المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي - السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي

[أحمد أحمد غلوش]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: "العرب

- ‌المبحث الثاني: الروم:

- ‌المبحث الثالث: الفرس

- ‌المبحث الرابع: الهنود

- ‌المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام

- ‌أولا: شيوع الضلال الديني

- ‌ثانيا: هوان الإنسان

- ‌ثالثا: سهولة التواصل

- ‌رابعا: تعدد الصراع

- ‌خامسا: النضج الفكري

- ‌سادسا: انتظار رسول جديد

- ‌الفصل الثاني: السيرة النبوية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: النسب الشريف

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى: أصالة النسب

- ‌المسألة الثانية: بعد آبائه عن الشرك وعبادة الأصنام

- ‌المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر بطون العرب

- ‌المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها

- ‌المبحث الثالث: ميلاد اليتيم محمد

- ‌المبحث الرابع: محمد في ديار بني سعد

- ‌المبحث الخامس: شق الصدر:

- ‌المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا

- ‌المبحث السابع: زواج محمد صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثامن: بناء الكعبة

- ‌المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

- ‌أولا: كثرة المبشرات

- ‌ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة

- ‌ثالثا: منع الجن من الاستماع

- ‌رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر: بدايات الوحي

- ‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي

- ‌المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة

- ‌أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام

- ‌ثانيا: صلته بأعمامه

- ‌ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة

- ‌المبحث الثالث عشر: عام الحزن

- ‌المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة

- ‌أولا: سودة بنت زمعة رضي الله عنها

- ‌ثانيا: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها

- ‌ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى

- ‌النصر الأول: إسلام عداس

- ‌النصر الثاني: إسلام الجن

- ‌النصر الثالث: إجارة المطعم بن عدي

- ‌النصر الرابع: أضواء وسط ظلام القبائل

- ‌النصر الخامس: الإسراء والمعراج

- ‌النصر السادس: إسلام الأنصار:

- ‌الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى في مكة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة

- ‌أولا: منهج الدعوة

- ‌ثانيا: المضمون الفكري للحركة

- ‌ثالثا: أسلوب الدعوة

- ‌رابعا: وسائل الدعوة

- ‌المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية

- ‌مدخل

- ‌أولا: اقتصار الدعوة على العقيدة:

- ‌ثانيا: قيام الدعوة على الاتصال الفردي

- ‌ثالثا: تخير المدعوين:

- ‌رابعا: تجنب ضلالات القوم:

- ‌خامسا: دعوة الأقربين الذين يعاشرهم

- ‌سادسا: إسلام الضعفاء فقط

- ‌سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه

- ‌ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه

- ‌تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة:

- ‌المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية

- ‌المبحث الخامس: المرحلة الأولي للجهر بالدعوة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌أولا: ظهور الجماعة المؤمنة

- ‌ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

- ‌المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة

- ‌المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام

- ‌المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة

- ‌المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية

- ‌المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع

- ‌المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية إيمان المعذبين

- ‌ثانيا: تحرير الأرقاء:

- ‌ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة

- ‌رابعا: انتهاء المقاطعة

- ‌المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة

- ‌المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية

- ‌الفصل الرابع: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المكية

- ‌تمهيد:

- ‌الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين

- ‌الركيزة الثانية: دور الداعية

- ‌مدخل

- ‌أولا: تقوية صلته بالله

- ‌ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس

- ‌الركيزة الثالثة: صفات الدعاة

- ‌مدخل

- ‌أولا: صفات التكامل الذاتي

- ‌ثانيا: صفات الترابط والمودة

- ‌ثالثا: صفات الريادة والتوجيه:

- ‌الركيزة الرابعة: الملاءمة بين الدعوة والواقع

- ‌الركيزة الخامسة: إدراك مسئولية الدعوة

- ‌الركيزة السادسة: دور المرأة المسلمة في الدعوة

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي

‌المبحث الحادي عشر: صور الوحي

المبحث الحادي عشر: صورة الوحي

تعتبر مدة انقطاع الوحي فاصلا بين النبوة والرسالة، فلقد نبئ صلى الله عليه وسلم لثمان مضين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، ونزل عليه القرآن الكريم في شهر رمضان من نفس العام، والمدة بينهما هي فترة النبوة، وبعدها كان الرسالة.

ولقد كان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه بصورة عديدة، منها:

الأول: الرؤيا الصادقة في المنام ومثاله رؤية إبراهيم عليه السلام، كما يقول تعالى:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 1، فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما كان يأتيهم في اليقظة، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

يروي البخاري بسنده عن عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي2.

الثاني: أن ينفث الملَك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس نفث في روعي، لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله؛ فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته"3.

يقول المفسرون في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} 4: هو أن ينفث في روعه بالوحي الذي يخص القلب دون السمع.

1 سورة الصافات آية 102.

2 صحيح البخاري - كتاب الوحي ج1 ص11.

3 سبل الهدى والرشاد ج3 ص352.

4 سورة الشورى آية 51.

ص: 326

الثالث: أن يأتيه مثل صلصة الجرس وهو أشده عليه، فيتلبس به الملَك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك على الأرض.

يروي الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملَك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول"1.

وروى ابن سعد بسند رجاله ثقات عن أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه عليَّ كما يلقي الرجل الرجل فذاك يتفلت مني، ويأتيني في شيء مثل صلصة الجرس حتى يخالط قلبي فذاك لا يتفلت مني"2.

الرابع: أن يكلمه الله تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة، كما في ليلة الإسراء، على القول بعدم الرؤية.

الخامس: أن يكلمه الله تعالى كفاحا بغير حجاب على القول بالرؤية ليلة الإسراء.

السادس: أن يكلمه الله تعالى في النوم، كما في حديث معاذ عند الترمذي:"أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى" 3، وهذا النوع يختلف عن الرؤيا المنامية؛ لأن هذا كلام الله تعالى.

وذكر بعضهم أن من هذا النوع نزول سورة الكوثر لما رواه مسلم عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع بصره مبتسما

1 صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي ج1 ص4.

2 طبقات ابن سعد 1/ 197.

3 سنن الدارمي - باب رقم 12.

ص: 327

فقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} وكانت قد نزلت عليه قبل ذلك، على الأصح، وهذه مرة أخرى تتنزل فيها السورة؛ لأن القرآن الكريم نزل كله في اليقظة.

السابع: مجيء الوحي كدوي النحل.

روى الإمام أحمد والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه يُسمع عند وجهه دوي كدوي النحل"1.

الثامن: العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه، وعلى لسانه، عند الاجتهاد في الأحكام.

لأنه اتفق على أنه صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد أصاب قطعا، وكان معصوما من الخطأ، وهذا خرق للعادة في حقه صلى الله عليه وسلم دون الأمة، وهو يفارق النفث في الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه.

ولقد كان الوحي ثقيلا، كقوله تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 2، ويرجع ثقل الوحي إلى ما يتضمنه من: عقيدة، وشريعة، وأخلاق، بحيث لا يقدر على حملها والعمل بها سوى العقلاء، الذين يحكمون عقولهم، ويسيطرون على هواهم ونفوسهم.

ومن دلالات ثقل الوحي ما كان يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه الآثار التي رواها أصحابه رضوان الله عليهم، ومنها:

- يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخدي، فكادت فخذه ترض فخذي.

1 مسند أحمد 1/ 34.

2 سورة المزمل آية 5.

ص: 328

- وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الوحي ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه، وتلت الآية1.

- ويقول أبو أروى الدوسي رضي الله عنه: رأيت الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه على راحلته فترغوا، وتفتل يديها، حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت، وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه من ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان2.

- ويقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وغمض عينيه3.

- ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى يقضي الوحي4.

- وتقول عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا"5.

- وتقول أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: كنت آخذه بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة المائدة، فكاد ينكسر عضدها من ثقل السورة6.

- ويقول ابن عمر رضي الله عنه: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب

ععلى راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها7.

1 أي: قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} .

2 طبقات ابن سعد 1/ 197.

3 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الفضائل - سبل الهدى ج2 ص344.

4 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الجهاد - باب فتح مكة ج12 ص128.

5 صحيح البخاري - باب بدء الوحي ج1 ص4، ومعنى يتفصد: ينفصل.

6 سيرة ابن كثير 1/ 424.

7 سيرة ابن كثير 1/ 424.

ص: 329

- وثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فكأنه يكون تارة وتارة بحسب الحال1.

والآيات التي بدأ الوحي بها بعد فترة الانقطاع هي أوائل سورة المدثر، وفيها يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 2، وهذه الآيات تضمنت في إجمال كل ما يتعلق بالرسالة..

ففي الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بيان لعظم مقام الرسول عند ربه كما يتضح من مناداته وتسميته بالمدثر الذي يفيد الستر والمؤانسة والهدوء، وهي أمور ضرورية ليقوم الإنسان بالمهام التي توكل إليه.

يقول القرطبي: وفي خاطبه بهذا الاسم فائدتان:

الفائدة الأولى: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب، وترك المعاتبة، سموه باسم مشتق من حالته التي هي عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له:"قم يا أبا تراب" 3؛ إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة:"قم يا نومان"، وكان نائما؛ ملاطفة له، وإشعارا لترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فيه تأنيس وملاطفة؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه.

والفائدة الثانية: تنبيه لكل متدثر خائف؛ لينهض بما كفله الله به، فالقيام بالواجب أولى وأحسن من النوم والقعود، والتوكل على الله يساعد على النشاط والعمل.

1 سيرة ابن كثير 1/ 424.

2 سورة المدثر الآيات 1-7.

3 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب فضل علي رضي الله عنه ج6 ص116.

ص: 330

وفي الآية الثانية: {قُمْ فَأَنْذِرْ} أمر بالقيام والنهوض، وترك النوم والكسل، وضرورة التصميم الجاد، والسعي المستمر في الدعوة لدين الله تعالى، وليكن الإنذار أول الأمر مع الناس، وهو المناسب لهم؛ تنبيها لعقولهم، وتعريفهم بالخطر الذي يترصد الغافلين، الساترين في الضلال، وهذا الإنذار رحمة من الله للناس؛ لأنه يعطيهم الفرصة لينقذوا أنفسهم من ضلال الدنيا وعذاب الآخرة.

وتتجلى الرحمة في هذا الإنذار بأنه يأتيهم بواسطة رسول، يدعو ويبين، ويكرر ويصبر، ويستمر طويلا في دعوتهم، عساهم يستجيبون ويتأثرون.

والرسول صلى الله عليه وسلم كما هو منذر فهو مبشر إلا أن المقام اكتفى بالإنذار مراعاة لأحوال المخاطبين.

والآية الثالثة: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} توجه رسول الله خاصة لمعرفة مقام الله وعظمته التي تصغر أمامه سائر القوى، فهو وحده الكبير المتعال، وبهذا التصور يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته الناس آمنا، لا يتأثر بمعارضاتهم أو عداوتهم؛ لأنه مع الله القوي العزيز.

يقول سيد قطب: ليواجه نذارة البشرية، ومتاعبها، وأهوالها، وأثقالها، بهذا التصور، وبهذا الشعور، فيستصغر كل كيد، وكل قوة، وكل عقبة، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة، هو الكبير، وكما أن مشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور ومعايشة هذا الشعور1.

والآية الرابعة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} توجه الرسول صلى الله عليه وسلم للمحافظة على طهارة الظاهر والباطن؛ لأن التلقي عن الملأ الأعلى يتناسب مع هذه الطهارة.

وطهارة الثوب كناية عن طهارة القلب والعمل والسلوك.

والمحب للطهارة، المتعود عليها، يعمل ألا يقع في غيرها.

1 في ظلال القرآن ج29، ط. دار التراث العربي.

ص: 331

والطهارة عموما ضرورة لمزاولة مهام الرسالة والدعوة وسط الضالين المنحرفين، وبذلك يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتأثر بهم، وبخاصة أن أهل الباطل وأنصار الشيطان يحاولون التغلب على أهل الحق بأخذهم إليهم، مستعينين بوسائل الهوى، ومغريات الشهوات، وبكافة ما يمكنهم من إغراء.

ولذلك كانت الطهارة ضرورة للرسل والدعاة..

والآية الخامسة: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والرجز شامل للشرك، ولسائر المعاصي، والرجز معناه العذاب، أطلق على مسبباته للإشارة إلى أن العقوبة ملازمة للمعصية، وقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالهجر وليس بالترك فقط؛ لما في الهجر من ترك ونفور، وكراهية وتباعد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان هاجرا للشرك، ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة، فقد عافت فطرته السليمة الانحراف، وبعد عن أنواع المعتقدات الشائهة، وترك الرجس من الأخلاق والعادات، ولم يعرف عنه أنه شارك في شيء من هوس الجاهلية وأخطائها، ومع كل هذا كان هذا التوجيه الذي يعني ضرورة المفاصلة، وأهمية إعلان التميز الذي لا يصلح فيه، ولا هوادة معه، فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان، كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز ودواعيه.

والآية السادسة: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عدم المن على الناس، وعدم استكثار ما سوف يعطيه لهم، فهو مكلف بالعطاء، وسيعطي الكثير في إصلاح الحياة للناس أجمعين، فعليه البذل والعطاء، بلا مَنٍّ وبلا عدد، وبذلك يعظم العطاء، ويعظم صاحبه.

إن النبوة فضل إلهي، وعلى الرسول أن يدوم شاكرا عابدا متحليا بمكارم الأخلاق، وليس المن من الخلق الكريم أبدا.

والآية السابعة: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} تشتمل على أمر كريم يحتاجه الرسول في مسيرته مع النبوة والدعوة، وعليه أن يصبر مع نفسه وهو يقاوم شهواتها، ومع الوحي

ص: 332

وهو يسمعه ويحفظه، ومع الناس وهو يعلمهم، ومع الأعداء وهو يقاومهم.

إن المعركة طويلة، والصبر هو الزاد الذي يلائمها، وهو الذي يحقق الفوز في النهاية.

وهذه الآيات السبعة الأولى في سورة المدثر نزلت في أول الوحي بالرسالة بعد فتور الوحي متضمنة الأسس الرئيسية للحركة بدين الله تعالى؛ ولذلك جاءت إعلانا واضحا عن أساسيات القيام بالرسالة، وأهم ما يجب أن يتحلى به الرسول والدعاة.

وأما أول سورة العلق فقد نزل في مرحلة الوحي بالنبوة التي استمرت ستة أشهر؛ ليعرف النبي صلى الله عليه وسلم ربه، ويقف على كمال صفاته وحقائقها، ويألف لقاء الملائكة، وتلقي الوحي من ربه.

يذهب البعض إلى أن أول المدثر نزل أولا استنادا إلى حديث البخاري الذي رواه بسنده عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟

قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ..

قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .

فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئا، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئا، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليَّ ماء باردا"، قال صلى الله عليه وسلم:"فدثروني وصبوا عليَّ ماء باردا"، قال:"فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} "1.

1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب التفسير - سورة المدثر ج8 ص676.

ص: 333

ويروي مسلم حديثا يشير كذلك إلى أن أول المدثر نزل أولا، فلقد روى بسنده عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه:"فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي قبل السماء، فإذا الملَك الذي جاءني بحراء، جالسا على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني، زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} "، قال أبو سلمة: والرجز الأوثان، ثم حمى الوحي بعد ذلك وتتابع"1، ورواه البخاري من هذا الوجه أيضا2.

يعلق ابن كثير في تفسيره على هذا الاختلاف فيقول: والأولى القول بأن جبريل نزل بأول سورة العلق في بداية النبوة، وأن نزول أول سورة المدثر كان في بداية الرسالة؛ لأن في حديث نزول أول سورة المدثر الذي رواه مسلم وغيره إشارة إلى المجيء السابق لجبريل، حيث يقول:"فإذا الملَك الذي جاءني بحراء" يوم أن جاءه بأول سورة العلق، وهذا يفيد أن أول سورة نزلت بعد فتور الوحي هي المدثر، وهي أول وحي الرسالة، وعلى هذا فأولية نزول أول العلق أولية مطلقة، وأولية أول سورة المدثر مقيدة بما بعد فتور الوحي، وبدء الرسالة3.

ويذهب البعض إلى أن سورة المزمل نزل قبل المدثر، لكن هذا الرأي مردود؛ لأن أول سورة المدثر فيه أمر بالإنذار، وهذا يكون في أول المبعث، أما أول سورة المزمل ففيها الأمر بقيام الليل، وترتيل القرآن، وهذا يقتضي تقدم تشريع

1 صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي ج2 ص206.

2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب التفسير - باب {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ج8 ص677، 678.

3 تفسير ابن كثير ج4 ص440.

ص: 334

الصلاة، ونزول كثير من آيات القرآن الكريم يتلوها النبي في الصلاة، وفي غير الصلاة، حيث أمر بذلك.

ويذهب البعض إلى أن سورة الضحى هي التي نزلت أولا بعد فترة الوحي، مستدلا بقوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .

لأن أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب، لما تباطأ الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ودعك ربك وقلاك، فنزلت..

يرد الحافظ ابن حجر هذا فيقول: الحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى، غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة.

وقد ثبت أن الوحي كان يفتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا كما حدث قبل نزول سورة الكهف، فإن النبي لما سئل عن أصحاب الكهف، قال:"سأحدثكم بها غدا" ولم يستثن ففتر عنه الوحي خمسة عشر يوما1، فقال الله له:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} ، فدل ذلك على أن القول بالأولية فيه اختلاف كبير بين العلماء؛ بسبب اختلاف اعتبار كل قول2.

وبعد نزول أوائل سورة المدثر تتابع الوحي، واستمر في مكة والمدينة، حتى لقي الرسول ربه..

1 انظر: تفسير ابن كثير ج4 ص440، 522 بتصرف.

2 تفسير ابن كثير ج3 ص72.

ص: 335