الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورجال الأديان الأخرى، فعملوا به وأخذوا يعدون لباطلهم دعاة فيهم الذكاء والنشاط والإخلاص وغير ذلك من الصفات التي تنتشر بها الأفكار والعقائد.
وإعداد الدعاة إلى الإسلام يجب أن يندرج في هذا الخط الطبيعي؛ حيث يختارون في سن مبكرة، وتختبر مستوياتهم الذهنية وقدراتهم الشخصية؛ ليسهل إعدادهم، ويكونوا بعد تخرجهم على مستوى واجب الدعوة، وأهمية العمل لها.
ثانيا: صفات الترابط والمودة
تأليف القلوب عملية أساسية في الدعوة إلى الله تعالى؛ ولذلك وجب على الداعية أن يهتم بهذا الجانب الحيوي في نشاطه؛ ليرتبط مع الناس في مودة وإخلاص.
ويعتمد هذا التأليف على ملامح شخصية الداعية؛ ولذا نوصي بضرورة تميزه بالصفات التالية:
1-
الحِلْم:
والحلم صفة هامة للداعية تجمع القلوب، وتذيب الإحن، وتعطي له قدرا كبيرا من الصلابة في مواجهة أشد المواقف وأحلكها، وهو أول ما يمتحن به الخلق الحسن؛ لأنه يقرب الغريب، ويذهب العداوة.
وهل يستوي الحلم والتهور؟ أبدا لا يستويان؛ لأن الحلم سيد الأخلاق، والحقيقة أنه:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1.
والحلم ليس دليل ضعف أبدا، بل هو الدليل على القوة، والمالك لنفسه عند الغضب هو القوي في الحقيقة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"2.
والإسلام رغم أنه يعطي للنفس حقها في مقابلة السوء بمثله؛ حيث قال تعالى:
1 سورة فصلت الآية 34.
2 موطأ مالك ج4 ص95 - ما جاء في الغضب.
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .. وهذا شيء طبيعي يتفق مع غريزة الإنسان في الانتقام والانتصار، إلا أن الأسمى من الانتصار هو أن يكون المرء حليما يعفو عند الإساءة، فقال تعالى عقب هذا الجزاء المثلى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، وكون الأجر على الله يختم العفو إلى درجة كبيرة.
ولضرورة هذه الصفة للداعية أمر الله رسوله بها فقال له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 1، وقاله له:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2.
وعلى الدعاة أن يهتموا بالحلم والعفو ليصلوا إلى غرضهم، ولا يجعلوا همهم الغضب والانتقام؛ لأن ذلك ينفر المدعوين منهم ولا يحببهم في استماع الدعوة وتفهمها، يقول الإمام الغزالي:"أما حسن الخلق بعد العلم والورع فضرورة؛ ليتمكن من اللطف والرفق، وهو أصل الباب وأسلمه، والعلم والورع لا يكفيان فيه، فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله، وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق، ومقدرة صاحبه على ضبط نفسه وقت الشدة والغضب، وبه يصبر الداعي على ما أصابه من دين الله، وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه نسي الدعوة، وغفل عن دين الله، واستغل بنفسه، بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم"3.
يقول الشيخ ابن علوي الحداد: "على الدعاة أن يكونوا على نهاية من: الصبر، والاحتمال، وسعة الصدر، ولين الجانب، وخفض الجناح، وحسن التأليف، وإن دخل عليهم شيء من أذى الجاهلين، عليهم أن يصبروا، ويعرضوا، ويقولوا خيرا؛ لأنهم من عباد الرحمن الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"4.
1 سورة الأعراف الآية 199.
2 سورة المائدة الآية 13.
3 الدعوة التامة ص9.
4 الإحياء ج2 ص292.
ويقول ابن تيمية: "ولا بد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الرفق، ولا بد أن يكون الداعية صبورا على الأذى، فإنه لا بد أن يحصل له أذى، فإن لم يصبر ويحلم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"، وينقل ابن تيمية ما قاله القاضي أبو ليلى:"لا يأمر ولا ينهى إلا من كان رفيقا فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه"1.
ويكفي الدعاة أن يتعلموا من توجيهات القرآن الكريم المؤكدة نحو الحلم والعفو؛ حيث قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
2-
التواضع:
والتواضع أحد الصفات الأساسية التي تساعد على المعاشرة الحسنة؛ لأن المتواضع يعيش مقدرا لنفسه وللناس، ومقدرا من الآخرين، ومن هذا المنطلق لا يبدو متعاليا قط، ولا يكون وضيعا أبدا، ويشعر أن المساواة الأصيلة هي الروح المسيطرة، فيألف ويؤلف ويأنس ويؤتنس به.
ويستقر التواضع في النفس بسبب يقينها بأنها والناس جميعا من نفس واحدة، وما انقسمت إلى القبائل والشعوب إلا لأجل التعارف واللقاء والتآلف؛ حفاظا على ما يمليه الإحساس الواقعي بالأصل الواحد، واتباعا لتعاليم الرب الواحد الذي كفل للناس فرصة متكافئة، فلا يتمايزون بخلقتهم أو لونهم أو ثقافتهم، وإنما يكون التمايز تابعا للإيمان والعمل، وحتى مع التميز بالإيمان والعمل فإن الواجب على المؤمن أن يتمسك بالتواضع حتى النهاية لما يحققه من فائدة، انظر ما قاله الله تعالى لتأصيل هذه الحقائق:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3.. فالجميع من
1 الحسبة في الإسلام ص281، 282.
2 سورة النور الآية 22.
3 سورة الحجرات الآية 13.
أصل واحد والتفرق للتعارف، والكريم هو التقي، والذي يحكم بالدرجة الصادقة هو الله العليم الخبير، أما هذا الذي يتعالى حتى ولو بتقواه فلا يعتد به؛ لأنه زكى نفسه مخالفا أمر الله القائل:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1.
والداعية الذي جعل همه الدعوة إلى الله، يجد نفسه ملتزما بالتواضع؛ ليتمكن من التماس طريق الله الذي دعا إليه عباده الصالحين؛ ليتحقق له كل ما وعد الله به، من تمتع كامل بالدنيا، ومن تمتع عظيم بالآخرة، فإن الواقع أن:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 2.
والتواضع يمكن صاحبه من الاستفادة بكل آيات الذكر والكون؛ لأنها لن تصرفه عن فهمه لتواضعه، كوعد الله القائل:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} 3، فبين أن عقول المتكبرين وحدهم هي التي لا تفهم ولا تعي، فيجادلون في الحق بعد تبينه، ومهما عرضت لهم الآيات الواضحات -كونية أو قولية- لا يرونها، ذلك حالهم، وحال المتكبرين دائما {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، وإنما فقدوا كل هذا لأنهم بالتكبر بعدوا عن رحمة الله وحبه {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} وبفقدهم هذا الحب لا يجدون أي حب من الناس؛ لأن الملائكة تنادي أرواح البشر: أن الله يبغض فلانا فأبغضوه، وسيجدون أنفسهم بعد ذلك في عزلة من الناس، وهذا مما لا يرضاه داعية لنفسه.
فعلى الداعية أن يلتزم التواضع ليقرب من الناس؛ لأن دعوته في حاجة إلى صلة مستمرة بهم، وعليه أن يكون قريبا إلى قلوبهم وأرواحهم، والتواضع هو ضمان ذلك كما بينته الحقائق الدينية التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقا على نفسه، وتوجيها لمن بعده
1 سورة النجم الآية 32.
2 سورة القصص الآية 83.
3 سورة الأعراف الآية 146.
من المؤمنين، اقرأ هذه الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1، والمس منه التوجيه الواجب إلى التواضع؛ لأنه بهذا الخفض يقربهم، ويوجه عقولهم وأرواحهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعالَى على أحد من أصحابه، بل يجلس معهم ويعرفهم أنه كأحدهم في كافة شئون حياته، وإذا ما مر بصبيان صغار وقف وسلم عليهم، فلقد مر أنس على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي يفعله2، بل إنه يوضح لأصحابه تواضعه فيما قام به من عمل، فيقول صلى الله عليه وسلم:"ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فلما سأله جابر عن نفسه قال:"وهل من نبي إلا وقد رعاها! "3.
وعلى الدعاة أن يلتزموا بالتواضع الكامل حتى يتمكنوا من تأدية دورهم، ويضربوا في هذا المجال صورا عملية كثيرة.
3-
القناعة والزهد:
الزهد الصادق يتبعه قناعة بما أوتي، وعفاف عما في أيدي الناس، ولا تقف النفس الكريمة بصاحبها عند الزهد والقناعة والعفاف، بل إنها تطبعه بطابع السخي المعطي حين يجد الذي يعطيه غير منتظر علم أحد أو شكره؛ لأنه أنفقه لوجه الله، ولا ينتظر ثوابا إلا من الله، وما ذلك إلا لإيمانه بحقائق القرآن الذي يتلوه ويرشده، والتي منها:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 4.
إن الداعية في أمس الحاجة إلى نفس زاهدة تؤمن بالزهد، وتعرف فضيلته، وترى أن
1 سورة الشعراء الآية 215.
2 رياض الصالحين ص174.
3 صحيح البخاري ج4 ص191 - كتاب بدء الخلق - باب يعكفون على أصنام لهم.
4 سورة البقرة الآية 272.
"هذه الحياة الدنيا ليست دار التمتع الكلي، ولكنها فترة مؤقتة تنبني عليها كل سعادة الآخرة"{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1، وبذلك فليس الهدف منها التلذذ من الشهوات والمطعم، وليس هو شأن المؤمنين أبدا، أما الكافرون فإنهم {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} 2، وبهذا الزهد لا يكون المؤمن منعما في تصرفه، وفي الوقت نفسه لا يحرم من الدنيا {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} .
هذه الحقائق ترسخ في نفس الداعية فيعطي بلا حد، ويعلم أن الله سيخلفه ويعوض عليه بالنجاح في دعوته.
4-
الكرم والسخاء:
والكرم والسخاء صفة من أهم صفات الداعية؛ حيث تقرب القلوب النافرة وتمهد العقول للطاعة؛ ولذلك كان من أُولَى الأوامر الأخلاقية للرسول صلى الله عليه وسلم {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 3 أي: لا تعطِ مستكثرا ما أعطيت للناس، فنجده صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، وكان كما وصفه ابن عباس "أجود الناس"4، ولم يقل صلى الله عليه وسلم "لا" عن شيء سئل فيه5، ولا يكفي في الكرم العطاء المادي وقت وجود المال، فـ"ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غني النفس"6، بل لا بد من نفس كريمة استجمعت كل خواص الكرم وأصالته في كافة حالاتها.
1 سورة الشعراء الآية 215.
2 رياض الصالحين ص174.
3 سورة المدثر الآية 6.
4 صحيح مسلم ج7 ص73.
5 صحيح مسلم ج7 ص73.
6 صحيح البخاري ج8 ص118.