المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة - السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي

[أحمد أحمد غلوش]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: "العرب

- ‌المبحث الثاني: الروم:

- ‌المبحث الثالث: الفرس

- ‌المبحث الرابع: الهنود

- ‌المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام

- ‌أولا: شيوع الضلال الديني

- ‌ثانيا: هوان الإنسان

- ‌ثالثا: سهولة التواصل

- ‌رابعا: تعدد الصراع

- ‌خامسا: النضج الفكري

- ‌سادسا: انتظار رسول جديد

- ‌الفصل الثاني: السيرة النبوية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: النسب الشريف

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى: أصالة النسب

- ‌المسألة الثانية: بعد آبائه عن الشرك وعبادة الأصنام

- ‌المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر بطون العرب

- ‌المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها

- ‌المبحث الثالث: ميلاد اليتيم محمد

- ‌المبحث الرابع: محمد في ديار بني سعد

- ‌المبحث الخامس: شق الصدر:

- ‌المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا

- ‌المبحث السابع: زواج محمد صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثامن: بناء الكعبة

- ‌المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

- ‌أولا: كثرة المبشرات

- ‌ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة

- ‌ثالثا: منع الجن من الاستماع

- ‌رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر: بدايات الوحي

- ‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي

- ‌المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة

- ‌أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام

- ‌ثانيا: صلته بأعمامه

- ‌ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة

- ‌المبحث الثالث عشر: عام الحزن

- ‌المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة

- ‌أولا: سودة بنت زمعة رضي الله عنها

- ‌ثانيا: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها

- ‌ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى

- ‌النصر الأول: إسلام عداس

- ‌النصر الثاني: إسلام الجن

- ‌النصر الثالث: إجارة المطعم بن عدي

- ‌النصر الرابع: أضواء وسط ظلام القبائل

- ‌النصر الخامس: الإسراء والمعراج

- ‌النصر السادس: إسلام الأنصار:

- ‌الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى في مكة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة

- ‌أولا: منهج الدعوة

- ‌ثانيا: المضمون الفكري للحركة

- ‌ثالثا: أسلوب الدعوة

- ‌رابعا: وسائل الدعوة

- ‌المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية

- ‌مدخل

- ‌أولا: اقتصار الدعوة على العقيدة:

- ‌ثانيا: قيام الدعوة على الاتصال الفردي

- ‌ثالثا: تخير المدعوين:

- ‌رابعا: تجنب ضلالات القوم:

- ‌خامسا: دعوة الأقربين الذين يعاشرهم

- ‌سادسا: إسلام الضعفاء فقط

- ‌سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه

- ‌ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه

- ‌تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة:

- ‌المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الخامس: المرحلة الأولي للجهر بالدعوة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌أولا: ظهور الجماعة المؤمنة

- ‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

- ‌المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة

- ‌المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام

- ‌المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة

- ‌المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية

- ‌المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع

- ‌المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية إيمان المعذبين

- ‌ثانيا: تحرير الأرقاء:

- ‌ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة

- ‌رابعا: انتهاء المقاطعة

- ‌المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة

- ‌المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية

- ‌الفصل الرابع: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المكية

- ‌تمهيد:

- ‌الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين

- ‌الركيزة الثانية: دور الداعية

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية صلته بالله

- ‌ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس

- ‌الركيزة الثالثة: صفات الدعاة

- ‌مدخل

- ‌أولا: صفات التكامل الذاتي

- ‌ثانيا: صفات الترابط والمودة

- ‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه:

- ‌الركيزة الرابعة: الملاءمة بين الدعوة والواقع

- ‌الركيزة الخامسة: إدراك مسئولية الدعوة

- ‌الركيزة السادسة: دور المرأة المسلمة في الدعوة

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

إن سنة النصر لا تتخلف متى استوفت الشروط والإعداد، وأهمها الاستقامة على منهج الله بطاعة أمره، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} 1، وقال جل ذكره:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2.

وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 3.

ولكن إذا تخلفت هذه الأسباب تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلت الهزيمة؛ لأن سنن الله تعالى لا تحابي ولا تجامل أحدا من الخلق، ولا تجاري أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإن الذين يرثون الكتاب وراثة بالاسم، وشهادة الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي عملا سلوكيا ثم يقولون: سيغفر لنا! لا يستجيب الله عز وجل لهم، حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله به في كتابه المنزل4.

1 سورة محمد آية 7.

2 سورة الصافات الآيات 171-173.

3 سورة الأنفال آية 45، 46.

4 حول التفسير الإسلامي للتاريخ ص102.

ص: 474

‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة، وأن ينذر عشيرته القريبة منه، على أن يبدأ بالأقرب إليه، أخذ صلى الله عليه وسلم يعد للأمر عدته، ورأى أن أفضل وسيلة لذلك هي المواجهة المباشرة سواء بصورة فردية أو جماعية أو عامة

يروي ابن الأثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت ذرعا، وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره"1.

1 الكامل ج2 ص61.

ص: 474

ولما مرض صلى الله عليه وسلم وجاءته عماته يعدنه، قال لهن:"ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين".

فقلن له: فادعهم ولا تدعُ أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك.

فنراه صلى الله عليه وسلم يخبر عليا وعماته بدعوته بصورة فردية..

ومرة يجمع أعمامه ونفرا من بني المطلب بن عبد مناف، حيث دعاهم إلى طعام، وبلغهم بدعوة الله تعالى مرتين؛ لأنه لم يتمكن من الحديث في المرة الأولى بسبب مقاطعة أبي لهب له، ودعاهم في المرة الثانية.

جاء في الكامل لابن الأثير أنه لما أنزل الله على رسوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} اشتد ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عماته يعدنه، فقال:"ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين"، فقلن له: فادعهم ولا تدعُ أبا لهب فيهم فإنه غير مجبيك، فدعاهم صلى الله عليه وسلم.

فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا.

فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك، وبنو عمك، فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك في العرب قاطبة طاقة، وأن أحق من أخذك فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب لك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به.

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس.

ثم دعاهم ثانية وقال: "الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدا، أو النار أبدا".

فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامضِ

ص: 475

لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.

فقال أبو لهب: هذه والله السوءة! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم.

فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا1.

فقالت له أخته صفية -عمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها: أي أخي، أيحسن بك خذلان ابن أخيك، فوالله ما زال الناس يخبرون أنه يخرج من بني عبد المطلب نبي، فهو هو.

قال أبو لهب: وهذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش، وقامت معها العرب، فما قوتنا بهم، فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس.

فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا2.

وهكذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين في جو أسرى خالص، قائم على المودة وروح القرابة.. ودار نقاش في إطار هذا التجمع.

كما وجه لهم دعوة عامة بأن نادى عليهم جميعا من فوق الصفا، فلما تجمعوا دعاهم إلى الله تعالى.

يروي المؤرخون أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي

" لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرايتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ ".

قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا.

قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

1 الكامل لابن الأثير ج2 ص61.

2 الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص315.

ص: 476

فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} 1 2.

كما أن عددا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ الله عليه بالإسلام، وهداه إلى الحق بإحدى طرق الهداية، فمنهم من أسلم بعدما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة بهرته، أو موقفا حركه، أو دعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم استجيبت، كما حدث مع عبد الله بن مسعود، وخالد بن سعيد بن العاص، وعمر بن الخطاب، وأم أبي بكر رضي الله عنهم.

يقول عبد الله بن مسعود: كنت غلاما يافعا، أرى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة، فأتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه وقد فرا من المشركين، فقالا: أعندك يا غلام لبن تسقينا؟

قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من جذعة لم ينز عليهما الفحل بعد؟ ".

قلت: نعم! فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع، ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر متقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع:"أقلص" فقلص.

فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت علمني من هذا القول الطيب؛ يعني: القرآن الكريم.

فقال له صلى الله عليه وسلم: "إنك غلام معلم"، يقول ابن مسعود: فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد3.

1 سورة المسد آية 1، 2.

2 فتح الباري ج1 ص118-120.

3 البداية والنهاية ج3 ص32.

ص: 477

وأما خالد بن سعيد بن العاص، فلقد رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم، ويرى في النوم كأن آتٍ أتاه، يدفعه فيها، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحقويه، لا يقع، ففزغ من نومه، فقال: أحلف بالله، إن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال: أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد، فقال: يا رسول الله، يا محمد إِلَمَ تدعو؟

قال: "أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر، ولا يبصر ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده".

قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وتغيب خالد وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتي به، فأنبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه، وقال: والله لأمنعنك القوت.

فقال خالد: إن منعتي فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكرمه ويكون معه1.

وهكذا تكاثر المسلمون، وأخذ عددهم يزداد يوما بعد يوم لدرجة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أخذ يلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار الإسلام، وتوسيع دائرة التحرك به، وإعداد المؤمنين لتحمل ما يصيبهم من الضرر والأذى.

ورؤية أبي بكر في المجاهرة والمواجهة لها ما يبررها، فلقد أحس من كفار قريش قلقا من زيادة عدد المسلمين دفعهم لتشديد الأذى، والتعنت مع كل من يسلم.

ومن المعلوم أن الطغاة يضاعفون عدوانهم كلما رأوا من خصومهم خنوعا

1 البداية والنهاية ج3 ص32.

ص: 478

واستسلاما، فأراد أبو بكر رضي الله عنه أن يبرز لهم من نفسه قوة، فمنعهم من العدوان وخوفهم من أذى المسلمين.

وفي هذه الحالات تبرز أهمية المواجهة؛ لأنها تحد من غلواء المعتدي، وتظهر رجالا يتحمسون للحق، ويدخلون في الإسلام، فينتصر الإسلام بهم.

وقد أراد الله تعالى إظهار الإسلام كطلب أبي بكر رضي الله عنه، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انتصار المسلمين، وخزي الكافرين.

إن المسلمين الأول لم يكونوا على مستوى واحد من المواجهة، فمنهم من كان تحميه قبيلته، ومنهم المتميز بالجرأة والصلابة وقوة الشكيمة والقدرة على المواجهة.. ولذلك ألح أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، إنا قليل".

فلم يزل أبو بكر يلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أذن له صلى الله عليه وسلم، فأظهره رضي الله عنه وحده، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته.

وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوا من وجدوه في المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزل على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب، حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته.

ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ص: 479

فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئًا، أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فقالت: والله ما لي علم بصاحبك.

فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل.

فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟

فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك!!

قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر ضريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.

قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالت: هذه أمك تسمع.

قال: لا شيء عليك منها.

قالت: سالم صالح.

قال: أين هو؟

قالت: في دار ابن الأرقم.

قال: فإن الله عليَّ أن لا أذوق طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتاه حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك

فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا

ص: 480

لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا1.

وأراد الله للمسلمين قوة، فجعل من اشتداد أذى قريش للمسلمين سببا في إسلام حمزة عم رسول الله وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهما من فتيان مكة، اللذين اشتهر بالشجاعة والبأس، وكان القرشيون يهابانهما لقوتهما.

يسوق ابن إسحاق قصة إسلام حمزة فيقول: إن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادٍ من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش، وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده هاهنا جالسا فأذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم.

فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى، ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشمته وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد ذلك عليَّ إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، واستمر حمزة رضي الله عنه على

1 البداية والنهاية ج3 ص30.

ص: 481

إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه1.

وزاد غير ابن إسحاق أن حمزة لما أسلم كان منفعلا مندفعا، وأدركه الندم على تسرعه، يقول حمزة رضي الله عنه: أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة، وتضرعت إلى الله سبحانه أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني الريب، فلما استتممت دعائي انزاح عني الباطل، وامتلأ قلبي يقينا، فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما كان من أمري، فدعا لي بأن يثبتني الله2.

وأسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا في وسط التشدد والاضطهاد للمسلمين، يروي ابن إسحاق بسنده قصة إسلام عمر فيقول: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، زوجة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت، وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام، رجل من قومه، من بني عدي بن كعب قد أسلم، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكروا له، أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين، ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.

1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص291.

2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص292.

ص: 482

فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عمر؟

فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش، سفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله.

فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟

قال: وأي أهل بيتي؟

قال: خنتك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.

قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة، فيها {طَه} يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما.

فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟

قالا له: ما سمعت شيئا.

قال: بلى والله أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها.

فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.

لما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وراجع نفسه، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد! وكان عمر كاتبا.

فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.

ص: 483

قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها.

فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها {طَه} فقرأها، فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!

فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته صلى الله عليه وسلم أمس وهو يقول:"اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب"، فالله الله يا عمر.

فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.

فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف.

فقال حمزة بن عبد المطلب: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائذن له".

فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال:"ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة".

فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم1.

1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص343-346.

ص: 484

وبإسلام حمزة رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه بدأت مرحلة الجهر العام بالدعوة؛ لأنهما لم يرتضيا لدينهما هذا الاستتار ما دام هو الحق.

وقد سأل عمر عن أكثر الناس قولا، وأفشاهم للحديث، وعلم أنه جميل بن معمر الجمحي فأتي إليه، وأخبره بأنه أسلم، فصاح جميل بأعلى صوته: إن ابن الخطاب صبأ.

وذهب إلى أبي جهل وأخبره بإسلامه.

وأراد كفار مكة قتل عمر فأجاره العاص بن وائل السهمي، يروي البخاري بسنده أنه بينما كان عمر بن الخطاب في الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سبرة، وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم خلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما لك يا عمر؟

قال عمر: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت.

قال: لا سبيل إليك، وبعد أن قالها أمنت.

فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟

فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ.

قال: لا سبيل إليه، فكر الناس1.

وكان إسلام عمر بن الخطاب بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب بثلاثة أيام، وبذلك بدأت مرحلة الجهر العام بالدعوة إلى الله تعالى..

لقد تم الانتقال إلى هذه المرحلة في وقت كان كفار مكة يخططون للقضاء على الإسلام والمسلمين بعدما شعروا بخطورة الإسلام على وضعيتهم في مكة.

- هل كان يتصور كفار مكة أن ينقلب حمزة عليهم بهذه الصورة المفاجئة؟!!

- وهل توقعوا أن يتبعه عمر، ويعلن إسلامه بعده بثلاثة أيام فقط؟!

1 المنهج الحركي ج1 ص81.

ص: 485

- وهل ظنوا مرة أن يجير العاص بن وائل عمر وينقذه منهم، وقد كادوا أن يفتكوا به؟!!

- وهل دار بخلدهم أسرار هذه المواقف المفاجئة، وفي هذا الوقت بالذات؟!!

لم يفكروا في شيء من ذلك، ولم يتوقعوه؛ لأنهم لم يتصوروا القدر الإلهي، ونصره لعباده المؤمنين.

إن عقول البشر جميعا تعجز عن تصور أي شيء من هذه القضايا، ولا تقدر على اكتشاف شيء من أسرارها، وكل ما تصوره أهل مكة عن محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته وعن المؤمنين به عكس ما حدث؛ لأن المواجهة وقتها تصاعدت وتضخمت، والتخطيط لقتل محمد ومن معه أمر موجود.

لكن إرادة الله غالبة، وقدرته لا حدود لها، ففي وسط الضعف تبرز قوة، ومن ثنايا الجبروت والطغيان يأتي العدل والحق، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ص: 486