للإنسان على العموم، وناشئة من لذة الإيمان وحلاوته عند المؤمن على الخصوص، فإذا ما بعد الإنسان عن العزة فقد بعد عن الإيمان، ولا يقبل من المؤمن قط عذر إذا سار في مسلك ذليل فإنه بذلك يظلم نفسه وسوف يسأل:{فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 6، فلن يقبل منه أنه كان ضعيفا في بلده؛ لأن الأرض كلها لله وهي واسعة، وكان عليه أن يهاجر إلى مكان آمن فيه صيانة لكرامته وحماية لعزته التي يجب أن يتمسك بها بكل شدة، ولن ينقص من قدره شيء، وأن الحقيقة في قوله تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 7.

1 سورة آل عمران الآية 175.

2 سورة الأعراف الآية 34.

3 سورة هود الآية 6.

4 صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص192 - كتاب القدر.

5 سورة المنافقون الآية 8.

6 سورة النساء الآية 97.

7 سورة فاطر الآية 2.

ص: 601

وليس من العزة أن يظلم الإنسان غيره، أو يطغى عليه؛ لأن العزة خلق ممتاز يتمتع بها من يحافظ عليها لنفسه ولغيره، انطلاقا من فهمه لذاته ولدينه وللحياة.

ومن مستلزمات هذه العزة أن يكون صاحبها شجاعا قويا في شخصه ورأيه؛ لتكون خيرة في ذاتها ومقبولة من كافة العقول.

وقد أراد القرآن الكريم أن يبسط هذا المعنى في الأسماع والعقول فحفل به وأكثر من وصف الله بالقوة؛ ليكون ذلك إيماء إلى المؤمنين بأن يكونوا أقوياء، وكذلك وصف بالقوة جبريل ورسله والمؤمنين حتى يتضح شرف القوة ورفعتها.

ومن القوة المطلوبة أن يملك الداعية القدرة على ضبط نفسه والسيطرة عليها، بل إن ذلك هو كل القوة في الواقع؛ لأن النفس خيرا وشرا تتنوع بحسب قواها، وأحسن الناس من يحكم شهوته وغضبه، فيعطي لنفسه العاقلة زمام أمره، ويتصرف بعيدا عن أي انفعال يفسد عليه وجهته مهما كان حقا.

يقول ابن مسكويه*: "شبه القدماء الإنسان وحاله مع الأنفس الثلاثة بإنسان راكب دابة قوية، ويقود كلبا، فإن كان الإنسان من بينهم هو الذي يروض دابته وكلبه، فلا شك في رغد عيشه وحسن أحواله، وإن كانت البهيمة أو السبعية هي الغالبة ساءت الثلاثة"1؛ ولذلك كنت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي سأله النصيحة: "لا تغضب" 2؛ ليكون قويا بحق، فـ "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"3.

ومن هنا يقول ابن المبارك أن المقصود من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} هو جهاد النفس4؛ ولذلك فالعزيز هو الذي يحكم نفسه ولا يجعلها

* يرى ابن مسكويه أن النفس الإنسانية لها ثلاث قوى أي هي أنواع ثلاثة بهيمية "شهوية" وغضبية "سبعية" وناطقة "عاقل" وكل منها له قوته وتحاول التغلب على أختيها، ويرى أن النفس الغضبية تترقى لأنها تقبل الأدب، والبهيمية تحكم فقط لأنها لا تقبله، والإنسان يشرف بالناطقة فقط ويشارك الملائكة ويباين البهائم.

1 تهذيب الأخلاق لابن مسكويه ص55.

2 موطأ مالك ج4 ص94 - ما جاء في الغضب.

3 موطأ مالك ج4 ص95 - ما جاء في الغضب.

4 ذم الهوى ص40.

ص: 602

تميل بالغضب الذي يفسد على الإنسان وجهته، ويحول بينه وبين الرشاد؛ ولذا كان من أهم صفات عباد الرحمن أنهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 1.

إن سيطرة العقل الهادئ يجعل الإنسان واقعيا في الموقف فيبدي الحجة، ويظهر الرأي، ويصل بالإقناع إلى ما يريد.

ومن هذه القوة إعلان الرأي في ثبات لا يعرف التغيير أو التلون؛ بسبب محاباة أو تحامل؛ لأن هدفه نشر دعوته الحقة المؤيدة بالدليل، وهي محفوظة لا تتغير، ولكنها تغير وتصلح وتعلي، فإظهارها على وجهتها وبشكل مرن هو المطلوب، مهما كان الحال أو الموقف أو القوم، ولا عليه ما دام يتجرد في هدفه ويبعد عن الدعوة أي أثر شخصي محتمل، وللداعية أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أعلن كلمة الله وهو وحده وسط قوم كافرين بها ومعارضين لها، ومع ذلك لم يبال بأعمالهم، لجئوا للتهديد والوعيد، فرد عليهم قائلا لعمه:"لن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه" 2، ولجئوا إلى محاولة إغرائه فكان ينتهز فرصة قربهم منه ويدعوهم إلى الله، وقاطعوه وقومه فذهب إلى غيرهم من القبائل يدعوهم، ولم يحدث أن غير الدعوة مع تغير الظروف واختلافها، بل كان العذاب الشديد يلحق به وببعض المسلمين، ومع ذلك كان يحث عل الصبر وينتظر الأمل، ويواصل دعوته؛ لأنها الحق، ولا بد أن تعلن.

يقول الزمخشري في تفسيره: "إن المعنى: إن تجتهدوا في إقامة العدل حتى لا تجوروا، وتقيموا شهادتكم لوجه الله تعالى كما أمرتم بإقامتها، ولو كانت الشهادة على أنفسكم، أو آبائكم، أو أقاربكم، ولا تمنع الشهادة بسبب فقر أو غنى"3.

وعلى الجملة، فإن الداعية إذا جمع الصفات السابقة فإنه يكون قد وضع نفسه في

1 سورة الفرقان الآية 63.

2 سيرة النبي ج1 ص278.

3 تفسير الكشاف ج1 ص570.

ص: 603