الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة
استمرت الدعوة سرية مدة عامين ونصف، وبعدها أمر الله رسوله بالجهر بالدعوة.. وهنا أخذ كفار مكة في صرف النبي عن دعوته، وبذلوا لهذا الغرض كل ما أمكنهم، وأهم ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ما يلي:
1-
السؤال عن مدى صدق محمد صلى الله عليه وسلم:
أخذ كفار مكة يبحثون عن مطعن يوجهونه لمحمد صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا رسلهم إلى أهل الكتاب يسألون عن مدى علمهم بصدق محمد، وكيفية كشف مزاعمه.
يقول محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا، حتى أتيا المدينة، فسألوا الأحبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره، وبعض قوله.
وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.
فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول، فتروا فيه رأيكم:
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه.
وسلوه عن الروح، ما هي؟
فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقال: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار اليهود أن نسأله عن أمور، وأخبروهم بها.
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، عن كذا وكذا، وسألوه عن الأمور التي حددها الأحبار.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبركم غدا عما سألتم عنه، ولم يستثن"، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا ينزل عليه من الله وحي، ولا يأتيه جبريل عليه السلام.
حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها ولم يخبرنا بشيء عما سألناه عنه.
وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم من انقطاع الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
وبعد خمسة عشر يوما جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، وفيها يعاتبه الله على حزنه عليهم، ويخبره عما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
فلما أخبرهم بنبأ ما سألوا عنه، رجعوا إلى أنفسهم، وعملوا أنه لا طاقة لهم بمواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهة عقلية فكرية؛ ولذا لجئوا إلى العدوان والإيذاء المادي، ونشر الأكاذيب والمفتريات حول محمد ودعوته.
2-
موقف أبي لهب منه: لما نزل قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 خرج رسول الله حتى صَعِدَ النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فهتف: "يا صباحاه".
فقالوا: مَن هذا؟!
1 سورة الشعراء آية 214.
فجعل صلى الله عليه وسلم ينادي: يا بني فهر! يا بني عدي! وهكذا لبطون قريش جميعا، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتكم إن أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟! ".
قال: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط.
قال صلى الله عليه وسلم: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقد تب1.
ولم يكتفِ أبو لهب بهذا الموقف، بل أخذ في التصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يسير خلفه ويقول: إنه كاذب، وأنا أعلم خبره، فهو ابن أخي
…
وأخذ هو وزوجته في وضع الشوك والحطب أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعجزه عن الخروج والحركة، وفيه وفي زوجته نزل قول الله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} 2.
3-
السخرية والاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم:
أخذ كفار مكة يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ توهينا لنفسه، وصرفا للناس عنه، فكانوا ينادونه بالمجنون، يقول الله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب التفسير - باب سورة تبت ج8 ص737، والتباب الخسران والتدمير.
2 سورة المسد.
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} 1، ويصفونه بالسحر والكذب، يقول سبحانه:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} 2، وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ناقمة، وعواطف هائجة، وكراهية ظاهرة، يقول تعالى:{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} 3، وكان إذا جلس، وحوله المستضعفون من أصحابه استهزءوا بهم، وقالوا: هؤلاء جلساؤه الذين {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 4، فرد الله عليهم بأنه وحده العليم بحقائق الناس وقلوبهم، وليس لهم أن يتقوَّلوا عليهم، وذلك بقوله سبحانه:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 5، فأنكر عليهم بأسلوب يبرز جهلهم وخيبتهم.
إن كفار مكة كانوا يتصرفون باستعلاء وجبروت، وهم يتعاملون مع رسول الله وسائر أصحابه، حتى أنهم جعلوا المؤمنين مادة سخريتهم، ودعابة مجالسهم، يتضاحكون من عقيدتهم، ويتغامزون إذا رأوهم، وإذا رجعوا إلى أهليهم تفكهوا بسيرهم، معتقدين أنهم ضلوا عن الحق، بتركهم عبادة الأوثان، يقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} 6.
1 سورة الحجر آية 6.
2 سورة ص آية 4.
3 سورة القلم آية 51.
4 سورة الأنعام آية 53.
5 سورة الأنعام آية 53.
6 سورة المطففين الآيات 29-33.
4-
بث الدعاية الكاذبة عنه:
أخذ الكفار يبثون الدعايات الكاذبة حول شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، وعن القرآن الكريم الذي ينزل عليه حتى لا يصدقه أحد، فقالوا عن القرآن ما حكاه الله تعالى في قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1، وقالوا عن الرسول:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} 2.
وكل ما قالوه ظاهر البهتان؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، ولو كان من عند محمد كما زعموا فما بالهم يعجزون عن الإتيان بأقصر سورة منه؟!
ومن هم هؤلاء الآخرون الذين يعينون محمدا؟! إنهم بشر كما يزعمون، فلمَ يتركونهم يفعلون؟! ولِمَ لا يواجهونهم بالتحدى؟!
وهل يكتب محمد عنهم وهو أمي؟! لقد جاءوا بالزور والبهتان!!
ولِمَ يعترضون على بشرية محمد صلى الله عليه وسلم؟! أيريدونه ملَكا؟! وكيف يتعاملون مع الملَك؟!
إن قلوبهم قد عميت، وكل اعتراضهم تبريرات لكفرهم وعتوهم.. وقد رأيناهم يبحثون عن أي علة تساعدهم على كفرهم.
ذكروا أن الوليد بن المغيرة قال مرة لقريش: يا معشر قريش! والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم خلقا ومسلكا، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة، ونفثهم وعقدهم.
1 سورة الفرقان الآيتان 4، 5.
2 سورة الفرقان آية 7.
وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة، وتخالجهم وسمعنا سجعهم.
وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها، هزجه، وزجره..
وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، انظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
ثم ذهب الوليد إلى الحيرة بحثا عن حل يريده، فتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ووقف على أخبار رستم وأسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا للتذكير بالله والتحذير من نقمته، خلفه النضر، وهو يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: بماذا يكون محمد أحسن حديثا مني1.
وما درى الوليد أن حديث محمد صلى الله عليه وسلم مع جماله يتضمن دينا صالحا، ومنهجا طيبا، وطريقا لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة، وهو كلام الله.. وأما حديثه فهو خيال كاذب، وإبهار لفظي لا حقيقة فيه، ولا غاية له، ولا فائدة معه.
وفي الوليد بن المغيرة المخزومي نزل قول الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 2.
وقصته مع القرآن الكريم ومع محمد صلى الله عليه وسلم تشبه ما فعله النضر
1 تفهيم القرآن ج4 ص9.
2 سورة المدثر الآيات 11-25.
ابن الحارث، فلقد ذكروا أن النضر قال: والله لقد نظرت فيما قال محمد، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو ما يعلى عليه، وما أشك أنه سحر، فكأنه رق له.
فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لِمَ؟
قال: يعطونكه فإنك أتيت محمدا تعرض لما قبله.
قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يعلم قومك منه أنك منكر لما قال، وأنك كاره له.
قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى.
قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه.
قال: فدعني حتى أتفكر فيه، فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره1.
5-
مساومات وتخليط:
حاول الكفار مرات عديدة أن يتعاون معهم محمد صلى الله عليه وسلم في خلط الإسلام بالكفر؛ ليكونا سويا دينا خليطا من هذا وذاك، وأن يعبدوا الله يوما، ويعبد محمد أصنامهم يوما آخر، وهكذا.
يروي ابن إسحاق بسنده أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي -وكانوا ذوي أسنان في قومهم- اعترضوا محمدا، وهو يطوف بالكعبة، وقالوا له: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما
1 تفسير ابن كثير ج4 ص443.
نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 1 2، فكانت المفاصلة الكاملة بين الإيمان والكفر.
6-
الاضطهاد البدني:
كان أشد الناس إيذاء لرسول الله جيرانه، وعلى رأسهم عمه أبو لهب، يقول ابن إسحاق: كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي -وكانوا جيرانه- لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص فإنه أسلم فيما بعد، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاه، وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق3.
وازداد عقبة بن أبي معيط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم "وهو عقبة بن أبي معيط" فجاء به، فنظر،
1 سورة الكافرون.
2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص361.
3 سيرة النبي ج1 ص416.
حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغني شيئا، فجعلوا يضحكون، ويميل بعضهم على بعض، مرحا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه حتى جاءته ابنته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال:"اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، وقد سمى الرسول في دعائه فقال:"اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط"، وعد السابع فلم نحفظه، فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذي عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر1.
وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، وفيه نزل قول الله تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} 2 قال ابن هشام: الهماز: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به، والهمز هو الشتم نفسه، واللماز: الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم3، واللمزة هي العيب والأذى.
أما أخوة أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين، جلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيا أنبه وعاتبه، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبي بن خلف نفسه هو الذي فت عظما رميما، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم4.
وكان الأخنس بن شريق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه من خلق رديء، وهي في قوله تعالى:{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 5.
1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب الوضوء - باب إذا ألقي على المصلي قذر أو جيفة 1/ 37.
2 سورة الهمزة آية 1.
3 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص356، 357.
4 نفس المصدر 1/ 361، 362.
5 سورة القلم الآيات 10-13.
وكان أبو جهل يجيء أحيانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن، ولا يطيع، ولا يخشى، ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالا بما يفعل، فخورا بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئا يذكر، وفيه نزل قول الله تعالى:{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} 1.
وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا، فنزل قول الله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} 2.
ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد، أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟
فقيل: نعم!
فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه مهرولا، ويتقي بيديه.
فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟
قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا، وأجنحة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لأختطفته الملائكة عضوا عضوا"3.
1 سورة القيامة الآيات 31-35.
2 سورة العلق آية 17.
3 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص126.
7-
محاولة قتل محمد صلى الله عليه وسلم:
وصل حد كراهية القوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن كفار مكة حاولوا قتله، من ذلك أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} 1 و {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} 2، ثم تسلط على الرسول بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم، إلا أن البزاق لم يقع عليه، وحينئذ دعا عليه صلى الله عليه وسلم وقال:"اللهم سلط عليه كلبا من كلابك".
وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له: الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه3.
وفي رواية هشام عن عروة عن أبيه: أنه لما طاف الأسد بهم تلك الليلة انصرف عنهم، فجعلوا عتيبة وسطهم، فأقبل الأسد يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه4.
ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان5.
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبَى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلس
1 سورة النجم آية 1.
2 سورة النجم آية 8.
3 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص135.
4 المرجع السابق ص136.
5 المصدر السابق ص113.
له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامضِ لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم، ينتظرون ما يفعله أبو جهل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، احتمل أبو الجهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده.
وقام إليه رجال قريش، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟
قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ول أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه1.
أما طغاة قريش فلم تزل فكرة قتل النبي صلى الله عليه وسلم تنضج في قلوبهم، وتكبر في عقولهم وتفكيرهم، روى ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك من وجهه صلى الله عليه وسلم.
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص298، 299.
ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال:"أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح"، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر، واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا.
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط1.
وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ 2
وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئا من غدائره إلا رجع معا3.
ولم نغادر فكرة قتله صلى الله عليه وسلم عقولهم، وبخاصة بعدما رأوا انتشار الإسلام، وصلابة المسلمين، وتأكدوا أن بقاء محمد صلى الله عليه وسلم سوف يؤدي إلى القضاء على عبادة الاصنام، وحرمانهم من السيادة والتسلط، وكان آخر محاولتهم مؤامرة ليلة الهجرة.
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص289، 290، والغمز: الطعن والسب، ووصاة: أي توصية بالسوء، ويرفأ: أي يترفق.
2 صحيح البخاري - باب ذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 1/ 544.
3 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص113.
8-
نتائج الاضطهاد:
مع الجهر بالدعوة وخروج الرسول للعلن والمواجهة بدأ كفار مكة في إيذاء الرسول وأصحابه.
وكان الاضطهاد في بدايته قليلا ضعيفا، ثم أخذ يشتد شيئا فشيئا، حتى وصل إلى حد التآمر، والتخطيط لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتيجة لهذا التصعيد في الاضطهاد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع أصحابه في دار الأرقم ليعلمهم الإسلام بعيدا عن كفار مكة، كما أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر إليها كثير من أصحابه.
وقد حاول كفار مكة اعتقال المهاجرين، والفتك بهم، لكنهم فشلوا، ورأى المشركون والكفار أن أغلب المسلمين تركوا مكة، وتركوا محمدا صلى الله عليه وسلم مع قلة قليلة من أصحابه في مكة، وهاجروا إلى الحبشة، وغاظهم أن محمدا لم يضعف، ولم يترك دعوته..
فذهبوا إلى عمه أبي طالب، وقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.
عظم علي أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا كذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال:"يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه"، ثم استعبر وبكى، وقام.
فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل قال له: اذهب يابن أخي، فقل ما
أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا1، وأنشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
…
وأبشر وقر بذاك منك عيونا2
فلما لم يحقق ذهابهم نتيجة يرجونها من أبي طالب، رجعوا بحيلة أخرى حيث ذهبوا إليه بعمارة بن الوليد؛ ليأخذه ويعطيهم محمدا، فأبَى وقال لهم: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا3.
وذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم محاولين مساومته، يقول ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما، وهو في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد، فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟
وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه..
فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت بمن مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع".
قال عتبة: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص265، 266.
2 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص68.
3 وقد سبق ذكر هذه المحاولة في ص331.
من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا.
وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك.
وإن كنت تريد به مُلْكا ملكناك علينا.
وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه، لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
ولما فرغ عتبة من حديثه.
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ ".
قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فاسمع مني".
قال: أفعل.
فقال صلى الله عليه وسلم: {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السورة يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال:"قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك".
فلما رجع عتبة إلى قومه رأوا فيه ما لا يريدون، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم،
فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم1، وماذا أقول فيه؟ والله إنه ليس من كلام الإنس، ولا من كلام الجن.
فقال له أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: دعى أفكر فيه، لما اجتمع بقومه قال وقد حضر الموسم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، أقم لنا رأيا نقول فيه.
قال: بل أنتم فقولوا أسمع.
قالوا: نقول كاهن.
قال: والله ما هو بكاهن، فقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن، ولا سجعه.
قالوا: فنقول مجنون.
قال: والله ما هو بمجنون فقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته.
قالوا: فنقول شاعر.
قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بشاعر.
قالوا: فنقول ساحر.
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص293، 294.
قال: والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه، ولا بعقده.
قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لمثمر، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر، فما يقوله سحر يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروه لهم.
9-
أبو طالب يحتاط للأمر:
رأى أبو طالب أن الكفار والمشركين قد اشتدت عداوتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورأى أنهم لن ينتهوا من مكائدهم إلا إذا تخلصوا من محمد صلى الله عليه وسلم بأي وسيلة ممكنة وذلك عار يلحق ببني عبد مناف، يتحدث به العرب كلهم، فجمع أبناء عبد مناف، وهم: بنو أمية، وبنو عبد شمس، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وبنو هاشم، وعرض عليهم خطورة الأمر، وضرورة التكاتف، والاتحاد في مواجهة عدوان كفار مكة
على ابن أخيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فوافقه بنو هاشم وبنو المطلب، وأخذوا على أنفسهم الميثاق على حماية محمد صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، وعدم تسليمه إلى الكفار أبدا، واتفقوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، ولم يشذ من هذين البطنين إلا أبو لهب، فإنه انحاز مع كفار مكة ضد محمد ودعوته؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"كنا وبنو المطلب معا في الجاهلية والإسلام".
10-
المقاطعة العامة:
لما رأى كفار مكة أن بني هاشم وبني المطلب تواثقوا وتعاهدوا جميعا على حماية محمد صلى الله عليه وسلم عملوا على مقاطعتهم، وعدم التعامل معهم مطلقا، وتحالفوا على ألا يجالسونهم، ولا يبيعونهم، ولا يشترون منهم، ولا يدخلون بيوتهم، ولا يكلمونهم، ولا يتزوجون منهم، ولا يزوجوهم حتى يسلموا محمدا لقتله، والانتهاء من أمره، وكتبوا بذلك ميثاقا علقوه في جوف الكعبة.
واستمرت المقاطعة ثلاث سنوات، واشتد الأمر على بني هاشم وبني المطلب حتى أكلوا ورق الشجر، وحوصروا في شعبهم، لا يخرجون منه إلا في الأشهر الحرم للتعامل مع وفود الحج والعمرة، وكان أهل مكة يزايدون عليهم لحرمانهم من كل خير؛ حيث منعوا أن يتصل بهم أحد من القبائل البعيدة عن مكة، وكانوا إذا رأوا تجارة قادمة سارعوا بشرائها قبل أن تصل إلى المحاصرين في الشعب، مبالغين في ثمنها.
ودام الحال على ذلك حتى قضى الله بنقض المقاطعة، وتمزيق الميثاق المكتوب1.
1 سيأتي حديث مفصل عن انتهاء المقاطعة في الفصل التالي.