الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة
في خلال مرحلة الاضطهاد والمواجهة كان الرسول يتحرك بالدعوة في اتجاهات متعددة، باذلا ما أمكنه من جهد وفكر وتوجيه.
فقد عرض الإسلام على القبائل، وعلى جميع الوافدين إلى مكة في مواسم الحج والتجارة، وواجه كفار مكة بدعوتهم إلى الله، وتلاوة القرآن الكريم عليهم، وأبدى لهم ما بدعوته من صدق وحق.. وبين لهم أن ما منعهم من الإسلام إلا الجحود والتعصب، يدل على ذلك أقوال وأفعال نطق بها الكفار.
يقول أبو جهل: يا محمد، إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1.
وغمزه الكفار يوما ثلاث مرات، فقال لهم في الثالثة:"يا معشر قريش، جئتكم بالذبح"، فأخذتهم تلك الكلمة، حتى أن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده، ولما ألقوا عليه سلا جذور وهو ساجد دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون.
ودعا على عتيبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه، حتى أنه حتى رأى الأسد قال: قتلني والله محمد وهو بمكة.
وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل، فقال:"بل أنا أقتلك إن شاء الله"، فلما طعن أبيا في عنقه يوم أحد -وكان خدش غير كبير- قال: إن محمدا قال: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني.
وقال سعد بن معاذ -وهو بمكة- لأمية بن خلف: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنهم -أي المسلمين- قاتلوك"، ففزع فزعا شديدا، وعهد ألا يخرج عن
1 سورة الأنعام الآية 33.
مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار فقالت له امرأته: يا أبا صفوان، أنسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا.
وكان صلى الله عليه وسلم يعيش مع المسلمين يمدهم بالوحي، ويعلمهم الإسلام، ويملأ قلوبهم باليقين، ويعمل على سلامتهم، وتحقيق الخير لهم بكل ما أمكنه. من ذلك لما اكتشف المشركون بعض الصحابة في شعاب مكة، وهم يصلون مستخفين ناكروهم واصطدموا معهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاجتماع في دار الأرقم؛ لكي يعبدوا الله بعيدا عن أنظار قريش، ويتعلموا ما ينزل من القرآن الكريم1.
وحين أسلم بعض الغرباء؛ كعمرو بن عبسة، وأبي ذر الغفاري، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى قومهم؛ لينشروا الإسلام في قبائلهم من ناحية، وليحافظوا على أنفسهم من كفار قريش الذين يفتنون الضعيف، والغريب الذي لا ناصر له2.
حرص صلى الله عليه وسلم على متابعة شئون أصحابه بتقوية هممهم وتثبيتهم عند حلول الشدائد والمحن بهم، فكان يزور الذين يعذبون منهم في أماكن تعذبيهم، فيواسيهم بالصبر والثبات، ويبشرهم بالجنة، كما في قوله لآل ياسر وهم يعذبون:"صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" 3، وهو صلى الله عليه وسلم هو الذي وجه أبا بكر الصديق لشراء العبيد وإعتاقهم حسبة لله تعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام يقوم بزيارة منتظمة لأبي بكر رضي الله عنه كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: "لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا".
1 سيرة ابن هشام ج1 ص275.
2 صحيح البخاري - كتاب المناقب الأنصار - باب إسلام أبي ذر ج4 ص241.
3 أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ج3 ص388.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الواقع في حركته للدعوة وهو في مكة، وجعل حركته محاطة بالسرية ليحقق ما يريد؛ ولذلك لم يوجه دعوته لعمر بن الخطاب لشدته ولم يطلب من عمه حمزة الإيمان لقوته، وإنما تركهما وأمثالهما ليتأثرا بأسلوب مناسب لهما، رغم أن الخير للدعوة كان في إيمان عمر وحمزة رضي الله عنهما.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يدور على الناس في منازلهم ومساكنهم، ويستفيد بالمواسم والأعياد، ويقابل المفكرين والشعراء ليقنعهم بدين الله تعالى.
وكان صلى الله عليه وسلم يحتاط لدعوته ولنفسه وهو يتحرك بالإسلام، فلقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف راجلا ليلا مع مولاه زيد، حتى لا يعلم أحد من قريش بوجهته، فيعملون على معاكسته1.
وعندما كان يتصل بالقبائل في مواسم الحج لطلب النصرة، كان كثيرا ما يخرج في ظلام الليل2، ولا يعلن ذلك لأحد.
وعندما التقى عليه الصلاة والسلام بوفد الأنصار في السنة الثالثة عشرة من البعثة لمبايعته على الحماية والنصرة، اتخذ سلسلة من التدابير الأمنية حتى لا يعلم به أحد من أهل مكة.
فكان أول إجراء أمني اتخذه هو ضبط الموعد مكانا وزمانا بدقة متناهية، فكان المكان:"شعب العقبة الأيمن".
والزمان: أوسط أيام التشريق؛ حيث يكون الناس في زحمة الانشغال بتهيئة أنفسهم للعودة إلى ديارهم وأولادهم.
والوقت: نهاية الثلث الأول من الليل؛ حيث يستسلم الناس للنوم3.
وثاني إجراء: هو الكتمان الصارم للأمر، وخروج المجتمعين مثنى وأفرادا
1 الرحيق المختوم ص148.
2 تاريخ إسلام ج1 ص129.
3 سيرة ابن هشام ج2 ص49.
مستخفين، دون انتصار غائب، أو إيقاظ نائم1.
وثالث إجراء: حضوره بعد اكتمال العدد ومعه عمه العباس، ووضعه عليه الصلاة والسلام حراسة قوية وأمينة في مداخل الشعب2؛ حيث كلف أبا بكر بالوقوف على فم الطريق، وكلف عليا بالوقوف على فم الشعب.
ورابع إجراء: هو طلبه عليه الصلاة والسلام من كل متكلم أن يوجز في كلامه3، وأن يخفض صوته، حتى لا يطول اللقاء ولا يشعر به أحد.
وبعد ذلك قام صلى الله عليه وسلم باختيار اثني عشر نقيبا -تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس- لتحمل المسئولية وقال لهم: أنتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي.. قالوا: نعم.
وبهذا الاختيار بدأت ملامح القيادة الجديدة في المدينة المنورة وبدأت أنظار المسلمين تتجه نحوها ليعيشوا عصر التمكين والقوة، وليؤدوا واجبهم مع دين الله تعالى.
ولسوف نرى في تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة مدى الحرص الذي بذله صلى الله عليه وسلم ليصل إلى الغاية، وبالهجرة تبدأ مرحلة جديدة في مسار الدعوة إلى الله تعالى.
وسوف نوضح ذلك في الجزء التالي بعون الله تعالى..
1 الطبقات ج1 ص221.
2 منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حماية الدعوة ص417.
3 السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص202.