الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الفرس
1-
الموطن الجغرافي:
والفرس أمة سكنت شرق الجزيرة العربية، واشتركت معها في الحدود الشرقية، ويعتبر الخليج العربي حاجزا طبيعيا بين العرب والفرس.
والفرس امتداد للشعب الإيراني القديم الذي نشأ في الوديان الخصبة بين جبال الهندكوش، وسلسلة جبال بغمان، وانتشر هذا الشعب في منطقة آسيا الوسطى، وانقسم إلى شطرين: شطر سكن في منطقة ما وراء نهر جيحون وهم الإيرانيون الشرقيون، وشطر سكن غرب النهر وهم الإيرانيون الغربيون1.
وقد قامت دولة الفرس في المنطقة الواقعة بين الجزيرة العربية وبلاد الشام ونهر الفرات غربا، وبين نهر جيحون والسند شرقا، وبين بلاد أرمينيا وصحراء سيبريا شمالا، وبين المحيط الهندي جنوبا2.
وكانت عاصمة الفرس "المدائن" وهي مدينة كبيرة أقيمت على شاطئ نهر دجلة، فتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في واقعة مشهورة، عرفت باسمها، وقد عرف جزؤها الشرقي بـ"المدائن القصوى" وجزؤها الغربي عرف بالمدائن الدنيا3.
وقبيل الإسلام وحد الساسانيون فارس تحت حكمهم، وأنهوا إمارات الطوائف التي تقاسمت الدولة، وجعلوا لدولتهم قوة تناوئ دولة الروم الموجودة في شمال غرب الدولة.
1 تاريخ بخارى ص44.
2 العرب قبل الإسلام، زيادة ص552.
3 نفس المصدر ص534.
2-
الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية للفرس:
كان الحكم في الفرس مطلقا قائما على أساس تقديس بيت معين، يستمد حقه من الله، فلقد كان "آل ساسان" يعتقدون أن حقهم في الملك مستمد من الله ونشروا ذلك في الناس، وحتى أن العامة اعتقدوا هذا، وصار جزءا من تدينهم، ومن هنا كان الملك يتوارث للأولاد والحفدة، فإذا لم يجدوا من الأبناء رجلا كبيرا جعلوه لطفل لا يعي، فإن لم يوجد الطفل جعلوه لامرأة، ولقد ملكوا بعد شيرويه أردشير طفلا عمره سبع سنوات، وملكوا بوران بنت كسرى، وملكوا أخرى اسمها "أزرهى دفت"1، ووفقا لهذه النظرية المقدسة تمنع الأكاسرة، وهم ملوك فارس بمزايا لا حد لها، فهم كالآلهة تماما، وفوق القانون وفوق البشر، ولهم تنشد الأناشيد المقدسة، وعندهم تكفر الذنوب، وإشاراتهم أمر لا يستحق إلا السمع والطاعة، وكان لكل واحد منهم حاشية خاصة لها تقاليدها ومظاهرها.
وقد استغل الملوك منزلتهم عند القوم في الإثراء الفاحش الكبير، واعتادوا أن يكتنزوا النقود، ويدخروا الطرائف من الأشياء الغالية، حتى أن "خسرو الثاني" حينما نقل أمواله إلى بناء جديد سنة 608م بلغ ما نقله 468 مليون مثقال ذهب، وبعد ثلاثة عشر عاما من ملكه بلغت ماليته 800 مليون مثقال2، يقول شاهين مكاريوس:"لم يرد في التاريخ أن مليكا بذخ وتنعم مثل الأكاسرة، الذين كانت تأتيهم الهدايا والجزيات من كل البلدان الواقعة ما بين الشرق الأقصى والشرق الأدنى"3.
وكانت الولايات العديدة تخضع لكسرى يوجهها كما يريد رغم تباعدها،
1 تاريخ الطبري ج2 ص45-55 بتصرف.
2 إيران في عهد الساسانية ص163 وما بعدها.
3 تاريخ إيران لشاهين مكاريوس ص211.
ولعل في طلب "باذان" من عامله في ليمن أن يحضر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدائن حيا أو ميتا توضيحا لنوع سطوة كسرى وخضوع الولاة له.
وقد امتاز الفرس بالنشاط وكلفوا بالمدنية، وطلبوا الاستقرار ما وسعتهم الأرض، ومالوا إلى الاشتغال بالفنون والحرف، وأقبلوا على تجارة الحرير في غيرة وجد، وكانوا خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين يسيرون بقوافل الحرير العظيمة عبر الإمبراطورية الساسانية إلى شرق بلاد الإمبراطورية الرومانية1؛ وبسبب ذلك انتشر النشاط الصناعي والزراعي في أنحاء الإمبراطورية، وحقق رخاء ورفاهية في أنحاء الدولة.
وكان المقتضى أن ينتشر العدل بين الرعية تبعا لذلك، إلا أن الوضع أخذ شكلا رهيبا من الطبقية البغيضة، القائمة على النسب والحرف، يصورة صاحب كتاب إيران في عهد الساسانية في إيجاز فيقول:"كان المجتمع الإيراني مؤسسا على أساس النسب والحرف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة، لا يقوم عليها جسر، ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقارا لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقتنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها، وكان ملوك إيران لا يولون وضيعا وظيفة من وظائفهم، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزا واضحا، وكان لكل واحد مركزا محدد في المجتمع"2.
ولم تقف إهانة الطبقات الدنيا عند حد إبعادها عن الوظائف العامة، بل فرضت عليها الضرائب الباهظة بلا حساب وضبط؛ حيث كانت تختلف عن سنة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر كَمًّا ونوعًا، الأمر الذي ألحق أفدح الأضرار
1 تاريخ بخارى ص45، 46.
2 إيران في عهد الساسانية ص418، 420، 422.
بالضعفاء وأصحاب الحرف الصغيرة، مما أدى أخيرا بالمزارعين إلى أن يتركوا أعمالهم، ويلجئوا إلى الأديرة يلتمسون فيها المأوى والاستقرار، وكان أسعد المزارعين حظًّا ذلك الذي سمح له بأن يعمل لسيده بأجر زهيد.
ولم تقف هذه الإهانات الواقعة على الطبقات السافلة في حياتهم المدنية، بل كانت تلازمهم وهم في الجيش، وفي ميدان القتال، يقول المؤرخ "أميال مارسيلينوس":"إن هؤلاء الفلاحين البؤساء كانوا يسيرون خلف الجيوش مشاة كأنه قد كتب عليهم الرق الدائم، ولم يكونوا ينالون إعانة، أو تشجعيا، من راتب، أو أجرة، وكانت علاقة الفلاحين بالملاك أصحاب الأراضي كعلاقة العبيد بالسادة"1.
وقد أدى هذا الوضع الطبقي إلى نتائج بالغة السوء، فانتشر الحقد والبغضاء بين الضعفاء، والكبر والاستعلاء بين الكبراء، وهدد المجتمع بانقسامات خطيرة، سكنت ملامحها نفوس الناس وقلوبهم.
ولعل في هذا الوضع بعض أسباب انتشار واستقرار الإسلام السريع في ربوع الدولة الفارسية حين أتاها؛ لأن مبادئ الإسلام السامية صادفت وضعا ظالما فمحته، وطبقت تعاليمها مكانه، فاستقرت، وما ظهر في فارس من قوة وغنى، فقد كان خاصا بالطبقات الأعلى والحاكمة وحدها، وكل ما دونها فقد عاش في فقر وهوان.
1 المرجع السابق ص324.
3-
أوضاع الفرس الدينية:
كانت المجوسية وهي ديانة الفرس مركبة من عناصر مذاهبهم المتعددة، التي بدأت قبل الميلاد بكثير، واستمرت في تطورها وتشكلها حتى جاء الإسلام، وهي ديانة في الجملة تهتم ببيان أصل المخلوقات وعدد الآلهة، فمنذ القدم والملوك يقدسون إلهين من بين الآلهة الكثيرة، التي يعبدها عامة الشعب، على أساس أن أحدهما أصل الخير، والثاني أصل الشر1. وبعد تطور المجوسية على يد زرادشت نراه يرجع جميع الآلهة الموجودة إلى إلهين اثنين، إله الخير ويسمى "أهورامزدا"، وإله الشر ويسمى "أهريمان"، وهما متضادان، فلقد ورد في كتبهم المقدسة أن "مزدا" قال لـ"أهريمان" ما معناه: "ليس علمنا، ولا شرائعنا، ولا مداركنا، ولا كلماتنا، ولا أفعالنا، ولا حياتنا، أنا وأنت متفقه في شيء، ولذا فنحن أضداد"2.
والفرس يعتبرون أن أقوال زرادشت وتعاليمه قد أودعت في كتاب "زند أفيستا"، الذي تم جمعه في القرن السادس الميلادي3، وفي هذا الكتاب سمو خاص، ومواعظ طيبة، مما جعل الفرس يرفعون زرادشت بعد وفاته إلى مرتبة عالية، فزعموا أن وجوده في الدنيا مر بمراحل خيالية خاصة، وأنه بعث رسولا إلى الخلق، ونبيا لكشتاسب الملك وغيره، هذا مع إثباته للأصلين المتضادين النور والظلمة4، ويظهر من كلام الشهرستاني أن نبوة "زرادشت" صحيحة لأنه يقول: إن زرادشت يدعو إلى أن الباري هو الخالق للظلام والنور ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له، ولا ضد، ولا ند له، ويدعي كذلك أن كتابا نزل عليه وهو "زندوفيستا" ومن
1 الفلسفة الشرقية ص184.
2 وحدة الدين والفلسفة والعلم ص105.
3 الفلسفة الشرقية ص187.
4 الملل والنحل ج1 ص217.
تعاليمه ضرورة الإيمان بالروح والجسم، والتكليف القائم على الاعتقاد والقول والعمل، وأيضا فأتباع زرادشت يثبتون له معجزات، منها دخول قوائم الفرس في بطنه، وقد بشر "زرادشت" بظهور "الرجل العالم" في آخر الزمان؛ ليزين الكون بالدين والعدل1، وهو يدعو الناس إلى الإيمان باليوم الآخر والبعث والجزاء.
وليس لدينا دليل يمنع أن يكون نبيا ما دامت تعاليمه موحدة في العقيدة ومؤمنة بالبعث، وداعية إلى الخلق الطيب والعمل النافع وغير ذلك، واندراجه تحت الرسل المذكورين في قوله {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْك} جائز.
ويمكن تفسير ما ينسب إليه من دعوته لإلهين، أحدهما للنور، والآخر للظلام، أنه من وضع أتباعه الذين حرفوا دعوته.
لكن الذي نذكره بعد ذلك أن ديانة الفرس بعد "زرادشت" داخلها فساد كبير، أضاع أغلب معالمها، فلقد جاء "ماني" في القرن الثالث الميلادي، وعمق الأصلين في الوجود، وجعلهما إلهين، مستقلين، أزليين، قديمين.
وقد حكى "محمد بن هارون" المعروف بـ"أبي عيسى الوراق" أن الحكيم "ماني" زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا2.
وفي نهاية القرن الخامس الميلادي جاء "مزدك" فأضاف إلى فساد العقيدة على يد "ماني" فسادا أخلاقيا آخر، حين قال بالشيوعية المتطرفة، المنادية بالمساواة في المال والنساء؛ لأنهما في نظره سبب الحرب والقتال، وبإلغائهما تتطهر القلوب من الأحقاد ويعيش الناس في سلام3، وجاءت المانوية فأوصلت الأصول إلى ثلاثة هي: النار والأرض والماء4.
1 الملل والنحل ج1 ص217، 218، 219.
2 الملل والنحل ج1 ص224.
3 الفلسفة الشرقية ص195، 196.
4 وحدة الدين ص111.
ولقد كانت المجوسية في عصر ظهور الإسلام خليطا من كل هذه الآراء، فلقد تناسى الفرس وحدانية زرادشت، وتمسكوا بثنائية المانوية، بل كان العامة منهم يؤلهون بعض القوى الطبيعية، ويقدسون بعض الحيوانات، ويؤمنون أن روح الإنسان بعد الموت تنتظر ثلاثة أيام، وفي فجر اليوم الرابع تهب ريح إما معطرة إن كان صاحب الروح خيرا، أو نتنة إن كان صاحبها شريرا، وبعد ذلك تذهب الروح مع فتاة أو عجوز لتحاكم وتأخذ جزاءها1.
وكان الفرس قبيل ظهور الإسلام يعبدون النار ويقدسونها، مؤمنين بقوتها وشرفها، حتى لا يعذبوا بها في الآخرة، وقد بنوا لها بيوتا للعبادة في كثير من نواحي الدولة، ففي طوس وبخارى وغيرهما أقيمت البيوت، ومن المعلوم أن عبادة النار مع طول الزمن تغيب فلسفتها وأسباب وجودها، وتبقى هي بقداستها أمام العامة والجماهير الغفيرة بعقولها المغيبة، وبذلك يزداد الفساد والضلال كما حصل لعبدة الأوثان من العرب، فإنهم بدءوها تقديرا لأشخاص، ثم تصوروها آلهة، وتناسوا كل ما يتصل بوجودها.
وقد أطلق مسمى "المجوسية" على هذا الخليط الموروث من الأقدمين، ومن زرادشت، وماني، وغيرهم، وصار للمجوسية دولة كبرى تدافع عنها، هي الإمبراطوية الفارسية المنافسة لدولة الروم قبل ظهور الإسلام، وكان الفرس يعظمون ملوكهم ويقدسونهم، ويزعمون أن الله اختار هؤلاء الملوك وأعطاهم ملكه؛ ليكونوا ظله بين الناس، فلهم الطاعة، وليس لأحد قبلهم حق، وبلغ هذا الاعتقاد أشده أيام الأسرة الساسانية2، التي وجدت قبيل ظهور الإسلام.
1 الفلسفة الشرقية ص195، 196.
2 وحدة الدين ص111.